التشاؤمية التاريخية، والتشاؤمية الثقافية

يعتقد الناس أنه إذا كانت سلطة الدولة بكاملها في أيديهم، فإن بإمكانهم تشكيلَ وجود جديد. الجماهير تضمُّ قوتها إلى جانب القوة الديناميكية لمجتمع البيزنس الكبير، والتعطُّش للتملُّك وكسب المال. البيزنس يتَّجه نحو سلطة الدولة لحماية وتوسيع مصالحه، بينما تريد الجماهير من الدولة أن تقدِّم لها الامتيازات…

«انتظر… ولسوف ترى أي نوع من الأرواح سينهض من الأرض في السنوات العشرين القادمة… ربما هلكنا جميعًا… ولكنني أريد، على الأقل، أن أكتشف السبب الذي من أجله سأهلك… وبالتحديد الثقافة القديمة لأوروبا.» «جاكوب بوركهارت»

«إذا رأيت شيئًا ينزلق… ادفعه!» «فردريك نيتشة»

كان تقليدًا أن تضبط مدينة «بازل» ساعاتَها متأخرة بمقدار ساعة عن بقية أوروبا. وفي القرن الثامن عشر، حاول مصلحون كثيرون أن يجعلوا سكانَ المدينة يستيقظون في الوقت الصحيح… ولكنهم فشلوا جميعًا. وفي عام ۱۷۹۷م أصبحت «بازل» فجأةً جزءًا من الثورة الفرنسية. اجتاحت القوات الفرنسية سويسرا، وبمساعدة قياديِّين ليبراليِّين في مدن مثل «برن»، و«بازل» أسَّسوا الجمهورية الهلفستية، وأخيرًا، ضبط الثوَّار ساعات «بازل». وعندما عادت الطبقة التقليدية الحاكمة في «بازل» إلى السلطة بعد سقوط نابليون في ١٨١٤م قرروا أن يتركوا الساعات كما كانت، وبالرغم من ذلك، عندما وُلد «جاكوب بوركهارت» Jacob Burckhardt هناك بعد أربعة أعوام، استقبلَته الأجراس في أبراج ساعات «بازل»، في مدينة مستقلة، شديدة المحافظة، كانت تتحوَّل على استحياء لتُصبح جزءًا من أوروبا الحديثة.١ كانت «بازل» مثل بقية سويسرا في القرن التاسع عشر، مدينةً مزدهرة ونشطة اقتصاديًّا، بالرغم من أنها أفلتَت من عواصف التصنيع الواسع والتغُّير السياسي الديمقراطي.

كانت المدينة ما زالت تحكمها عائلاتُ النبلاء القديمة مثل عائلة «بوركهارت» التي كان أبناؤها يخدمون في كنائسها كأساقفة وقساوسة وأساتذة في جامعاتها (الأقدم في سويسرا) منذ القرن السادس عشر. «جاكوب بوركهارت» نشأ في عالم منظَّم من القيم الدينية؛ حيث تراث من العمل الذهني والروحاني ينتقل من جيل إلى جيل. وكان لا بد أن يصدِّق «بوركهارت» الصغير ملاحظة «إدموند بيرك» Edmund Burke «أنَّ هناك قانونًا يجعل الأشياءَ ثابتةً متماسكة في مكانها، قانون مصنوع من أجلنا ونحن مصنوعون له.» كان الجميع يتوقَّعون أن يتبع «جاكوب» أباه وجدَّه في الكهنوت، إلا أنَّ اللاهوت البروتستانتي كان في حالة احتدام في كل مكان. كانت الأفكار «اللوثرية»، و«الكالفنية» القديمة الجامدة تحت حصار التنوير بتأكيده على العلمانية وما يُسمَّى بالنقد الأعلى٢⋆ في الدراسات التوراتية. الدرس الدقيق للعهدين القديم والجديد كشف عن ثغرات ضخمة وعدم تماسك منطقي في النصوص، بما يُضعف الادِّعاء أنَّ الإنجيل كان هو كلمة الرب حرفيًّا. ولقد أفتى «النقد العالي» بأن «الإنجيل» – على أية حال – يعتبر وثيقةً تاريخية مثل أي نص قديم، وأنه عرضة لحرِّية التأويل نفسها. وفي سنة ١٨٣٥م، نشر «ديفيد شتراوس» David Strauss – ناقد في جامعة «توبنجن» – كتابَه المثير للجدل «حياة يسوع» ليقول إنَّ كل ما جاء في أناجيل العهد الجديد الأربعة نسيجٌ من الخرافة والأسطورة، مثلها مثل الأساطير المؤسسة للديانات الأخرى. وبعد هذه الطرقات الثقيلة، فقدَ «بوركهارت» إيمانَه بالمسيحية ولم يستعِدْه.٣⋆ لم يُصبح «بوركهارت» ملحدًا أو «لا أدريًّا» Agnostic، لم يتخلَّ عن اعتقاده بوجود إله، ولكنه احتفظ بفقدان إيمانه سرًّا عن والدَيه حتى موتهما، وبدلًا من ذلك، أصبح واحدًا من جماعة – يتزايد عددها – بين مثقَّفي الجامعة في القرن التاسع عشر، وجدوا أنهم لا يستطيعون مواصلةَ إيمانهم بالمسيحية (أو اليهودية) كنظام لحقيقة موحًى بها، كان من بين هؤلاء: «ماثيو أرنولد» Matthew Arnold، و«إميل دوركايم» Emile Durkheim (كان أبوه حاخامًا)، و«سورن كير كجارد» Soren Kierkegaard، و«فريدريك نيتشة» Friedrich Nietzsche، و«ولهلم ديلثي» Wilhelm Dilthey… وبعد ذلك بفترة… «مارتن هيدجر» Martin Heidgger.

كان انهيار اليقين الديني والمعنوي لهؤلاء وغيرهم في فترة الصبا، تجربة ممزَّقة، جعلَتهم يبحثون عن أفكار جديدة يتعلَّقون بها. سيجد بعضهم ذلك في فلسفة «هيجل» Hegel، و«كنت» Kant، كما سيتحول آخرون فيما بعد إلى «كارل ماركس» Karl Marx، بينما سيجد غيرهم تلك الأفكار الجديدة في المعارف الأكاديمية السائدة في الجامعة الحديثة، وبمعنًى آخر يبحثون عن إيمان منطقي أو حتى علمي ليحلَّ محلَّ ذلك الموحَى به من عند الله. بالنسبة ﻟ «إميل دوركايم» كان ذلك هو علم الاجتماع، وبالنسبة ﻟ «فردريك نيتشة» كان فقه اللغة (philology)، أو الدراسة الموسَّعة لليونانية واللاتينية طبقًا لمبادئ علمية صارمة، أما بالنسبة للشاب «جاكوب بوركهارت»، فقد أصبح الطريق البديل نحو الحقيقة، هو دراسة التاريخ.

في سنة ۱۸۳۸ شدَّ الرحال إلى جامعة «برلين»؛ حيث كان أستاذان هما «تيودور درويسن» Theodor Droysen، و«لیوبولد فون رانكه» Leopold von Ranke يُعيدان تشكيل الدراسات التاريخية. كان «بوركهارت» مفتونًا بذلك. كتب: «أكتشفُ كل يوم في مسار عملي مصادر جديدة للعظمة والجمال، وكلِّي عزم بالفعل أن أكرِّس حياتي لذلك.» كان أساتذته يمثلون تناقضًا حادًّا في الأسلوب ووجهات النظر. كان «درويسن» نموذجًا للمؤرِّخ «التقدمي» في زمنه، وكان يرى أنَّ التاريخ الأوروبي هو قصة ظهور الدولة-الأمة Nation-State والحرية السياسية. ومثل «هيجل» كان «درويسن» يرى أنَّ التاريخ عملية يتم بواسطتها التصالح في النهاية – ونهائيًّا – بين الطموح الإنساني والقَدَر داخل الدولة. «يد الله هي التي توجِّه الأحداثَ كبيرَها وصغيرها، وليس لعلم التاريخ من واجب سوى تبرير هذا الإيمان… والاعتقاد بوطن الأسلاف.» كان «درويسن» نموذجًا لذلك النوع من المؤرخين الذين كَرِههم «بوركهارت» فيما بعد؛ فقد كان واحدًا من الذين يفترضون باعتداد أنَّ «زماننا هو أوج كل الأزمنة… (و) أنَّ الماضي كلَّه يمكن اعتباره متحققًا فينا.» كما كان يعتبر ذلك خلاصةَ التقدم الإنساني.٤ أما «رانكه» فكان حالةً مختلفة، كان يرى أن الانحياز أو التركيز العقلي على الحاضر هو الخطيئة الأساسية للكتابة التاريخية، وهو يرفض فكرةَ التقدم الخطي، أو القوانين التاريخية من أيِّ نوع سواء بمفهوم «هيجل» أو «كونت» Comte، أو الوضعيِّين Positivists (كان شكوكيًّا بالنسبة للمشروعات الفلسفية الكبرى التي تحاول أن تفرض هدفًا كبيرًا وتوجُّهًا على الماضي الإنساني، وكان يفهم الفرق بين ادِّعاء رؤية «نموذج» في الأحداث الماضية وادِّعاء اكتشاف «قانون» أساسي. وبدلًا من البحث عن قوانين – كما يقول – فإن واجب المؤرخ هو كشف الماضي «كما حدث بالفعل» Wie es eigentlich gewesen ist، وقد أصبحت هذه العبارة هي الشعار المميِّز «للرانكية» أو المدرسة الألمانية في التاريخ).٥ ويضيف «رانكه» أنَّ القضية الوحيدة المهمة في دراسة التاريخ «ليست هي تقدُّم الحضارة… تلك القضية الملتبسة دائمًا… حيث إنَّ هناك قوًى – وهي قوى روحانية بحق – خلَّاقة، ليست الحياة فحسب، هناك طاقات معنوية نرى تطوُّرها… في تفاعلها وتتابعها، في حياتها، في انهيارها وتجددها. يوجد سرُّ تاريخ العالم.»٦ كما كان «رانكه» يعتقد أنَّ ميدان السياسة هو الميدان الذي يمكن أن يجد فيه المؤرخون أوضحَ تداخُل لكل تلك القوي الخلَّاقة. ومن جانب آخر، كان يُكِنُّ احتقارًا شديدًا للباحثين والدارسين الذين يسمحون للقضايا والتوجُّهات السياسية المعاصرة أن تُشوِّه كتاباتهم التاريخية. كان «رانكه» محافظًا، وكمؤرخ فإنه يشعر بالتعاطف مع آمال الرجال الذين قاموا بالثورة الفرنسية، كما كان بروتستانتيًّا يستطيع أن يفهم طموحات ومخاوف بابوية العصور الوسطى.٧⋆ ويرى أن وظيفة المؤرخ هي تأمُّل الماضي وتحليله وليس الحكم عليه، وقد ترك هذا الاقتناعُ أثرًا كبيرًا على «بوركهارت» الشاب، الذي سيقول فيما بعد إنَّ المؤرخين ضروريُّون لكي يجدوا «نقطة أرشميديسية» خارج الأحداث، «وإنَّ التاريخ لا بد أن يُكتَب «بروح التأمل»، وليس بروح المواجهة.»

إلا أنَّ «رانكه» و«بوركهارت» يتفقان أيضًا على أنَّ البشر يكشفون عن الشخصية ذاتها بصرف النظر عن المكانة أو الثقافة. المؤرخ يجد في كل زمن عدمَ الاستعداد نفسه لترك العقل يقود العواطف، والخلط المضطرب نفسه بين الآمال والمخاوف. أبحاث «رانكه» ودراساتُه أقنعَته بأن الدين والسياسة يقدِّمان الأساليب الضرورية للاعتقاد والنظام اللذَين يُمكِّنان الناس من إيجاد الترابط والتوازن المستقر في حياتهم المشتركة من خلال مؤسسات محدَّدة بزمانهم ومكانهم. كان على المؤرخ أن يُدرك أنَّ قدر الإنسان التاريخي له عدة أوجه وليس وجهًا واحدًا. «هذه المجتمعات العديدة المنفصلة، الأرضية-الروحية،٨ التي تستدعيها الطاقةُ المعنوية، وعدم المقاومة المستمر كلٌّ على طريقته، انظر إليها، تلك الكيانات السماوية، في دورانها، في جاذبيتها المتبادلة، في نظامها.»٩

والأمَّة حسب نظرة «رانكه» العضوانية للتاريخ والمجتمع تشكِّل «كائنًا حيًّا وليس مبدأً مجردًا، هي نفس وحيدة وفريدة»، ولكن «رانكه» يُدير ظهرَه أيضًا لحيوية الرومانتيكية الألمانية، وعلى خلاف «جوبينو» – الذي كان يحتقر أعماله – لم يكن «رانكه» يرى أنَّ التغيُّرات العضوية في المجتمع تحدث نتيجة حتميات بيولوجية حادَّة لقوى حياتية غامضة. بدل ذلك، المجتمعات عبارة عن كليَّات عقلانية، تتوافق أجزاؤها وتتواءَم بأسلوبٍ متوازنٍ ودقيق، و«بمعنًى خلَّاق موحَّد».١٠ وقد واجهت نظرةُ «رانكه» العضوانية صعوبةً كبيرة، ومثل أي نظام عضوي حي، فإن عمليةَ تطوُّر المجتمع المنظَّمة قد يُصيبها الفشل أيضًا، فهي قد تفقد ذلك التوازن الدقيق بين الأجزاء والكل تحت ظروف معينة، وإذا لم يكن أعضاء المجتمع قادرين حينذاك على استدعاء القوى الروحية لاستعادة التوازن الكلي، فستكون النتيجة هي الفوضى، وسوف تتدفق الطاقة كتحلل وليس بالمعنى «الخلَّاق الموحد». وهذا ما حدث كما يقول «رانكه» في مراحل مفصلية محددة في الماضي الأوروبي، كما حدث في نهاية الإمبراطورية الرومانية، ثم مرة أخرى قبل حركة الإصلاح١١⋆،١٢

ولكن ماذا لو ظهر دليل على هذا التحلل في زمننا وليس في نهاية الإمبراطورية الرومانية؟ إنَّ ما يقبله الآخرون كأمرٍ «عادي» دون تفكير، يراه الخبير نذيرًا بانهيار وشيك. في هذه الحالة، فإن نظرة «رانكه» العضوانية للمجتمع، تُنتج نوعًا خاصًّا من التشاؤم بخصوص المستقبل يُسمَّى «التشاؤم التاريخي»، والمتشائم التاريخي يرى أنَّ الحاضر يقوم بعملية تفكيك منظَّمة لمنجزات الماضي الخلَّاق المنظَّم. المؤسسات التي «كانت» دائمًا في توازنٍ متوائم، تُصبح الآن فاقدةً للتزامن، والتطوُّر الاجتماعي يصبح فوضى ودمارًا. وفي الوقت نفسه، يصبح الأفراد عاجزين عن فعل أي شيء لتجنُّب الكارثة الوشيكة، وإذا لم يُصلِح النظامُ نفسَه على نحوٍ ما، فسوف يكون الاضمحلال حادثًا لا محالة… هكذا يستنتج المتشائم التاريخي. التشاؤم يتحوَّل إلى جبرية Fatalism، ويصبح الخيار الوحيد هو الاستسلام والانسحاب.

أثناء إقامته في «برلين»، كان «بوركهارت» مؤيِّدًا متحمسًا للقومية الألمانية، إلا أنَّ موجة العنف السياسي والفوران الديمقراطي التي ضربَت مدينته الأثيرة «بازل» والأقاليم السويسرية الأخرى في الأربعينيات، والكارثة الأوروبية في سنة ١٨٤٨م عكسَت حماسه الباكر. واحد من أقرب أصدقائه وهو «جوتفريد كينكل» Gottfried Kinkel، حُوكِم وأُعدِم في أعقاب الثورة الألمانية. انقلب حزنُ «بوركهارت» إلى كراهية واشمئزاز من المثاليَّة الرومانتيكية التي أوصلَته هو وأوروبا إلى حافة الكارثة، فكتب لأحد أصدقائه الألمان يقول: «لقد تركت النشاط السياسي إلى الأبد، وسئمت العالم الحديث، أريد أن أهرب منهم جميعًا: الراديكاليون، الشيوعيون، الصناعيون، المتعلمون، شديدو الحساسية، المقلِّدون، التجريديون، المؤيدون للأحكام المطلقة، الفلاسفة، المتصوِّفة، المتعصِّبون للدولة، المثاليون… إلخ».١٣

أما بالنسبة ﻟ «جوبينو»، فإن فجر الحداثة العنيف كان شيئًا قد حدث لجيل والده أثناء الثورة الفرنسية، شيئًا كالأسطورة، مثل سقوط «آدم» من النعمة الإلهية. «بوركهارت» مرَّ بهذه السقطة مباشرةً وشخصيًّا. العالم المستقر الآمن الذي يعرفه تغيَّر بشكل مرعب أمام عينَيه وتركه خائفًا متحررًا من الوهم. كتب إلى صديق له: «ليس لديَّ أمل في المستقبل بالمرة… ربما تكون هناك عدةُ عقود قليلة يمكن تحمُّلها، نوع من الزمن الروماني الإمبراطوري.»١٤ انسحب «بوركهارت» إلى عزلةٍ أشبهَ بعزلة النُّسَّاك، واجدًا له ملجأً في حبِّه للتاريخ والفن. قام برحلة إلى إيطاليا أنعشَت روحه حيث أبهجَته روائع «مايكل أنجلو»، و«رافائيل»، و«تيتيان»، وعاد ليكتب كتابًا عن الثقافة الفنية لإيطاليا The Cicerone – الدليل السياحي – وليقبل منصبًا في جامعة «بازل»… أستاذًا للتاريخ. لم يبرح مدينته الأم منذ عام ١٨٨٥م حتى موته بعد ذلك بأربع وثلاثين سنة إلا لتمضية إجازات في إيطاليا التي يحبها. كان يعيش حياةً هادئة ويرتدي حُلَّةً سوداء متواضعة، اشتعل شعرُه شيبًا قبل الأوان، وكان من السهل أن تظنَّه قسيسًا، الأمر الذي كان يمكن أن يحدث له لو لم يفقد إيمانه الديني، حتى عندما ذاعَت شهرتُه كمؤرخ، كان يرفض أن يقوم بأي مغامرة في الخارج. وفي سنة ۱۸۷۱م عرضَت عليه جامعة «برلين» كرسيَّ التاريخ الذي كان يشغله أستاذه المحبوب «ليوبولد فون رانكه»، ولكنه رفض العرض.١٥

في برجه العاجي، مكتبته، محاطًا بكُتُبه ومخطوطاته، كان «بوركهارت» يحاول أن يضع أحداث ١٨٤٨م في الإطار التاريخي الأوسع للحضارة الأوروبية، ومثل «جوبينو» و«توكفيل»، وكثيرين غيرهما، كان «بوركهارت» يعتقد أنَّ الثورات وردود الأفعال العنيفة للطبقة الوسطى، علامات على ظهور بربرية جديدة، ولكنه اختلف أيضًا مع بعض أتباع المذهب الحيوي Vitalism١٦⋆ مثل «جوبينو»، والمؤرخ السويسري الرومانسي «إيرنست فون لاسال» Ernest von Lasaulx، اللذَين كانا يحاولان التمييز بين بربرية «قديمة» تُعبِّر عن أجناس حيوية وسائدة، مثل القبائل الجيرمانية والفايكنج، ونوع آخر «حديث» أو متفسِّخ استنفدَت فيه قوة الحياة نفسها. كان «بوركهارت» يعتقد أنَّ حيوية شعب أو جنس لا تقرِّر صحة المجتمع وإنما العكس؛ فالشعب البدائي يمكن أن يكون ضعيفًا وعقيمًا مثل نظيره الحديث. المهم هو حالة النظام الاجتماعي الأكبر: إذا كان في حالةِ نموٍّ وتطوُّر، أو كان قد وصل إلى نضج أكثر مما ينبغي مع ما يصاحب ذلك من «تفسُّخ داخلي ونقصان في الحيوية.» الأمر الذي يميِّز نهاية القديم وبداية الجديد.

كان «بوركهارت» يقول إنَّ كل المجتمعات والحضارات عبارة عن توازن ديناميكي بين ثلاثة عناصر أو ثلاث قوًى اجتماعية؛ اثنتان أخذهما من «رانكه»، وهما: الدين والدولة، والثالثة هي: الثقافة (أو ما يسمِّيه التنوير: نمط السلوك)، «تلك العملية التي يتحوَّل بها النشاط التلقائي أو الغافل لجنس أو أمَّة ما إلى فعل محسوب». كل عنصر يتبع مسار «النمو والازدهار والانحلال»، كما تأتي وتذهب الجماعات والكيانات الاجتماعية الجديدة. «وخلال عصور الحضارة العالية، تتواجد العناصر الثلاثة في الوقت نفسه في جميع مستويات التفاعل المتبادل»، ومع ذلك فهي عندما تتصادم أو تتصارع مع بعضها «تُنتج أزمة في جميع الأحوال» تؤثِّر على كل الناس وكل التجمعات. تاريخ «بوركهارت» لا يقدِّم لنا تفاعلًا سلسًا ومتدرِّجًا للقوى والتحرُّكات الإنسانية، وإنما بتوتُّر بين العناصر الثلاثة يعبِّر عنه «بأزمات دورية». وفي الأزمة «تتسارع العملية التاريخية فجأةً بشكل مرعب، والتطوُّرات التي كان يمكن أن تأخذ قرونًا تمرُّ بسرعة كالشبح في أشهر أو أسابيع ويتمُّ تحقُّقها.»١٧ كان سقوط الإمبراطورية الرومانية أزمةً من تلك الأزمات.

في أوَّل عمل تاريخي موسَّع له «عصر قسطنطين الأكبر» ١٨٥٢م، أوضح «بوركهارت» أن قوة الدولة الإمبراطورية الرومانية قد اتَّسعت على حساب مؤسسات اجتماعية أخرى لدرجة أنَّ الحضارة نفسها تمزَّقت. ويقول إنَّ الغزوات البربرية لم تُسبِّب سقوط الإمبراطورية الرومانية، ولكنها فقط فاقمَت أزمةً كانت في طور التكون في المجتمع الروماني نفسه؛ فقد اقتحم الجرمان «الممتلئون شبابًا وحيوية» حدودَ إمبراطورية قابلة للاختراق، وحثَّت مجموعة من الأباطرة العسكريِّين على الاستيلاء على السلطة، أولئك الأباطرة وفيالقهم، وليست القبائل الجرمانية، هي التي دمَّرت الحياة المدنية للعالم القديم، وهي تحاول أن تدعم سلطانها العظيم الذي كان في حالة وهن.

ونتيجة لذلك، ظهرَت قوة أخرى، هي قوة الدين، لكي تحلَّ محلَّ الدولة. وعندما أساءت الكنيسة الكاثوليكية استخدامَ سلطتها وأفقدَت النظام توازنه مرة أخرى كانت النتيجة هي حركة الإصلاح Reformation، وظهرت قوة تاريخية جديدة هي قوة الدولة، لكي تقوِّض قوة الكنيسة، حينئذٍ كان «بوركهارت» مقتنعًا بأن الحضارة الأوروبية كانت تمرُّ بأزمة مشابهة، وهي أزمة ثقافية هذه المرة؛ حيث إنَّ الحركات والمُثُل القومية التي أطلق القرن التاسع عشر عنانَها قد حطَّمت مستقبلها بنفسها.

«بوركهارت»: الديمقراطية، والفردانية، والأزمة الأوروبية

الديمقراطية الحديثة هي إحدى القوى المدمِّرة لنفسها كما يعتقد «بوركهارت»، الثورة الفرنسية أرسَت المبدأ الذي يقول إنَّ: «حكم الشعب هو الصيغة الشرعية الوحيدة للسلطة السياسية.» وفي رأيه أنَّ هذا المبدأ قام بعملية تنبيه أشبه بالصدمة الكهربائية للجماهير العريضة، العامة والجاهلة، من المدينة والريف، على شكل رأي عام وجعلها جزءًا من النسيج السياسي للدولة (كما كان يحدث للطبقة العاملة في مدينته المفضَّلة «بازل»)، ولكن ذلك زاد أيضًا من الاستياء الاجتماعي والمطالبة بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية. أصبح الناس يأملون في أن يجدوا الخلاص في هدم وإعادة بناء التركيبة الاجتماعية كلها باسم «التقدم والإصلاح»، وهذا هو الذي أطلق الثورات والتمرُّدات الراديكالية والاشتراكية في عام ١٨٤٨م، وفي النهاية فإن المؤسسات السياسية والسياسيِّين عرفوا كيف يرضخون، وكما كتب في سنة ۱۸۷۳م، «فإن رجال الدولة لم يعودوا يرغبون في مقارعة الديمقراطية، وإنما في أن يحسبوا لها حسابها الخاص على نحوٍ أو آخر، ويستخدمون قوتها المخيفة لأغراضهم الخاصة»، إلا أنَّ الحاجة لتدمير القديم تظل موجودة. وفي النهاية يعتقد الناس أنه إذا كانت سلطة الدولة بكاملها في أيديهم، فإن بإمكانهم تشكيلَ وجود جديد. الجماهير تضمُّ قوتها إلى جانب القوة الديناميكية لمجتمع «البيزنس» الكبير، مجتمع التجارة والصناعة والتعطُّش «للتملُّك وكسب المال». «البيزنس» يتَّجه نحو سلطة الدولة لحماية وتوسيع مصالحه، بينما تريد الجماهير من الدولة أن تقدِّم لها الامتيازات التي لا يستطيعون تحقيقها بأنفسهم. من هذين الضغطَين المتلازمَين، تظهر الدولة الحديثة كاملة القوة، جنبًا إلى جنب مع مستخدمي سلطتها الجدد.

كان «بوركهارت» يرى في «نابليون الثالث» في فرنسا نموذجًا لحكام المستقبل الذين يبسطون١٨ الأمور على نحو رهيب، وللطُّغاة العسكريِّين وأتباعهم الذين يختزلون الكيان المعقَّد الهش للتجربة الإنسانية إلى حقيقة واحدة هي السلطة،١٩ الجماهير تتعلَّم أن تُذعن. كتب ساخرًا «إنهم يريدون سلامهم وأجرهم، وسوف يقبلون ذلك من أي صيغة سياسية تقدِّمها لهم حتى ولو كان ذلك يعني» عبودية طوعية طويلة «لدكتاتورية وحشية».

وبالطبع فإن النتيجة التي توصَّل إليها «بوركهارت»، وهي أنَّ الديمقراطية تُخلي مكانها حتمًا للديكتاتورية، كانت نتيجةً قديمة قِدَم «أفلاطون» و«أرسطو»، ولكنه أضاف إلى ذلك النقد المضاد للديمقراطية خوفًا جديدًا، والذي سيكون حجرَ الأساس لكل النقد التالي الذي سيوجَّه ﻟ «مجتمع الجماهير»: إنَّ حكم الشعب يُهدِّد الحياة الثقافية للمجتمع ككل، ويفسر ذلك بقوله: «الشيء الجديد الحاسم الذي برز في العالم عن طريق الثورة الفرنسية، هو الإذن والإرادة لتغيير الأشياء»؛ وذلك لمجرد أنَّ الجماهير ترغب في ذلك، الواحد من العامة يستخدم سطوته السياسية ليضع خاتمه المتواضع على كل الأنشطة السياسية لأنه الآن يحدِّد أولويات المجتمع، وقد كان ذلك هو الاستبداد الحقيقي الذي صنعَته الثورة الفرنسية كما يظن، أو «إطلاق سراح الأنانية… جميع الرغبات». كان «بوركهارت» يرى أن أحداث ١٨٤٨م وظهور القومية الذي تلا ذلك، برهانًا على هذا التوجُّه الأكبر: الاستبداد الديمقراطي الجديد؛ سيُصلح نموذجًا لكافة صور الاستبداد… وإلى الأبد.» وكان يؤكد: «لا بد أن يخضع الديمقراطيون والبروليتاريا لاستبداد يزداد ضراوة.» لأنَّ فسادهم الفكري والأخلاقي «يجرُّ كلَّ جحيم الطبيعة الإنسانية»، وعندما تنهار القواعد الفكرية والأخلاقية، وتقوم طبقة منبثقة من البيروقراط بانتزاع كل الحرية والاستقلال الذاتي، يصبح المجتمع عاجزًا عن التصدِّي لأصحاب السلطة العسكرية الجديدة. المجتمع كما تنبَّأ «بوركهارت»، لا بد أن يصبح «مصنعًا عسكريًّا واحدًا كبيرًا، والجماهير تُجنَّد في جيوش ضخمة مدمرة، وحُكَّامه يتعاملون مع الموت الكبير كما تتعامل الصناعة مع الإنتاج الكبير، وصحافته مع الدعاية الكبيرة.»٢٠

لم يكن «بوركهارت» أوَّل نبي للدولة الشمولية والمجتمع العسكري الصناعي فقط، كان يَصِف انتصار ثقافة جماهيرية منحطة يمكن أن تسود المجتمع أيضًا، هذه الثقافة تُخلخل استقرار النظام الاجتماعي بما فيه من توازن تقليدي وعضوي بين مؤسساته وقِيَمه. كانت الديمقراطية الحديثة تدمِّر حضارةً أوروبية، وهي حضارة متفسِّخة في نظره فقدَت مبررَ وجودها. ولكن الديمقراطية كانت عاجزةً عن إنتاج بديل بنَّاء، وكان ذلك فعلًا، «بربرية سلبية ومدمرة تمامًا». في الديمقراطية، يتعلَّم الناس أن يرفضوا دورهم المحدد لهم كأجزاء من كل منتظم، والمجاهدة الفردية تساعد على حلِّ نسيج المجتمع والثقافة. الإنسان الحديث يريد أن يكسر القواعد، بينما الحرية الحقيقية عند «بوركهارت» هي الرغبة في العيش بداخل تلك القواعد، تمامًا كما فعل «بوركهارت» نفسه – وعائلته من قبله لعدة أجيال – في «بازل». وبالرغم من ذلك، وهو أمر مضحك، كما اضطرَّ «بوركهارت» للاعتراف، فإن تلك الرغبةَ في كسر القواعد قد أنتجت كذلك إحدى النقاط العالية في الحضارة الأوروبية: عصر النهضة، وقد كشف كتابُه «حضارة النهضة في إيطاليا» ١٨٥٩م كيف «أصبح الإنسان لأوَّل مرة – في عصر النهضة – فردًا روحانيًّا وكيف أدرك نفسه هكذا»، وكانت النتيجة هي التحرُّر الفوري للنشاط الإنساني من أَسْر مُثُل وقِيَم العصور الوسطى وتقديم قوة دافعة جديدة للعصر الحديث. وكان لهذا التحرُّر نتائجُ إيجابية «الأعمال الفنية العظيمة، إعادة اكتشاف قِيَم اليونان وروما القديمة، وشغف شديد بالحرية السياسية، وقد أرسَت النهضة – Renaissance – المبدأ الحديث، وهو أنَّ المهم هو الإنجاز وليس الميلاد.» في عصر النهضة، كما هو في العصر الحديث «الموهبة والجراءة يربحان الجوائز الكبرى»، ولكن «النهضة» أظهرَت أيضًا الجانب السلبي في الفردانية.

بيد أن «بوركهارت» لم يكن مفرطًا في إعجابه ﺑ «النهضة». كان شخصيًّا يفضِّل العصور الوسطى بما فيها من حسٍّ بالوحدة العضوية والروحانية المشتركة،٢١⋆ وكما يعتقد، فإن «النهضة» هي التي أطلقَت عنانَ العبادة المخجلة للسلطة. كتب: «لأول مرة نكتشف الروح السياسية الحديثة لأوروبا… والتي تُعبِّر دائمًا عن أسوأ الملامح الأنانية بلا قيود، تغتصب كلَّ حقٍّ وتقتل كلَّ خلية حية في ثقافة أكثر صحة.» حُكَّام مثل «آل بورجيا»، أسقطوا إحساسهم بالمسئولية الأخلاقية؛ «حيث تكون الفردانية من أيِّ نوع قد تحقَّقت في أعلى تطوُّر لها، نجد ملامحَ من هذا الشر النموذجي المطلق يسعد بجرائم لذاتها.»٢٢ نهضة «مايكل أنجلو» كانت أيضًا «نهضة» «ميكيافيللي»، وهذا هو الطيف الأسود الذي يُطارد أو يتَّبع «حضارة النهضة في إيطاليا»، وفي أوروبا الحديثة أيضًا، كما كان «بوركهارت» يعتقد. كان الكتاب «طفل ندامة» كما أخبر أحد أصدقائه. ومع ذلك لم يجد «بوركهارت» إجابةً عن سؤال مهم: ماذا لو كان جانِبَا الفردانية: فضيلتها الخلاقة وشرها المدمر، جوادان في الشيء نفسه؟ عند «جوبينو»، هذا السؤال غير قائم بالنسبة للنهضة، الدم يقول كل شيء: حيث نجد بعض الأفعال التي قد تبدو قاسيةً ووحشية في نخبة عِرقية، نجد الحيوية والصحة أيضًا. «واصِل طريقك إلى الأمام، افعل ما تحب، هكذا ببساطة، ما دام يخدم مصالحك، دَعِ الضعف وسفاسف الأمور للعقول الصغيرة والرِّعاع.»٢٣ «بوركهارت» لم يستطع أن يقبل خلاصة قاسية كتلك؛ فبالرغم من تشاؤمه التاريخي ظلَّ مثلَ «توكفيل» وريثًا لعصر التنوير إلى حدٍّ كبير. كان مقتنعًا بأن التمييز بين الخير والشر يجب أن يكون شيئًا أكبر من مجرد نزوة شخصية، وأن ذلك يجب أن يظهر إلى حدٍّ ما في طبيعة الإنسان الداخلية، ولكن إذا لم تكن الحضارة والتقدم يدمران طبيعةَ الإنسان الأخلاقية كما كان «روسو» والرومانتيكيون يقولون، فإن «بوركهارت» يوافق على أنهما لم يفعلا شيئًا من أجلها أيضًا.٢٤

مرة أخرى، المجتمعات والدول موجودة لتحقيق أهدافها ككيانات جماعية، وهي تقف بمعزل فوق المسائل الأخلاقية التي أغاظَت أعضاءها كأفراد، فأين يكمن الفرق بين الخير والشر إن كان هناك أيُّ فرق إذن؟ سؤال لم يُجِب عنه «بوركهارت» ولم يواجهه أصلًا في أعماله، زميله الصغير «نيتشة»، هو الذي سيتابع المسألة حتى النهاية.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/books/39552

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M