رغم محدودية الأضرار المادية والبشرية الناجمة عن تعرض الأراضي الإماراتية لهجومين متتاليين باستخدام الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية، نفذتهما ميليشيا الحوثي انطلاقًا من الأراضي اليمنية، إلا أن الآثار التي ترتبت على هذا التصعيد، كانت متعددة الاتجاهات، ولا تتعلق فقط بالمسارات المقبلة للأزمة اليمينة، بل تمس أيضًا منظومة الأمن القومي لمنطقة الخليج، وتطرح بقوة مسألة تطوير أسلحة الدفاع الجوي لدى الدول الخليجية، لمواكبة التهديدات المتزايدة على أراضيها، وكذا مسألة تفعيل التعاون العسكري بين هذه الدول، لتحقيق التكامل فيما بينها ضمن شبكة دفاع جوي “موحدة”.
حقيقة الأمر أن هذه المسائل كانت مطروحة بشكل أو بآخر على المستوى الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة، فقد هوجمت المملكة العربية السعودية عشرات المرات انطلاقًا من الأراضي اليمنية، بتشكيلة مختلفة من الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية والجوالة، ولكن وصول الهجمات إلى الأراضي الإماراتية جعل وطأة تأثيرات هذه الهجمات تمتد على مساحات شاسعة، بعد أن كانت بشكل شبه كلي متركزة على الحد الجنوبي السعودي، مع هجمات نادرة من حين لآخر على المناطق الوسطى من المملكة.
بهذا باتت الهجمات الحوثية تستهدف منظومة الأمن القومي الخليجي بصفة عامة. وقبل أن نتناول الخيارات المتاحة أمام أبو ظبي للتعامل مع هذا الوضع، لابد أولًا من فهم ماذا حدث يومي السابع عشر والرابع والعشرين من الشهر الجاري.
هجومين متزامنين على الإمارات والمملكة
خلال الأعوام السابقة، أعلن الحوثيون مرارًا أنهم قاموا بتنفيذ ضربات صاروخية استهدفت الأراضي الإماراتية؛ ففي ديسمبر 2017 أعلنوا عن استهداف مفاعل “براكة” النووي في أبو ظبي بصاروخ باليستي، ثم أعلنوا في يوليو 2018 عن استهداف مطار أبو ظبي بطائرات بدون طيار، وتلا ذلك الإعلان مرتين متتاليتين خلال الشهرين التاليين عن استهداف مطار دبي، وكذا الإعلان عن استهداف مطار أبو ظبي في مايو 2019. في كافة هذه المناسبات، لم تتوافر دلائل واضحة على حدوث هذه الهجمات من عدمها، ونفت دولة الإمارات على المستوى الرسمي حدوث أي من هذه الهجمات.
فيما يتعلق بهجمات هذا الشهر، كان هجوم يوم السابع عشر هو الأهم، فقد أصيبت منطقتان من مناطق أبو ظبي بشكل مباشر، المنطقة الأولى هي منطقة خزانات النفط الموجودة في قطاع “آيكاد 3” في منطقة “المصفح” بالقرب من مجمع لخزانات شركة “أدنوك” للخدمات البترولية، وتقع هذه المنطقة في القسم الجنوبي الغربي من مدينة أبو ظبي. أما الانفجار الثاني فكان في منطقة تحت الإنشاء في مطار أبو ظبي الدولي، في القسم الشرقي من المدينة.
أدت الهجمات إلى تدمير ثلاثة خزانات للنفط، ومقتل ثلاثة أشخاص أحدهما باكستاني واثنين من الهنود، مع إصابة 6 آخرين لم تُعلن جنسياتهم. أما الهجوم الثاني الذي تم في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، فأعلنت السلطات الإماراتية أنه تم إحباطه.
الحوثيون من جانبهم، قالوا إنهم استهدفوا في الهجوم الأول مطاري دبي وأبو ظبي، بجانب ما أسموه “مصفاة النفط” في منطقة المصفح في أبو ظبي، أما في الهجوم الثاني فلم يتم تحديد المناطق التي تم استهدافها بشكل محدد، بل قال المتحدث العسكري باسم الحوثيين إنه تم استهداف مدينتي أبو ظبي ودبي.
جدير بالذكر هنا أن كلا الهجومين تما بالتزامن مع هجومين آخرين على الحد الجنوبي السعودي، فقد قال الحوثيون إنهم في الهجوم الأول استهدفوا وزارة الدفاع السعودية ومطار الملك خالد وقاعدة الملك فهد الجوية بالطائف وشركة أرامكو بجدة وأهداف أخرى في مدن الرياض وأبها وجيزان ونجران، وفي الهجوم الثاني استهدفوا مناطق في جيزان وعسير، لكن ما يتوفر من معلومات يشير إلى أن الاستهداف في كلا الهجومين تركز على المنطقة الجنوبية السعودية فقط.
فيما يتعلق بالقدرات التسليحية المستخدمة في كلا الهجومين، استخدم الحوثيون كافة الوسائط بعيدة المدى المتوفرة لديهم، فاستخدموا في قصف أبو ظبي صواريخ “ذو الفقار” الباليستية، وصواريخ “قدس-2” الجوالة، بجانب الذخائر الجوالة “صماد-3”. في حين تم استهداف الأراضي السعودية بأعداد غير محددة من صواريخ “ذو الفقار” والذخائر الجوالة من أنواع “صماد-1″ و”صماد-2″ و”صماد-3″ و”قاصف – تو كيه”.
جدير بالذكر هنا أنه تم في الهجوم الأول اعتراض صاروخ “ذو الفقار” الباليستي من جانب إحدى بطاريات منظومة الدفاع الجوي بعيد المدى “ثاد” المتمركزة في قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، بجانب اعتراض ثماني ذخائر جوالة من جانب الدفاعات الجوية السعودية، في حين تم في الهجوم الثاني اعتراض صاروخين “ذو الفقار” من جانب بطاريات “باتريوت” الإماراتية، بجانب اعتراض عدد غير محدد من المقذوفات في جنوب السعودية.
القدرات التسليحية المستخدمة في هجمات أبو ظبي والحد الجنوبي السعودي
اللافت في معظم هذه القدرات التسليحية السالف ذكرها، أن الإعلان الأول عن استخدامها في الميدان اليمني، جاء مقترنًا مع الادعاءات السابقة من جانب الحوثيين باستهداف الأراضي الإماراتية، فمثلًا كان الظهور الأول للذخائر الجوالة “صماد-3″، مقترنًا بالإعلان في مايو 2019 عن قصف مطار أبو ظبي.
تعد هذه الذخائر الجوالة من أهم التقنيات التي عملت طهران على تزويد الحوثيين بها خلال السنوات الأخيرة، وتعد بمثابة “طائرة انتحارية بدون طيار”، تتميز بمدى هو الأكبر ضمن التقنيات المسيرة الموجودة في حوزة الحوثيين، يتراوح بين 1400 و1800 كيلو متر. لكن هذا المدى الكبير أثر بشكل واضح على الشحنة المتفجرة التي تحملها هذه الطائرة؛ إذ تشير التقديرات المتاحة إلى أن زنتها تتراوح بين 50 الى 70 كيلو جرامًا فقط، وبالتالي لا تكمن الفاعلية التكتيكية لهذه الذخائر في قدرتها التدميرية، بل تكمن في استخدامها بأعداد كبيرة لمهاجمة أهداف محددة، ما يقلص من فرص إسقاطها من جانب وسائط الدفاع الجوي، نظرًا لصغر مقطعها الراداري، حيث يبلغ طولها الكلي 3 متر، وباع جناحيها خمسة أمتار، وقطرها 24 سنتيمتر فقط.
النوع الرئيسي الثاني من أنواع الأسلحة التي تم استخدامها في هذه الهجمات هو الصاروخ الباليستي قصير المدى “ذو الفقار”، وهو اسم بدأ الحوثيون في استخدامه أواخر العام الماضي، للإشارة إلى صياروخ “بركان-3″، وهو أحدث صاروخ في سلسلة صواريخ “بركان” الباليستية، التي تعد نسخة من صواريخ “قيام” الباليستية الإيرانية، المعتمدة بدورها على تصاميم النسخة الكورية الشمالية من صواريخ “سكود-سي” السوفيتية، والتي تعرف باسم “هواسونج-6”.
الظهور الأول لصواريخ “ذو الفقار/ بركان3” العاملة بالوقود السائل، كان في أغسطس 2019، حين أعلن الحوثيون عن استهدافهم مدينة الدمام السعودية بصاروخ من هذا النوع، الذي يعد فعليًا الصاروخ الباليستي الأبعد مدى في حوزتهم، حيث يتراوح مداه بين 1400 و1600 كيلومتر، ويتم توجيهه بالقصور الذاتي، علمًا بأن التصميمات الأساسية لصواريخ “قائم” تعتمد على مدى أقصى يصل إلى 800 كيلو متر فقط، وهو ما قد يشير إلى تخفيض في زنة الرأس المتفجر لصواريخ “ذو الفقار”، للسماح بالوصول إلى مدى أكبر.
لا يعرف بشكل يقيني سبب تغيير اسم صواريخ “بركان-3” إلى “ذو الفقار، لكن تجدر الإشارة إلى أن طهران تمتلك صواريخ باليستية تحمل نفس الاسم، تم الإعلان عنها عام 2016، وهي إحدى نسخ صواريخ “فاتح-110″، ويصل مداها الأقصى إلى 800 كيلو متر فقط، وتعمل بالوقود الصلب.
النوع الثالث من أنواع الأسلحة التي تم استخدامها في الهجوم على أبو ظبي، كان الصواريخ الجوالة “قدس-2″، التي تم الإعلان عنها للمرة الأولى في نوفمبر 2020، خلال عملية استهداف محطة تابعة لشركة “أرامكو” النفطية السعودية في مدينة جدة. هذا النوع من الصواريخ الجوالة يعود أساسه إلى صواريخ “سومار” الإيرانية، المشتقة بدورها من صواريخ “كيه إتش-55” السوفيتية.
النسخة الإيرانية تم فيها تعديل أسلوب الملاحة، ليصبح معززًا بالتوجيه بالأقمار الصناعية لتحديد المواقع التي يتم استهدافها، وقد ظهرت النسخة الإيرانية في اليمن أواخر عام 2017، حين أعلن الحوثيون عن استخدام صاروخ جوال يسمى “قدس-1″، لاستهداف مفاعل “براكة” النووي في مدينة أبو ظبي. وتم استخدام هذا الصاروخ كذلك في استهداف محطتي الكهرباء وتحلية المياه في الشقيق جنوب غربي المملكة العربية السعودية. تشير التقديرات المتوفرة إلى أن مدى صواريخ “قدس1-2″يتراوح بين 1500 و1800 كيلو متر.
يضاف إلى ما سبق، أنواع أخرى من الوسائط تم استخدامها لقصف المناطق الجنوبية في المملكة العربية السعودية، بالتزامن مع هجومي أبو ظبي، حيث استخدم الحوثيون طائرات بدون طيار من نوع “صماد-1″، لمراقبة نتائج الضربات الصاروخية، ويصل مداها الأقصى إلى 500 كيلو متر. بجانب هذه الطائرة أستخدم الحوثيون الذخائر الجوالة “صماد-2” و”قاصف -تو كيه”، وهذه الأخيرة ظهرت للمرة الأولى في يناير 2019، خلال ضربة تعرضت لها قاعدة “العند” الجوية جنوبي اليمن، وتتسم هذه الذخيرة بأنها تنفجر فوق الهدف بمسافة تتراوح بين 10 إلى 20 متر، ولا تصطدم به بشكل مباشر، بهدف توسيع قوس الموجة التدميرية.
السياقات العسكرية الضربات الصاروخية على أبو ظبي
طبيعة الأهداف التي تم استهدافها في أبو ظبي كانت لافتة، وهنا نتحدث بشكل خاص على الهجوم الأول في السابع عشر من الشهر الجاري، فمطار أبو ظبي يعد هدفًا مدنيًا حيويًا بالنسبة للإمارات، مع ملاحظة أن الذخائر الجوالة التي وصلت إلى أجواء أبو ظبي استهدفت منطقة جارٍ إنشاءها في حرم المطار، وليس مدارج المطار ومبانيه، وهذا في ما يبدو كان متعمدًا من جانب مخططي الضربة، لتحقيق هدف أساسي وهو التأثير على حركة الملاحة الجوية من ناحية، ومن ناحية أخرى تجنب ردة فعل دولية أكبر في حالة تحقيق إصابات مباشرة في مباني المطار أو مدارجه.
أما منطقة المصفق الصناعية، فيحمل استهدافها بهذه الدقة ملامح تتعلق برغبة الحوثيين في استهداف المرفق الصناعي الإماراتي، وليس فقط المرافق النفطية أو المطارات كما كان الحال عليه في الاستهدافات السابقة للمملكة العربية السعودية، علمًا بأنه سبق وقام الحوثيون باستهداف مرافق اقتصادية سعودية، مثل مباني شركة “أرامكو” النفطية، وكذلك محطتي الكهرباء وتحلية المياه في الشقيق جنوب غرب المملكة عام 2019، في سياق تصعيد سابق لهم.
يضاف إلى ذلك أن منطقة المصفق الصناعية -التي تنقسم إلى خمسة قطاعات- تعج بالعمالة الأجنبية والمصانع التابعة لشركات غربية، وهو ما يخدم هدفًا مهمًا من أهداف هذا الهجوم وهو تهديد مكانة الإمارات الاقتصادية، ودفع المجتمع الغربي إلى التخوف من الأوضاع المقبلة في البلاد، خاصة وأن البيانات والتصريحات المتتالية للحوثيين منذ ذلك الهجوم، تركز بشكل واضح على الجانب الاقتصادي للإمارات، والاستثمارات الأجنبية فيها.
على الجانب الاستراتيجي، يمكن القول إن الهجوم على أبو ظبي يستهدف استدراك العودة الإماراتية إلى الجبهات اليمنية، خاصة جبهة شبوة التي ضخت فيها الأمارات بوحدات جيدة التسليح تابعة لألوية “العمالقةضمن عملية “اليمن السعيد” العسكرية، التي تشمل أيضًا مجهود جوي مكثف في محافظة البيضاء، ما أثر بشكل أساسي على الوضع الميداني في مأرب المجاورة، التي بدأ موقف الحوثيين فيها في التحول بعد فترة من التقدم والنجاح.
لذا بدأ الحوثيون في توجيه الضغط بشكل أكبر نحو الإمارات، بداية من السيطرة على سفينة “روابي” التي كانت تحمل إمدادات عسكرية لصالح القوات الإماراتية، مرورًا باستهداف طائرة شحن إماراتية أثناء توجهها لمطار “عتق” ضمن الإمدادات الإماراتية لقوات العمالقة، وصولًا إلى الهجمات الصاروخية الأخيرة ضد مدينة أبو ظبي.
جدير بالذكر أن سلسلة من التهديدات الموجهة إلى الإمارات قد تدفقت على الحسابات الإعلامية والصحفية التابعة لإيران والفصائل الموالية لها في العراق خلال الأيام القليلة التي سبقت الهجمات على أبو ظبي، من بينها رسالة تحريضية نشرها حساب “صابرين نيوز” على تطبيق “تيليجرام” في الثالث عشر من الشهر الجاري -وهو حساب إخباري مرتبط بالفصائل الشيعية في العراق- وكذلك صورة لهجوم افتراضي على برج خليفة، نشرها حساب تابع لما يسمى “ألوية الوعد الحق”، بجانب نشر وكالة فارس الإيرانية، كاريكاتير نشرته سابقًا صحيفة “الثورة: الموالية للحوثيين، يوحي بأن المرحلة المقبلة ستكون مخصصة لاستهداف الإمارات العربية المتحدة. هذا كله ترافق مع زيارة إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، ومسؤول ملف العراق بحزب الله اللبناني محمد كوثراني إلى العراق.
من أهداف هذه الهجمات أيضًا، ضرب منظومة الاستقرار الأمني الداخلية في الإمارات، والتي كانت بشكل عام في منأى من الهجمات الحوثية خلال الفترات الماضية، خاصة وأن هذه الهجمات تزامنت مع استحقاقات دولية مهمة تحتضنها الإمارات، مثل معرض “إكسبو” وأسبوع “أبو ظبي للاستدامة” و”قمة أبو ظبي لطاقة المستقبل”.
يضاف إلى ذلك محاولة تشويه صورة الردع العسكري الإماراتي، والإيحاء بأن الصفقات العسكرية المتتالية للإمارات والاتفاقات التي عقدتها مؤخرًا لم تفلح في تجنيبها الصواريخ الحوثية، وهنا تظهر بوضوح أهمية النظر إلى أداء الدفاعات الجوية الإماراتية والسعودية خلال هذه الهجمات، والمؤشرات الميدانية التي بدأت في الظهور تدريجيًا، وتطرح بقوة ضرورة العمل بشكل ثنائي بين كلا الدولتين، لإنجاز ما يشبه “شبكة دفاع جوي موحدة”.
الاعتراض الصاروخي.. ومسألة “الدفاع الجوي المشترك”
طرحت الهجمات الصاروخية على أبو ظبي، وقبلها الهجمات المستمرة على الأراضي السعودية منذ عام 2016، مسألة مدى نجاعة الدفاعات الجوية التي يمتلكها كلا البلدين. المملكة العربية السعودية من جانبها راكمت خلال السنوات الأخيرة خبرة جيدة في التعامل مع الصواريخ الباليستية والذخائر الجوالة المطلقة من الأراضي اليمنية، وطورت استراتيجية للتعامل مع هذه التهديدات، مستفيدة من الدروس المستفادة من بعض الهجمات التي استهدفت مدن العمق السعودي، مثل الدمام والرياض وينبع.
هذه الاستراتيجية تعتمد بشكل رئيس على التكامل بين بطاريات الدفاع الجوي من نوع “باتريوت” وبين مقاتلات سلاح الجو السعودي، خاصة مقاتلات “تايفون” و”إف-16″؛ بهدف الاستفادة من قدرات بطاريات “باتريوت” في اعتراض الصواريخ الباليستية والجوالة، وإعطاء المقاتلات مهمة التصدي للأهداف محدودة المقطع الراداري، التي يصعب على بطاريات الدفاع الجوي التصدي لها، مثل الطائرات بدون طيار والذخائر الجوالة.
بشكل عام تعتمد المملكة بشكل أساسي على بطاريات “باتريوت” كنظام أساسي للدفاع الجوي، حيث قامت عام 2014، بترقية هذه البطاريات إلى معيار “باك-3″، القادر على الاشتباك بشكل متزامن مع تسعة صواريخ باليستية، والذي يمتلك الرادار الملحق ببطارياته القدرة على رصد وتتبع ما يصل إلى 125 هدف، بمدى يصل إلى 150 كيلو متر. هنا لابد من ذكر أن المملكة حازت عام 2017 على منظومة “ثاد” للدفاع الجوي متوسط وبعيد المدى، لكن لم يكن لهذه المنظومة دور في عمليات الاعتراض الصاروخي خلال السنوات الأخيرة
هذه الاستراتيجية كانت لها نقائص مهمة ظهرت من خلال الخبرة الميدانية، منها مثلًا التكاليف الباهظة التي تتكبدها المملكة خلال عمليات الاعتراض، حيث يتم في المتوسط إطلاق صاروخي باتريوت نحو أي هدف معادٍ قادم من الأجواء اليمنية، علمًا بأن الصاروخ الواحد قد يصل سعره إلى أربعة ملايين دولار، وهي معضلة حاولت المملكة التقليل من تأثيراتها السلبية، عن طريق استخدام المقاتلات لمعاونة بطاريات الدفاع الجوي، لكن هذا أدى بالتبعية إلى تناقص مخزونات سلاح الجو السعودي من صواريخ الاشتباك الجوي متوسطة وقصيرة المدى.
التجربة الإماراتية في هذا الصدد كانت مرتكزة بشكل كبير على توفير الدفاع الجوي للوحدات القتالية التابعة للتحالف العربي داخل اليمن، والتي ظهرت أهمية الدفع بها بعد الضربة الصاروخية التي نفذها الحوثيون على معسكر “صافر” في سبتمبر 2015، وحينها دفعت القوات الإماراتية ببطاريات صواريخ “باتريوت” إلى داخل الأراضي اليمنية، وتحديدًا في محافظتي مأرب والمخا، ومحيط قاعدة العند الجوية، معززة بمنظومات الدفاع الجوي قصيرة المدى ذاتية الحركة “بانتسير”. وتشير التقديرات إلى أن هذه البطاريات ظلت في اليمن حتى منتصف عام 2019، وشهدت خلال هذه الفترة عدة محاولات لاستهداف راداراتها من جانب الحوثيين عبر الذخائر الجوالة.
تشير المعلومات المتاحة إلى أن استجابة وحدات الدفاع الجوي الإماراتي للهجومين الصاروخيين اللذين تما هذا الشهر على أبو ظبي كانت بشكل أساسي ضد الصواريخ الباليستية والجوالة، بواقع اعتراض صاروخ واحد في الضربة الأولى، واعتراض صاروخين في الضربة الثانية، يضاف إلى ذلك تمكن المقاتلات الإماراتية من تدمير منصة إطلاق صاروخي الضربة الثانية، والتي كنت متمركزة في محافظة الجوف الحدودية مع المملكة العربية السعودية.
بالنسبة للذخائر الجوالة لا تتوفر معلومات حول ما إذا تم اعتراض أي منها أم لا، لكن الأكيد أن بعضها تمكن من الوصول إلى أهدافه، خاصة في الضربة الأولى. في عملية الاعتراض الأولى، تم استخدام بطارية صواريخ “ثاد” المتمركزة في قاعدة الظفرة الجوية، علمًا بأن الإمارات تمتلك بطاريتين من هذه المنظومة، أما في عملية الاعتراض الثانية فتم استخدام بطارية صواريخ “باتريوت”، حيث تمتلك الإمارات تسعة بطاريات من هذا النوع.
إذًا، يمكن القول إن الذخائر الجوالة باتت تمثل التهديد الأساسي للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، خاصة في ظل فشل منظومات باتريوت في التعامل بشكل فعال معها، بالنظر إلى زاوية الرصد الخاصة برادارات هذه المنظومة، وهي 60 درجة فقط، ولهذا فشلت رادارات هذه المنظومة مثلًا في التعامل مع الصواريخ التي تم استخدامها في الهجوم على منشآت شركة أرامكو في بقيق وهجرة خريص شرقي مدينة الرياض في سبتمبر 2019.
لذا، اتضح من خلال التجارب الميدانية السابقة، أنه يتعين على كلا البلدين العمل على مسارين متوازيين لتحجيم التهديدات القائمة في هذا الصدد قدر الإمكان، في ظل سحب الولايات منتصف العام الماضي لدفاعاتها الجوية من المملكة العربية السعودية والكويت.
مساران للتعامل مع التهديدات الصاروخية المقبلة لمنطقة الخليج
السمة العاجلة للتهديدات القائمة حاليًا للأجواء الإماراتية والسعودية تطرح بقوة إمكانية تشكيل كلا الدولتين لمنظومة قيادة وسيطرة ورصد واشتباك مشتركة، تشترك فيها دفاعاتهما الجوية بجانب المقاتلات وطائرات الاستطلاع. هذه الفكرة بدأ بالفعل تطبيقها على المستوى الخليجي، حيث تم في شهر نوفمبر الماضي، افتتاح مقر القيادة العسكرية الموحدة لدول مجلس التعاون الخليجي، في العاصمة السعودية الرياض، وهو يشمل مركز قيادة لوحدات “درع الجزيرة”، بجانب مركز للقيادة البحرية المشتركة، وآخر للدفاع الجوي المشترك. وهذا الأخير يمكن، في حال تفعيله، أن يعمل على تنسيق التعاون بين قيادات الدفاع الجوي لدول المجلس، بحيث يتم تبادل المعلومات الرادارية حول التهديدات الجوية بشكل آني، وكذا تنسيق عمليات الاعتراض والاستهداف، بحيث يتم سد العجز في قدرات أي دولة تتعرض لتهديدات تفوق قدراتها.
رغم وجاهة هذه الفكرة، إلا أن تطبيقها فيما يتعلق بكل من الإمارات والمملكة العربية السعودية سيكون أسهل بكثير من تطبيقها على مستوى دول مجلس التعاون، بسبب بعض التعقيدات التي من بينها مثلًا، بعض الحساسيات السياسية، والتي قد تفرض اختلافًا في الرؤى حول ماهية “العدو”.
التنسيق بين الإمارات والمملكة العربية السعودية ربما يكون قد بدأ فعليًا عقب هجوم السابع عشر من الشهر الجاري، لكن هذا التعاون يقتضي العمل على مسار ثاني لا يقل أهمية عن التعاون المشترك في مجال إدارة الدفاعات الجوية، ألا وهو امتلاك القدرات التسليحية المطلوبة للتعامل مع التهديدات المستحدثة، فبطاريات “باتريوت” و”ثاد”، مصممة بشكل أساسي للتعامل مع الصواريخ الباليستية بطيئة السرعة، سواء كانت متوسطة أو طويلة المدى، وبالتالي تبدو الحاجة ماسة لحصول كلا البلدين على منظومات متخصصة في التعامل مع المقذوفات الجوية السريعة ذات المقطع الراداري المنخفض.
المملكة العربية السعودية حاولت سابقًا التفاوض مع موسكو حول شراء منظومات الدفاع الجوي “إس-400″، التي تعد خيارًا مثاليًا ورخيصًا في نفس الوقت لتحقيق هذه الغاية، حيث يغطي رادار هذه المنظومة دائرة قطرها 600 كيلو متر، ويستطيع رصد 300 هدف جوي في آن واحد، مع الإغلاق على 36 هدف منها. زاوية إطلاق الصواريخ في هذه المنظومة تعد من أهم مميزاتها، إذ يتم إطلاق الصواريخ عموديًا بزاوية قائمة، ما يتيح اعتراض كافة المقذوفات الجوية على كافة الزوايا، على ارتفاعات تصل إلى 27 كيلو متر. المفاوضات حول هذه المنظومة لم تصل إلى نتيجة واضحة حتى الآن، وإن كانت احتمالات إقدام الرياض على شرائها في المرحلة المقبلة تبقى قائمة.
الإمارات من جانبها، وقّعت الشهر الجاري عقدًا مع كوريا الجنوبية لشراء منظومة “MDSM” للدفاع الجوي متوسط المدى، بقيمة 3.5 مليار دولار، وتعد هذه المنظومة أحد الخيارات المتاحة للتعامل مع الطائرات بدون طيار والصواريخ المعادية، إذ تستطيع اعتراض الأجسام الطائرة على ارتفاعات تصل إلى 20 كيلو متر، ومدى يصل إلى 40 كيلو متر، وتحلق صواريخ هذه المنظومة بسرعات عالية تبلغ خمسة أضعاف سرعة الصوت، ما يتيح لها مواكبة المقذوفات الجوية الفوق صوتية.
خلاصة القول، إن المؤشرات المتاحة تشير إلى أنه رغم قرار الإمارات العربية المتحدة الأخير إعادة تموضع قوات “العمالقة” في جبهات مأرب وشبوة، بما يوحي بأن تحركاتها الهجومية في هذا النطاق قد توقفت ولو مؤقتًا؛ سوف تستمر الهجمات الحوثية على الأراضي الإماراتية خلال الفترة المقبلة، وهو ما يفرض التوسع بشكل كبير في امتلاك قدرات الدفاع الجوي المتخصصة في اعتراض الذخائر الجوالة والصواريخ قصيرة المدى، وكذا تفعيل مظلة دفاع جوي مشتركة بين أبو ظبي والرياض، قد تمثل في حالة نجاحها، نموذجًا يمكن من خلاله القفز على كافة المعوقات الحالية، وتفعيل الدفاع الجوي الخليجي الموحد.
.
رابط المصدر: