كان أكثر ما لفت النظر في الضربات الإيرانية- الباكستانية المتبادلة هو حدود التصعيد بين البلدين وما إذا كانت هذه الضربات ستتحول إلى حرب شاملة ترفع حدة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا أن ما حدث كان بمثابة ضربات مرسومة بدقة تبرهن القدرة على الردع ولا تتجاوز الحد إلى ما هو أبعد من ذلك. أو بعبارة أخرى، كانت المغامرة من طهران وإسلام آباد محسوبة العواقب بشكل مسبق؛ تطبيقًا لمبدأ المعاملة بالمثل، مما يجعل وتيرة العنف الإقليمي في تزايد منذ السابع من أكتوبر الماضي.
صحيح أن الأحداث كانت متلاحقة إلا أن الطلقة الأولى أطلقها الجانب الإيراني عندما شنت طهران ضربات على إقليم بلوشستان الباكستاني، مما أسفر عن مقتل طفلين وإصابة عدة أشخاص آخرين، وفقًا للسلطات الباكستانية على الرغم من تأكيدات السلطات الإيرانية أنها استهدفت الإرهابيين فقط والمقصود هنا عناصر جيش العدل السني المتشدد والتي تنشط على جانبي الحدود الإيرانية الباكستانية، وأعلنت في السابق مسؤوليتها عن هجمات ضد أهداف إيرانية.
لكن الهجوم أثار غضب باكستان التي وصفت الهجوم بأنه “انتهاك فاضح للقانون الدولي وروح العلاقات الثنائية بين باكستان وإيران”. وعليه، ردت باكستان في غضون يومين على ما أسمته “سلسلة من الضربات العسكرية الدقيقة والمنسقة للغاية” على عدة مخابئ للانفصاليين في سيستان وبلوشستان والذين يتخذون من إيران ملاذًا آمنًا لهم حسب السلطات الباكستانية.
ما هو جيش العدل؟
يعد هذا التنظيم واحدًا من وسط العديد من التنظيمات السنية المتشددة التي تعمل ضد إيران، و”جيش العدل” كان عند التأسيس جزءًا من جماعة سنية متشددة أكبر تسمى “جند الله”، والتي انقسمت بعد إعدام زعيمها على يد إيران في عام 2010، وفقًا للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب التابع للحكومة الأمريكية. ويركز هذا التنظيم على المنطلقات المذهبية في استهدافه لرجال أمن ومسؤولين إيرانيين وحتى المدنيين.
وغالبَا ما يعلن “جيش العدل” عن مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي تقع على الأراضي الإيرانية ففي عام 2015، أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن هجوم أسفر عن مقتل ثمانية من حرس الحدود الإيرانيين، حيث ورد أن المسلحين عبروا إلى إيران من باكستان. وفي عام 2019، أعلنت مسؤوليتها عن تفجير انتحاري استهدف حافلة تقل أفرادًا من الجيش الإيراني، مما أسفر عن مقتل 23 شخصًا على الأقل في سيستان وبلوشستان.
لماذا يثير البلوش التوترات؟
ربما تكمن الإحالة الأولى في أن البلوش سواء في محافظة سيستان بلوشستان في جنوب شرق إيران أو إقليم بلوشستان في غرب باكستان يقطنون في المناطق الأكثر فقرًا حيث ترتفع معدلات البطالة ويفتقر السكان لحاجات الحياة الأساسية والذين يشكلون حوالي عشرة ملايين نسمة يعيش أغلبهم في باكستان تليها إيران ثم قلة منهم في أفغانستان. ولذلك تقاتل القوات الباكستانية منذ نحو عقدين الانفصاليين البلوش.
وبعد عملية القصف الأخيرة، أصدرت الخارجية الباكستانية بيانًا قالت فيه إن إسلام آباد نفذت سلسلة من الضربات العسكرية الدقيقة عالية التنسيق والموجهة على وجه التحديد ضد مخابئ الإرهابيين في محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية، في إشارة إلى ما يسمى تنظيم “جيش تحرير بلوشستان” المسلح داخل إيران وهو ما تقول عنه إيران أنه جماعة مسلحة انفصالية تدعو لإقامة الدولة البلوشية وإنهاء سلطة باكستان على المنطقة.
ولا يؤرق البلوش الحكومة الباكستانية فقط بسبب نواياهم الانفصالية؛ فمنذ منذ عام 2014، حيث استهدف الانفصاليون أيضا المشاريع المرتبطة بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني وهو مشروع تبلغ كلفته 58 مليار دولار ويعد جزءًا من مبادرة “الحزام والطريق” في بكين والتي تمر أجزاء كبيرة منه عبر بلوشستان الغنية بالمعادن؛ إذ يرى قادة الحركات الانفصالية أن الاستثمار الصيني ليس إلا مجرد احتلال وسرقة لموارد المنطقة.
وفي إيران أيضًا، لا تبدو مجموعة البلوش مهادنة وإنما هي فقط تتحين الفرص المناسبة لإحياء نزعتها الانفصالية بين الحين والآخر؛ فقد واجهت محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية حالة من عدم الاستقرار في عام 2022 عندما انضم سكانها إلى تحركات احتجاجية اندلعت في مختلف أنحاء إيران على خلفية وفاة الكردية مهسا أميني بعد توقيفها من قبل شرطة الأخلاق لعدم التزامها القواعد الصارمة للباس في الجمهورية الإسلامية.
دلالات التوقيت
كانت هناك محاولات حثيثة للربط بين التصعيد بين الجبهتين الإيرانية- الباكستانية وما يجري من حرب في غزة، إلا أنه وبالنظر لمبررات التصعيد يبدو أن الحرب في غزة ليست ذات رابط بالتصعيد بين طهران وإسلام آباد.
حيث يمكن أن تعزى دلالة التوقيت بالنسبة لإيران للهجوم الذي تم تنفيذه على مركز شرطة في إيران في الشهر الماضي وبالتالي كان العمل الإيراني ضد باكستان هو رد فعل انتقامي في حين كان الرد الباكستاني في إطار حماية السيادة. ولكن هذا لا يعني أن هذه هي دلالات التوقيت الوحيدة؛ فمن الواضح أن الجانب الإيراني على وجه التحديد يسعى إلى إثبات قدراته على الردع في رسالات يتم تضمينها إلى عدد من الجبهات أهمها جبهة الداخل الإيراني.
ومن جهة أخرى، تأثر رد إسلام آباد بالأوضاع داخل البلاد؛ إذ يبدو الداخل مثقلًا بأوضاع اقتصادية متراجعة فضلًا عن كون الحكومة التي تدير البلاد الآن هي حكومة مؤقتة ولذلك ليس من الواضح إذا كان قرار الرد نابعًا من الجيش الباكستاني فقط أم تم الرجوع فيه لرئيس الوزراء المؤقت مما يشي بأن القرار تم اتخاذه سريعًا وبشكل تلقائي لحماية السيادة الباكستانية دون توافر رغبة ملحة في التصعيد. وذلك على الرغم من أن ردها كان ملفتًا ويرجع ذلك إلى وعلى الرغم من كل الاستفزازات الإيرانية، لم ترد الولايات المتحدة وإسرائيل أبدًا على إيران من خلال مهاجمة داخل الأراضي الإيرانية إلا عن طريق وكلاء. ولذلك فإنه من منظور دولي فقد تجاوزت باكستان كل الخطوط باستهدافها الداخل الإيراني.
أما على الناحية الإيرانية ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في إيران ومخاوف النظام المبررة من نسبة إقبال منخفضة للغاية ــربما تصل إلى 15%ــ أصبحت شرعيته موضع تساؤل، خصوصًا في ظل تراجع الثيوقراطية بعد الاحتجاجات على شرطة الأخلاق خصوصًا أن المحتجين طالبوا بإسقاط النظام الديني وإقامة دولة ديمقراطية، ويضاف إلى ذلك الهشاشة الأمنية التي بدا فيها النظام الإيراني بعد تفجيري كرمان.
ومن هنا يبعث الحرس الثوري برسائل تتضمن قدرته على حماية مهمته في بقاء النظام. وبالإضافة للأسباب الداخلية، تشك طهران في أن واشنطن تمول “جيش العدل” وهو ما يفسر لماذا قررت السلطات الإيرانية هذه المرة توجيه الضربات داخل الأراضي الباكستانية التي ترى طهران أنها تستمر في إسداء الخدمات للولايات المتحدة. وهو نفس المنطق الذي تنطلق منه باكستان في رؤيتها أن إيران سمحت للقوميين البلوش باستخدام أراضيها كملاذ آمن.
التداعيات وحدود التصعيد
يمكن أن تكون الضربات المتبادلة أكثر تأثيرًا على الجانب الباكستاني، خصوصًا لأن “جيش تحرير بلوشستان” قال إنه سينتقم لعمليات القتل ويشن حربًا على الدولة. وهو ما ينعكس سلبًا على الجانب الاقتصادي أيضًا؛ إذ تعد إيران من أغنى الدول في مجال الغاز، بينما تعاني باكستان شحًا شديدًا في هذا المورد المهم من موارد الطاقة. وفي عام 2012، تم توقيع اتفاقية مد أنابيب غاز بين إيران وباكستان، قبل أن تقف العقوبات الأمريكية عائقاً أمام تنفيذها، لكن العرض الإيراني ظل متاحًا أمام إسلام آباد، وظلت الأخيرة في حاجة ماسة إلى الغاز من إيران وهي العملية التي يمكن أن تتأثر بالتصعيد الحالي.
ويمكن أن تنسحب آثار التصعيد أيضًا على المجال الأمني، وسط مخاوف وهواجس من المجموعات الانفصالية المتمركزة عند حدود الطرفين. وغالبًا ما شهدت العلاقات على المستوى الأمني تعاونًا شديدًا، وصل في عدة مرات إلى إجراء تدريبات مشتركة، وتبادل للتكنولوجيا الأمنية والتكنولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى التعاون الاستخباري الذي تجلى في أكثر من حادثة، إحداها إلقاء القبض على زعيم تنظيم “جند الله”.
ختامًا، فإنه وسط تراجع قدرة المجتمع الدولي على الوساطة بين الدولتين فقد تنفس الجميع الصعداء عندما بدا أن عملية التصعيد محدودة خصوصًا أن أحدًا من الجيشين لم يستهدف قوات الجيش الآخر، وبدلاً من ذلك هاجم كل منهما ما يعتبره قوات جهادية داخل أراضي الطرف الآخر، وهو الأمر الذي يعتبره الطرف الآخر أيضًا مثيرًا للإشكالية ولكنه لا يستدعي شن حرب شاملة.
ومن هنا يمكن القول إن التحركات كانت محسوبة بشكل مسبق؛ إذ رأت طهران التي أطلقت الشرارة الأولى أن أي شيء ستفعله باكستان ردًا على ذلك سيكون مجالًا للتقبل. باكستان، بدورها، شنت ضرباتها الخاصة ضد أصول “جيش تحرير بلوشستان” و”جبهة تحرير بلوشستان” داخل إيران فقط ولم تدخل في رد مباشر على الحرس الثوري. وهو ما قلل فرص التصعيد والتنافر بين البلدين وحفظ قدرًا من المرونة قلما تتوفر في هذه الظروف.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80626/