أثيرت موجة من الغضب الشديد في الداخل الإسرائيلي عقب عثور الجيش الإسرائيلي على جثثٍ لستة محتجزين إسرائيليين في نفق بمدينة رفح جنوب قطاع غزة يوم 1 سبتمبر 2024، والذي تلاه إعلان المتحدث باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” يوم 2 سبتمبر عن صدور تعليمات جديدة للعناصر المكلفة بحراسة الأسرى تتعلق بكيفية التعامل معهم في حال اقتراب جيش الاحتلال من أماكن احتجازهم، وأيضًا تشديده في البيان على أن إصرار “نتنياهو” على استخدام الضغط العسكري لتحرير الأسرى بدلًا من عقد صفقة سيؤدي في النهاية إلى عودتهم في توابيت.
وقد دخل على خط حالة الغضب هذه في الداخل الإسرائيلي، بالإضافة إلى عائلات المحتجزين الذين يتظاهرون منذ شهور رفضًا لتوجهات الحكومة الإسرائيلية في التعامل مع ملف استعادة المحتجزين والوصول إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، طرف جديد يتمثل في اتحاد النقابات العمالية “الهستدروت” والذي نظم إضرابًا عامًا يوم 2 سبتمبر شلَّ قطاع الأعمال والخدمات في إسرائيل، قبل أن تتدخل محكمة العمل وتأمر بإنهاء الإضراب بعدما قبلت موقف الحكومة لوقفه باعتباره إضرابًا سياسيًا وليس نزاعًا عماليًا. وهو ما يتطلب الإجابة على تساؤل؛ هل تؤثر الضغوط الداخلية الحالية بعد العثور على جثث المحتجزين الإسرائيليين الستة في رفح وتلويح حركة حماس بإعادة البقية في توابيت في موقف نتنياهو تجاه اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين؟
دلالات متعددة
تكشف هذه التطورات الأخيرة في الداخل الإسرائيلي، جراء ما يمكن وصفه بفقدان الأمل في استعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس أحياء بسبب التعنت الحكومي في التفاوض، عن مجموعة من الدلالات المهمة، ومنها ما يلي:
تطور الموقف الشعبي الإسرائيلي: أكدت حادثة العثور على جثث المحتجزين الإسرائيليين الستة وتصريحات “أبو عبيدة” المتحدث باسم كتائب القسام على فشل حكومة نتنياهو في التوصل إلى صفقة تبادل أسرى؛ مما زاد من غضب الداخل الإسرائيلي وأدى إلى احتجاجات واسعة النطاق. كما أسهمت تصريحات حركة حماس، التي حملت نتنياهو المسئولية كاملة، في تعميق القلق الشعبي؛ مما أسفر عن مظاهرات غير مسبوقة وإضرابات شملت العديد من القطاعات. ووضع هذا الغضب الجماهيري والضغط الشعبي المكثف نتنياهو في موقف حرج؛ حيث مثل ضغطًا عليه من أجل اتخاذ خطوات عاجلة لتلبية مطالب الشعب دون المساس بتحالفاته السياسية مع الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تشكل العمود الفقري لحكومته.
ولذلك يمكن القول إنه قد زادت القناعة في أوساط الرأي العام الإسرائيلي بأن مقتل المحتجزين يعد نتيجة مباشرة لقرارات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي أوقف صفقات تبادل الأسرى المقترحة وأصر على بقاء الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا؛ مما دفع الداخل الإسرائيلي للتشكيك في دوافعه السياسية. من ناحية أخرى اتسع نطاق الاحتجاجات الشعبية بأعداد أكبر وأكثر تأثيرًا، حيث نزل الإسرائيليون إلى الشوارع مطالبين بصفقة لتبادل الأسرى عاجلة، تزامنًا مع انضمام اتحاد نقابات العمال العامة “الهستدروت” للإضراب احتجاجًا على مقتل الأسرى، وهي تطورات غير مسبوقة على المستوى الداخلي الإسرائيلي.
بروز دور “الهستدروت” كمعارض لنتنياهو: لا شك أن دخول اتحاد النقابات العمالية “الهستدروت” إلى ساحة الاحتجاجات بعد فترة طويلة من المراقبة عزز بشكل كبير من قوة المعارضة لنتنياهو. وعلى الرغم من أن إضرابًا ليوم واحد غير مكتمل قد يكون أقل تأثيرًا اقتصاديًا مقارنة بإضراب ممتد، فإن القلق كان واضحًا في تعابير نتنياهو وفي محتوى خطابه؛ لأنه يدرك أن هذا الإضراب قد يمثل بداية لتسارع الأزمات بشكل متزايد. لكن على الرغم من أن الإضراب قد يمثل بداية لضغط شعبي متزايد، فإنه بمفرده لا يكفي لتغيير القرار السياسي، خاصة في ظل تعنت نتنياهو والمواقف الأيديولوجية الصارمة لحلفائه من اليمين المتشدد، ولتحقيق تأثير فعّال يتطلب الأمر إضافة أدوات أخرى وتكتيكات متعددة بجانب الإضرابات لزيادة الضغط على الحكومة.
استمرار رهان نتنياهو على الضغط العسكري: يراهن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ عملية “طوفان الأقصى” على الحل العسكري في التعامل مع قضية المحتجزين لدى حركة حماس، معتبرًا ذلك وسيلة لتعزيز قوة الردع والضغط على حماس، وذلك على الرغم من الضغوط الشعبية المطالبة بحلول تفاوضية. ويأتي هذا التعويل على الحل العسكري استنادًا إلى دوافع نتنياهو السياسية الشخصية التي تعزز من مكانته وموقفه بين قاعدته اليمينية المتطرفة، بما في ذلك وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش اللذين يفضلان التصعيد العسكري وتعزيز الأهداف السياسية الخاصة بهم، وأن أي تنازل في المفاوضات قد يُعتبر ضعفًا أو فشلًا في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. وقد يشير إعلان المتحدث باسم كتائب القسام تحديث تعليمات التعامل مع المحتجزين حال اقتراب جيش الاحتلال منهم إلى احتمالية تكرار واقعة العثور على جثث المحتجزين الستة في رفح.
تداعيات محتملة
زيادة الضغط الشعبي على حكومة نتنياهو: يمكن أن يتطور الضغط الشعبي على نتنياهو بطرق عدة، لكن تقدير مدى تأثيره وكيفية استجابته يتوقف على مجموعة من العوامل منها؛ أولًا: الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الإضرابات، فعلى الرغم من أنه استمر لأقل من يوم واحد فمن المتوقع أن تكون هناك أشكال متعددة منه مستقبًلا مع تأثيرات اقتصادية أوسع. ثانيًا: موقف المعارضة السياسي استنادًا إلى الغضب الشعبي، ثالثًا: الضغوط الدولية والتي بدورها ستؤثر في نتنياهو من أجل إعادة النظر في سياساته، خصوصًا مع تزامن الضغط الشعبي مع دعوات من المجتمع الدولي للتوصل إلى تسوية سلمية. وعمومًا قد يؤدي الضغط الشعبي إلى تغييرات في السياسات أو حتى إلى أزمة سياسية أكبر إذا استمر في التصاعد. ومع ذلك، يعتمد مستوى التغيير الذي يمكن أن يحدث على استجابة نتنياهو وقدرته على الموازنة بين الضغوط الداخلية واعتباراته السياسية الخاصة.
تعزيز الخلافات الداخلية في الحكومة: يتبنى المكون السياسي في الحكومة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبعض وزراء اليمين المتطرف موقفًا يتمحور حول التمسك بالحل العسكري وعدم تقديم تنازلات في مفاوضات تبادل الأسرى. على الجانب الآخر، يظهر المكون الأمني في الحكومة، بقيادة وزير الدفاع يوآف جالانت، مواقف أكثر ميلًا إلى الحلول التفاوضية. حيث يعبر غالانت عن ضرورة التوصل إلى صفقة تبادل أسرى بشكل سريع، ويشدد على أن الحلول العسكرية قد لا تؤدي إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل. ويعكس هذا الخلاف التباين في الأولويات بين السياسيين والأمنيين داخل الحكومة، ويظهر موقف غالانت بعد العثور على جثث المحتجزين الستة اختلافًا كبيرًا مع سياسة التصعيد العسكرية المتبعة من قبل رئيس الحكومة نتنياهو؛ مما يعني أن التطورات الأخيرة قد تؤدي إلى تأجيج وتوسع الفجوة بين المكونين.
مصير غامض للاتفاق: على الرغم من الضغوط الشعبية الحالية، وأيضًا تصاعد التوترات على المستوى السياسي والمستوى الأمني، فإنه من غير المرجح أن يتجه نتنياهو في الوقت الحالي إلى إبرام اتفاقية لتبادل الأسرى، حيث وكما سبق الإشارة، يميل نتنياهو وحكومته إلى التصعيد العسكري دون الحل التفاوضي مع حماس، ويمكن استنباط هذه النتيجة من خلال مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ بداية الحرب على قطاع غزة وعلى مدار أحد عشر شهرًا، والتي اتسمت دائمًا بالميل لآراء وزراء حكومته اليمنيين الذين يرفضون التفاوض مع حماس. وبالتالي يبقى مصير الصفقة معلقًا على الأقل في ظل المعطيات الحالية والموقف الحالي لنتنياهو.
خلاصة القول، لا يبدو أن الضغوطات الداخلية الحالية بعد استعادة جثث الأسرى الإسرائيليين في رفح ستؤثر بشكل فعّال في موقف بنيامين نتنياهو تجاه صفقة تبادل المحتجزين ووقف إطلاق النار. وعلى الرغم من الاندفاع الشعبي الغاضب والإضراب الذي شل العديد من القطاعات، يظل نتنياهو مصممًا على اتباع استراتيجيته العسكرية بدلًا من الانخراط في مفاوضات جادة مع حركة حماس. وتعكس التطورات السريعة للموقف الشعبي، بما في ذلك المظاهرات غير المسبوقة والإضرابات الواسعة، استياءً عميقًا شعبيًا وسياسيًا من كيفية إدارة نتنياهو لملف إعادة المحتجزين منذ السابع من أكتوبر، لكن يظل نتنياهو مدفوعًا بدعمه من القوى اليمينية التي تشدد على التصعيد العسكري. وبينما تبرز دعوات بعض أعضاء الحكومة، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت، لإيجاد تسوية تفاوضية، يبقى التباين بين المكونين السياسي والأمني داخل الحكومة دليلًا على استمرار الفجوة في المواقف. نتيجة لذلك، فإن الضغوطات الداخلية، رغم كونها قوية وغير مسبوقة، لا تزال غير كافية لتغيير موقف نتنياهو في الوقت الراهن؛ مما يجعل مصير اتفاق وقف إطلاق النار غير محدد بوضوح.