يلقي هذا التعليق الضوء على الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر، والتداعيات المحتملة لتصعيد التوتر الأمني على حركة الملاحة والتجارة الدولية، ويستكشف مسارات الأحداث الراهنة في ضوء استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة.
وجَّهت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وبدعم من البحرين وهولندا وكندا وأستراليا، يومي 12 و13 من يناير/كانون الثاني الجاري، ضربات إلى جماعة أنصار الله في اليمن، استهدفت “مواقع مرتبطة بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية وصواريخ كروز وقدرات الرادار الساحلي والمراقبة الجوية”، وذلك بهدف “تعطيل وإضعاف قدرتهم على تعريض البحارة للخطر وتهديد التجارة الدولية في أحد أهم الممرات البحرية في العالم”، بحسب وزارة الدفاع الأميركية، وقد رفض الحوثيون هذه الاتهامات، وقالوا إنهم لا يستهدفون إلا السفن المتجهة إلى إسرائيل ردًّا على عدوانها على غزة، بينما بقية سفن العالم يمكنها العبور بأمان، وتوعدوا الأميركيين بالرد.
هذا المستوى العالي من التصعيد يزيد الوضع الأمني في باب المندب والبحر الأحمر خطورة، ويلقي بتداعياته السلبية على حركة التجارة الدولية، كما قد تجر تلك المواجهات أطرافًا إقليمية وربما دولية لا تريد “العسكرة الغربية” لهذا الممر الدولي ذي الأهمية الجيوستراتيجية.
يلقي التعليق التالي الضوء على الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر، والتداعيات المحتملة لتصعيد التوتر الأمني على حركة الملاحة والتجارة الدولية، ويستكشف مسارات الأحداث الراهنة في ضوء استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة.
الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر
يعد البحر الأحمر أحد أهم طرق الملاحة الرئيسية في العالم، إذ يربط بين قارات ثلاث، هي: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتقع في طرفه الشمالي قناة السويس التي تعد شريان الملاحة الإستراتيجي بين الشرق والغرب؛ التي تقلل المسافة على السفن العابرة بينهما بنسبة 12% في حدها الأدنى و76% في حدها الأقصى.
يبلغ طول البحر الأحمر 1900 كلم، فيما يبلغ عرض مدخله الجنوبي (مضيق باب المندب) 30 كلم، وتقع في وسطه جزيرة بريم اليمنية، وتطل عليه 9 دول، 7 منها عربية، بسواحل تمثل 90% من إجمالي مساحة ساحل البحر الأحمر، وهي: مصر والسعودية والأردن والسودان واليمن وجيبوتي والصومال، كما تطل عليه دولتان غير عربيتين، هما: إريتريا وإسرائيل.
يمر بالبحر الأحمر 15% من حجم التجارة العالمية، و30% من حجم تجارة الحاويات، وتعتمد عليه أوروبا والولايات المتحدة في تلبية معظم احتياجاتها من الطاقة وبالأخص من الغاز المسال.
لإسرائيل إطلالة على البحر الأحمر عبر مدينة وميناء إيلات (أم الرشراش سابقًا) الذي افتتحته عام 1955. كان هذا الميناء عرضة للخطر القادم من مصر أثناء حروبها مع إسرائيل ثم بدأ هذا الضغط يخف تدريجيًّا بعد معاهدة السلام الموقعة بينهما، عام 1979، وحلول قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات به. في عام 1985، أصبحت مدينة إيلات منطقة تجارة حرة معفاة من رسوم الاستيراد، وازدادت أهمية المدينة والميناء عام 2021 بعد تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل واتفاقهما على تنفيذ مشروع أنبوب “إيلات-عسقلان” الذي بموجبه تصدِّر الإمارات نفطها الخام إلى أوروبا من خلال نقله إلى ميناء إيلات بناقلات النفط ثم ضخه عبر أنبوب من إيلات على البحر الأحمر إلى عسقلان على البحر الأبيض المتوسط. كما زادت أهمية ميناء إيلات أيضًا بعد إعلان إسرائيل عن عزمها إنشاء خط سكة حديد لقطار سريع ينقل الأفراد والبضائع من إيلات إلى موانئها على البحر الأبيض المتوسط وصولًا إلى كريات شمونة الواقعة في أقصى الشمال عند الحدود مع لبنان.
التصعيد الأمني
تسيطر جماعة أنصار الله الحوثية سيطرة قارية وبحرية تمكِّنها من استهداف السفن العابرة لمضيق باب المندب والبحر الأحمر أو القريبة من بحر العرب وخليج عدن، وبمقدورها إحداث ضرر ليس فقط بتلك السفن بل كذلك بميناء إيلات الإسرائيلي وما جاوره، وذلك لما تمتلكه من إمكانيات صاروخية باليستية وطائرات غير مأهولة (انتحارية) وقدرات بحرية قديمة وحديثة ودعم لوجستي واستخباري إيراني. فلدى الجماعة مقذوفات بمديات تصل 1900- 2000 كلم، وهي، تقريبًا، المسافة نفسها بين صنعاء أو ميناء الحُديدة، وميناء إيلات، فيما المسافة بين آخر نقطة ساحلية لتمركز الحوثيين جنوبي الحُديدة، وبين أي نقطة تقع في خليج عدن أو موازية لميناء عدن، تقدر بين 340-370 كلم، وهي مسافة تتيح الوصول الجوي للصواريخ والطائرات غير المأهولة التي يمتلكها الحوثيون، وقد وجهوا قدراتهم العسكرية بالفعل إلى ما توعدوا به إسرائيل من قبل، واشترطوا لتوقف تلك الاستهدافات إيقاف الحرب التي تشنها على غزة.
شنَّت جماعة أنصار الله هجمات على مدينة وميناء إيلات، كما استهدفت السفن المتجهة إلى إسرائيل، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فارتفع منسوب التوتر الأمني بالبحر الأحمر، وتأثر بذلك ميناء إيلات وقناة السويس تأثرًا مباشرًا، كما تضررت حركة الملاحة الدولية عمومًا العابرة للبحر الأحمر، كما سنأتي على ذلك لاحقًا.
لم ترد إسرائيل على استهداف سفنها وأراضيها وإنما ردت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا نيابة عنها، وذلك تحت مظلة التحالف العسكري الذي تشكَّل في ديسمبر/كانون الأول الماضي والملقب بـ”حارس الازدهار”، وقصفتا، في يناير/كانون الثاني الحالي، مخازن عسكرية ورادارًا ومنصات صواريخ تابعة للحوثيين في صنعاء وصعدة والحديدة، في عملية وصفها وزير الدفاع الأميركي بأنها “تبعث برسالة واضحة إلى الحوثيين مفادها أنهم سيتحملون مزيدًا من الأثمان إذا لم يُنهوا هجماتهم غير الشرعية”، وقد استقبل الحوثيون الرسالة ورفضوا مضمونها وتوعدوا بالرد وقاموا بذلك بالفعل عبر استهداف إحدى المدمرات الأميركية قبالة ميناء الحديدة.
التداعيات
نجم عن الضربات الحوثية وردود الأفعال الأميركية-البريطانية تصعيد أمني خطير في بحر العرب وخليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، وهو ما دفع بشركات النقل البحري العملاقة مثل: MSC، Maersk، Hapag Lloyd، CMA CGM، Yang Ming Marine Transport، Evergreen إلى تغيير مسار رحلاتها المجدولة من البحر الأحمر إلى الطريق الأطول والأكثر كلفة المعروف بطريق رأس الرجاء الصالح الذي يلتف حول القارة الإفريقية، وقد تسبب ذلك في تقليل حركة السفن التي تستخدم البحر الأحمر إلى ما يقارب النصف، وهو ما يؤثر سلبًا على حركة التجارة الدولية بين الشرق والغرب، ولاسيما تجارة النفط والغاز المسال، فضلًا عن السلع والبضائع الأخرى، وأدى في العموم إلى مضاعفة تكلفة الشحن البحري وفقًا لمؤشر فرايتوس- Freightos البلطيق المتخصص في تكاليف الشحن البحري. يوضح هذا المؤشر أن تكلفة شحن حاوية قياسية على سبيل المثال ارتفعت بنسبة 93% في التاسع من يناير/كانون الثاني الحالي، فيما تشير شركة دروري الاستشارية المتخصصة في ذات المجال أيضًا إلى زيادة بنسبة 114% في تكلفة الشحن من شنغهاي إلى روتردام خلال فترة مماثلة، وهو الطريق الذي يمر عادة عبر قناة السويس.
تأثرت إسرائيل باستهداف مدينة وميناء إيلات، فالشركات العاملة في منطقة التجارة الحرة أصبحت تعاني ارتفاعًا في أسعار السلع المستوردة والمصدَّرة، كما أصبحت المدينة المشهورة بالسياحة مكانًا خطرًا على قاصديها، أما الميناء فقد بات غير آمن لاستقبال السفن، فضلًا عن التهديدات التي صار يتعرض لها مشروع خط أنابيب إيلات-عسقلان، وخط السكة الحديد إيلات-موانئ البحر المتوسط.
كما تأثر بهذه التداعيات الاقتصادية عديد دول العالم وبالأخص دول الخليج التي تستخدم البحر الأحمر في تصدير الغاز المسال إلى أوروبا والولايات المتحدة، ومصر التي تعد رسوم عبور السفن من خلال قناة السويس أحد أهم مصادر النقد الأجنبي الذي يحتاجه اقتصادها بشدة، والتي انخفضت أعداد السفن العابرة قناة السويس لأقل من النصف، وإسرائيل التي يقدر حجم تجارتها عبر ميناء إيلات بـ95 مليار دولار سنويًّا، بحسب القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية. ومن المقدر أن يؤدي تغيير مسار هذه التجارة ليتخذ مسار رأس الرجاء الصالح إلى تأخير قدره خمسة أسابيع عن الموعد المعتاد لو سلكت السفن المسار المعتاد عبر البحر الأحمر؛ الأمر الذي يرفع تكلفة الشحن ويزيد أسعار السلع المستوردة في نهاية المطاف على المستهلك الإسرائيلي. كذلك سوف يتضرر اليمن نفسه من التصعيد الأمني وذلك لأن أغلب احتياجاته يستوردها عبر ميناء الحديدة الواقع على ساحل البحر الأحمر.
خاتمة
نتيجةً للضرر الذي يلحق بالتجارة العالمية وتتأذى منه معظم دول العالم بدرجة أو بأخرى، ونظرًا لأن إيران وروسيا والصين ليس من مصلحتهم زيادة الوجود العسكري الغربي في هذا الممر الدولي، كما أنه ليس من مصلحة الحوثيين أنفسهم تعريض مكتسباتهم التي حققوها على مدى السنوات العشر الماضية لمزيد من الخطر، فإن الأرجح لمسارات الأحداث الراهنة هو العودة لسياسة “ضبط النفس”، وجعل التحكم في “إيقاع التصعيد الأمني” الخيار الأفضل للحوثيين والأميركيين على السواء.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5833