علي جبلي
تتمتع منطقة الخليج بأهمية استراتيجية وسياسية واقتصادية كبيرة، فهي تقع على الحدود ما بين المنطقة العربية والفارسية، وتعد مركزاً للجزيرة العربية والمشرق العربي، وتمتلك أكبر مخزون احتياطي للنفط والغاز، وتتوسط الخطوط البحرية الرئيسة، وتضم عدداً من الموانئ ومحطات الوقود لوسائل النقل الكبرى كالطائرات والسفن والمركبات الدولية، وتستقل بأهم دور العلم والعبادة، وهذه الأهمية جعلت من المنطقة قبلة للأطماع القديمة والجديدة، وأصبحت فكرة السلام في المنطقة من الأفكار التي تبناها النظام الدولي، وحشد لها كل الإمكانات، تحت مظلة تأمين النفط بوصفه سلعة استراتيجية للأمن والسلم العالميين.
تعيش منطقة الخليج وضعاً أمنياً مستقراً مقارنة بمحيطها الإقليمي الملتهب، منذ الثورة الإيرانية 1979 التي سعت إلى إعادة فرز المنطقة، مروراً بالحروب العراقية الإيرانية، ومِن بعدها غزو الكويت 1990، ثم الغزو الأمريكي للعراق 2003، إلى الأزمات التي تلت ثورات الربيع العربي في اليمن وسوريا، فعلى الرغم من ذلك كله، ومقارنة بأوضاع المنطقة، استطاعت دول الخليج المحافظة على أمنها الداخلي، باستثناء الخلافات المحدودة التي تظهر بين حين وآخر، وأغلبها انعكاس لأزمات خارجية.
إضافة إلى ذلك ثمة مشاريع إقليمية متنافسة لها أهدافها في المنطقة، وتحاول توسيع دائرة نفوذها السياسي، ومنها المشروع الإيراني القائم على ثنائية الهيمنة القومية والمذهبية، والذي يستخدم أدواته الخشنة والناعمة في التمدد، ويسعى إلى تسهيل ودعم ارتباط المجموعات الشيعية في المنطقة بالمركزية الإيرانية، وتمكينها سياسياً وفكرياً، وإعادة تشكيل النظام الدولي على أساس التعددية القطبية، مستعيراً الفكرة الجيوستراتيجية التي نادى بها هالفورد جون ماكيندر في نظريته (قلب الأرض)، التي يسعى من خلالها إلى احتواء العالم الإسلامي وبناء المجال الحيوي الإيراني، مستثمراً الضعف السياسي الداخلي، وغياب المشاريع العربية الكبرى.
وهذا الأمر سمح للمشاريع الخارجية بالتمدد، وأتاح الفرصة للتسويق للكيان الإسرائيلي بوصفه مدافعاً عن هذه الأنظمة العربية، دون وعي بأهدافه، التي يسعى من خلالها إلى تمكين العقل اليهودي سياسياً وعسكرياً، والريادة في المال والاقتصاد، حسب استراتيجية شمعون بيريز، ويُصَدِّر نفسه على أنه مشروع مواز للمشروع الإيراني في معادلة الصراع الحالية، وهذا ما دعا بعض الدول الخليجية للتقارب معه، وكان أبرز تجليات هذا التقارب إعلان الإمارات والبحرين التطبيع، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية والاستخباراتية التي تربطه بعدد من الدول الخليجية، والحديث عن نوايا هذه الدول إعلان التطبيع مع هذا الكيان.
هذه الموجة الجديدة من التطبيع سبقتها موجتان؛ الموجة الأولى تمثلت في اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الإسرائيلي 1979، ثم الموجة الثانية في التسعينيات من خلال اتفاقية أوسلو 1993 والاتفاقية الأردنية 1994، ويعد التطبيع الإماراتي البحريني الموجة الثالثة من التطبيع. ولكن هذه الموجة جاءت مختلفة عن سابقتيها متجاوزة لدول الطوق، ومع دول لم تشهد حالة حرب مع الكيان الإسرائيلي، وفي ظل الأزمات المتصاعدة التي تعيشها المنطقة، ولهذا تعد أخطر موجات التطبيع على الإطلاق، لأن الموجتين الأولى والثانية انطلقتا من مبدأ “الأرض مقابل السلام”، ولكن الموجة الثالثة انطلقت من مبدأ “السلام مقابل لا شيء”، أو “السلام مقابل القوة”، كما أطلق عليها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الأسبق، ولهذا يُتوقع أن تكون أبعاد هذه الموجة أكثر خطورة من الموجات السابقة.
لقد ظل الكيان الإسرائيلي خلال السنوات الماضية معزولاً عن الجسم العربي، على الرغم من تطبيع بعض الأنظمة، وذلك لطبيعته التي تختلف جذرياً عن المحيط الذي زُرعت فيه، وقد نشطت منظمات ومؤسسات المجتمع المدني العربية في مناهضته، وحصره في دوائر دبلوماسية ضيقة، وتشكيل مناعة عربية رسمية وشعبية ضد التطبيع، ومع كل ذلك يحاول الكيان الإسرائيلي مرة أخرى تحقيق اختراق جديد، يضمن من خلاله تحقيق أكبر قدر من المصالح الخاصة ذات الأبعاد الاستراتيجية على الأمن الخليجي القومي خصوصاً والعربي عموماً.
تأتي هذه الدراسة مستوعبة لمساعي الكيان الإسرائيلي لتحقيق الطموحات القديمة وحُلم الشرق الأوسط الجديد، ومحاولة الوصول إلى اختراق جديد للبنية الثقافية والخطاب السياسي العربي، مركزاً على:
1- الاعتراف العربي الرسمي بالسردية التاريخية للصهيونية، فالمسألة بالنسبة لـلإسرائيليين ليست مرتبطة بقبولهم كأمر واقع نتيجة قوة الردع التي أجبرت الدول المجاورة على الاعتراف بهم كالأردن ومصر؛ فما يسعى إليه الكيان حالياً هو الاعتراف المبدئي بشرعيتهم التاريخية والأخلاقية حسب منظورهم.
2- السعي لتغيير البنية الثقافية للشعوب العربية، وتهيئتها سياسياً لتقبل هيمنة الكيان الإسرائيلي، والتركيز على تطبيع الشعوب، وتكثيف الزيارات والرحلات السياحية والتعامل التجاري، وفتح معاهد تدريس اللغة العبرية، وإقامة الدورات التثقيفية المشتركة، والتبادل العلمي، والتواصل الإعلامي، بغرض إذابة الحواجز بينهم وبين الشعوب العربية؛ لأنها المعيق الأول لتطلعاتهم الاستراتيجية.
3- محاولة تحويل التطبيع إلى تحالف استراتيجي يجعل من الكيان الإسرائيلي حليفاً لدول إسلامية على حساب أخرى، ويهيئه ليكون القوة الكبرى سياسياً واقتصادياً في المنطقة.
وعلى الرغم من الشروع في تنفيذ هذه الأهداف، والسعي لإقناع دول أخرى بالتطبيع، فإنه ثمة متغيرات رئيسة ربما حالت دون المسارعة في اللحاق بالدول المطبعة، على رأسها سقوط دونالد ترامب، الراعي الدولي لعملية التطبيع، ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وسقوط بنيامين نتنياهو الذي اتبع استراتيجية حل الصراع من “الخارج إلى الداخل”، إضافة للعدوان على غزة في مايو/أيار 2021، الذي وضع الدولَ المطبعة في موقف صعب أمام شعوبها، وأكد أولوية القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية والإسلامية، وكشف دعاية الدول المطبعة التي سوقت التطبيع بأنه تمهيد لعصر جديد من السلام والتسامح الديني والأمن في المنطقة، وعلى الرغم من هذا الانكشاف فإن خطورة التطبيع لا تزال قائمة.
وقد جاءت هذه الدراسة في أربعة محاور رئيسة، لتعيد قراءة موضوع التطبيع الخليجي والاختراق الجديد الذي يقوم به، حيث يناقش المحور الأول منها التطبيع بين المفهوم السياسي العام والاستراتيجية الصهيونية، ويأتي المحور الثاني لتسليط الضوء على مسار التطبيع العربي ومآلاته التي أدت إلى خسارة أوراق التفاوض، إضافة لمناقشة مسار التطبيع الخليجي ومظاهره، ثم يناقش المحور الثالث الأبعاد الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والثقافية للتطبيع الخليجي، أما المحور الرابع الأخير فيتطرق إلى مستقبل التطبيع الخليجي وانعكاساته على المنطقة، ومستقبل التطبيع في ظل إدارة بايدن.
نأمل أن تُشَكِّل هذه الدراسة إضافةً نوعية في هذا الموضوع، خصوصاً في ظل تداعيات الموجة الثالثة للتطبيع، وأن تُسهم في بيان الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية للتطبيع الخليجي، وانعكاساتها على المستوى العربي عموماً والخليجي خصوصاً.
المحور الأول: التطبيع بين المفهوم العام والأيديولوجيا الصهيونية
المفهوم هو الحاضن المشترك بين الأشياء والموضوعات، فبواسطته يستطيع الإنسان تمييز المفردات بعضها عن بعض، وفي ضوئه ننطلق في التواصل مع الآخرين. وقد تُشحَن بعض المصطلحات خلال التداول بدلالات ربما تكون مغايرة للمفهوم، أو قد يتغير مفهوم مصطلح ما من شخص إلى آخر. ومصطلحٌ كالتطبيع لا شك أنه خضع لتداولات عدة، تفقده في بعض الأحيان القدرة على الإحاطة بكل دلالات المفهوم، ولهذا كان لزاماً علينا البدء بتحديد الموضوع والتعرف على طبيعته، ومن خلاله سنتعرف على التطبيع بمفهومه العام، ثم التطبيع في المنظور العربي، ثم بعد ذلك التطبيع في منظور الكيان الإسرائيلي.
1. التطبيع.. الماهية والخصائص
العلاقة فيما بين الدول قد تنشأ تلقائية بحد ذاتها، وقد تأتي عقب صراع عسكري أو خلاف سياسي، وفي الأخير قد تتأسس العلاقة على اتفاق ثنائي يقضي بحل المشكلة، أو من خلال تنازل أحد الأطراف، وهذا التنازل قد يأتي طوعاً أو كرهاً، كأن يقبل الضعيف بشرط القوي مثلاً، أو ضعف توازن القوى فلا يستطيع أحد منهما أن يهزم الآخر، فتعود العلاقة لسالف عهدها من خلال اتفاقيات مبرمة بين الأطراف.
التطبيع “Normalization” اشتق من الكلمة الإنجليزية Normal””، وهي بمعنى العادي أو الشيء المعتاد، والتطبيع في اللغة العربية من التطبع أي التخلق، و”تطبيع العلاقات” مأخوذ من الطبيعة، والفعل منه “طَبَّعَ”، ويمكن مقاربتها عربياً بتحويل ما ليس طبيعياً في الماضي إلى طبيعي.
والتطبيع بوصفه مفهوماً سياسياً حديثاً هو حصيلة التجارب والجهود البشرية منذ تشكلت أول ملامح مجتمع بشري حتى بروز واستقرار الدولة بالمعنى السيادي والقانوني الحديث، وبالضرورة فإن هذا المفهوم كسلوك مر بأشكال مختلفة تبعاً لطبيعة المشكلة وعمقها، ولأنه استخدم لرأب الصدع ولم الشمل فإن تسميته اختلفت تبعاً لنوع السياق الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي الذي مورس فيه كسلوك.
وقد ظهر التطبيع أول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى، حيث طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة السياسية التي ستقوم بتطبيع اليهود، أي إعادتهم إلى طبيعتهم كأمة واحدة بدلاً من جماعات قبلية منتمية إلى أمم متعددة، حسب نظرهم.
إذن فمصطلح التطبيع الذي نحن بصدده هنا ربما له معنيان؛ أحدهما داخلي يتعلق بتطبيع اليهود أنفسهم وتشكيلهم أمةً واحدة، وثانيهما خارجي ويتعلق بعلاقة الكيان الإسرائيلي بغيره، وربما يتفق الجميع على أن المفهوم العام للتطبيع هو إعادة الأمور إلى طبيعتها، وسياسياً الانتقال من حالة الصراع إلى حالة السلام، ويُستخدم المصطلح إجرائياً للتعبير عن علاقة الكيان الإسرائيلي بالدول العربية، وهذه العلاقة يختلف حجمها بين حين وآخر، أو من دولة إلى أخرى.
بدأت عملية التطبيع منذ تحويل القضية الفلسطينية من قضية مبدئية للأمة العربية ترفض من خلالها الوجود الإسرائيلي كاملاً، إلى أزمة بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي، ثم استطاعت معاهدة كامب ديفيد تحويل مصر من قائدة للمقاومة العربية إلى وسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وما بين قرار التقسيم في عام 1948، المرفوض عربياً جملة وتفصيلاً، والاتفاقيات العربية الجديدة مع الكيان الإسرائيلي خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تغيرت كثير من المفاهيم المتعلقة بالتطبيع، ومعها تغيرت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي لدى بعض الدول.
وبناء على ذلك نستطيع القول إن عملية التطبيع في الحالة العربية الصهيونية بدأت منذ نكبة 1948، حيث بدأ وضع الحلول للقضية الفلسطينية، وتجاوز حقوق الشعب المهجر والأرض المحتلة إلى المساواة بين الضحية والجلاد في ذهنية المجتمع الدولي، وتحويل حقوق الشعب الفلسطيني إلى أزمة تجري مقاربتها في إطار إدارة الأزمة، تم من خلالها تسويق الكيان الإسرائيلي للدول العربية، ومحاولة إقامة علاقات تعاون اقتصادية وأمنية معه بإشراف الأمم المتحدة، التي بدأت بتسويق عدد من المشاريع، أبرزها مشروع “كلاب” الذي أطلق عليه “جونستون”؛ نسبة للمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي إيريك جونستون.
وبخصوص استخدام مصطلح التطبيع فيما يتعلق بالصراع العربي مع الكيان الإسرائيلي فقد استخدم أكثر من بعد معاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان الإسرائيلي 17سبتمر/أيلول 1978، ولم يذكر التطبيع نصياً في هذه المعاهدة، وإنما جاء ضمن جملة تحمل دلالة هذا المفهوم، وهي: “على الموقعين أن يقيموا فيما بينهم علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام كل منها مع الأخرى”.
وهكذا أصبحت مفردة التطبيع بمفهومها العام تطلق على أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة، عربية كانت أو إسلامية، فردية أو جماعية، مع الكيان الإسرائيلي، والمقاربة الأهم لمحتواها تنطلق من جعل ما ليس طبيعياً مبدأ، طبيعياً من حيث الواقع، وبناء على ذلك فإن أي عملية تعاون مع الكيان الإسرائيلي تعد اختراقاً للبنية الثقافية العربية، واستلاباً للذات القومية.
العلاقة بالكيان الإسرائيلي ليست ذات بعد واحد، وقد تحمل أحد هذه الأنماط أو جميعها:
النمط الأول: التطبيع السياسي
وهو مجموعة الإجراءات التي تباشرها الحكومات في العادة لإعادة العلاقات السياسية بين الدول إلى سابق عهدها قبل الانقطاع، ويندرج ضمن هذا النوع التطبيع الأمني، والزيارات واللقاءات السرية والعلنية بين ممثلي الدول، وإجراء المفاوضات، وتبادل الرسائل والتمثيل الدبلوماسي، ويباشر التطبيع بواسطة وسائل الإعلام، وذلك من خلال الإعلانات والبيانات التي تعلنها الدول بعضها إزاء بعض.
النمط الثاني: التطبيع الاقتصادي
ويمثل هذا النمط أبرز تجليات إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين الدول، ومن أبرز تجليات هذا النمط الاتفاقات التجارية، وتنفيذ المشاريع الاقتصادية والإنمائية المشتركة، وبروتوكولات التعاون في مجال إنعاش البنى التحتية، وإجراء الأبحاث المشتركة في مجالات الزراعة والبيئة والتنقيب عن الخامات، ويشارك في ذلك القطاع الخاص.
النمط الثالث: التطبيع الثقافي
وهذا النوع ربما يعد الحلقة الأشد خطورة في إعادة العلاقات بين الدول إلى حالتها الطبيعية، لارتباط الثقافة بالضمير الجمعي للشعوب، فمن الثقافة تتشكل مواقف الناس ورؤيتهم للعلاقات، ومواقفهم إزاء القضايا المشتركة، ومن هنا تلجأ الدول إلى نشر ثقافتها والتأثير في ثقافات الدول والشعوب الأخرى قصداً من أجل استمالة الشعوب المستهدفة في التطبيع، وردم الفجوات السياسية بين الشعوب.
2. موقع التطبيع في ضوء الاستراتيجية الصهيونية
التطبيع بوصفه هدفاً سياسياً من المهم ألا يُعزل عن الأبعاد التاريخية والجغرافية، فأهداف التطبيع تحاول تحقيق عدد من المصالح، متحدية الحقائق التاريخية ودماء سكان الأرض الأصليين، ومن الأهمية بمكان مناقشة المعالم الرئيسة للاستراتيجية الصهيونية، للتفريق بينها وبين الديانة اليهودية، ومعرفة التطبيع على حقيقته التي يريدها الكيان الإسرائيلي، لا تلك التي تصورها الدول المطبعة.
1. بين اليهودية والصهيونية
بداية لا بد من الإشارة إلى عدد من المحددات المهمة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهي حقائق بدأت تغيب بحكم الضغط الثقافي الذي تمارسه الدعاية الصهيونية وأدواتها المختلفة، ومن خلال هذه المحددات نستطيع أن ندرك طبيعة الصراع القائم:
– التفريق بين الديانة اليهودية والأيديولوجيا الصهيونية: ليس هناك موقف سلبي عربي أو إسلامي تجاه الديانةاليهودية وأفرادها، فاليهود عاشوا بسلام في البلاد العربية أفضل مما عاشوه في البلدان الأخرى، ولا تزال كثير من الأقليات اليهودية تستوطن دولاً عربية كثيرة منها فلسطين، ويتمتعون فيها بحقوقهم وواجباتهم، واليهودية كديانة لا مشكلة للعرب والمسلمين معها، وأي خلاف ديني معهم لا يتعدى مستوى حوار الأفكار، والخلاف الحقيقي هو حول الفكرة القائمة على العنصرية والتوسع والضم والتهويد والفصل والتمييز، التي يتبناها المشروع الصهيوني، وهذا الخلاف هو ما يعقد طبيعة الصراع، وذلك لطبيعة الفكرة الصهيونية التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي، والتي أثرت في اليهودية قبل غيرها.
الفكرة الصهيونية تحاول إكساب مشروعها بعداً دينياً، لكنها في حقيقتها لم تستطع استيعاب أغلب اليهود، ولهذا يقرر الدكتور محمد خليفة حسن في كتابه (الحركة الصهيونية: طبيعتها وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي) أنه لم يهاجر كل يهود العالم إلى فلسطين ولا أكثرهم، وأغلب اليهود لا يزالون حول العالم، وكثيرون ممن هاجروا فعلوا ذلك نتيجة ضغوط صهيونية أجبرت كثيراً من يهود أوروبا والعالم على الهجرة، ولو كانت الهجرة تعبيراً عن رغبة دينية جماعية وانعكاساً لتجربة دينية صادقة لهاجر كل يهود العالم، ولما حدث ما يسمى الهجرة العكسية، ولما تأسست منظمات يهودية ضد الصهيونية.
– اليهود ليسوا أول من سكن فلسطين ولا أكثر من استقرفيها: فلسطين هي أرض الكنعانيين أساساً، والكنعانيون هم أبناء كنعان بن حام بن نوح، وهم أول من سكن فلسطين على أرجح الأقوال، وقد جاءت هذه القبيلة من الجزيرة العربية قبل 2500 ق.م، والبعض يرجح أنهم جاؤوا قبل 3500 ق.م، وقد استقروا في فلسطين وأقاموا فيها حضارة راقية، وأول هجرات إبراهيم إلى فلسطين كانت في 1800 ق.م، وفي منتصف القرن السابع عشر قبل الميلاد هاجر يعقوب وأولاده إلى مصر بسبب القحط، واستقروا بها نحو 350 سنة، والأسباب التي اضطرت يعقوب وأبناءه إلى الهجرة أسباب اقتصادية وليست سياسية، وفي مصر تبدلت ديانتهم التوحيدية إلى ديانة وثنية تأثراً بالوثنية المصرية، إلى أن خرجوا مع موسى هرباً من اضطهاد فرعون، ثم عاد بعضهم فيما بعد مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى.
لم يكن لليهود أي قيادة سياسية ضمن الإمبراطوريات القديمة المصرية والآشورية والبابلية والفارسية واليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وحسب تحقيق الدكتور محمد خليفة حسن، فإن مملكة داود وسليمان، التي يتخذ منها اليهود نموذجاً، لم تعمر أكثر من ثلاثين عاماً، والديانة اليهودية لم تُصنع في فلسطين، ويهود فلسطين أضعف أنواع اليهود، إذ لم يكن لهم تراث يهودي قوي، وأقوى التراث اليهودي الديني صُنع في العراق، فالتوراة وبقية أسفار العهد القديم صُنعت في العراق، والتلمود البابلي أكمل وأقوى من التلمود الفلسطيني الذي يُعد ضعيفاً وغير مستخدم. وتاريخ اليهود مقسم ما بين مصر التي استمروا فيها قرابة أربعة قرون ونصف، ثم السبي الآشوري والبابلي الذي اقترب من ثلاثة قرون، ثم الشتات الروماني، وعلى الرغم من سماح الفرس لليهود بالعودة بعد السبي الآشوري والبابلي فإنهم لم يرحبوا بذلك، فالقرون الثلاثة قد ولدت حالة من الاستقرار والذوبان في المجتمع الجديد، والشتات الروماني هجر اليهود إلى عدد من البلدان ضمن إطار الإمبراطورية الرومانية، وعمر الشتات الروماني ألفي عام من 70 للميلاد إلى 1948.
تحاول الصهيونية إلغاء هذه الحقائق، وادعاء ملكيتهم للأرض، مع أن تاريخهم في هذه المنطقة مقارنة بغيرهم لم يكن طويلاً، وأول آثار ثابتة ومعروفة لأناس استقروا بها تعود لغيرهم، واليهود في فلسطين لم يكن لهم حضور سياسي أو ديني كبير، وأطول الفترات التاريخية عاشها اليهود خارج فلسطين، في مصر والعراق وفارس والغرب، ولم ينشئوا كياناً سياسياً في فلسطين باستثناء الكيان الذي صنعه دواد وسليمان وعمره كان قصيراً مقارنة بالإمبراطوريات التي حكمت في تلك الفترة، وقد تفرق اليهود بين بلدان العالم، ومن بقي منهم في فلسطين منهم من آمن بالمسيحية ومنهم من آمن بالإسلام، ومن بقي منهم على دينه يتمتعون بحقوقهم كاملة.
مقابل ذلك فإن أهل فلسطين الأصليين لم يغادروا بلادهم طيلة هذا التاريخ، ولم يبيعوا أرضهم على الرغم من الممارسات التي استخدمت ضدهم، سواء من الانتداب البريطاني أو العصابات الصهيونية، ولم تتمكن الحركة الصهيونية من الحصول على أرض فلسطين برضا الفلسطينيين، وكل ما حصلوا عليه في 1948 كان 6% فقط، وهي ما بين أراضٍ حكومية وأراضٍ يسيطر عليها إقطاعيون غير فلسطينيين، ثم دُمِّر أكثر من 530 قرية فلسطينية وشُرِّد أهلها في عام 1948، وبهذا استطاعوا بناء واقع ديمغرافي وسياسي جديد، ولا يزال أهل فلسطين في الداخل والخارج يناضلون لاسترجاع قراهم التي أُبعدوا منها.
– اليهودية ديانة وليست قومية:اليهودية هي ديانة مثلها مثل الديانات الأخرى، وقد انتشرت في عدد من البلدان لأسباب كثيرة، على رأسها الشتات، وتجمع اليهودية بين عشرات الشعوب والقوميات والأمم والأجناس، واليهودية كقومية انصهرت وذابت واندمجت في شعوب العالم، وبحسب الدكتور جمال حمدان في كتابه (اليهود أنثروبولوجياً) فإن الصهيونية تحاول عبثاً أن تجعل من اليهودية شعباً وقومية وأمة، بل وجنساً مستقلاً، وهذه المحاولة لا تزيف حقائق التاريخ والواقع فقط، ولكنها تقاوم وتحارب حتمية حركة التاريخ التقدمية وتسعى إلى تجميد تطور المجتمع الإنساني، وطوال التاريخ هناك أعداد ضخمة من غير اليهود تدخل اليهودية، وفي نفس الوقت أعداد من اليهود لا تقل ضخامة تخرج من اليهودية، وهذا ما يقرره الجغرافي اليهودي هنتنجتون. وفي النهاية فإن جسم الطائفة غير ثابت جنساً بل متحرك وفي تغير داخلي مستمر، ويكاد يصبح جسم اليهود شيئاً مختلفاً أنثروبولوجياً عن يهود التوراة، إن لم يكن لا علاقة له بهم تقريباً، وهم في الحقيقة آريون أكثر من كونهم ساميين، أو بتعبير آخر هم أوروبيون تهودوا أكثر من كونهم يهوداً تأوربوا، واليهود في المناطق المختلفة يتداخلون ويتشابكون مع غير اليهود في كل صفة يمكن تصورها، وصفة يهودي التي تطلق عليهم هي وصف اجتماعي أكثر من كونه إثنولوجياً.
إضافة إلى ذلك فإن 80% من يهود هذا الزمان- حسب بعض الباحثين والعلماء اليهود أنفسهم، وعلى رأسهم آرثر كوستلر صاحب كتاب (القبيلة الثالثة عشرة)- هم من يهود “الخزر” الذين تعود أصولهم إلى قبائل تترية استوطنت شمال القوقاز (جنوب روسيا) وتهودت في القرن الثامن الميلادي بقيادة ملكها بولان، ولما سقط ملكهم تفرقوا في روسيا وشرق أوروبا، وهو ما يعرف الآن باليهود الأشكناز.
إن مجمل الذرائع الصهيونية تتعارض مع الوقائع التاريخية والإنسانية والقانونية، وليس في العالم شيء اسمه “الشعب اليهودي”، بل يوجد يهود منتشرون في أمم الأرض وبين شعوبها، وعندهم لغات متعددة ومصالح مختلفة وأهداف متضاربة، ولم يسبق أن اعتبرت القومية والدين شيئاً واحداً صرفاً، ومن ثم ففكرة “إسرائيل الكبرى” فكرة ساقطة رفضتها حتى بعض الكُتّاب اليهود، ومنهم الكاتب ألفرد ليلينثال، الذي كان يرى أن العبرانيين والإسرائيليين واليهود والشعب اليهودي تسميات استخدمها صانعو الأساطير للإيحاء بوجود استمرار تاريخي، وهم في الحقيقة شعوب مختلفة في فترات مختلفة من التاريخ، واتبعت أساليب حياة متباينة.
وبناء على ذلك فإن هذا الكيان لا يمت إلى بني إسرائيل ولا إلى فلسطين بأية صلة من نسب أو تاريخ، وقد جمعتهم الفكرة الصهيونية لأهداف استعمارية، وتحاول استثمار البعد الديني في تحقيق هذه الأهداف وادعاء أن هذه الأرض مُنحت لهم، وهذا الادعاء مقيد بالزمان والحالة التي كانوا عليها، وقد مضى ذلك الزمان، وبدلوا الحالة التي كانوا عليها، وبهذا فقدوا هذه الشرعية في حينها.
2. الصهيونية فكرة استعمارية
الحديث عن أن الصهيونية فكرة استعمارية ليس توصيفاً عربياً، وإنما هو حديث هرتزل نفسه، الذي يقرر بأن الصهيونية “فكرة استعمارية” مدينة بفكرها وقوتها وتحولها إلى حقيقة الإمبريالية الغربية، والدولة الصهيونية امتداد لهذه الإمبريالية، وتتسم بكل صفاتها، وأهم أهداف الإمبريالية تحقيق النفوذ السياسي والربح الاقتصادي، ولهذا تسعى الفكرة الصهيونية إلى إنشاء منطقة نفوذ توازن القوى القومية في الشرق الأوسط، وتحرص على تهدئة المنطقة ليستمر تدفق المواد الخام منها، ورؤوس الأموال والسلع إليها.
فالفكرة الصهيونية أساساً فكرة استعمارية وظيفية، تكمل أدوار الاستعمار الغربي، وتؤدي المهام الموكلة إليها، التي تضمن من خلالها أمن ثروات المنطقة والاستفادة منها، إضافة إلى تحقيق الفكرة الصهيونية في جمع يهود العالم، وقد التقت كلتا المصلحتين؛ الاستعمارية والصهيونية، في تأسيس الكيان الإسرائيلي والاعتراف به كدولة في المنطقة العربية.
الصهيونية بوصفها أيديولوجيا تنبع- بحكم نشأتها وولادتها- من فكرة الاختيار، وهذه الفكرة تؤدي إلى تنشئة تربوية ومعرفية تنطلق من مفهوم شعب الله المختار، الذي هو شعب غير عادي، ولا تنطبق عليه معايير المساواة مع الشعوب الأخرى، ومن هذا المنطلق تخوض الصهيونية الصراع، فلا تكتفي الصهيونية بإخضاع السكان واستغلالهم، بل تسعى إلى إلغائهم والحلول مكانهم.
تتسم هذه الفكرة الاستعمارية التي قامت عليها الصهيونية بعدد من السمات، من أهمها- حسب تعبير المفكر العربي عبد الوهاب المسيري في كتابه (الأيديولوجية الصهيونية)-:
1- أنه استعمار استيطاني، فهو استعمار لم يأخذ شكل جيش يقهر الأمة المحتلة ويستغل إمكاناتها الاقتصادية والبشرية، وإنما أخذ شكل نقل مستوطنين أوروبيين من بلادهم إلى البلد الجديد ليعيشوا فيه، وليتخذوه وطناً جديداً لهم، وطرد السكان الأصليين.
2- إضافة إلى أنه استعمار عميل، فحين ظهرت الصهيونية لم يكن لها جيش أو شعب، وإنما كان عندها برنامج لتوطين اليهود في فلسطين، برنامج تبنته الإمبريالية وساعدت الحركة الصهيونية في فرضه على اليهود ثم على فلسطين والفلسطينيين، وبعد إنشاء الصهيونية رعت الإمبريالية هذه الدولة بدرجة لا نظير لها.
3- الاستعمار الصهيوني جيب استيطاني منفصل عن المحيط الإنساني والحضاري الذي يحيط به، وأعضاء العنصر الديمغرافي الدخيل يحتفظون باستقلالهم التام عن الفلسطينيين، فلا يحاولون التفاعل الحضاري معهم، لأن الأيديولوجية الصهيونية هي أيديولوجية الانفصال بالدرجة الأولى، حتى بعضها عن بعض، ففائض اليهود الأشكناز يضم البولنديين والروس والفرنسيين والألمان والأمريكيين، وكل مجموعة منهم لها أصل حضاري متميز يثير الخلافات التي تظهر أحياناً على السطح، كما حصل في حرب اللغة بين مؤيدي الألمانية ومؤيدي العبرية، ولهذا يحرص الكيان الإسرائيلي على اختلاق الأزمات الخارجية بين حين وآخر، لامتصاص الأزمات الداخلية.
4- أنه استعمار إحلالي، ولهذا عمد الاحتلال إلى الاستيلاء على الأرض ثم إفراغها من سكانها الأصليين عن طريق العنف، فطرد الفلسطينيين جزء عضوي من الرؤية والممارسة الصهيونية، ولا تزال هذه سمته، فإحلاليته هي أحد مصادر خصوصيته وتفرده.
5- طبيعته التوسعية، فشعارات “من النيل إلى الفرات” ليست فرية عربية، بل عقيدة صهيونية، فقد طلب الصهيوني وليام هكلر من هرتزل، في 2 أبريل /نيسان 1896، أن يتبنى شعار “فلسطين داود وسليمان”، وبعد عامين حدد هرتزل منطقة الدولة من النيل إلى الفرات، وقد ردد الحاخام فيشمان، عضو الوكالة اليهودية، هذا الشعار في 9 يوليو/تموز 1947، فقال: “الأرض الموعودة تمتد من نهر النيل إلى الفرات، وتشمل أجزاء من سوريا ولبنان”، وفي عام 1952 تحدث موسى ديان عن إنشاء إمبراطورية إسرائيلية، وقال: “لن ندع أي يهودي يقول إن هذه هي نهاية العملية، ولن ندع أي يهودي يقول إننا نقترب من نهاية الطريق”.
إضافة إلى ذلك يتحكم النص التوراتي أو التلمودي المزيفان في الحالة الصهيونية ويمثلان مرجعية في المعطيات السياسية الإسرائيلية، وحين وقعت معاهدات السلام لم يتجرأ أحد لا من اليمين ولا من الشمال على الحديث عن الاستيطان أو التنازل عن القدس الشرقية، وهذا يعود لدعوى العنصرية وعدم الاعتراف بالآخر في الذهنية الصهيونية، على عكس الثقافة العربية التي تؤمن بالتنوع والعيش المشترك والتفاعل الحضاري، والصراع بين الثقافتين لم يتفجر لأسباب ثقافية، وإنما بسبب الإلغاء الذي تمارسه الحركة الصهيونية.
3. التطبيع بين السلام والاستسلام
مفهوم الحدود لدى الكيان الإسرائيلي غير ثابت، ويتغير بتغير الظروف، ونظرية التوسع قائمة، وإن توقفت في وقت ما فإنه يمكن استئنافها في وقت لاحق، والتطبيع لا يلغي فكرة التوسع والضم هذه بالنسبة إلى الإسرائيليين، لأن مضمون التطبيع بالنسبة إليهم هو قبول الكيان الإسرائيلي بأساسه الأيديولوجي، ولهذا فإن نمط الإدراك العربي لمفهوم التطبيع يختلف عن طبيعة إدراك الإسرائيليين، ففيما يذهب العرب إلى إقرار السلام من خلال الأدوات السياسية والدبلوماسية، فإن الإسرائيليين ينظرون إلى التطبيع على أنه إدارة للصراع وتحييد لبعض أطرافه.
إضافة إلى ذلك فإن خيار الأرض مقابل السلام ليس مقبولاً لدى الكيان الإسرائيلي، ومن خلال لقاءٍ لنتنياهو مع دبلوماسيين إسرائيليين انتقد نتنياهو وبشدة القادة الإسرائيليين الذين حاولوا تحسين العلاقات مع العرب من خلال التنازلات للفلسطينيين، وقال: “نحن نؤمن بتحقيق السلام من خلال القوّة، ونؤمن بالتحالفات التي تتشكّل نتيجة قيمة “إسرائيل” كمركز ثقل تكنولوجي ومالي ودفاعي واستخباراتي”، وادّعى نتنياهو أنّ “العرب يبحثون عن روابط مع القوي. وتعزيز قوّتنا يكسبنا سلطةً دبلوماسية”، حسب قوله.
وعلى هذا الأساس فإن منطلقات الكيان الإسرائيلي القائم عليها لا تقبل الآخر، وتؤمن بفكرة الاستئصال والإلغاء والإحلال، والتطبيعُ العربي مع الكيان الصهيوني معناه الاستسلام، وبهذا التصور فإن التطبيع مرفوض في الثقافة العربية لعدد من العوامل:
العامل الأول: لأن الكيان الإسرائيلي كيان مغتصب حسب الثقافة العربية، ومن ثم لا يعترف العقل الثقافي العربي بهذا الكيان كدولة، فضلاً عن أن يسعى للتطبيع معه.
العامل الثاني: العلاقة مع هذا الكيان لم تكن طبيعية، وإذا كان التطبيع هو العودة للحالة الطبيعية قبل الصراع فإن الحالة الطبيعية مع الكيان الإسرائيلي هي مقاطعته وعزله ومقاومته.
العامل الثالث: التطبيع العربي الصهيوني، حسب الرأي العام العربي، يعد مخالفة شرعية وأخلاقية، فأكثر المجاميع العربية الإسلامية والمسيحية تجرم التعامل مع الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى قرارات الجامعة العربية ومخرجات القمم العربية، والعلاقات التي تقيمها بعض الأنظمة العربية مع الكيان الإسرائيلي تنطلق من خيار الأرض مقابل السلام، وهي فكرة مرفوضة لدى الكيان.
العامل الرابع: نماذج التطبيع العربي القائمة لم تُزِل أسباب الصراع، ولم تُعِد الحق إلى أهله، فهي نماذج سلبية في المفهوم العربي لا تشجع على تكرارها، والمستفيد الأكبر من هذه النماذج هو الكيان الإسرائيلي منذ اتفاقية كامب ديفيد إلى الآن.
وبناء على ذلك فإن المفهوم العربي للتطبيع يختلف عن الإرادة الإسرائيلية والطموح السياسي والاقتصادي الذي تسعى إليه، المتمثل في إخضاع الدول العربية واستسلامها أمام سياسات الاحتلال، والتحالف العربي مع الكيان الإسرائيلي في مواجهة أي خطر يهدده، وتجاهل كل الجرائم المرتكبة بحق العرب والفلسطينيين، ولا يقتصر ذلك على الحكومات بل يتعداها إلى الشعوب العربية، من خلال فتح قنوات التواصل مع المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية المختلفة، وإعادة تشكيل الوعي العربي وتغيير مقوماته الثقافية.
المحور الثاني: مسار الاختراق الإسرائيلي بين التطبيع العربي والخليجي
ينطوي الصراع العربي الصهيوني على أبعاد متعددة، متعلقة بالتاريخ والأرض والإنسان، كما أن له أبعاداً قيمية ووجودية مهددة للوجود العربي، وهذا العامل منع إقامة أي علاقة بين الدول العربية والكيان، وولد الرفض العربي المطلق لقرار التقسيم. لكن هذه المعادلة اختلت نسبياً على إثر الحرب العربية الصهيونية عام 1948، حيث وافق الإسرائيليون على وقف الحرب شرط اعتبارهم دولة قائمة، وهذا كان أول اعتراف عربي ضمني بالكيان الإسرائيلي.
1. التطبيع العربي الرسمي والتفريط في أوراق التفاوض
شكلت نكسة حزيران 1967 هزيمة مدوية للأنظمة العربية، حيث استطاع الكيان الإسرائيلي في ستة أيام السيطرة على قطاع غزة والضفة الغربية وهضبة الجولان وشريط وادي عربة وصحراء سيناء، ومعها توجه النظام العربي نحو خيارات التسوية، وعلى الرغم من رفعه للَّاءات الثلاث الرافضة للصلح والاعتراف والتفاوض مع الكيان الإسرائيلي، فإنهم عادوا لرفع خيار الأرض مقابل السلام، الذي يعني العودة إلى ما قبل الحرب من أجل اعتراف العرب بالكيان الإسرائيلي ومسالمته.
بعد ذلك جاء قرار مجلس الأمن 242 وأعطى العرب إمكانية انسحاب الكيان الإسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلت في 1967، ولم يتعرض بالمطلق للأراضي الفلسطينية التي احتلت في 1948، ولا حتى لقرار التقسيم 181، وبعد هذا القرار بدأ يبرز في المنطقة محوران، المحور الأول محور (القاهرة/ عمان/ الرياض)، الذي يعمل على حل القضية سياسياً، والمحور الثاني (سوريا/ العراق/ الجزائر) الذي عارض التسوية السياسية، وفي النهاية حسم الوضع العربي للمحور الأول، وبهذا تضمن قبول النظام العربي لهذا القرار تأمين كل الأسباب القانونية التي تمد الكيان الإسرائيلي بعوامل البقاء والاستقرار، وجاء من بعد ذلك زيارة الرئيس المصري أنور السادات لمصر عام 1977، التي انتهت بتوقيع كامب ديفيد.
كانت معاهدة كامب ديفيد فرصة للكيان الإسرائيلي لتحويل التطبيع من حل لمعالجة الصراع السياسي والعسكري، إلى تحقيق أهداف استراتيجية سياسياً واقتصادياً وثقافياً للكيان، لا سيما أن المعاهدة انطوت على إشكاليات مختلفة لا يمكن حلها إلا بمزيد من الاتفاقيات التكميلية الملزمة، وقد تجاوب النظام المصري معها، حيث تفرعت عن المعاهدة تسع اتفاقيات جعلت من التطبيع عملية قانونية ومؤسسية تكفلها الدولة المصرية.
رفضت أغلب الدول العربية اتفاقية كامب ديفيد باستثناء عمان والسودان والمغرب الذين لم يقطعوا علاقتهم بمصر، ونُقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس مدة زادت على عشر سنوات (1979 – 1990)، ولم يستطع بعدها أي نظام عربي عقد أي اتفاق إلى ما بعد اتفاق أوسلو 1993، باستثناء بعض الاجتماعات السرية.
استطاعت اتفاقية كامب ديفيد تقييد الدور المصري في المنطقة، وتحولت مصر من قائدة للمواجهة العربية إلى وسيط لحل القضية بين فلسطين والكيان الإسرائيلي، واستمرت مصر في أداء هذا الدور، وأصبحت مصر- بحكم رمزيتها في المنطقة- أنموذجاً حاضراً لتهيئة المنطقة للقبول بالأمر الواقع، وهذا الأمر ولد رغبة لدى الكيان الإسرائيلي في تعميم هذا الاختراق عربياً، لكنه وجد معارضة رسمية من قبل أكثر الأنظمة العربية، ووجد معارضة شعبية كذلك، وخاصة من شعوب الأنظمة المطبعة كمصر والأردن، فمؤسسات المجتمع المدني المصرية رفضت أي شكل من أشكال التطبيع، وتبعتها المؤسسات المدنية الأردنية عقب توقيع معاهدة وادي عربة في عام 1994، ثم نشطت من بعد ذلك حركات المقاومة الفلسطينية المطالبة بتحرير الأراضي الفلسطينية كاملة.
كان من الاختراقات الثقافية الصهيونية في اتفاقية كامب ديفيد تهيئة البيئة العربية للقبول بالكيان الإسرائيلي، فالدولة الرمز في المنطقة، التي تعد قائدة المقاومة العربية حينها، أصبح علم الكيان الإسرائيلي يرفرف في عاصمتها التي تعد من أكبر العواصم العربية وأهمها من الناحية السياسية، كما أن من شروط الكيان الإسرائيلي لتحقيق الاتفاقية أن تتخلى مصر عن لهجتها الحادة، وإيقاف الخطاب المعادي للكيان الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك جعلت المعاهدة من الحكومة المصرية طرفاً حارساً ونشطاً لحساب الكيان الإسرائيلي، فالفقرة الثالثة من المعاهدة تلزم الحكومة المصرية “بالامتناع عن التنظيم أو التحريض أو الإثارة أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو النشاط الهدام أو أفعال العنف الموجهة ضد الطرف الآخر في أي مكان، وتتعهد بأن تكفل تقديم مرتكبي مثل هذه الأفعال للمحاكمة”.
وهذه المفردات تنطوي على معانٍ يمكن أن تتسع كثيراً لتقيد حرية الفكر والعقيدة وكل ما يتصل بالنظرة الأيديولوجية تجاه الصهيونية، فمجرد ذكر أن الكيان الإسرائيلي حركة استيطانية استعمارية قد يعرض صاحبه للمعاقبة، كما أن من تبعاتها مراجعة المناهج الدراسية وتنقيتها من كل ما يلحق الأذى بالكيان الإسرائيلي، كما أن المعاهدة لم تفصل بين قضية الانسحاب من سيناء وبين العلاقات المصرية مع الكيان الإسرائيلي لما بعد الانسحاب، فربطت ربطاً وثيقاً محكماً بين الانسحاب وبين التطبيع الكامل للعلاقات سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وبهذا كوفئ الكيان الإسرائيلي على الانسحاب بالتطبيع الكامل معه.
الاختراقات الإسرائيلية لمصر لم تقف عند هذا الحد، فعلى مدار سنوات التطبيع الماضية بين مصر والكيان الإسرائيلي لم تتوقف عمليات الاختراق الصهيونية ضد مصر، مستغلة اتفاقيات السياحة والاقتصاد والتبادل الثقافي، حتى سجلت الأجهزة المصرية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي معدل ألف عملية صهيونية سنوياً ضد مصر، وقد تعددت مجالات هذه العمليات بين التجسس والمخدرات والتهريب والدعارة، ففي أواخر عهد الرئيس الراحل حسني مبارك نشرت صحيفة المصري اليوم، في يناير/كانون الثاني 2011، تقريراً بمناسبة مرور 32 سنة على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني استعرضت فيه أبرز عمليات التجسس الصهيونية بعد كامب ديفيد، التي بلغت 30 شبكة حتى نهاية عام 2010، وبلغت قضايا المخدرات المتهم بها إسرائيليون في مصر 4457 قضية حتى عام 2007، وعدد قضايا تزوير العملة المتهم بها إسرائيليون في مصر يمثل 80% من مجموع القضايا حتى عام 2007، ولا يقتصر التزوير على العملة فحتى الوثائق زُوِّرت، إضافة إلى التهويد؛ فآلاف الشباب المصريين سافروا إلى الكيان الإسرائيلي بعد التطبيع بهدف العمل ولم يرجعوا، فقد استقر بهم المقام، واندمجوا في المجتمع، وتزوجوا من فتيات يهوديات، ولهذا يحتفل الكيان الإسرائيلي بهذه الاتفاقية سنوياً، لأنه يرى فيها انتصاراً على مصر.
وبالعودة إلى مسار التطبيع العربي، فإنه لم يحدث أي تطبيع علني بعد كامب ديفيد، لكن الموازين تغيرت بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، فمن خلالها اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق الكيان الإسرائيلي في الوجود، وتنازلت بموجبها عن 78% من الأراضي الفلسطينية، واعترف الكيان الإسرائيلي بالمنظمة ممثلاً للفلسطينيين في المفاوضات، وقد مثلت هذه الاتفاقية انفراجة جديدة للإسرائيليين.
كان الهدف الفلسطيني والعربي من وراء هذا أن تتحقق بعض التنازلات مقابل أن ينال الفلسطينيون بعض حقوقهم، وأن تخرج من عملية المقايضة رابحة، وما حدث هو العكس فقد خسرت منظمة التحرير أوراق التفاوض، في حين باشر الكيان الإسرائيلي عمليات التطبيع علناً من خلال المؤتمر التطبيعي الأول الذي عقد في الدار البيضاء بالمغرب عام 1994، من خلال القمة الاقتصادية الشرق أوسطية التي شاركت فيها 61 دولة، وقاطعتها سبع دول عربية فقط، وفيها أعلن شمعون بيريز، وزير خارجية الكيان الإسرائيلي حينها، انتهاء المقاطعة الاقتصادية العربية وافتتح مكتب التنسيق الإسرائيلي في الرباط، وقد توقفت المفاوضات منذ انهيار مباحثات السلام.
في ضوء تعثر المفاوضات امتنعت الدول العربية عن إقامة علاقات سلام مع الكيان الإسرائيلي، لذلك بقيت العلاقة تتراوح ما بين العداء المعلن (سوريا/ لبنان/ الجزائر/ اليمن) أو التطبيع التجاري (قطر/ سلطنة عُمان/ المغرب/ تونس)، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في عام 2000 وإعادة الكيان الإسرائيلي احتلال معظم مدن الضفة الغربية وتحطيم بنية ومؤسسات السلطة الفلسطينية، بالتزامن مع حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مبنى المقاطعة في رام الله، أصبحت المواقف العربية ظاهرياً أكثر تشدداً وحذراً تجاه الكيان الإسرائيلي، حيث أوقفت بعض الدول العربية علاقاتها الرسمية ورفضت التطبيع خارج إطار حل شامل للقضية الفلسطينية.
على الرغم من كل التنازلات العربية في معاهدة كامب ديفيد 1978، وقرارات القمة العربية في فاس في عامي 1981 و1982، وأوسلو 1993، والمبادرة العربية للسلام 2002، فإن الكيان الإسرائيلي لم يتوقف فعلياً عن سياساته الاحتلالية، فقد استمر في مصادرة الأراضي وعمليات الاستيطان ومحاصرة قطاع غزة، ولم يتنازل عن خياراته الأساسية الأربعة: لا لعودة اللاجئين، لا لإيقاف الاستيطان، لا للقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، لا لدولة فلسطينية كاملة السيادة، ورفض كل مقترحات السلام.
في المقابل لا تزال السلطة الفلسطينية متمسكة بخيار الدولة الفلسطينية كاملة السيادة، لكنها خسرت، ومعها بقية الدول العربية، خلال الفترة الماضية، عدداً من أوراق التفاوض، نتيجة التنازلات المتكررة، في مقابل التنصل المتكرر من قبل الكيان الإسرائيلي. وتتجلى خسارتها هذه الأوراق فيما يأتي:
الورقة الأولى: إضعاف خيار المقاطعة الاقتصادية، وقد كان خياراً ناجحاً، استخدمته الدول العربية في بداية مواجهتها للكيان الإسرائيلي عبر خليج العقبة والسويس، وإغلاق الحدود الجوية والبرية والبحرية مع مصر، ولكن هذه الورقة بدأت تفقدها الدول العربية مع أول اتفاقية تطبيع عربي في عام 1979. وفي 1994 أعلن الكيان الإسرائيلي إنهاء المقاطعة الاقتصادية من الدرجتين الثانية والثالثة.
الورقة الثانية: التنازل عن الرواية العربية التاريخية حول فلسطين، والاعتراف بالحق الإسرائيلي في الوجود، من خلال الاعتراف بالكيان الإسرائيلي دولة كاملة السيادة قبل اعترافه بفلسطين.
الورقة الثالثة: القضاء على ما تبقى من خيارات القوة، من خلال سحب السلاح وإنهاء المقاومة، حسب الاتفاقيات الأمنية بين السلطة الفلسطينية والكيان، من دون التزام الكيان الإسرائيلي بتعهداته أو تقديمه لأي تنازل.
الورقة الرابعة: المساومة الجماعية، وهي وإن كانت ضعيفة فقد كانت تمثل عائقاً أمام الكيان الإسرائيلي، ومن ثم فإن تفتيت الدول العربية، وتوقيع الاتفاقيات مع كل دولة بانفراد سياسة قديمة جديدة للاحتلال، وبناء على ذلك عمل الكيان الإسرائيلي مؤخراً على تقزيم دور الأردن كوسيط للمفاوضات بينه وبين دول الخليج، وأدارها بنفسه من خلال فاعلين أمريكيين.
في مقابل ذلك هناك خيارات تشكلت على الأرض رافضة للاختراق الصهيوني والتنازل العربي الرسمي، ومتمسكة بأوراق المقاومة، وهذه الخيارات تبنتها الشعوب العربية، من خلال:
- الانتفاضات الفلسطينية وتبني الحركات الفلسطينية خيار المقاومة، فقد انطلقت الانتفاضة الأولى في 9/9/1987، واستمرت إلى عام 1994، وقد نجحت في انتزاع الاعتراف الدولي بالشعب الفلسطيني وتأسيس حكم فلسطيني ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، حسب مخرجات اتفاق أوسلو 1993، الذي نص على إقامة دولة فلسطينية عام 1999 على حدود 1967، وهو ما تنصل منه الكيان الإسرائيلي، وكان هذا سبباً في اندلاع الانتفاضة الثانية في عام
- رفض الشعوب العربية لكل محاولات التطبيع، وقد أُسست منظمات مدنية في الدول العربية لمقاومة التطبيع، مثل: اللجنة المصرية لمواجهة الصهيونية، والحركة الشعبية لمقاومة الصهيونية ومقاطعة “إسرائيل” في مصر، والجمعية الأردنية لمقاومة الصهيونية، واللجنة الشعبية الأردنية لمقاومة التطبيع، والمؤتمر الدائم لمواجهة الغزو الثقافي الصهيوني والهيئة الوطنية لمقاومة التطبيع، والأخيرتان في لبنان، وكذلك الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني والدفاع عن القدس في موريتانيا، والجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع، ولجنة الإمارات الوطنية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني.
اليوم تعود موجة التطبيع الجديدة في الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وقد استطاع الكيان الصهيوني وداعمته الولايات المتحدة الأمريكية الاستفادة من أزمات المنطقة، وتسويق التطبيع على أنه صمام أمان للمنطقة ومفتاح للسلام الداخلي، وعلى الرغم من اختلاف هذه الموجة عن سابقاتها فإنها تتشابه معها في افتقادها للروافع الشعبية، وزيادة التنازل العربي الرسمي، لكنها تظل محدودة التأثير شعبياً وخاصة في المغرب والسودان.
2. التطبيع الخليجي بين التناقض الرسمي والرفض الشعبي
إلى عام 2019 لم تكن هناك أي اتفاقية سلام خليجية مع الكيان الإسرائيلي، بخلاف ما يسمى بالعلاقات التجارية مع سلطنة عمان وقطر، وبعض الزيارات من مسؤولين في الكيان الإسرائيلي للمنطقة، واللقاءات على هامش المؤتمرات الدولية، والتنسيق الاستخباراتي المحدود مع عدد من الدول الخليجية، لكن الأمر تغير فيما بعد ذلك، وأعلنت بعض الدول الخليجية تطبيعها، في حين تحفظت أخرى، ويمكن تقسيم الدول الخليجية من حيث موقفها الرسمي الحالي من التطبيع إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: الدول الرافضة للتطبيع
تعد دولة الكويت هي الدولة الوحيدة التي صدرت لها مواقف علنية رافضة للتطبيع، وهو موقف مبدئي أرساه الأمير الراحل صباح الجابر الأحمد الصباح، وعلى الرغم من الضغوط التي مورست على الكويت منذ التحالف الدولي لتحرير الكويت، ورفض ياسر عرفات إدانة التدخل العراقي حينها، فإن الكويت استمرت في المحافظة على موقفها الرسمي تجاه القضية الفلسطينية، الذي يدعمه بقوة موقف البرلمان الكويتي، إضافة للموقف الشعبي المندد بالتطبيع والداعي إلى تجريمه، وعلى الرغم من الضغوط الدولية والإقليمية على الكويت فإن الذي يظهر أن الكويت لن تكون من أوائل الدول المطبعة.
ثانياً: الدول المتحفظة
التحفظ السعودي القطري العماني فيما يتعلق بملف التطبيع يعود إما لأهدافٍ خاصة بتلك الدول، أو تحفظ يتعلق بصيغة تسوية القضية الفلسطينية، مع وجود مظاهر للتطبيع غير الرسمي والتعاون غير المعلن في بعض الملفات.
- المملكة العربية السعودية
يطمح الكيان الإسرائيلي إلى تطبيع العلاقة مع السعودية أكثر من غيرها، لأن التطبيع معها سيخلق أكثر من فرصة، ويزيل الحواجز عن بعض الدول؛ لثقل مكانة السعودية العربية والإسلامية. ولكن حكومة المملكة العربية السعودية لم تقدم على شيء من ذلك؛ لأنها ترى أن التطبيع يمكن أن يقوض موقعها الإسلامي ورمزيتها في قيادة الحرمين. ولهذا لا يزال الملك سلمان بن عبد العزيز ملتزماً بـ “مبادرة السلام العربية لعام 2002″، التي تتضمن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين استناداً إلى القرارات الدولية.
الموقف السعودي الرسمي أكثر حساسية من التورط في علاقة علنية مع الكيان الإسرائيلي، باستثناء بعض اللقاءات على هوامش المؤتمرات، وزيارات بعض الصحفيين والكتاب، وبعض العلاقات التجارية بين رجال الأعمال. وكان من أهم اللقاءات التي كسرت الحاجز بين السعوديين والإسرائيليين لقاء السفير السعودي الأسبق لدى واشنطن تركي الفيصل مع رئيس الاستخبارات الإسرائيلية الأسبق عاموس يادلين، في فعاليات صندوق مارشال الألماني عام 2014 في بروكسل، لمناقشة مبادرة السلام العربية. وقد برزت مؤشرات للتواصل السعودي غير المعلن عنه رسمياً في عدد من المظاهر، أهمها:
- الزيارات الشعبية المتبادلة
منذ عام 2016 برزت فكرة التقارب بين بعض الكتاب والإعلاميين والناشطين السعوديين وآخرين من الكيان الإسرائيلي، تخللتها زيارات متبادلة لطلاب سعوديين وناشطين للقدس، منها زيارة الناشط السعودي محمد سعود، إضافة إلى زيارات من الكيان الإسرائيلي للسعودية، ومنها ما أعلنته صفحة “إسرائيل بالعربية” الموثقة على تويتر عن قيام سائح إسرائيلي بزيارة للسعودية. هذه الزيارات تحاول كسر الثوابت التي بنتها حكومة المملكة العربية السعودية بخصوص موقفها من الكيان الإسرائيلي، ومقاطعته السياسية والاقتصادية.
- الكتابات والتصريحات الإعلامية
تفاعلت أوساط إعلامية سعودية مع التطبيع الإماراتي، وعده البعض إنجازاً جديداً للإمارات، ومن ذلك تغريدات الكتَّاب السعوديين من أمثال: سلمان الدوسري، وعبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، وإبراهيم السمان، على صفحاتهم الموثقة في تويتر، التي احتفوا من خلالها بتوقيع التطبيع الإماراتي. كذلك الظهور المتكرر لناشطين وإعلاميين سعوديين على قنوات الكيان الإسرائيلي، ومنها ظهور سعاد الشمري مع قناة “كان” العبرية في 10 يوليو/تموز 2020، وتصريحات ولقاءات الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى، وكتابات الدكتورة السعودية المقيمة في الإمارات نجاة السعيد في صحيفة “إسرائيل هيوم”، التي تبنت فيها سردية الكيان الإسرائيلي للأحداث، ومنها تحميلها الفلسطينيين المسؤولية عن اندلاع هبة القدس، واستفزازهم للمدنيين الإسرائيليين، حسب قولها. وكل ذلك له أبعاد ودلالات سياسية عميقة.
- المزاعم الإسرائيلية بوجود لقاءات رسمية
من هذه اللقاءات مزاعم إعلام الكيان الإسرائيلي عن زيارة سرية لبنيامين نتنياهو للسعودية ولقائه بالأمير محمد بن سلمان، ومناقشة موضوع التطبيع، بحضور وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، وهو ما نفاه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. ومنها كذلك ما أعلنته سابقاً خارجية الكيان الإسرائيلي عن قيام الضابط السابق في القوات المسلحة السعودية، أنور عشقي، بزيارة الكيان الإسرائيلي في عام 2016، ولقاء دوري غولد، المسؤول في وزارة خارجية الكيان الإسرائيلي، وقد ضم الوفد رجال أعمال وأكاديميين، وكان يهدف إلى دعم مبادرة السلام العربية التي تقدمت بها السعودية. هذا إضافة إلى مزاعم إسرائيلية عن محادثات سعودية إماراتية إسرائيلية لتشكيل تحالف دفاع مشترك في المنطقة. وهذه المزاعم يسعى من خلالها الكيان الإسرائيلي إلى تسهيل العلاقات الشعبية بين السعوديين والإسرائيليين، من جهة، وإحراج الجانب الرسمي السعودي، من جهة أخرى.
هذه المؤشرات جميعُها تُظهِر أن هناك رغبة إسرائيلية في تطبيع السعودية؛ بوصفها بوابة لتطبيع كثير من الدول. لكن مع ذلك كله لا يزال الموقف السعودي الرسمي إلى الآن متمسكاً بالمبادرة العربية، ويرى فيها شرطاً لتحقيق أي تقارب مع الكيان الإسرائيلي، ويبدو أن للسعودية بعض التحفظات حول التطبيع نظراً لموقعها في المنطقة، ومستقبل التطبيع السعودي مرهون بتسوية هذه التحفظات.
- سلطنة عمان
تعد العلاقة العمانية بالكيان الإسرائيلي من أقدم العلاقات عربياً، من خلال التعاون السياسي والتجاري والاقتصادي، كنقل خبرة الري بالتنقيط والتدريب الاستخباراتي والتعاون من خلال مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه، وما تلا ذلك من زيارات إسرائيلية لعمان، مثل زيارة إسحاق رابين إلى مسقط عام 1994، ومن بعدها زيارة شمعون بيريز للسلطنة عندما كان قائماً بأعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1996، وقد تفاعلت عمان مع اتفاقيتي كامب ديفيد وأوسلو على عكس بقية دول الخليج الأخرى حينها. وفي عام 1995 توصلت عمان مع الكيان الإسرائيلي إلى اتفاق بشأن البعثات التجارية، تلاها افتتاح مكاتب تجارية في مسقط وتل أبيب عام 1996، لكن السلطنة أغلقت المكاتب الإسرائيلية بعد أسابيع من انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000.
بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عمان في أكتوبر/تشرين الأول 2018، بدأت العلاقات تتصاعد من جديد، خصوصاً أن هذه أول زيارة له إلى دولة عربية، ومع هذا ظل الموقف العماني متمسكاً بخيار الدولة الفلسطينية كاملة السيادة، ولعل الموقف العماني في علاقته بالكيان الإسرائيلي يحاول الموازنة بين البراجماتية السياسية والمبدئية العربية الرسمية، ويرى أن الدبلوماسية أقرب الطرق لحل القضية الفلسطينية، ولعل هذا الموقف يثير حساسية الإسرائيليين كثيراً، ولهذا فضلوا التطبيع أولاً مع الإمارات والبحرين، بعيداً عن أولويات القضية الفلسطينية. وهناك بُعد آخر له علاقة بعلاقة عمان بإيران التي لا ترى فيها خطراً على أمنها القومي، وتفضل أن تبقى بعيدة عن دوائر الاستقطاب الإقليمية، وخصوصاً بين الكيان الإسرائيلي وإيران.
- دولة قطر
سعت قطر إلى تطوير علاقات دافئة مع الكيان الإسرائيلي، وذلك في إطار سعيها لبلورة سياسة خارجية مستقلة، وهو ما كان يضعها غالباً في مواجهة مع جيرانها العرب، ولا سيما السعودية، وقد تعاملت الدوحة مع الكيان الإسرائيلي علناً في أعقاب مؤتمر مدريد، وأصبح هذا الأمر ملموساً أكثر بعد اتفاقية أوسلو، وبعد التغييرات السياسية في قطر عام 1995 تغير الموقف القطري، وتحول إلى عملية تطبيع محدودة.
وقد شاركت قطر مع عمان في جنازة إسحق رابين عام 1995، واستضافت بعد ذلك شمعون بيريز في الدوحة، وأجرت مفاوضات مع الكيان الإسرائيلي بخصوص التبادل التجاري وبيع الغاز المسال، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى 2000، طردت البعثة الإسرائيلية الرسمية، وظلت العلاقة من خلف الكواليس، بعدها توترت العلاقة بعد حرب لبنان 2006، وزاد التوتر بعد عملية الرصاص المصبوب على غزة في 2008-2009، لتعلن بعدها قطر تجميد جميع علاقاتها بالكيان الإسرائيلي. لكن العلاقة ما لبثت أن عادت من جديد بعد زيارة وزير الصناعة والتجارة والعمل الإسرائيلي، بنيامين بن إليعازر، للدوحة في 2010. وفي 2011 ومع توطد علاقة قطر بحركة حماس مُنع حاملو الجوازات القطرية من دخول الضفة الغربية، وجُمِّد ما تبقى من تعاون بينهما، وقد اصطف الكيان الإسرائيلي في حملة المقاطعة الخليجية ضد قطر.
ويظهر أن الموقف القطري بخصوص توقيع التطبيع قريب من الموقف السعودي، حيث تشترط قطر حصول تقدم في ملف السلام الفلسطيني، وتسوية القضية الفلسطينية بما يرضي الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من هذا تشارك وفود إسرائيلية في مؤتمرات دولية في الدوحة بين حين وآخر، ومنها استضافة وفد رياضي صهيوني في بطولة العالم لألعاب القوى الذي عقد في الدوحة في سبتمبر/أيلول 2019، إضافة لمشاركة وفد طبي، في نهاية عام 2019، في المؤتمر العالمي لجراحة الأطفال.
ثالثاً: الدول المطبعة
– الإمارات العربية المتحدة
العلاقة الإماراتية بالكيان الإسرائيلي تحكمها مشاعر الكره المشترك للجماعات السياسية الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس، ورفض البرنامج النووي الإيراني، ولعل حالة التطبيع الإماراتي مع الكيان الإسرائيلي مرت بعدد من المحطات، من أهمها:
1- زيارة وزير البنية التحتية الإسرائيلي عوزي لاندو للإمارات في 2010، لحضور مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، وقد مهدت هذه الزيارة لإنشاء بعثة إسرائيلية دبلوماسية دائمة في الوكالة، وقد بذل الكيان الإسرائيلي جهوداً كبيرة للإماراتيين في إطار سعيهم لاستضافة مقر الوكالة في مواجهة منافسيهم الألمان.
2- اللقاء السري بين نتنياهو ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، وقد جمعهما التنديد بالبرنامج النووي الإيراني، وكان لهذا اللقاء انعكاس مباشر على الواقع، حيث ازداد التنسيق التجاري، وفتح المجال للمسافرين الإسرائيليين للسفر بالطيران الإماراتي من الأردن، وشاركت طائرات إف 16 إلى جانب الطيران الإماراتي في المناورات والتدريبات تحت رعاية الناتو، واستفادت الإمارات من برامج التجسس الإسرائيلية في تطوير نظام مراقبة عين الصقر الإماراتي.
3- في عام 2018 زارت وزيرةالثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف الإمارات؛ لحضور مباريات جودو دولية، وللمرة الأولى رُفع العلم الإسرائيلي مع عزف النشيد الوطني ضمن فعالية رياضية تنظمها دولة عربية، وقد تزامنت زيارتها مع استضافة دولة قطر لفريق رياضة الجمباز الإسرائيلي، الذي يضم جنوداً في جيش الكيان الإسرائيلي، ومن ثم الاحتفاء بهم برفع علم الكيان الإسرائيلي على أنغام النشيد الوطني الإسرائيلي.
4- إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 13 أغسطس/آب 2020، توصل الإمارات والكيان الإسرائيلي إلى اتفاق للتطبيع، ثم مع البحرين، وقد اجتمع وزيرا خارجية الإمارات والبحرين في البيت الأبيض، في 15 سبتمبر/أيلول 2020، ووقعا هناك ما يسمىباتفاق أبراهام، وقد فتح هذا التوقيع الباب على مصراعيه لتعميق العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والتجارية.
لم يتوقف التطبيع الإماراتي عند التوقيع والتعاون الرسمي المحدود كما هي العادة العربية من قبل، بل تلا ذلك تفعيل الزيارات المتعددة الرسمية والشعبية، والتبادل الدبلوماسي العالي، وفتح الباب للرحلات السياحية، وإقامة المهرجانات السينمائية المشتركة، والتعاون الفني والإعلامي والتعليمي والرياضي المتعدد، والتبادل التكنولوجي والصناعي، من خلال خطوات متسارعة تسعى لاستهداف المجتمع الإماراتي بكل فئاته، وتحقيق الاندماج الكامل في الكيان الإسرائيلي، كما سيأتي معنا في محور الأبعاد الاستراتيجية للتطبيع.
– مملكة البحرين
موقف البحرين يحكمه الجوار الإيراني من جهة والعلاقة الوثيقة بجارتها الكبرى المملكة العربية السعودية التي تعتمد عليها اقتصادياً وأمنياً اعتماداً كبيراً، ولا يعدو دورها دور البديل الدبلوماسي لبعض دول الخليج، وذلك من خلال اللقاء على هامش المؤتمرات الدولية، باستثناء زيارة وزير البيئة الإسرائيلي يوسي ساريد للمنامة في عام 1994، وقد بدأت المغازلة البحرينية للكيان الإسرائيلي في عام 2011 بعد تعيين اليهودية البحرينية هدى عزرا إبراهيم نونو سفيرة للبحرين في واشنطن، وبعدها رحبت بوفد الكيان الإسرائيلي إلى مؤتمر اليونسكو الثاني الذي عقد في المنامة عام 2018.
وعلى الرغم من تطبيع البحرين علاقتها بالكيان الإسرائيلي، والتبادل الدبلوماسي والتنسيق التجاري بينهما، فإن هناك رفضاً شعبياً كبيراً لكل هذه الخطوات، حيث دعت الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع إلى مقاطعة كل أشكال التطبيع، وخصوصاً الزيارات والاستقبال الفندقي، ومقاطعة البضائع والشركات الداعمة للتطبيع، وكل مظاهر التقارب مع الكيان الإسرائيلي.
المواقف الشعبية الخليجية لا تزال رافضة للتطبيع، وقد استطاعت التعبير عن رفضها لذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعد الساحة الأكثر أمناً في ظل الواقع الخليجي، وقد انطلق في دول الخليج وسم “خليجيون ضد التطبيع” و”التطبيع خيانة” على منصة تويتر، وفي الكويت ارتفعت الأصوات الرسمية والشعبية الرافضة للتطبيع، ووقع 37 برلمانياً كويتياً على رفض ذلك، وكانت 31 جمعية ورابطة كويتية أعلنت رفضها للتطبيع. وفي البحرين وقعت 23 منظمة على رفضها للتطبيع. وأُسست في قطر مبادرات شبابية منها “شباب قطر ضد التطبيع”، ومبادرات خليجية كبرى مثل “ائتلاف الخليج ضد التطبيع”.
في الإمارات دعت الدولة المواطنين للإبلاغ عن أي مواطنين أو حتى وافدين يروجون لما يسمى “معاداة السامية”، أو يرفضون قرارات القيادة الإماراتية، وذلك من خلال تطبيق هاتفي متصل مباشرة بمكتب النائب العام، وعلى الرغم من هذا الضغط أصدر عشرون ناشطاً إماراتياً في الخارج بياناً عبروا من خلاله عن رفض التطبيع، ورفض هذا الواقع المفروض على الشعب الإماراتي الذي لم يجد أي طريق للتعبير عن رأيه، وكانت هذه المبادرات المختلفة هي المعبر عن رأي الشعب الخليجي حول التطبيع.
المحور الثالث: الأبعاد الاستراتيجية للتطبيع الخليجي
للكيان الإسرائيلي علاقات رسمية مع بعض الحكومات العربية كمصر والأردن، وتربط الكيان علاقات غير مباشرة مع بعض الأقليات الكردية ومع بعض المسيحيين في السودان، لكن العلاقات الرسمية السابقة على ما يبدو كانت في حدود الممكن، ولهذا ثمة فروق جوهرية بين مظاهر التطبيع في الموجة الثالثة وما قبلها، وتشترك كل موجات التطبيع في افتقادها الشرعية الشعبية، ومحاولة الكيان الإسرائيلي تحقيق اختراق استراتيجي لمصلحته. وإضافة إلى ذلك يختلف التطبيع في موجته الثالثة عما سبقه في عدد من النقاط، من أهمها:
1- يسعى الكيان الإسرائيلي إلى التطبيع الشامل مركزاً على خيار التطبيع مع الشعوب بعد تطبيع الحكومات، ويرى أن أفضل طريقة لذلك هي خلق علاقة مباشرة مع المواطن العربي، كما الواقع الحالي، لكن ثمة استعصاء في المغرب والسودان، ومحاولة سيطرة في الإمارات والبحرين، ومع هذا كله لا تزال أغلبية الشعوب العربية مدركة لأبعاد التطبيع ومآلاته، كما أن الكيان الإسرائيلي يدرك جيداً ما معنى تطبيع الشعوب، ويرى في ذلك عقبة يصعب تجاوزها على المدى القريب، ففي تغريدة لرئيس وزراء الكيان السابق، بنيامين نتنياهو، على موقعه الرسمي في تويتر يقول: “أكبر عقبة أمام توسع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز”، وهذا التوصيف يدرك تماماً رفض الشعوب لهذه الفكرة، لا بسبب الدعاية الخاطئة كما يشير، وإنما بسبب رؤية الكيان الإسرائيلي للسلام.
2- كانت الموافقة على التطبيع سابقاً أو الدعوة إليه كنتيجة للسلام، أي إن كثيراً من الأنظمة كانتتشترط السلام أولاً شرطاً للتطبيع، بخلاف محاولات التطبيع الحالية فهي تصور للشعوب أنها تطبع من أجل السلام، وهذا يعني فقدان حتى ورقة التطبيع كضمان للسلام، كما أن الكيان الإسرائيلي بعد كل اتفاقية يزداد تطرفاً وحدية، وليس أدل على ذلك من عدوانه على غزة في مايو/أيار
3- حرص الكيان الإسرائيلي على الاعتراف المبدئي بسرديته التاريخية، فالإسرائيليون يرون في التطبيع تأييداً عربياً للفكرة الصهيونية القائمة على العنصرية وإلغاء الآخر، وهذا ما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في توصيفه لعملية التطبيع بأنها “عملية السلام مقابل القوة”.
4- التطبيع الحالي أشبه بتحالف استراتيجي أكثر منكونه اتفاقاً سياسياً، والمطبعون الجدد يتصرفون وكأنه لم تكن هناك مشكلة مع الكيان الإسرائيلي تتعلق بتشريد شعب والاستيلاء على أرضه بالقوة، وقد أظهر العدوان على غزة حجم اصطفاف بعض الدول المطبعة لمصلحة الكيان الإسرائيلي، من خلال تصريحات السفير الإماراتي محمد محمود آل خاجة في أثناء زيارته لرئيس مجلس حكماء التوراة، الحاخام الأكبر شالوم كوهين، في منزله، أثناء العدوان على غزة وبعد العدوان على المقدسيين، حيث أعرب عن دعمه لموقف الحاخام الإسرائيلي من الحرب الأخيرة، وثنائه على الكيان الإسرائيلي الذي تشوهه الآلات الإعلامية للإخوان المسلمين، حسب وصفه.
5- لم تُلزم المؤسسات المصرية سابقاً الشعب المصري ومؤسساته المدنية بالتطبيع، وهذا الإجراء كان يقوي موقف الدولة المصرية في تفاوضها مع الكيان الإسرائيلي، لكن في الحالة المعاصرة تتسابق فيها مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصاً ما يتعلق بالحالة الإماراتية، إلى القبول بالتطبيع، ما يعني ضياع كل الأوراق، وهي حالة تفتقد الفطنة السياسية والإدراك الاستراتيجي.
لقد كان التطبيع سابقاً بالنسبة للكيان الإسرائيلي يركز على البحث عما يشرعن له البقاء، أما الآن فإن للتطبيع أهدافاً أعمق وأكبر من مجرد الشرعية، ويحمل في طياته أبعاداً مختلفة سياسية واقتصادية وثقافية.
1. الأبعاد السياسية للتطبيع: السعي نحو الهيمنة
يسعى الكيان الإسرائيلي للاستفادة من أزمات المنطقة كأوراق ضغط تجاه الدول لاستدراجها إلى التطبيع، مثل ملف الإرهاب بالنسبة للسودان، وأزمة الصحراء في المغرب، والتمدد الإيراني بالنسبة لدول الخليج، في المقابل تسعى بعض الدول المطبعة لتصوير التطبيع على أنه لمصلحة فلسطين أولاً؛ فهو سيحافظ على خيار “حل الدولتين”، ووقف ضم أراضي الضفة الغربية، وتحقيق السلام في المنطقة.
لقد أصبح من الواضح أن كل عمليات التطبيع التي حدثت بعد الإجماع العربي على المبادرة العربية للسلام يعد مخالفة صارخة للإجماع العربي، حتى إن صُوّر ذلك بأنه لمصلحة الفلسطينيين أولاً، لأن خيار الضم لا يزال مطروحاً، وربما علقته الاتفاقية مؤقتاً، وهو في الأصل معلق من قبل، وذلك لانقسامات فريق السلام في البيت الأبيض، ومعارضة المجتمع الدولي لفكرة الضم، ولم يتخل الكيان الإسرائيلي عن استراتيجيته في الزحف والتوسع في الاستيطان، وهي استراتيجية طويلة المدى ويسعى لتحقيقها تدريجياً.
الخيار الخليجي سابقاً يقدم عزل الكيان الإسرائيلي دفاعاً عن فلسطين على أي فائدة قد تنتج عن التحالف معه، وبناء على ذلك فليست هناك أي مصلحة للقضية الفلسطينية في التطبيع، حتى وإن ادعت الدول المطبعة ذلك، ويبدو أن أحداث غزة كشفت شماعة تقديم المصلحة الفلسطينية، وأن الإمارات تنظر إلى العلاقة مع الكيان الإسرائيلي على أنها علاقة استراتيجية مقدمة على قضايا المنطقة، وأنها ماضية في تحقيق هذا التحالف إلى أبعد حد.
يستثمر الكيان الإسرائيلي الخطر الإيراني على دول الخليج من جهة، وتقليل أمريكا لعناصرها ومعداتها في المنطقة، من جهة أخرى، ويسعى للقيام بهذا الدور، لتقديم نفسه على أنه صمام أمان للمنطقة، ولهذا من مصلحة الكيان الإسرائيلي بقاء التهديد الإيراني، وتصاعد التمدد والهجمات الإيرانية في المنطقة، لأن ذلك في نظره يعزز فرص التقارب الإسرائيلي الخليجي، ولهذا يُراد لعملية التطبيع أن تتجاوز مسألة التطبيع السياسي إلى التحالف العسكري والأمني.
الجميع يُدرك أن هذا التحالف لن يكون من أجل أمن دول الخليج، فمسار التطبيع الإسرائيلي واضح منذ بداياته الأولى، ولعل ما يريده الكيان الإسرائيلي من دول الخليج غير ما تريده هي منه، فالكيان الإسرائيلي يسعى للاندماج في المنطقة أكثر، لأن ذلك سيساعده سياسياً واقتصادياً كما سيأتي معنا، إضافة إلى أنه يخشى من الوجود الإيراني على حدوده في الجولان، ويسعى للاستفادة من موقع الإمارات لزيادة التجسس على إيران، وإضعاف قدراتها النووية.
الإمارات في الظاهر تبدو حريصة على عدم الصدام المباشر مع إيران نظراً للعلاقة الاقتصادية والجغرافية بين البلدين، على عكس الموقف الإسرائيلي الذي يحاول بين حين وآخر إرسال رسائل عسكرية قوية لإيران، ولهذا تفضل الإمارات الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة للكيان الإسرائيلي في مواجهة الحروب السيبرانية والتعاون الاستخباراتي، وتفعيل الجوانب الاقتصادية، والاستفادة من الأسلحة المتطورة، بعيداً عن الصدام المباشر؛ ولكن هذا لن تحكمه الإرادة الإماراتية وإنما سيخضع لمستوى التوتر بين إيران والكيان الإسرائيلي، والإمارات يبدو أنها لن تكون المستفيد الأول من هذا التوتر، إن لم تكن الضحية الأولى.
الكيان الإسرائيلي يريد كذلك أن يوجد لنفسه موقعاً استراتيجياً في البحر الأحمر وباب المندب والمحيط الهندي، وهذا ما سيجعله يشرف إشرافاً مباشراً على أهم طرق الملاحة الدولية، وذلك من خلال اتفاقية التعاون البحري بين شركتي “موانئ دبي العالمية” وشركة “دوفر تاور الإسرائيلية”، التي وُقِّعَت مباشرة بعد يوم واحد من توقيع اتفاقيات أبراهام، ومن المعروف أن شركة موانئ دبي وقعت اتفاقيات متعددة مع عدد من الموانئ الإفريقية، كما تسيطر الإمارات على أغلب الموانئ اليمنية على البحر الأحمر وباب المندب، ومن خلال ذلك يسعى الكيان الإسرائيلي لتحقيق استراتيجيته في البحر الأحمر، المتمثلة في:
1- توسيع الوجود المباشر للكيان الإسرائيلي وترسيخه وتأمين مصالحه، بما يتيح له إمكانات الهجوم المباشر على العرب في باب المندب.
2- إيجاد عمق استراتيجي في البحر الأحمر يتيح له رصد أي نشاط عسكري عربي في المنطقة.
3- استخدام تفوق الكيان الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي في المستقبل على قواته وسفنه في البحر الأحمر، وخاصة في حالة أي مواجهة عربية معه.
4- ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والمدنية للكيان الإسرائيلي بين المحيط الهندي والبحر المتوسط عن طريق البحر الأحمر.
5- كسر ما تبقى من العزلة المفروضة بواسطة الحصار العربي الاقتصادي والدبلوماسي، وحماية حرية تجارة الكيان الإسرائيلي مع البلدان الأفروآسيوية عن طريق الحفاظ على حرية الحركة في المنطقة.
هذا وقد سبقت العلاقات السياسية علاقات استخباراتية خليجية مع الكيان الإسرائيلي، وذلك مؤشر واضح على الانكشاف الأمني العربي، وهو اختراق يستطيع من خلاله الكيان معرفة نقاط القوة والضعف بالنسبة لدول المنطقة، من خلال ما يسمى التنسيق الاستخباراتي الخليجي مع الكيان الإسرائيلي، فأغلب الدول الخليجية تربطها علاقات استخباراتية مع الكيان الإسرائيلي.
ويؤكد هذا بيع برامج التجسس الإسرائيلية لدول خليجية، قبل عمليات التطبيع العلنية، ففي 2008 وقعت هيئة المنشآت والمرافق الحيوية في أبو ظبي عقداً مع شركة “آي جي تي إنترناشونال” International) AGT)، وهي شركة سويسرية مملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي ماتي كوتشافي، لشراء معدات مراقبة للبنية التحتية الحيوية، ومن ضمن ذلك منشآت النفط والغاز، وزودت الشركةُ نفسُها أبو ظبي بثلاث طائرات مسيرة بهدف تعزيز قدراتها الاستخباراتية والأمنية، كما زودت شرطة أبو ظبي بنظام مركزي للمراقبة الأمنية، يعرف باسم “عين الصقر” (Falcon Eye)، وبدأ العمل به رسمياً في يوليو/ تموز 2016. واستعانت الرياض، في أغسطس/ آب 2012، بمجموعة من الشركات العالمية في الأمن السيبراني، من بينها شركة إسرائيلية لحماية أمن المعلومات، لوقف الهجوم الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية، بعد أن اخترق متسللون أجهزة حاسب تابعة للشركة باستعمال فيروس يدعى “شمعون”، وهو ما أدى إلى تعطيل إنتاج النفط السعودي، إضافة إلى برامج التجسس على “واتساب” الذي اتهم القائمون على الشركة مجموعة (NSO) الإسرائيلية باستعمال تكنولوجيا (Pegasus) وبيعها للسعودية. وفي أغسطس/آب 2018 اشترت الإمارات من المجموعة نفسها تكنولوجيا متطورة لقرصنة الهواتف النقالة.
إن التطبيع الخليجي وإن أراد تحقيق بعض المصالح الخاصة فمحصلته النهائية تصب في تحقيق الأهداف والتطلعات الدولية العامة، وأطماع الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وقد يتخلى الكيان الإسرائيلي في نهاية المطاف عن حلفائه، أو يقصر في بعض مهامه كما فعلت أمريكا، ولا خيار أمام دول الخليج أفضل من الانفتاح على شعوبها، وتوسيع تحالفاتها العربية والإسلامية، فأي خيار منبت الجذور قد لا يكتب له النجاح، وقد تكون تبعاته وآثاره السلبية أكبر من فوائده.
2. الأبعاد الاقتصادية للتطبيع: كسر كل أشكال المقاطعة
التطبيع الاقتصادي أحد أهم الأهداف التي يسعى إليها الكيان الإسرائيلي، فهو يطمح إلى الوصول إلى السوق العربية كلياً، وكسر ما تبقى من قيود المقاطعة الاقتصادية، وهذا الأمر سيفتح آفاقاً اقتصادية جديدة أمام الإسرائيليين، بناء على أن العلاقة مع الإمارات والبحرين ستخترق تلقائياً العلاقة الاقتصادية العربية، ومن خلالها سيتم تفعيل السياحة بين هذه البلدان، وجذب الاستثمارات العربية، وتنظيم عمليات استثمارية واسعة مع الدول العربية المطبعة.
الكيان الإسرائيلي في حقيقته كيان أناني، يأخذ ولا يعطي، ويمارس كثيراً من التحفظات على تسليح الأنظمة التي تطبع معه، وهذا هو مفهومه للتطبيع، وأهدافه الحالية تتعدى مجرد كسر المقاطعة إلى السعي لتحقيق الريادة الاقتصادية والتكنولوجية في المنطقة من خلال عدد من المشاريع والأهداف الاقتصادية الكبرى، التي من أهمها:
خطة السلام الاقتصادي
مشروع السلام الاقتصادي فكرة قديمة جديدة تبناها الكيان الإسرائيلي وروجتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومضمونها أن التطبيع سيفتح المجال أمام الجميع للرخاء والازدهار، وقد تولى التنظير لهذا المشروع شمعون بيرس ونائبه يوسي بيلين، وهذه الخطوة ستُفعَّل الآن تحت مبرر التعاون في القضايا المشتركة، أمام الدول الأخرى المتحسسة من فكرة التطبيع الشامل، وهذه الفكرة قد لا تواجه نفس الرفض الذي يواجه التطبيع الشامل.
وبحسب استراتيجية شمعون بيريز فإن الكيان يسعى إلى قيام نظام شرق أوسطي جديد، يقوم على تفوق وقيادة علمية وتكنولوجية واقتصادية صهيونية، وعلى تمويل مالي عربي، وقوة عمل رخيصة عربية، وسوق كبيرة ومشتركة، وهو مشروع يسعى لإذلال وإخضاع العرب للماكينة الصهيونية، للسيطرة على ما تبقى من الثروة العربية.
الاستفادة من المركزية الاقتصادية الإماراتية
المجتمع الخليجي متعدد الموارد وغني بالمواد الخام، ولهذا يطمح الكيان الإسرائيلي إلى الاستفادة من الاستثمارات الخليجية الضخمة التي يمكن أن تؤدي إلى ازدهار اقتصادي في الكيان الإسرائيلي في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها، ووفقاً لإحصائيات اتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية، هناك حوالي 300 شركة إسرائيلية تعمل وتنشط في الإمارات، لكن معظمها من خلال فروع دولية، وعليه فإن اتفاقية التطبيع ستكسر القيود وستذلل الصعوبات خاصة للشركات الإسرائيلية الصغيرة والمتوسطة، التي وجدت خلال مرحلة التبادل التجاري الخفي صعوبات في التعاون مع الشركات الإماراتية، والاستفادة من المكانة الاقتصادية للإمارات، بوصفها تمثل مركزاً تجارياً يربط دول الخليج ببقية دول العالم.
في هذا الإطار شارك الكيان الإسرائيلي في معرض “إكسبو دبي 2020” العالمي، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي يستمر ستة أشهر، بحضور ومشاركة أكثر من مئة وتسعين دولة. وفي هذا المعرض عرضت فيديوهات تروج طواحين الهواء والتكنولوجيا عالية التقنية والمعالم التاريخية الإسرائيلية، وفيه عُزِفت الموسيقى العبرية، وعُرضت الفعاليات الثقافية، وبهذا تقدم الإمارات فرصة للكيان الإسرائيلي لتسويق نفسه في المنطقة، وكسر العزلة ضد هذا الكيان.
السيطرة على الطرق الاستراتيجية للمشروع الصيني/ مبادرة الحزام والطريق
على مستوى الشركات الكبيرة فمباشرة وبعد توقيع اتفاقية التطبيع بدأت الشركات التجارية والصناعية في كل من الإمارات والكيان الإسرائيلي مفاوضات بينية أفضت إلى توقيعها مذكرات تفاهم متعددة، وخاصة بين مجموعة “موانئ دبي العالمية” وبين شركة “دوفر تاور الإسرائيلية”، بالإضافة إلى اتفاقيات الطيران والسياحة، التي سيستفيد منها الكيان الإسرائيلي في تسويق قدراته الصناعية والتكنولوجية عالية الجودة في مجال الطيران المدني والقطاعات المتصلة به.
من الواضح- نظراً لطبيعة الموانئ التي تملك مجموعة موانئ دبي العالمية حق التشغيل فيها- أن الشركة تختار الموانئ بعناية ودقة؛ بهدف تحقيق التفوق الجيوسياسي، فعلى سبيل المثال فازت مجموعة موانئ دبي العالمية بحقوق التشغيل في موانئ إقليمية، من ذلك ميناء دوراليه في جيبوتي، وهو أحد الموانئ المنافسة لميناء جبل علي الإماراتي، وقد شغَّلته بقدرة منخفضة لتضمن بقاء دبي كأبرز المراكز التجارية في المنطقة، إضافة إلى أنشطة الإمارات في الصومال وإريتريا واليمن، ونشاطها العسكري في ميناء عصب في إريتريا، وهذه الأنشطة تسعى من خلالها الشركة إلى السيطرة على الموانئ الواقعة على الطرق الاستراتيجية لمشروع الصين المسمى “مبادرة الحزام والطريق”؛ وهو ما يوضح اصطفاف دولة الإمارات العربية إلى جانب المصالح الأمريكية ودعمها موقف واشنطن في المنافسة المحتدمة بينها وبين الصين، فإذا كانت الموانئ الواقعة على طريق “مبادرة الحزام والطريق” تخضع لإدارة مباشرة من قبل دولة الإمارات، التي تربطها علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه من ثم ستكون لواشنطن اليد العليا في منافستها لبيكين.
مشروع الجسر البري للنفط الخليجي
تعكف وزارة المال والبنية الأساسية في الكيان الإسرائيلي منذ البدء في مسار التطبيع الخليجي على وضع مخطط مالي وإنشائي متكامل لبناء شبكة الطريق السريع الإقليمي، بحيث تسمح بوصول بري آمِن وقليل التكلفة للدول العربية على البحر المتوسط، وأقرّت حكومة الكيان رسمياً مشروعاً يصل بين أوروبا والمنطقة، يمر بالحدود الأردنية وجنين شمالي الضفة، لإيجاد خط تجاري واستثماري من البحر المتوسط وصولاً إلى الداخل العربي، ورصدت 4,5 مليون دولار لوضع مخطط هندسي للمشروع. وبهذا الجسر سيكون الكيان الإسرائيلي الجسر البري المباشر الذي يربط بين أوروبا ودول المنطقة. يتعامل المشروع مع الممرات البحرية في البحر المتوسط أو المنطقة ليصبح ترجمةً لمشروعات السلام الإقليمي التي سبق أن طرحها الكيان الإسرائيلي.
سيُنقَل من خلال هذا المشروع النفط والغاز من دول الخليج إلى ميناء إيلات بخليج العقبة بالأنابيب، ثم يُنقَل بعد ذلك براً إلى ميناء عسقلان، ومنه يُنقَل عن طريق البحر إلى أوروبا، وهذه العملية ستكون لها تبعاتها السلبية على مصر لمصلحة الكيان الإسرائيلي وبمباركة إماراتية، وتقضي على الحلم المصري في تصدير النفط والغاز إلى أوروبا. فقد كانت مصر تمثل المحطة الوسطى بين أوروبا ودول الخليج، لكن بعد الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية ستخسر مصر هذه الفرصة، لأن النفط والغاز الخليجي لن يمر بعد ذلك من قناة السويس، ولا عن طريق مضيق هرمز وباب المندب، ما يعني أن دول الخليج ستتجاوز التهديدات الإيرانية في مضيق هرمز، وهذا سيؤدي إلى خسارة مصر عائدات تصدير النفط والغاز الخليجي عبرها إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
3. الأبعاد الثقافية للتطبيع: تبني السردية الصهيونية للصراع
يحتل التطبيع الثقافي محوراً أساسياً في أبعاد التطبيع، فهو يسعى إلى تغيير المنابع المؤثرة في الثقافة العربية والفكر السياسي القومي، ليستبدل بها مصطلحات أكثر استيعاباً للواقع الجديد، وهذا التطلع عبَّر عنه شمعون شامير، السفير الأسبق للكيان الإسرائيلي لدى مصر، بقوله: “إن السلام مع العرب يجب أن يحقق الهدف المثالي لنا، وهو ما يتجاوز الاعتراف الرسمي إلى الاستعداد للحياة والتعاون معنا، وهذا يفترض إحداث تغيير في المنظومة الفكرية للعرب، تبدأ بتقبل “إسرائيل” كدولة ذات سيادة في المنطقة كمقدمة لقبولها بأساسها الأيديولوجي الصهيوني”.
فإخضاع الثقافة لمنطق التطبيع صار أحد عناصر هذا المشروع، لأن الكيان الإسرائيلي يدرك أن العمق الثقافي والحضاري لأمتنا المستند إلى مخزون روحي ضخم وإلى رسالة إنسانية خالدة، يبقى العنصر الأقوى في المقاومة الذاتية لهذه الأمة على مدى السنوات، فالثروات قد تتبدد وتزدهر، والمعادلات السياسية قد تتغير وتتبدل، وموازين القوى لا يمكن أن تبقى ثابتة في عالم متغير، أما ما يبقى في الأمم فهو ثقافتها وحضارتها، فإذا زالت هذه زالت الأمم نفسها؛ لأنها فقدت عنصر وحدتها وتماسكها الأقوى. وقد بدأت مقاومة الشعب المصري سابقاً للتطبيع من خلال لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التي التف حولها الشعب المصري في مقاومة التطبيع.
إن مسألة التطبيع الثقافي ليست مجرد التبادل الجامعي والاستفادة من الآخرين، بل هي أعمق مما نتصور، وهذا الأمر يحتاج إلى ثورة في المفاهيم، حسب استراتيجية شمعون بيرس في كتابه الشرق الأوسط الجديد.
بعد توقيع الإمارات للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي كشفت وزيرة الثقافة والشباب الإماراتية، نورة الكعبي، عن تدشين تعاون ثقافي بينهما، وقالت الكعبي: إن الثقافة تمهد الأرضية “أمام تفاهمات وشراكات نوعية في مجالات لم يتم تناولها مسبقاً، وتعمل على تجسير الثقة والقابلية المتبادلة بين الدول والمجتمعات”، ولفتت إلى أن التعاون الثقافي يعد أحد المجالات الرئيسة التي ستُدشَّن خلال المرحلة المقبلة مع الكيان الإسرائيلي، معتبرة أن “اتفاقية السلام تقوم على نشر قيم السلام والتسامح بين المجتمعات والدول كقيم إنسانية مشتركة”.
وبهذا يتضح أن هناك رغبة إماراتية رسمية لتمرير التطبيع الثقافي، منبتة عن السياق العربي عموماً وإرادة الشعوب العربية، مصحوبة بتعبئة إعلامية ضد الإنسان الفلسطيني، غير مستفيدة من التجارب المصرية والأردنية السابقة، وهذا يعد انقلاباً ثقافياً، ومحاولة انسلاخ من الجسم العربي، وهي تتماشى تماماً مع إرادة الكيان الإسرائيلي الرامية إلى إبادة الشعب المستعمَر وإنهاء سردية المستعمِر، وقد برز على السطح عدد من أنماط التطبيع الثقافي، منها:
الزيارات السياحية
توافد الآلاف من السياح الإسرائيليين من مختلف الشرائح إلى الإمارات، ومعها بدأت الفنادق والمطاعم تكييف نفسها لتلبية احتياجات الزوار الجدد، مثل توفير وجبات “الكوشر والشبات”، وبدأت تنتشر مظاهر شرب الكحول في العلن، على الرغم من مخالفة ذلك للعادات والتقاليد الخليجية. ويعد ملف السياحة من أهم الملفات تفعيلاً حتى في خضم الاعتداء الإسرائيلي على غزة.
افتتاح معاهد تدريس اللغة العبرية
افتتحت الإمارات معاهد تدريس اللغة العبرية، وقد زعمت شبكة “دي دبليو” أن الطلب على دورات تعلم اللغة العبرية وصل إلى أعلى مستوياته في الإمارات والبحرين منذ الإعلان عن تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، خاصة مع بدء توافد الإسرائيليين على الإمارات. ونقلت الشبكة عن مدير المعهد التعليمي العبري في دبي وأبو ظبي، جوش ساميت، قوله: “لم أستطع تصديق الأمر! لقد كنت أدرّس وزراء في الحكومة ووافدين، وفجأة ظهر هذا الطلب الهائل”، ولكن في المقابل لا توجد إحصاءات دقيقة تؤكد هذه المزاعم.
تفعيل برامج التواصل الاجتماعي
ينشط عدد من برامج التواصل الاجتماعي باللغة العربية من خلال أسماء إسرائيلية، وتحاول الوصول إلى الجمهور العربي، من أشهرها “إسرائيل في الخليج”، وهو حساب موثق على منصة تويتر، يعرف نفسه بأنه “الحساب الرسمي للسفارة الافتراضية لـ”إسرائيل” في دول الخليج ومكرس لتعزيز الحوار مع شعوب هذه الدول”، ويغطي الحساب كثيراً من الأنشطة المشتركة، ويبعث التهاني والتبريكات للجمهور العربي في المناسبات الدينية والوطنية. وكذلك حساب “إسرائيل بالعربية”، وهو حساب رسمي كذلك، يحاول التركيز على أخبار فلسطينيي 1948. إضافة إلى الحسابات الشخصية الناطقة باللغة العربية في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
البرامج الثقافية المشتركة
في هذا الإطار انطلقت برامج ثقافية مشتركة بين الكيان الإسرائيلي والإمارات، منها برنامج “حوار الأفلام: من أبو ضبي إلى إسرائيل”، أطلقته شركة “إيمج نيشن أبو ضبي” بالتعاون مع “صندوق السينما الإسرائيلي”، ويهدف البرنامج إلى تعزيز تبادل المحتوى الثقافي ودعم صناع الأفلام. واتفق الجانبان على أربع مبادرات مشتركة، تضم إقامة ورش عمل، وورش تدريبية وتعليمية، وإقامة مهرجان سينمائي إقليمي، وإقامة برامج تدريبية متقدمة في صناعة الأفلام، وضمن هذا الإطار سيُنتَدب طلاب إماراتيون للدراسة في مدرسة “سام شبيغل” بالقدس، وهي مدرسة متخصصة في الإنتاج ومقرها القدس.
وسيُختار طلاب إماراتيون للدراسة في أحد المسارات التعليمية الثلاثة التي تقدمها مدرسة “سام شبيغل” للإنتاج السينمائي المعترف بها عالمياً في مقرها بمدينة القدس، على خلفية الشراكة الثقافية بين البلدين.
تشجيع الحوار الديني بين اليهود والمسلمين
بدأت الإمارات مبكراً دعم الديانة اليهودية، قبل إعلانها تطبيع علاقاتها رسمياً مع الكيان الإسرائيلي، من خلال إعلان موعد إنشاء أول معبد يهودي رسمي في البلاد والأكبر بالمنطقة، وسيكتمل خلال ثلاث سنوات ويُفتتح عام 2022، ويطلق عليه “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبو ظبي، وسبق ذلك احتضان إمارة دبي كنيساً سرياً لليهود، بموافقة من السلطات التي أشرفت عليه على مدار ثلاث سنوات، وحرص الإماراتيون في بداية إنشاء الكنيس في دبي على السرية، وكان اليهود يأتون إلى ذلك المعبد سراً.
هذه الإجراءات من التقارب الثقافي ستكون لها تبعاتها الاستراتيجية على الشعب الإماراتي والشعوب الخليجية عموماً، لأنها تحمل في مضمونها تبرؤاً من الذات العربية، وتحاول تحويل الكيان الإسرائيلي من كيان استيطاني احتلالي إلى دولة صديقة، تتحول معه الثقافة العربية الرافضة لهذا الاحتلال إلى ثقافة صداقة بين الشعبين وتحالف بينه وبين الدول المطبعة.
التطبيع الثقافي بهذا التصور له أبعاده المؤثرة في الهوية القومية والتاريخ العربي المشترك، وفي الأجيال القادمة التي ستنشأ في ظل هذا التقارب غير مدركة لأبعاد الصراع، ومعزولة في نفس الوقت عن أدبيات القضية الفلسطينية، مصحوبة بإعادة صياغة تاريخ المنطقة حسب الرؤية الصهيونية، ومعتمدة على الجامعات ومراكز أبحاث الكيان الإسرائيلي مرجعية علمية، ومستبعدة للنصوص الإسلامية التي لا يرغب فيها اليهود. وقد دعت صحيفة “جيروسليم بوست” الصهيونية الدول العربية التي طبعت مع الكيان الإسرائيلي لتدريس ما حدث لليهود على أيدي النازيين في مدارسها.
هذا الاختراق الثقافي هو البعد الأهم للتطبيع، لأنه يؤدي إلى حالة من الانهيار المعرفي والحضاري أمام الثقافة الإسرائيلية، وتبني السردية الصهيونية للعلاقات العربية الصهيونية. ومآلات ذلك كارثية على المستقبل العربي عموماً والخليجي على وجه الخصوص.
المحور الرابع: مستقبل التطبيع الخليجي وانعكاساته على المنطقة
استطاع الكيان الإسرائيلي استثمار الفرصة؛ حيث الشعوب العربية منشغلة بقضاياها الداخلية، والدول العربية تعاني أزمات سياسية واقتصادية، وقد وجدت الدول العربية الراغبة في التطبيع فرصتها في إعلان ذلك، دون إدراك لمآلات أطماع الكيان الإسرائيلي في تحقيق نفوذه الأمني والاقتصادي في المنطقة، بما يعني تأثيره البالغ في المنطقة العربية عموماً وفي القضية الفلسطينية خصوصاً.
1. المآلات العربية للتطبيع
السرعة التي تم بها التطبيع الإماراتي وما تلاه من اتفاقيات اقتصادية وأمنية تبين أن التوقيع مجرد إعلان لما جرى سابقاً، وهذا التقارب- لا شك- ستكون له آثاره المباشرة على الدول الخليجية والمنطقة العربية عموماً، وقد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات العربية والأزمات الداخلية بين الدول وكذلك داخل الشعوب نفسها، والأخطر من ذلك زيادة تفكيك الجسم العربي واستبدال تحالفات أخرى به، وغياب التضامن العربي المشترك، وظهور جيل مشتت الرؤية والهوية، وهذا يعد تغيراً استراتيجياً مهماً لمصلحة الكيان الإسرائيلي، لكن أحداث غزة أسفرت عن حالة من الالتحام العربي والشعبي مع القضية الفلسطينية بخلاف ما كان يتوقعه الساسة الإسرائيليون.
التطبيع سيؤدي إلى تغيير التوازنات والتحالفات الداخلية؛ فهناك خطران مهددان للأمن القومي العربي؛ الخطر الإيراني والخطر الإسرائيلي، ويجري التحالف مع أحدهما للحد من خطورة الآخر، وهذا يتطلب منح الكيان الإسرائيلي مزيداً من التسهيلات الداخلية، من خلال مراقبة ورصد التحركات الإيرانية على حدودها البرية والبحرية، وهذه الخطوة ستزيد التوتر في المنطقة، لأن إيران سترى في ذلك تهديداً حربياً لأمنها القومي وعلى حدودها، ما يعني زيادة التوتر بينها وبين دول الخليج.
التطبيع الإماراتي من المحتمل أن يؤدي إلى خسارة مصر لموقعها العربي، فلطالما كانت مصر الوسيط فيما يتعلق بالخلاف العربي مع الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى الخسارة الاقتصادية في حال تحويل نقل النفط الخليجي عن قناة السويس، والمحصلة النهائية تطويق مصر ودول الطوق الأخرى بالتطبيع الشامل مع الدول الأبعد حدوداً وموقعاً، حسب العملية الالتفافية التي يتبناها الكيان الإسرائيلي، وبمساعدة حثيثة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه العملية تساعد في تمزيق الممزق، وتقسيم الدول العربية إلى كانتونات منفصل بعضها عن بعض، وإذكاء الخلافات الداخلية بين آن وآخر.
بناء على تلك المعطيات فإن التطبيع الإماراتي وأحداث غزة سرعتا من عملية التفاهم المصري التركي ثم القطري، وقد يكون ذلك بداية لتفاهمات عربية إسلامية، سواء كانت رسمية أو شعبية، لمواجهة مخاطر التحالف الإماراتي مع الكيان الإسرائيلي، ولعل المملكة العربية السعودية بدأت تدرك مخاطر ذلك مؤخراً، فمصلحتها تكمن في التمسك بموقعها القومي وعمقها الاستراتيجي، بعيداً عن دوائر الاستقطاب الإقليمية.
هذا التقدم المتسارع في التطبيع الإماراتي ربما ستكون له تبعات على المملكة العربية السعودية لكون الإمارات تتطلع بقوة نحو القيادة الإقليمية، ولهذا اختارت الإمارات التحالف مع الكيان الإسرائيلي لتحقيق ذلك الطموح، وهذا وإن بدا لمصلحة السعودية عاجلاً، فإن مآلاته الاستراتيجية لن تكون لمصلحتها؛ لأن منطلقات الطموح الإماراتي والتحالف مع الكيان الإسرائيلي مختلفة تماماً عن الأهداف السعودية في المنطقة.
ثقافة الكيان الإسرائيلي تكمن في معاداة كل ما هو إسلامي، ولهذا ليست فلسطين وحدها من تواجه هذا الخطر، كما أن الكيان لا يرحب بأي قوة يمكن أن تكون أكبر منه، والتطبيع على هذا الأساس سيكون تبعياً أكثر منه ندياً توافقياً.
إضافة إلى ذلك فالكيان الإسرائيلي يقف ضد تطلعات الشعوب العربية، ويمارس ضغطاً مكثفاً على المؤسسات الغربية بخصوص تأييدها للحقوق والحريات في المنطقة، ويبرر قمع الشعوب بأن ذلك يصب في مصلحة الكيان.
2. مستقبل القضية الفلسطينية بعد التطبيع الإماراتي البحريني
عملية التطبيع وصلت إلى ذروتها في الموجة الثالثة للتطبيع، وكان يمكن أن تستمر في الصعود لولا عدد من المتغيرات الفلسطينية والإقليمية والدولية، على رأسها سقوط ترامب ونتنياهو، وانعكاسات معركة غزة، التي حالت دون استكمال عملية تطبيع الدول الراغبة. ولا نستطيع أن نقول إن عملية التطبيع قد وئدت، لكننا نستطيع أن نقول وبقوة إنها تأجلت نوعاً ما، ومع كل هذا التضرر فإن الدول المطبعة ستبقى في حالة من التماهي مع الكيان الإسرائيلي، وخصوصاً الموقف الإماراتي.
إن رفض السلطة الفلسطينية للتطبيع ينطلق من مبدأ التمسك بالمبادرة العربية للسلام، التي تمثل إجماعاً عربياً رسمياً، وأي اجتهاد عربي قبل تحقيق المبادرة يعد خدمة مجانية للكيان الإسرائيلي، وبطبيعة الحال فإن خيار حل الدولتين في حال ارتفعت وتيرة التطبيع لن يكون ضمن الخيارات المطروحة لدى الإسرائيليين، فاستراتيجية الاحتلال تنطلق من تسوية الخلاف مع الخارج أولاً لإرغام الفلسطينيين على القبول بأي تسوية يفرضها الكيان الإسرائيلي، لأن التطبيع سيحد من الخيارات الفلسطينية، وسيشكل عزلة للفلسطينيين عن محيطهم العربي، وخاصة دول الخليج التي أصبح جزء منها لا يتعامل مع السلطة الفلسطينية الحالية. ومع التقدم في سياسة ضم الضفة الغربية فإن قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة يبدو مستحيلاً.
يهدف التطبيع إلى خلق مزيد من التهميش لا لفصائل المقاومة فقط، وإنما للسلطة الفلسطينية نفسها، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس يعاني حالة تهميش عربي ومحاولات لفرض قيادة جديدة أكثر ولاء للإمارات، ويتردد كثيراً اسم السياسي الفلسطيني محمد دحلان المقيم في الإمارات، ولا يستبعد أن يشكل دحلان تحالفاً مع بعض قيادات فتح الموالية له لإقصاء عباس، وإعادة سيناريو إقصاء ياسر عرفات، خصوصاً بعد أن تآكلت شعبية عباس داخلياً وخارجياً.
الأمر الآخر أن للتطبيع تداعياته على فلسطينيي الداخل، حيــث إن مســألة الهويــة فــي الكيان الإســرائيلي بحــد ذاتهــا- التـي تعـرف نفسـها بأنها دولـة ديمقراطيـة ذات طابــع يهــودي- تدفــع بهــا إلــى عــدم قبــول فكــرة إقامــة دولــة ثنائيــة القوميــة، ولذلــك تسـعى إلـى التخلـص مـن الفلسـطينيين الذيـن تعدهــم تهديــداً ديمغرافيــاً لهــا، وينظر الإسرائيليون إليهم على أنهم “العدو في الداخل”، وذلك لأن الفلســطينيين قد يفوقون أعــداد اليهــود فــي غضــون بضعــة أعــوام.
يستخدم الكيان الإسرائيلي عدداً من الوسائل العنصرية تجاه هذا المكون الأصلي، من قبيل حرمانهم من حقوقهم المدنية والسياسية، وقوانين التمييز والتفرقة العنصرية وقوانين التجنيس التعسفية وصعوبات السكن، وهذه الإجراءات ليست مجرد تمييز استثنائي تمارسه أطراف خارجة عن القانون، بل تمييز باسم القانون نفسه، وهي وإن كانت تجري من قبل فإن وتيرتها تصاعدت بعد التطبيع نتيجة غياب أو تغييب الروافع العربية المساندة لحق الشعب الفلسطيني.
وقد أعلن الكيان الإسرائيلي عن مخطط يتضمن إخلاء بيوت حي الشيخ جراح من سكانها، وبناء عدد من الوحدات الاستيطانية لليهود، وقد أدى ذلك إلى اندلاع صدامات مختلفة بين متظاهرين فلسطينيين ومستوطنين تصحبهم قوات الكيان الإسرائيلي، في مايو/أيار 2021، وقد جاء هذا الإجراء في إطار استكمال تهويد المدينة كلياً، حيث يهدف الكيان الإسرائيلي إلى إخلاء 200 منزل تضم نحو 3000 فلسطيني في البلدة القديمة، وكذلك ثمة عشرون ألف منزل في أنحاء المدينة مهددة بالهدم، ضمن خطة الإعمار التي يتبناها الكيان الإسرائيلي، والتي تهدف إلى ألا تزيد النسبة العربية على 30%.
تزامنت أحداث الشيخ جراح مع دعوات واسعة تبنتها جمعيات وجماعات استيطانية لتنفيذ أكبر عملية اقتحام للمسجد الأقصى يوم الاثنين 10 مايو/أيار 2021 بمناسبة يوم القدس، وهو اليوم الذي يحتفل فيه الكيان الإسرائيلي بالسيطرة على الجزء الشرقي من المدينة عام 1967، الذي يحييه المستوطنون بمسيرات استفزازية كل عام، وقد وافق ذلك ليلة الثامن والعشرين من رمضان، وهو ما أجج مشاعر الغضب لدى الفلسطينيين، بعد شروع الجماعات الاستيطانية، مصحوبة بقوات عسكرية، في تصعيد الهجمات ضد المصلين في المسجد، وقد استطاع الشعب الفلسطيني التصدي لها، ولا تزال الممارسات العنصرية لقوات الكيان الإسرائيلي ضد المسجد الأقصى والفلسطينيين مستمرة، وقد تؤدي إلى انفجار الأوضاع مجدداً.
توحيد الفصائل الفلسطينية سيكون معيقاً لطموحات الكيان الإسرائيلي وحلفائه الجدد، ووأداً لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتبناه الكيان الإسرائيلي منذ ثلاثين عاماً، فأكبر رد على اتفاقيات التطبيع الخارجية والاعتداء الإسرائيلي هو عودة الشعب الفلسطيني للحمة الداخلية، وحل الملفات العالقة؛ مثل إصلاح منظمة التحرير وملف الانتخابات، وإعادة الوحدة بين شطري الوطن، وقطع الطريق أمام التوجهات الدولية والإقليمية، وعودة ملف المصالحة الفلسطينية للداخل، لأن الأدوار الخارجية لا تتجاوز عملية إدارة الخلاف الفلسطيني.
3. أبعاد معركة غزة وتأثيرها في موجة التطبيع
أراد الكيان الإسرائيلي استثمار حالة انشغال الشعوب العربية بقضاياها الداخلية، ونشوة موجة التطبيع الثالثة، لتنفيذ باقي مخططاته والهجوم العسكري المكثف على غزة في مايو/أيار 2021، لكن يبدو أن العملية كانت بعكس ما كان يخطط له الكيان الإسرائيلي، وأصبح الواقع الفلسطيني أقوى مما كان عليه من قبل من خلال:
– تطور قدرات المقاومة ونوعية الهجمات التي شملت مؤسسات حيوية من مطارات ومصانع يدل على تطور أداء المقاومة ونجاحها في امتلاك المعلومة والصعود المستمر في أدائها العسكري، من خلال العمليات النوعية وحجم التسليح، وعلى الرغم من استهداف الكيان الإسرائيلي للبنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، واستهداف قيادات المقاومة، ومحاولة إضعافها، فإن صمودها وردها المستمر يثبت أنها مستعدة للمعركة.
– امتلاك الفلسطينيين زمام المبادرة العسكرية، واستطاعتهم فك الحصار عن المسجد الأقصى، والمعركة وإن كانت غير متكافئة عسكرياً فإن هناك حالة من توازن الرعب استطاعت المقاومة إحداثها، وإثبات إمكانية إضعاف الهيبة العسكرية للكيان الإسرائيلي.
– مؤشرات تقارب النضال السلمي الفلسطيني مع رؤية المقاومة المسلحة، في موقف ربما أوصل قناعة لدى الفلسطينيين بعدم جدوى النضال السلمي منفرداً، وهذا الأمر سيأخذ مساراً مختلفاً في سير المواجهات وأبعادها المستقبلية.
– إمكانية توحد فصائل المقاومة وشعبها، فقد كان الهدف فصل القدس عن غزة، وفصل الجميع عن الضفة.وقد استطاعت الأحداث فرض هذا التطور النوعي في مسار القضية، وبعث رسائل قوية بوحدة الفلسطينيين، وهذا ما يمكن لفصائل المقاومة أن تستثمره جيداً، وتبني عليه في تحقيق مصالحة فلسطينية داخلية.
– حجم ونوعية التضامن العربي والإسلامي والعالمي غير المتوقع، والتضامن أمر طبيعي في الأوقات الطبيعية، لكن مقارنة بالوضع المحلي للشعوب العربية يعد تطوراً نوعياً.
– المعركة أظهرت نقاط ضعف وتحديات كبيرة يعانيها الكيان الإسرائيلي، وتتعلق بتفكك جبهة الكيان الإسرائيلي الداخلية، وانكشاف أهدافه الإقليمية، وضعف اهتمام إدارة بايدن بمشروع الكيان مقارنة بسلفه، إضافة إلى الفوضى في أراضي 1948 التي قد تخرج المواجهات عن السيطرة، والخلافات السياسية بين نتنياهو ووزير دفاعه بيني غانتس، وخشية الأخير من دفع الثمن منفرداً، وعودة القضية الفلسطينية لصدارة الإعلام وتأثيرها في أهداف التطبيع، وإضعاف إمكانية أن تكون القدس عاصمة الكيان.
هذا التقدم النوعي في الهجمات التي شنتها المقاومة ضد الكيان الذي يصدر نفسه مدافعاً عن دول المنطقة، والتطور النوعي في تنظيم المسيرات في الداخل الفلسطيني، وانتفاضة مدن فلسطين المحتلة على الرغم من حالة العنف التي يشنها الكيان، وترابط المدن الفلسطينية بعضها مع بعض بعد أن ظن الكيان الإسرائيلي فصل بعضها عن بعض، إضافة للتضامن العربي والإسلامي والعالمي الواسع، أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية، وأعاق أهداف التطبيع على المدى القريب.
كل هذه المؤشرات قد تؤدي إلى بداية تغير في موازين القوة بعكس ما كان يطمح إليه الكيان الإسرائيلي وحلفاؤه الدوليون، وعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الملفات العربية والعالمية، وتفكك عدد من أوراق الكيان الإسرائيلي التي كان يعتقد أنها محسومة لمصلحته، وانكشاف ذرائع الدول المطبعة التي صورت التطبيع لشعوبها على أنه لخدمة القضية الفلسطينية.
وقد كشفت أحداث غزة وهبة القدس ضعف الرهان على التطبيع، الذي لم يغير من الوقائع على الأرض بقدر ما كشف الحقائق أكثر، وأن الشعوب بإمكانها تغيير وتيرة الأحداث، وقد أظهرت الكتابات الإسرائيلية حالة من اليأس التي لحقت بالكيان الإسرائيلي، نتيجة عدم قدرة مظاهر التطبيع على تسويق الرواية الإسرائيلية للقضية الفلسطينية.
4. مستقبل التطبيع في المنطقة في ظل إدارة “بايدن”
القضية الفلسطينية والنووي الإيراني يشكلان أهم نقطتي خلاف بين الكيان الإسرائيلي والإدارة الأمريكية الجديدة؛ إذ تختلف وجهتا النظر بين البلدين حول ملامح حل هاتين القضيتين، فالإدارة الأمريكية ماضية في المفاوضات النووية وقد تتوصل مع إيران إلى اتفاقات جديدة، وهي ملتزمة بحل الدولتين وتسوية الأزمة الفلسطينية، ومن ضمن ذلك حل مسألة ضم الضفة الغربية، في حين تعارض نخبة كبيرة من الكيان الإسرائيلي هذا المقترح، وتلتزم بـ”إسرائيل من البحر إلى النهر”، إضافة إلى رفض العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، في حين أن بقية الملفات قد لا تشكل خلافاً بين الأمريكيين والإسرائيليين، خصوصاً ما يتعلق بدعم أمن الكيان الإسرائيلي الذي يعد أولوية أمريكية سواء عند الجمهوريين أو الديمقراطيين.
لكن الأمر الذي يمكن أن يتأثر هو أهداف الكيان الإسرائيلي من التطبيع، التي لم تقتصر على بناء العلاقات الاقتصادية فقط بل تتعداها إلى التحالف الاستراتيجي لمواجهة إيران، وتحسين مكانة الكيان الإسرائيلي الاستراتيجية في المنطقة، فأولويات الإدارة الأمريكية الجديدة المتمثلة في الانسحاب من المنطقة، وتهدئة ملفات الشرق الأوسط، قد تؤثر في طموح الكيان الإسرائيلي نوعاً ما، خاصة أن كثيراً من الأنظمة العربية، ولا سيما الإمارات والسعودية، قد بدأت تسوية علاقتها بإيران، وإجراء حوارات ثنائية مع أكثر من دولة، تضمن تسوية الأزمة الحالية، وقد بدأت تتهاوى كثير من الفواصل بين الأنظمة المختلفة، لكن هل هذا التهاوي تكتيكي أم استراتيجي؟ لعل الخيار الأول هو المرجح.
ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية الحالية ملتزمة بدعم التطبيع والتقدم فيه، من خلال التصريحات الرسمية لجو بايدن ووزير خارجيته، لكن هذا الأمر مرهون بمدى الانفراجة في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، الذي تتذرع به أغلب الدول العربية، إضافة إلى التفاوض على بعض الملفات الإقليمية، وتحسين المصالح الأمنية والاقتصادية، وهي ملفات لا تبدو معيقة للتطبيع، حيث يظهر أن الكيان الإسرائيلي حريص على تسوية العلاقة بالدول المركزية في المنطقة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
في المقابل فإن التحفظات العربية، وخاصة من المملكة العربية السعودية، لم يتم التوصل إلى تسوية جديدة فيها، وقد صرح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في أبريل/نيسان 2021، أن تطبيع العلاقات المحتمل مع الكيان الإسرائيلي سيعود بـ”فائدة هائلة” على المنطقة حسب قوله، لكنه اعتبر أن إبرام اتفاق مماثل مع المملكة يعتمد على التقدم في مسار السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وبناء على ذلك فإن السعودية تضغط باتجاه تسوية بعض الملفات الداخلية والخارجية لتحقيق التطبيع، وقريب منها الموقف القطري.
لعل إدارة بايدن من خلال تعيين مبعوث جديد لعملية السلام بمنطقة الشرق الأوسط ستسعى للتقدم في هذا الملف، وقد تتقدم بوعود ولو شكلية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تضمن من خلالها تطبيع بعض الدول المستهدفة، وقد سعت إلى تخفيف الطابع الصدامي الذي انتهجه بنيامين نتنياهو، الذي كان أكثر صدامية مع المجتمع الفلسطيني والمنطقة وحتى مع البيت الأبيض، من أجل ضمان توسع موجة التطبيع، وتحقيق شروط السلام الأمريكية في المنطقة، لكن كما أسلفنا تظل السياسات الأمريكية الجديدة المتعلقة بالانسحاب من المنطقة، وتوجهاتها لحل القضية الفلسطينية، من التحديات التي قد تتم مقاربتها.
الحل الشكلي للقضية الفلسطينية قد يقبل به الكيان الإسرائيلي، في حال ضمن نتائج جيدة لذلك، ومما يؤكد ذلك وثيقة التوصيات المشتركة التي قدمها مركز “الأمن القومي الإسرائيلي” و”مركز الإمارات للسياسات” لإدارة الرئيس الأمريكي جون بايدن بشأن التعامل مع المنطقة، حيث دعت الوثيقة إلى حل مؤقت للقضية الفلسطينية، بحيث يضمن الحفاظ على أمن إسرائيل وتوسيع التحالف معها، وهذا ما يعزز إمكانية الحلول الشكلية كوسيلة للتقدم في ملف التطبيع.
ويظهر مما سبق أن أي خطوة تطبيع جديدة لن تستفيد منها الأنظمة العربية المطبعة، بقدر ما تعود بالفائدة على الكيان الإسرائيلي أولاً، الذي يسعى بكل قوة للهيمنة السياسية والأمنية والاقتصادية على المنطقة، إضافة إلى أن ذلك سيعطي مبرراً للتدخلات الإيرانية التي تزعم من خلالها مقاومة تطلعات الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وربما يظل الخيار الأنسب للدول العربية هو تنمية الجهود الذاتية، وإعادة بناء المركزية العربية، وتأسيس التحالفات الجديدة مع الدول الإسلامية ذات العمق الحضاري والجيوسياسي والعسكري.
خاتمة
التطبيع بمفهومه السياسي يختلف من حالة إلى أخرى بحسب طبيعة الدولة أولاً، ثم طبيعة الصراع القائم، إضافة إلى ذلك تؤثر المواقف السياسية من عملية التطبيع في المفهوم نفسه، ولكن المفهوم الرائج للتطبيع في عالمنا العربي هو تطبيع العلاقة مع الكيان الإسرائيلي، من خلال توقيع اتفاقيات سلام علنية تضمن تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية للتطبيع.
تشترط أغلب الدول العربية تحقيق السلام مقدمةً للتطبيع، وتتمسك بالمبادرة العربية شرطاً للتطبيع، ولكن الكيان الإسرائيلي يرفضها، ولهذا فإن التطبيع الفردي من بعض الدول العربية والخليجية خرق للاتفاق العربي، ويحقق التطلعات “الإسرائيلية” في تحقيق اختراق جديد بعيداً عن القضية الفلسطينية يضمن للإسرائيليين فرض الأهداف التي يطمحون إليها في فلسطين أو غيرها بعيداً عن التضامن العربي المشترك.
التطبيع تفريط بآخر ورقة من أوراق مقاومة الاحتلال، وقد انتقل التطبيع في موجته الثالثة من الواقعية المفروضة إلى الرضا الكامل والتبعية المتطرفة لتطلعات الكيان الإسرائيلي، فالتطبيع في منظور الإسرائيليين هو إخضاعُ الدول العربية لهم واستسلامُها أمام سياستهم، والتحالفُ العربي مع الكيان الإسرائيلي في مواجهة أي خطر يهدده، وتجاهلُ كل الجرائم المرتكبة بحق العرب والفلسطينيين، ولا يقتصر ذلك على الحكومات بل يتعداها إلى الشعوب العربية؛ من خلال فتح قنوات تواصل مع المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية المختلفة، وإعادة تشكيل الوعي العربي وتغيير مقوماته الثقافية، وهذه الحالة من الاختراق يُراد لها أن تتجاوز مفهوم التطبيع الذي دأبت عليه الأنظمة المطبعة مسبقاً، إلى التحالف الاستراتيجي.
تخلّي بعض الأنظمة عن واجباتها العربية يحتم على الشعوب العربية عموماً والمثقف العربي خصوصاً مضاعفة الجهود للتعريف بخطورة هذه الإجراءات، وإطلاق المبادرات والمؤسسات والهيئات الشعبية المناهضة للتطبيع، وإذا أجاز رجل السياسة لنفسه التطبيع، فإن الشعوب العربية يُفترض أن تكون أكثر وعياً وإدراكاً لأبعاد ذلك، ففي تنازلهم تغييب للذاكرة الوطنية والتاريخ الحضاري والهوية القومية، وهذا ما سعى الكيان الإسرائيلي لتمريره في المجتمع المصري والأردني سابقاً، لكن الشعبين كانا أكثر وعياً بذلك. وهو يحاول من خلال الموجة الثالثة للتطبيع فرضه على المجتمعات العربية، مستفيداً من الحالة الإماراتية المتماهية مع تطلعات الكيان الإسرائيلي، والمغيبة للانعكاسات والمآلات المترتبة على ذلك.
يبدو أن حظوظ التطبيع حالياً أقل مما كانت عليه سابقاً، ومع هذا من المتوقع عودة حالة التطبيع مجدداً، لكن هذه المرة قد تتدخل الإدارة الأمريكية بوضع حلول للقضية الفلسطينية، ولو شكلية، تضمن من خلالها مزايدة الأنظمة على شعوبها، والخروج من حالة الإحراجِ الشعبي التي تسبب بها الاعتداء الأخير على غزة، ومقاربة التحفظات العربية نحو القضية الفلسطينية.
المراجع
1- إسماعيل نعمان تلجي، التطبيع الإسرائيلي الإماراتي وتعاونهما الاستراتيجي في مجالي الملاحة البحرية والطيران، مركز الجزيرة للدراسات، قطر، 2020.
2- إلينا ديلوجر، اتفاق التطبيع يُقسّم دول الخليج للوقت الراهن،معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، (18/8/2020)، تاريخ الاطلاع: 15/3/2021، https://cutt.us/e7XRN.
3- بنيامين نتنياهو، صفحة تويتر الرسمية باللغة العربية، 21/12/2017، تاريخ الاطلاع: 5/6/2021، https://cutt.us/iaunc.
4- بي بي سي، إسرائيل تؤكد زيارة مسؤول سعودي سابق ولقاء مسؤولين إسرائيليين، (24/7/2016)، تاريخ الاطلاع: 2/11/2021، https://cutt.us/XEteP.
5- بي بي سي، مداخلة الناشطة السعودية مع قناة إسرائيلية تثير تساؤلات حول الظهور المتكرر على قنوات إسرائيلية،(10/7/2020)، تاريخ الاطلاع: 2/11/2021، https://cutt.us/JTZUu.
6- جمال حمدان، اليهود أنثروبولوجياً، دار الهلال، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996.
7- الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع، بيان صحفي للجمعية، تويتر، (17/6/20221)، تاريخ الاطلاع: 2/11/2021، https://cutt.us/934cA.
8- حسن البراري، اتفاق أبراهام: علاقة إسرائيل والإمارات الوطيدة وأثرها على الأردن، مؤسسة فريدريش ايريت، الأردن، 2020.
9- حسن نافعة، مصر والصراع العربي الإسرائيلي..من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1986.
10- دي دبليو، بعد احتضان إسرائيل... إقبال متزايد على العبرية في الخليج، شبكة الدي دبليو الألمانية، (11/3/2021)، تاريخ الاطلاع: 6/6/2021، https://cutt.us/BYcnJ.
11- سعيد يقين داود، التطبيع بين المفهوم والممارسة، رسالة ماجستير، جامعة بيرزيت، كلية الدراسات العليا، برنامج الدراسات العربية المعاصرة، فلسطين، 2002.
12- شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة محمد حلمي عبد الحافظ، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، 1994.
13- عبد الله عبد المحسن السلطان، البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي التنافس بين استراتيجيتين، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، الطبعة الثالثة، 1988.
14- عبد الوهاب المسيري، الأيديولوجية الصهيونية: دراسة في علم اجتماع المعرفة، عالم المعرفة، الكويت، الطبعة الأولى، 1982.
15- عدنان السيد حسين، التوسع في الاستراتيجية الصهيونية، دار النفائس، لبنان، الطبعة الأولى، 1989.
16- عربي بوست، مصر في مرمى التطبيع الخليجي، (21/10/2020)،تاريخ الاطلاع: 10/4/2021، https://cutt.us/0btsw.
17- علي محمد فخرو، التطبيع والمطبوع والمواجهة، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد (478)، 2018.
18- عماد الدين العشماوي، استراتيجية الكيان الصهيوني في التطبيع مع الدول العربية كيف نفهمها ونقاومها،مجلة مداد الأدب، الجامعة العراقية، كلية الآداب، 2019، عدد خاص بالمؤتمرات.
19- عمر رحمان، ماذا وراء العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربية، مركز بروكينجز، الدوحة، (28/1/2019)، تاريخ الاطلاع: 24/3/2021، https://cutt.us/X3ImX.
20- فرانس 24، وزير الخارجية السعودي تطبيع محتمل مع إسرائيل، (3/4/2021)، تاريخ الاطلاع: 2/11/2021، https://cutt.us/9W29r.
21- كلايف جونز وويل جوزانسكي، الإخوة الأعداء: إسرائيل وممالك الخليج، تلخيص مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، لبنان، 2019.
22- محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، الطبعة الأولى، 2012.
23- محمد أبو رزق، التطبيع الديني الوجه الآخر لاتفاق البحرين والإمارات مع “إسرائيل“،الخليج أونلاين، (16/9/2020)، تاريخ الاطلاع: 25/3/2021، https://cutt.us/dPoC9.
24- محمد أحمد شعيب، التطبيع مع إسرائيل وأثره على المنطقة العربية، مجلة العلوم الاقتصادية والسياسية، الجامعة الأسمرية، العدد السابع، 2016.
25- محمد آل خاجة، زيارة رئيس مجلس حكماء التوراة، إسرائيل بالعربية، (5/6/2021)، تاريخ الاطلاع: 7/6/2021، https://cutt.us/6o4mc.
26- محمد حسن وتد، التطبيع مع الإمارات..رافعة لاقتصاد إسرائيل وأخطبوط تجاري لها بالخليج، الجزيرة نت، (29/8/2020)، تاريخ الاطلاع: 20/3/2021، https://cutt.us/QCdfZ.
27- محمد خليفة حسن، الحركة الصهيونية..طبيعتها وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1981.
28- محمد خليفة حسن، محاضرة بعنوان: دعاوى الصهيونية بالحق التاريخي والديني في القدس: عرض ونقد،مركز ابن خلدون، قطر، (20/5/2021)، تاريخ الاطلاع 5/6/2021، https://cutt.us/4FNZE.
29- محمد عبد الهادي، نظرات وعبرات: المُطبّعون الجدد: (١) الخبرات المُرَّة، الجزيرة نت، (9/3/2021)، تاريخ الاطلاع: 20/3/2021، https://cutt.us/ZkT1M.
30- مركز الجزيرة للدراسات، مرحلة جديدة من التطبيع العربي الإسرائيلي وآفاقه، (26/9/2018)، تاريخ الاطلاع: 15/3/2021، https://cutt.us/W33iq.
31- معن بشور، السلام والتطبيع الثقافي، مجلة المستقبل العربي، المجموعة (19)،العدد (209)، 1996.
32- نص اتفاقية كامب ديفيد 1978، الوثيقة الأولى، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، (15/3/2021)، https://cutt.us/CYDG4.
33- هاني فهاد الكعيبر، الفكر السياسي الصهيوني وأثره على الصراع العربي الإسرائيلي في مرحلة السلام، رسالة ماجستير، جامعة الشرق الأوسط، كلية الآداب، قسم العلوم السياسية، 2013.
34- وحدة الدراسات السياسية بالمركز العربي، التطبيع العربي مع إسرائيل مظاهره ودوافعه، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 2020.
35- يوسف حمود، ما خطورة التطبيع الثقافي بين الإمارات وإسرائيل، الخليج أونلاين، (22/9/2020)، تاريخ الاطلاع: 25/3/2021، https://cutt.us/QWxrw.
.
رابط المصدر: