تنامت العلاقات بين السعودية والصين بشكل كبير في الربع الأخير من القرن حتى يمكننا وصفها بالعلاقات” الراسخة”- ولكل من القوتين مبرراتها في التقارب، فبالنسبة للجانب الصيني فإن بكين تريد أن تضمن الوصول لمصادر الطاقة وتحقيق التوازن مع الولايات المتحدة في المنطقة إضافة لكسب الدعم والحد من الدعم المادي والمعنوي للمتطرفين في الصين، بينما تميل الرياض للاستناد لأسباب مختلفة مدفوعة بحلقتي انسحاب إحداهما من أفغانستان والأخرى تضمنت الانسحاب من بعض مناطق تمركز واشنطن في الشرق الأوسط مع سحب قطع عسكرية مهمة منها بطارية صواريخ ” باتريوت”.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك الهجمات الحوثية الأخيرة على الإمارات وتخاذل واشنطن في إعادة وضع الحوثي على قوائم الإرهاب وما يستتبع ذلك من تخاذل في مفاوضات فيينا ،وترجيح دول الخليج مع إسرائيل بأن الولايات المتحدة قد تصل إلى اتفاق منفرد يحيد مصالح تل أبيب والعواصم الخليجية معًا. علاوة على تيقن الرياض من تراخي تحالفها مع واشنطن ليس فقط على الصعيد الأمني ولكن على الصعيد الاقتصادي أيضًا حيث خفضت أمريكا وارداتها من النفط الخام السعودي، ثلاث مرات بين عامي 2008 و2019.
نظرة تاريخية
يعود بنا التاريخ إلى عام 1990 عندما قطعت الرياض علاقاتها مع تايبيه التايوانية فاطمأنت بكين إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع الرياض، ومنذ إقامة العلاقات سعت الصين إلى احتلال مكانة متقدمة في الشرق الأوسط وهي التي وصلت متأخرة فوجدت في مجال بيع الصواريخ الباليستية ضالتها في وقت لم ترغب فيه أي قوة عسكرية في توفير هذه المنظومة للرياض. كما عانت المملكة من تهديد مستمر من جانب النظام المتشدد في إيران حيث حاولت السعودية في ذلك الوقت شراء طائرات نفاثة من الولايات المتحدة ولكنها لم تنجح حيث عرقلت تل أبيب الصفقة للحفاظ على ما يعرف بالتفوق العسكري التقليدي لإسرائيل كما تعرقل إسرائيل اليوم حصول أبو ظبي على طائرات إف 35.
ولما نجحت إسرائيل في مساعيها في ثمانينات القرن الماضي، لم تجد الرياض وجهة لها سوى التكنولوجيا الصينية في مجال الصواريخ الباليستية خصوصًا لأن الأخيرة كانت متعطشة لبيع السعوديين صواريخها للحصول على نفوذ في واحدة من أكبر عواصم الشرق الأوسط. وهو ما يصب مباشرة في مصلحة البلدين حيث غدت الصين واحدة من أكبر المستوردين للطاقة مع تنامي القطاع الصناعي لديها، وهو الأمر الذي جعل لمنطقة الشرق الأوسط أهمية خاصة لديها للحفاظ على أمن الطاقة. بالتحديد لأن الرياض كمورد للنفط أكثر استقرارًا إذا ما قورنت بنيجيريا أو العراق وإن كانت الصين تتعامل بحذر أيضًا مع هذا الطرح بعد استهداف الحوثي لأرامكو.
على جانب آخر أصبحت السعودية أكثر حذرًا في النظر لتعامل الولايات المتحدة مع منطقة الشرق الأوسط ومنها الاستياء السعودي المسيطر من تعامل الولايات المتحدة مع طهران بشكل يهدد أمن العواصم الخليجية.
طبيعة التعاون العسكري
من العلاقات في مجال الطاقة التي تبدو واضحة إلى حد كبير إلى التعاون في المجال الأمني والعسكري وهو التعاون الذي يمكن وصفه بالتعاون الغامض أو الحذر كما يمكن وصفه بأنه تعاون قوي، ولكن من حيث التصنيف النوعي فهو محدود النطاق مع الميل بشدة نحو بيع أسلحة “حساسة” مع نشاط “محدود” في التبادلات والتدريبات العسكرية- لأن العلاقات في هذا المجال تعتمد بشكل كبير على نظرة السعودية لبكين باعتبارها مصدرًا مهمًا للأسلحة المتخصصة. وللتدليل على ذلك فإنه في الفترة من 2001 وحتى 2008 لم تكشف السجلات عن أية زيارات متبادلة بين القيادات العليا في الجيشين.
ولكن ينبغي أن نضع في الاعتبار هنا أن الجانب الذي يعلن عنه في مجالات التعاون العسكري بين السعودية والصين هو جانب “لا يذكر” إذا ما قورن بحجم التعاون الفعلي- وفي الوقت الذي تشير فيه السجلات الرسمية إلى أرقام للتعاون تمثل نقطة في بحر الإنفاق العسكري للمملكة – تؤكد التقارير الإعلامية المتداولة أن التعاملات الفعلية أضخم من ذلك بكثير بالنسبة للقذائف الباليستية الصينية على وجه التحديد. بل أن السعودية مهتمة بتطوير ترسانة في هذا المجال توفر لها مظلة “الردع” المطلوبة كما أن الأمر يمكن أن يفوق ذلك ويصل إلى حد التعاون النووي مع الصين. في الوقت الذي يدفع فيه البعض بأن التعاون النووي غير مطروح لأن الصين من الدول الملتزمة بحد الانتشار إلا أنه يحدها التزام فيما يتعلق بنشر صواريخها الباليستية.
ويدفع الدولتين إلى المزيد من التعاون في المجال العسكري الهواجس الأمنية التي تتبناها العاصمتان فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فالرياض وكذلك بكين قلقتان حيال بيئة أمنية إقليمية تزداد تقلبًا على ما يبدو ولديهما التزام مشترك لتوسيع نطاق التعاون الثنائي في مجال الطاقة، فضلاً عن هواجس بشأن مستقبل التعهدات الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط والخليج العربي. ومن زاوية أخرى هناك تقارب بين الدولتين فيما يتعلق بتدخل الولايات المتحدة في شؤون الدول بحجة حماية حقوق الإنسان حيث تتفق الرياض وبكين في أن هذا المسعى الأمريكي يشكل تهديدًا لأنظمة الحكم ولاستقرار الدول.
حاضر العلاقات ومستقبلها
منذ عدة أيام بحث نائب وزير الدفاع السعودي مع وزير الدفاع الصيني العلاقات الثنائية بين البلدين في مجال التعاون العسكري كما بحث سبل تطويرها، ومن المعلوم أن دول الخليج في سعي دائم لتحصين حدودها منذ الاكتشافات النفطية الضخمة على أراضيها وحتى من قبل الاكتشافات النفطية فكونها منفذ على المياه الدافئة وتمتعها بإطلالة استراتيجية على المضائق الهامة جعلها تستقطب أنظار القوى الدولية وخاصة الروس الذين طالما سعوا للحصول على منافذ توصلهم للمياه الدافئة.
وقد تنبهت دول الخليج إلى عدم صحة الاعتمادية الكاملة على الولايات المتحدة كحليف أمني منذ ثمانينيات القرن الماضي وعلى وجه التحديد منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران حيث تركت واشنطن طهران فريسة للملالي، الأمر الذي جعل المناخ مهيأ للانفتاح على الصين من الناحية العسكرية. فضلًا عن أن السعودية والعواصم الخليجية وجدت في خطة العمل المشتركة الموقعة بين القوى الغربية وإيران تخل عن الصف الخليجي.
ولذلك فإنه مع أهمية الموازنة العسكرية مع الولايات المتحدة إلا أن المنطقة الخليجية، تشهد استراتيجيات عسكرية جديدة مبنية على أساس المواقف الصلبة وصدق التعهدات، ومن ضمن التطورات المهمة في هذا المجال التعاون العسكري مع روسيا والصين. وفي الوقت الذي تحرص فيه الرياض على إبقاء مساعيها في امتلاك تكنولوجيا تصنيع الصواريخ الباليستية سرًا تسعى واشنطن من خلال تقارير إعلامية لتسليط الضوء على آفاق التعاون الصاروخي بين الرياض وبكين.
ووفقًا لما نشرته شبكة ” سي إن إن” خلال ديسمبر الماضي فإن ثلاثة مصادر مطلعة كشفت أن السعودية تقوم بتطوير قدراتها الصاروخية بالتعاون مع الصين، وبحسب صور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها الشبكة من مصادرها، فإن السعودية تقوم حاليًا بتصنيع الأسلحة في موقع واحد على الأقل.
وقالت المصادر إنه تم إطلاع المسؤولين الأمريكيين في عديد من الوكالات، وضمنها مجلس الأمن القومي، في الأشهر الأخيرة، على معلومات استخباراتية سرية تكشف عن عمليات نقل متعددة واسعة النطاق لتكنولوجيا الصواريخ الباليستية الحساسة بين الصين والسعودية.
ووفقًا لصور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها شبكة سي إن إن، فإن السعودية تقوم بالفعل بتصنيع صواريخ باليستية في موقع تم إنشاؤه مسبقاً بمساعدة صينية، وفقاً للخبراء الذين حللوا الصور، والمصادر التي أكدت أنها تعكس تطورات تتفق مع أحدث تقييمات الاستخبارات الأمريكية، وأخبروا الشبكة بأن هذه الصور “أول دليل لا لبس فيه، على أن المنشأة تعمل على إنتاج صواريخ”.
وعمومًا لم يكن ما جاءت به الشبكة الأمريكية جديدًا فقد أصدرت رويترز تقريرًا في 2019 أكدت فيه أن الرياض تطور ترسانة صاروخية بالتعاون مع بكين إضافة إلى بناء مصانع لإنتاج الطائرات بدون طيار.
وبلغ القلق الأمريكي حده في عام 2020 حيث نشرت صحيفة “وول ستريت جنرال” تقريرًا قالت فيه أن أعضاء في الكونجرس حذروا الرئيس الأمريكي آنذاك من خطورة التعاون السعودي – الصيني في مجال تكنولوجيا الصواريخ الباليستية، في الوقت الذي جددت فيه سي إن إن الإشارة إلى أن إدارة بايدن تستعد لمعاقبة جهات مرتبطة بنقل تكنولوجيا الصواريخ الباليستية الصينية إلى السعودية وأكدت الشبكة أن واشنطن قد وقفت صامتة حيال شراء صواريخ باليستية من الصين ولكنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نقل التكنولوجيا الصينية إلى الرياض، حيث لا تزال الصين مشحونة بعد صفقة الغواصات النووية مع أستراليا والتي تعد بكين المستهدف الرئيس منها.
وعلى أي حال من غير المنطقي أن تتمكن الرياض من تطوير منظومة الصواريخ بعيدًا عن أعين الولايات المتحدة التي تمتلك منظومة من أقمار التجسس التي تحيط بالكوكب، ولذلك فإن الأكثر منطقية في هذا المقام هو أن السعودية تعمدت إرسال رسالة “سياسية” مفادها أنها قادرة على ممارسة حقوقها السيادية كيفما تشاء دون التخوف من أي عقوبات، والتأكيد على أن إدارة بايدن لن تكون قادرة على معاملة حلفائها الاستراتيجيين معاملة تستدعي العديد من علامات الاستفهام دون أن يكون لتلك الدول رد فعل.
والماضي القريب يؤكد ذلك حيث قامت الرياض في 2017 بعقد صفقة مع الصين تحصلت بموجبها على منظومة صواريخ أي إف 21، والتي صرحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشأنها آنذاك مؤكدة أنها كانت على علم بالصفقة ولكن في نفس الوقت فإن أحدًا لا يستطيع التصدي لرغبات الرياض في تأمين نفسها.
لإجمال الموقف إذًا فإن الرياض ربما تسعى للمبالغة في مجالات تعاونها العسكري مع الصين لتؤكد للإدارة الأمريكية أن “عتبات التحمل الدبلوماسية” لم تعد لتستوعب المزيد، وأن منطق التجريب الذي توظفه واشنطن مع الحلفاء التقليديين يؤهلها لخسارة المزيد خصوصًا أنه بالنسبة لمنظومة إف 35 التي تتعامل معها واشنطن بمبدأ “الاحتكار الإسرائيلي” قد تفتح مجالات التعاون العسكري ليس بين السعودية والصين فحسب ولكن بين السعودية وروسيا التي تدور نواياها محلقة للانقضاض على أي فرصة أو فراغ أمريكي.
.
رابط المصدر: