بعد الذي قدمناه في المقالين السابقين الأول والثاني من هذه السلسلة) يُفْتَرَضُ أنّ العلاقة بين المبادئ والمصالح قد صارت واضحة، وأنّه قد صار واضحاً كذلك أنّ المبادئ والمصالح ليس بينهما تضاد ولا تنافر ولا اختلاف؛ لأنّ المبادئ أصل للمصالح وجذر لها، فلا يكتسب الفعل وصف المصلحة إذا كان على خلاف ما تقتضيه المبادئ وتحتمه، وكما أنّه لا تعارض بين المصالح والمبادئ فكذلك لا تعارض بين المصالح والمقاصد، بل إنّ المقاصد ما سميت مقاصد إلا لأنّ الشارع قصد بها إلى تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، أمّا السياسة فإنّها في جوهرها وحقيقتها تصرفات تحقق مصالح مشروعة، إذْ هي كما عرفها ابن عقيل: “ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”[1]، وهذا هو التعريف الصحيح الدقيق الذي يتفق مع معنى السياسة في اللغة؛ حيث يدور معناها في لغة العرب على الاستصلاح والإصلاح والقيام على الشيء بما يصلحه”[2].
بقيت مساحة واسعة ومرنة، يقع فيها الكثير من الخلط والالتباس، بل ويقع فيها الكثير من التصحيف والتحريف والتزوير، هذه المساحة هي مساحة الموازنة والمفاضلة بين المصالح المتعارضة؛ ومن هنا كان الفقيه الورع مَن عَرَف خير الخيرين وشرّ الشرين؛ لأنّ “الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها – بحسب الإمكان – ومعرفة خيرَ الخيرين وشرَّ الشرين، حتى يُقَدَّمَ عند التزاحم خيرُ الخيرين ويُدْفَعَ شرُّ الشرين”[3].
إلا أنّ الشريعة لم تتركنا في هذه المساحات الواسعة الشاسعة نَضِلُّ في وديانها ونَتُوه في شعابها ونركب الصعب بين وهادها ونجادها، وإنّما وضعت لنا معالم بارزة؛ لا يزيغ عنها إلا هالك، ورتبت المصالح من وجوه عديدة، يقول العزّ ابن عبد السلام في قواعد الأحكام: “المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا، والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة، وقد تستوي مصلحة الفعلين من كل وجه فيوجب الرب تحصيل إحدى المصلحتين نظرا لمن أوجبها له أو عليه، ويجعل أجرها أتم من أجر التي لم يوجبها عليه”[4]، ويقول: “تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس، ودقيق وجليل، وكثير وقليل، وجلي وخفي، وآجل أخروي وعاجل دنيوي، والدنيوي ينقسم إلى متوقع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه”[5].
ووضعت الشريعة ضوابط دقيقة للترجيح بين المصالح المتعارضة، وكذلك بين المفاسد المتعارضة، وكذلك بين مصالح نطلب جلبها ومفاسد نروم دفعها، فقد قرر العلماء بما لا خلاف فيه القواعد الآتية: “إذا تعارضت مفسدتان روعى أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما”[6]، “يُختار أهون الشرين”[7]، “الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما”[8]، “يُرتكب أخف الضررين”[9]، “إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر”[10]، إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الأرجح منها على المرجوح”[11]، وهكذا.
وأمّا “ما خفيت عنا مصالحه ومفاسده فلا نقدم عليه حتى تظهر مصلحته المجردة عن المفسدة أو الراجحة عليها، وهذا الذي جاءت الشريعة بمدح الأناة فيه إلى أن يظهر رشده وصلاحه”[12]، ونحن في هذا كله لا نستقل بالموازنة بين المصالح بعقولنا بعيداً عن شرع الله تعالى، يقول الإمام الشاطبيّ: “فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ عِنْدَنَا مَا فُهِمَ رِعَايَتُهُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهِ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، بَلْ شَهِدَ بِرَدِّهِ، كَانَ مَرْدُودًا بِاتِّفَاقِ”[13].
وبهذا الذي قدمناه لا يُتَصور أصلا أن تتعارض مصالح عامّة مع مصالح قطرية، ولا مصالح دولة مع مصالح دعوة، ولا مصالح جماعة مع مصالح أمّة، ولا مصالح الفرد مع مصالح المجموع، ولا مصلحة سياسية مع مصلحة دينية أو شرعية أو دعوية، ولا مصالح دنيوية مع مصالح أخروية، لا يُتَصور من حيث الأصل أن يقع بين هذه المصالح تعارضٌ حقيقيّ تام من كل وجه؛ لذلك إن ظهر لنا تعارض فإنّه بالإمكان حسمه دون الإخلال بالتكليف، فإن لم يقع التزاحم وجب تحقيق المصلحتين معا، أو دفع المفسدتين معاً، وإن وقع التزاحم – بمعنى عدم إمكان جلب المصلحتين أو دفع المصلحتين – فعندئذ يكون الترجيح الذي لا يستقل العقل به، وإنّما يفعله العقل بصحبة الشرع؛ فإن وقع الاجتهاد الصحيح على وجهه الصحيح، ولم يداخله هوى ولا شهوة ولا غرض؛ فإنّ إحراز الحكم الشرعيّ وتحقيق مراد الربّ تبارك وتعالى هو النتيجة الحتمية بإذن الله، ويكون الرشد والوحدة هما الثمرة الحاصلة بمشيئة الله.
ونحن إن نظرنا إلى صلح الحديبية – وهو الأنموذج البارز في التاريخ للموازنة بين المصالح المتعارضة – لوجدناه مشتملاً على أعلى المصالح التي لم يدركها المسلمون في بداية الأمر، حين تصوروا أن المعاهدة تشتمل على ضرر ومفسدة، في حين أن ما كان فيها من ضرر كان وقتيَّاً أو شكلياً، فالوقتى كاشتراط عودة المسلمين بدون أداء الحج على أن يعودوا في العام القادم، والشكلي مثل اشتراط رد من أسلم من قريش دون أن يقابله اشتراط رد من ارتد إلى قريش من المسلمين.
ولقد قصد النبي – صلى الله عليه وسلم – تحصيل جملة من المصالح، على رأسها الاعتراف الرسمي من قريش بالدولة الإسلامية وبأحقيتها في المسجد الحرام والبلد الحرام؛ ذلك الاعتراف الذي يضعف مركز قريش وتأثيرها على القوى العربية الأخرى، «ويتضح من الأسلوب الذي اتبعه الرسول – صلى الله عليه وسلم- رغبته في الحصول على الاعتراف من قريش بالمجتمع الجديد الذي قام في المدينة، وأن له الحق كبقية القبائل العربية في زيارة مكة، مما يساعد القوة الإسلامية الجديدة على الامتداد والانتشار في الجزيرة العربية، وبالتالي: إضعاف مركز قريش»[14].
ولقد قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضاً إلى ضرب تحالف مكة وخيبر؛ ليتسنى له إنهاء قوتهما وخطرهما على الدعوة الإسلامية، «وقد بلغه أن مواطأة كانت بين أهل خيبر ومكة على غزو المسلمين، فرسم خطة يصل بها إلى موادعةٍ مع أهل مكة ينتج عنها أن تُخَلِّيَ بينه وبين العرب لتسهيل نشر الدعوة في الجزيرة ، وأن يعزل بها خيبر عن قريش»[15]، ولقد تحقق لرسول الله ما أراد، فبعد أن عقد الصلح عاد: «ووصل المسلمون إلى المدينة، وأقام رسول الله ينفذ خطته في القضاء على كيان خيبر، وفي نشر الدعوة خارج الجزيرة وتثبيتها داخل الجزيرة، والتفرغ في هذه الفترة – فترة الهدنة مع قريش – للقضاء على بعض الجيوب الداخلية، وللاتصال بالعالم الخارجي، فتم له ذلك كله بفضل هذه المعاهدة»[16].
ولقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تم هذا العقد، فإن قريشا كانت تُعَدُّ رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعندما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة … في الوقت الذي اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافي والسياسي والعسكري، ونجحت دعايتهم في تألُّفِ قبائل غفيرة وإدخالها في الإسلام[17]، إضافة إلى أنّ المسلمين تفادوا مفسدة لا يصح التقليل من شأنها، وهي مفسدة قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية وفي قتلهم معرة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين”[18].
وبالجملة فإن: «هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل؛ ولهذا سماها الله فتحاً مبينا» [19].
فإن عدنا إلى واقعنا الأليم وجدنا اضطرابا شديدا وخلطا أكيدا؛ حيث ترجحت لدى العدالة والتنمية بالمغرب ولدى حكومة السودان وغيرهما، ترجحت مصالح قطرية ضيقة ومرجوحة بل ومتوهمة، وربما كا كثير منها غير مشروع ولا معترف به شرعا، بينما أهدرت المصالح العامّة للأمّة الإسلامية، والعجيب أنّ فتوى الشيخ ابن باز – رحمه الله – دعمت ذلك الخلل في النظر للمصالح القطرية الضيقة والتعظيم من شأنها على حساب مصالح الدين والأمة، فلقد ذيل فتواه السيئة بشأن الصلح مع اليهود بقوله: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة لبقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإن رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يبيحها الشرع المطهر فلا بأس في ذلك”[20].
والعجيب أيضا أنّ كثيرا من الدول التي سارع بعضها اليوم إلى التطبيع وبعضها ينتظر الفرصة قد سبق لها أن وقفت ضد مشروع كامب ديفيد، وأصدرت بيانات كانت غاية في الرشد والصواب، بينت فيها سبب بطلان تلك المعاهدة بيانا مبنيا على ترتيب صحيح للمصالح والمفاسد، فقد جاء في البيان الصادر عن مجلس الوزراء لدولة الإمارات العربية المتحدة في 21/9/1978م “… فإنّ دولة الإمارات العربية المتحدة ترى أنّ اتفاقيتي كامب ديفيد لا تقدمان حلولا عادلة نهائية للأزمة طالما أنّهما لم تتضمنا التزاما إسرائيليا واضحا بالانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، وباستعادة حقوق الشعب الفلسطينيّ …” [21].
وجاء في بيان مجلس الوزراء البحريني 20/9/1978م “تؤكد حكومة البحرين التزامها بمقررات قمة الجزائر والرباط ولاسيما القرارات الخاصة بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك مدينة القدس، وكذلك حق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه … إن حكومة البحرين ترى أن القضية هي لجميع العرب، وبالتالي فإنّ حلها حلا عادلا لا يمكن أن يتم إلا بتضافر جميع الجهود العربية وبالتضامن العربي المخلص وتخطي كل الخلافات”[22].
وَوَرد في بيان مجلس الوزراء السعوديّ 19/9/1978م : ” … ما تم التوصل إليه في مؤتمر كامب ديفيد لا يعتبر صيغة نهائية مقبولة للسلام؛ وذلك لأنّ المؤتمر لم يوضح بصورة قاطعة عزم إسرائيل على الانسحاب من كافة الأراضي العربية التي احتلتها بالقوة وفي مقدمتها القدس الشريف، ولم ينص على حق الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإنشاء دولته على أرضه ووطنه … إنّ حكومة المملكة العربية السعودية – رغم تحفظها المشار إليه آنفا على نتائج مؤتمر كامب ديفيد – لا تعطي نفسها الحق في أن تتدخل في الشئون الخاصة لأي بلد عربي ، ولا أن تناقش حقه في استرداد أراضيه المحتلة عن طريق الكفاح المسلح أو عن طريق المساعي السلمية بالقدر الذي لا يتعارض مع المصالح العربية العليا”[23].
إنّ الخلط الذي يقع بتقديم مصالح قُطرية ضيقة على المصالح العربية العليا والمصالح الإسلامية الأعلى منها وعلى مصالح الدين نفسه التي لا تساميها أو تساويها مصلحة هو الخطر الكبير والعبث الخطير الذي يقلب الموازين ويقود الأمّة برمتها إلى الهلكة، وقد ضربت مثالين متقابلين، أحدهما تحققت به المصالح والخيور، والثاني تأكدت به المفاسد والشرور، وقس على ذلك كثيرا من المقارنات بين تصرفات بالدعوة والسياسة والجهاد والتغيير وقعت في تاريخنا المجيد، في مقابل تصرفات وقعت في واقعنا البليد؛ فهل من صحوة جديدة للعقل الإسلاميّ في ضوء الشرع المطهر لتحقيق الانطلاقة الكبرى؟! وهل من وعي سديد بالمصالح الحقيقية يجعلنا جميعا نعمل في خندق واحد وإن تعددت الثغور وتنوعت؟!
الهامش
[1] نقله ابن القيم عن ابن عقيل الحنبليّ في إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/283)، وفي الطرق الحكمية (1/2)
[2] لسان العرب لابن منظور (4/747)، ط دار الحديث – القاهرة 2003م.
[3] منهاج السنة النبوية (6/ 118) – وراجع: مجموع الفتاوى (30/ 234)
[4] قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (1/ 29-36)
[5] قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (1/ 57)
[6] مجلة الأحكام العدلية م/ 28.
[7] مجلة الأحكام العدلية م/ 9.
[8] الطرق الحكمية لابن القيم ص 383.
[9] المعيار المعرب للونشريسي 8/433.
[10] فصول الأحكام للباجى ص 208، وانظر التاج والإكليل 4/218.
[11] مجموع فتاوى ابن تيمية 24/269 والقواعد الفقهية الخمس الكبرى ص395.
[12] قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (1/ 58-59)
[13]الاعتصام للشاطبي (2/ 609)
[14] مفاهيم ودروس من صلح الحديبية، د. محمد بن عبد الله الشباني: مجلة البيان العدد (87) (ص8).
[15] الدولة الإسلامية لـ تقي الدين البنهاني (ص85)، بتصرف بسيط.
[16] السابق (ص94) بتصرف.
[17] فقه السيرة للغزالي (ص335).
[18] قواعد الأحكام في مصالح الأنام – العز بن عبد السلام – مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة – ط 1991 م – (1/ 95)
[19] زاد المعاد (3/275).
[20] حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الإسلامية – عبد العزيز بن باز – إشراف رئاسة البحوث والإفتاء – ط أولى 1996م – صــــــــ19
[21] اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ126
[22]اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ 127
[23] اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ 128
.
رابط المصدر: