د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
ضمنت الدساتير والمواثيق الوطنية والدولية حرية التعبير عن الرأي بكل تجلياتها ومنها حرية الإعلام والصحافة التي تعد السلاح الأمضى في محاربة الفساد والإنحراف بالسلطة، وتعد المعبر الحقيقي عن وعي الأمة وهمومها وتطلعاتها وللإعلام الدور الأكبر في تكوين الرأي العام وتحريكه باتجاه معين لمنع السلطات العامة عن غيها وتجاوزها، ولكن للأسف إن هذه الأداة قد تنحرف عن رسالتها فتشكل وسيلة بيد المأزومين ممن يعتاشون على الأزمات فيتفننوا في صنع المشاكل وتغذيتها كونهم لا يستطيعون العيش في النور بل هم بالغالب يتفاوضون ويحصلون على مرادهم من الكسب غير المشروع عبر الصفقات والامتيازات والسحت من المال الحرام في الغرف المظلمة، لهذا يجندوا أدواتهم ويتم اختيار أوقات معينة لبث السموم أو ما يدعو إلى الفرقة والخلاف بين أبناء الشعب الواحد.
فالقواعد الضامنة لحرية الإعلام إنما وضعت لتكون سلاح بيد الأفراد بمواجهة توحش السلطات العامة ورغباتها غير المشروعة في السيطرة والهيمنة على كل شيء في الدولة، لا أن تكون عامل مساعد في العدوان على الحريات العامة والخاصة، لذا نص الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (38) على “تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب/ أ- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، ب- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر..” وتنص المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966 على “لكل إنسان حق في حرية التعبير…” وان تطبيق القواعد التشريعية وتفعيلها على أرض الواقع من شأنه أن ينجز أثارها القانونية من حقوق تمنح أو التزامات تفرض، سواءً أكانت عامة أم خاصة، بعبارة أخرى النصوص من شأنها أن تخلق مراكز قانونية تنظيمية أو شخصية وكل مركز يتضمن جملة من الحقوق والحريات أو الالتزامات وان مخالفة الالتزامات الإيجابية أو السلبية توجب العقاب، أو على الأقل توجب قيام المسؤولية فتتحتم المساءلة وفرض الجزاء، وان ممارسة الحق أو الحرية ينبغي أن يكون ضمن الحدود التنظيمية للنص القانوني حتى لا تتحول الممارسة إلى عدوان على حقوق وحريات الآخرين.
وسواء أكان هذا العدوان بصورة مقصودة أم غير مقصودة، والمؤسس الدستوري حين ينص على حرية معينة فهو لا يقر البتة ان يتم الاعتداء أو يبرر الاعتداء من البعض على البعض الآخر فالمشرع يقف على مسافة واحدة من الجميع، وغايته إقامة نوع من التوازن بين السلطة ومقتضياتها بوصفها حاجة أساسية لانتظام حياة المجتمع من جهة، وبين ضرورات الحرية الفردية من جهة أخرى، وفكرة التوازن هذه هي الأساس الفلسفي للتعسف الفردي بالحرية واستغلال الحرية للإساءة للآخر ما يحتم فرض الجزاء المناسب بحقه، والخطأ لربما يترتب على مجرد الاستعمال ولو بدون قصد الإساءة لكون مدير المؤسسة أو المعمل سيسأل لإهماله رقابة ومتابعة تابعيه.
وهذا ما أشار إليه المشرع العراقي في قانون العقوبات في العديد من الأمثلة نذكر منها ما ورد في المادة (81)”مع عدم الإخلال بالمسؤولية الجزائية بالنسبة إلى مؤلف الكتاب أو واضع الرسم إلى غير ذلك من طرق التعبير، يعاقب رئيس تحرير الصحيفة بصفته فاعلاً للجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته، وإذا لم يكن ثمة رئيس تحرير يعاقب المحرر المسؤول عن القسم الذي يحصل فيه النشر… “كما أشار لهذه المسؤولية القانون المدني العراقي في العديد من المواطن منها ما ورد في المادة (219) والتي نصت على أن “الحكومة والبلديات والمؤسسات الأخرى التي تقوم بخدمة عامة وكل شخص يستغل أحدى المؤسسات الصناعية أو التجارية مسؤولون عن الضرر الذي يحدثه مستخدموهم إذا كان الضرر ناشئاً عن تعد وقع منهم أثناء قيامهم بخدماتهم..” ونشير إلى إن المسؤول عن الضرر لا يستطيع التمسك بفكرة الخطأ كون المخالفات المعروفة في عالم القانون إما أن تكون إيجابية أو سلبية وفي جميع الأحوال الشخص سيسأل عما ارتكب بنفسه أو ما وقع من تابعية، ولن يجدي نفعا التمسك بمبدأ الحرية أو أصل العمل الإباحة بما إن الفعل مخالف للقانون والعرف.
وما تقدم ينطبق تماما على ما ارتكبته قناة دجلة قبيل استذكار مسلمي العالم الحادثة الأليمة المتمثلة بقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في كربلاء العام (61) هجرية، إذ أقدمت على بث الأغاني والطرب في ليلة الحادثة الأليمة مستهينة بمشاعر الملايين ومتحدية لحقهم في ممارسة الشعائر ومن قبلها حريتهم في الاعتقاد وواجب الآخرين باحترام عقائدهم، فعاشوراء ذكرى يحرص على إحيائها الأحرار في العالم والمسلمين والعراقيين جميعا، والثابت أن الحقوق والحريات ولاسيما ما تقدم التي تتصل بحرية العقيدة والشعائر تقسم إلى حقوق وحريات شخصية لصيقة بالشخص أن شاء مارسها في السر أو العلن وهنالك حقوق وحريات موضوعية تتصل بالدين أو المذهب الذي ينتمي إليه الفرد أو مجموعة الأفراد، فيكون بذلك مدعاة للاحترام من قبل الكافة.
وما يتعلق بما قامت به وسيلة الإعلام المذكورة لا يتصل بالحقوق الشخصية للأفراد الشيعة في العراق فحسب، بل يتصل بأصل الدين باعتبار الإمامة أصل من أصول الدين أو على الأقل ثابتة من ثوابت الإسلام تقتضي الاحترام والتقديس من الكافة وعدم الإساءة إليها من قريب أو بعيد، لذا اعتبر قانون العقوبات العراقي في المادة (372) بأن “يعاقب بالحبس….من تعمد التشويش على إقامة شعائر طائفة دينية أو حفل أو اجتماع ديني أو تعمد منع أو تعطيل شيء من ذلك” ففعل التجريم لما تحقق من فعل شائن مخالف للأخلاق والآداب العامة مستهجن ليس على صعيد القانون فقط بل على التقاليد الاجتماعية السائدة في المجتمع العراقي الذي اعتاد على المواساة لبعض مكوناته في أحزانهم ومشاركتهم أفراحهم.
لكن يبدو إن الأمر إلى حد ما مدبر لتهوين المصيبة من جهة ولتكون القناة مادة إعلامية ووسيلة لإذكاء الطائفية المقيتة التي يسعى العراقيون إلى دفنها في التراب، وان عدم مشروعية عملهم ليس لأنه مخالفة لنصوص قانونية فحسب وليس لأنه ألحق الضرر المعنوي بشريحة كبيرة جداً من الشعب العراقي، بل لأن المسؤولية في هذه الواقعة نابعة من مخالفة الواجب والاعتداء على الحق حتى لو لم يوقع ضرر مادي فإنه أوقع أضرار معنوية جسيمة وكان مقدمة لثورة غضب شعبي كان بالإمكان تفاديها إذ إن السلوك غير السوي الذي ارتكب يعد بحق تجاوز خطير للغرض من منح حرية التعبير، ويرقى إلى التعسف في ممارسة الحرية ما يستدعي المؤاخذة والمساءلة، فالانحراف عن جادة الصواب واضح وجلي ولا يحتاج إلى دليل عليه يثبت غي من قام بالفعل الذي تحدى شعائر دينية بلا أدنى مسوغ.
بعبارة أخرى نقول إن الفاعلين قد حادوا عن الحق أو الحرية المكفولة بالدستور إلى المخالفة المجرمة ببقية القوانين، والأمر يتعلق بنية الفاعل وما اشتملت عليه من جفاء وحيف لحقوق الآخرين، وشذوذ في استعمال أصل الحق أو الحرية، حيث تنعدم البواعث المشروعة ويتجافى مع المصلحة العامة ما يكون قاعدة عريضة تصلح أن تكون أساساً لمساءلة الفاعلين.
فمن الواضح إن الحق أو الحرية تحمل في ثناياها مصلحة فردية وأخرى اجتماعية عامة فان تذرع الفاعل بالجانب الأول فانه تنكر للجانب الثاني، ولو تجاوزنا كل ما تقدم فما المصلحة المشروعة التي يرجوها من قام بالسلوك ففي جميع الأحوال ستكون الإدانة هي النتيجة النهائية، إما لانعدام المصلحة من وراء الفعل دون النظر للأضرار التي وقعت أو للضر الفادح الذي تحقق، والأمر الأخر إن كان الفعل وقع بلا قصد فالمساءلة حتمية أيضا لما أصاب المصلحة العامة “التضامن الاجتماعي” من ضرر محتوم.
ومن الواضح إن المهنة الإعلامية لها أخلاقيات مهنية صارمة بوصفها مهنة إجتماعية تحاكي عواطف الناس وتؤثر في مدركاتهم لهذا دأبت الدول والمجتمع الدولي عموماً على تحريم خطاب الكراهية أياً كان نوعه سواء أكان مبنياً على أسباب عنصرية أو غيرها، وما امتهان عقائد البعض إلا سلوكا منحرفاً وخطاباً مستهجناً.
وفي معرض ما تقدم نشير إلى ما ورد في لائحة قواعد البث الإعلامي للعام 2019 الصادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات بوصفها هيئة مستقلة مؤسسة بموجب دستور جمهورية العراق للعام 2005 المواد (102-103) لمراقبة كل الأنشطة المتعلقة بالإعلام أو الاتصالات فقد ورد بالباب الثاني المعنون المعايير العامة للبرامج المرئية والمسموعة ما نصه “اعتزازاً بالتنوع العرقي والديني والطائفي والحضاري والفكري في العراق، وحفاظاً على السلم الأهلي والأمن الوطني تحرص الجهات الإعلامية المرخصة على الالتزام بقواعد السلوك المهني المدرجة في هذه اللائحة وتؤكد الهيئة على ضرورة احترام التعددية في جمهورية العراق وتسعى إلى أن تكون حرية التعبير جزءً مكملاً للنظام الديمقراطي في البلد” أفلم تتطلع إدارة القناة على ما تقدم وهو واضح وجلي المعنى والدلالة، كما ورد في الباب الثاني من اللائحة في المادة الثانية بعنوان “اللياقة والأدب والذوق العام” بأن “تلتزم الجهات الإعلامية المرخصة بمعايير اللياقة والأدب والذوق العام في مضمون برامجهم وأوقات بثها…”.
وفيما تقدم إلتزام صريح وواضح بعدم مخالفة اللياقة والذوق وما بدر عن القناة المعروفة كان مجافياً بكل الموازيين لأدنى معايير الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم ففي ليلة ذكرى قتل عترته وسبي حريمه تبث القناة أغاني وبرامج غير لائقة، وورد في البند “ثانياً” من المادة ذاتها إن مما يعد غير أخلاقي ومنافي للياقة “بث مواد تؤذي مشاعر مكونات النسيج الاجتماعي العراقي بفئاته الدينية والقومية وخصوصاً تلك التي تحتوي على مواد تنتقص من ذلك المكون أو المجموعة على أساس الدين أو القومية أو المذهب أو الطائفة أو اللغة”.
وختاماً نذكر إن البعض من المهتمين بادر إلى رفع دعاوى جزائية ضد القناة لمحاكمتها عن سلوكها المهني غير المنضبط، ومن جانبنا ننصح أيضا بالركون إلى هيئة الإعلام والاتصالات فقد نصت المادة (3) من قانونها الصادر بالأمر التشريعي رقم (65) لسنة 2004، على إمكانية إصدار مجلس المفوضين قرارات ينفذها المدير العام وهو رئيس الجهاز التنفيذي أو يمكن كذلك استنادا للمادة (4) التي بينت تأليف لجنة تدعى “لجنة الاستماع” وهي “تتألف من خمسة أعضاء ممن لهم خلفية في مهنة القانون أو في الحقول الوثيقة الصلة بهذه المهنة، يستمع أعضاء اللجنة لحالات تنطوي على خرق خطير وفادح لمدونات الممارسات المهنية والسلوك الأخلاقي”، وبالتالي يمكن للمدير العام في الهيئة ولجنة الاستماع إصدار قرارات إدارية مناسبة بحق هذه الوسيلة الإعلامية، تكون رادعاً لها عن غيها وزاجرة لغيرها.
رابط المصدر: