جميل عودة ابراهيم
ليس هناك شيء أعظم من العلم، وليس هناك مهنة أشرف من مهنة التعليم، فهي مهنة الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين، فهذا نوح (عليه السلام) يقول لقومه (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وهذا هود (عليه السلام) يقول لقومه (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) وهذا هو نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوه الله عزو وجل لتبليغ رسالته إلى قومه لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ).
وعلى هذا؛ فان كل من علم الناس الخير، وجنبهم الشر؛ فهو شبيه بالأنبياء والمرسلين، وهو ورثيهم في العلم والعمل، حيث كاد المعلم أن يكون رسولا. ولأهمية التعليم والتدريس؛ فقد وصفها أحد علماء التربية بأنها (مهنة الأم) وذلك لأنها تسبق جميع المهن الأخرى، ولا غنى لها عنها، فهي الأساس الذي يمدها بالعناصر البشرية المؤهلة علميا؛ وفنيا؛ واجتماعيا؛ وأخلاقيا.
من هذا المنطلق؛ كان ومازال التعليم يٌعد حقا أساسيا من حقوق الإنسان، بل هو أول الحقوق التي ينبغي أن يحظى بها بعد حق الحياة، وهو حق كل فرد، أكان طفلا أم يافعا أم راشدا، في الحصول على تربية جيدة تحترم كرامته، ويتحقق نمو شخصيته، على أفضل وجه، حتى يتمكن من تحقيق ذاته، ويصبح عنصرا فاعلا في المجتمع.
والسؤال هنا من يتحمل مسؤولية تعليم الأطفال والشباب وتربيتهم ليكونوا قادرين على العمل والعطاء والإبداع؟ وماذا لو كانت الحكومات لا تقدر على توفير كل التعليم المطلوب للمواطنين المحتاجين له، على مستوى التعليم الابتدائي أو الثانوي أو الجامعي؟ وماذا يمكن أن يفعل أولياء الطلبة إذا ما وجدوا التعليم الحكومي مقصرا أو عاجزا عن تعليم أبناءهم وتربيتهم بالشكل المطلوب؟ وهل أستطاع التعليم الأهلي أن يفي بمتطلبات التعليم الناجح في دولة شجعت التعليم الأهلي على مستوى الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية مثل العراق؟
يٌعد التعليم الرسمي الحكومي الركيزة الأساسية للتعليم في جميع البلدان بلا استثناء، فمن واجبات الدول، بل من أوجب واجباتها، أن توفر التعليم الأساس لجميع مواطنيها على حد سواء، ولا يجوز لها أن تمتنع عن أداء هذا الواجب تحت أي ظرف كان. وقد عملت الدول على وضع سياسات وبرامج تعليمية لاستقطاب الأطفال والشباب، بل والشيوخ غير المتعلمين منهم، من خلال بناء المدارس والجامعات وتأهيلها، ومن خلال برامج محو الأمية المطبقة في العديد من الدول بهدف تعليم المواطنين كافة.
إلا أن إلزامية التعليم، وزيادة أعداد الملتحقين بالمؤسسات التعليمية، ورغبة أولياء الطلبة في دخول أولادهم مداس وجامعات أكثر قدرة على تلبية حاجاتهم من التربية والتعليم والالتزام، من جهة، وضعف قدرات قطاع التعليم الحكومي على تلبية هذه الحاجات المتزايدة، من حيث بناء المدارس، وتهيئة الكوادر التعليمية من معلمين ومدرسين وإداريين، وتوفير مستلزمات التعليم من جهة ثانية؛ فقد أدى إلى ظهور ما يٌعرف بـ(التعليم الأهلي) أو (التعليم الخاص) وهو أن يتولى القطاع الخاص مهمة التعليم والتربية على وفق السياسات التعليمية الرسمية الحكومية القائمة وقوانينها وضوابطها، دون أن تتحمل الدولة أي أعباء مادية تذكر.
نعم؛ صحيح أن الدولة هي المعنية بالأساس بمهمة توفير التعليم لمواطنيها، لاسيما التعليم الأولي، وصحيح أنها ملزمة بتوفير متطلبات التعليم من مؤسسات وأبنية ومعلمين ومستلزمات أخرى، ولكن الواقع لا يبنى على ما هو مفروض، بل الواقع هو الواقع، وهو الذي يعطي دون غيره نتائج ملموسة، وعلى هذا؛ فحكومات العديد من الدول وجدت نفسها في لحظة ما قاصرة أو عاجزة تماما عن توفير أدنى متطلبات التعليم الابتدائي، وقد نتج عن ذلك بقاء مئات الآلاف من الأطفال خارج أسوار المدارس، وهو ما ترك آثارا سلبية على حياة هؤلاء الأطفال، وعلى أسرهم، وعلى مجتمعاتهم المحلية.
لذلك كان اللجوء إلى التعليم الأهلي المدعوم من القطاع الخاص هو الحل الأمثل لحل مشكلة عجز الدولة عن توفير متطلبات التعليم، بما لا تتعارض مع دور الدولة في توجيه ورقابة المدارس والجامعات الأهلية، وتحديد سياستها التربوية والتعليمية وفقاً لفلسفة الدولة واتجاهاتها الرئيسة..
بناء على ذلك، ومنذ فترة ليست قصيرة اتجهت الحكومات العراقية إلى التعليم الأهلي الابتدائي، وقد أجازت فتح العديد من المدارس الأهلية لسد النقص الحاصل في عدد المدارس، لاسيما في العاصمة بغداد، ثم توسعت خريطة المدارس والروضات الأهلية لتشمل عددا من المحافظات ممن كانت بحاجة إلى وجود مدرسة أهلية، بالإضافة إلى الدور الرئيس الذي تلعبه المدارس الحكومية.
كما وضعت الدولة العراقية؛ منذ نهاية عقد الثمانينات خطة استرشادية للقطاع الخاص حددت بموجبها التعليمات والضوابط والسياسات التشجيعية التي تبنتها الدولة آنذاك لتشجيع الاستثمارات الخاصة في مجال استحداث الكليات والجامعات الأهلية… والحقيقة ان الدولة في فلسفتها هذه كانت تنطلق من مبدأ أساسي هو ان العلاقة بين الجامعات الرسمية والجامعات الأهلية هي ليست علاقة تنافسية، بل هي علاقة متكاملة أحدهما مكمل للأخر، واعتبرت التعليم الأهلي الجامعي أحد الروافد المتممة أو المكملة للتعليم الجامعي الرسمي…
فهل استطاعت المدارس والجامعات الأهلية في العراق أن تؤدي دورها المرسوم لها في دعم القطاع التربوي والتعليمي من خلال هذا العدد الهائل من الروضات والمدارس والكليات والجامعات الأهلية في محافظات العراق كافة؟ أم أنها سارت في ركب المدارس والجامعات الحكومية في الإدارة والمنهاج، فأوجدت مشكلة أخرى تسمى (مشكلة التعليم الأهلي بالعرق) تضاف إلى (مشكلة التعليم الرسمي الحكومي) من حيث السياسات والبرامج والاستراتيجيات والنتائج؟
يمكن القول بأن مخرجات بعض المدارس والجامعات الأهلية كانت ذات جودة عالية، وبكفاءة تضاهي أو تفوق مخرجات التعليم العام، والبعض الآخر -وهو الغالب- تعمل على مبدأ الربح، وتهتم بالإستثمار أكثر من اهتمامها بالمنهاج العلمي الصحيح، وتفتقر إلى الرصانة العلمية، فأصبحت ملجأ للطلبة الذين يحصلون على معدلات متدنية. وعلى الرغم من الإخفاقات الكثيرة، إلا إنها قامت بوظيفة الرديف المساعد للمدارس الحكومية الرسمية، وأسهمت في تخريج العديد من الذين مارسوا دورهم التعليمي والوطني، وذلك لارتباط عملية التعليم بالتطور الإجتماعي والسياسي والإقتصادي للمجتمع.
في الواقع، إن الإخفاقات الكثيرة التي سجلها التعليم الأهلي في العراق بشقيها التربوي والتعليمي هو ناتج عن سببين رئيسين: السبب الأول يتعلق بدور المؤسسة الحكومية التعليمية؛ وهما وزارتا التربية والتعليم العالي، مضافا إلى رئاسة الوزراء كونها الجهة المسؤولة عن رسم السياسات وتخطيطها. والسبب الثاني يتعلق بطبيعة إدارة مؤسسات التعليم الأهلي وأبنيتها ومناهجها.
1. دور المؤسسات الحكومية في دعم القطاع التعليمي الأهلي والإشراف على أداءه: فوفقاً لفلسفة أن القطاع التعليمي الأهلي هو قطاع مساند وداعم للقطاع التعليمي الرسمي الحكومي، فلولاه ما تمكنت الدولة العراقية من استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من الأطفال والشباب في المدارس والجامعات، كان يتوجب على التعليم الرسمي أن يدعم التعليم الأهلي ويسانده ويسهل مهمته، وفي جميع المجالات، لأنه جزء منه ومكمل لمهمته وساند له، ويجسد الدور التاريخي الذي يجب ان يلعبه القطاع الخاص في المجتمع. وفي حالة عدم ممارسة هذا الدعم فإن المؤسسة الرسمية تكون قد عجزت في فهم فلسفة التعليم الأهلي والأسس التي على أساسها انبثق هذا التعليم. ولكن الحقيقة أن المؤسسة التعليمية الحكومية كانت أعجز من أن تشرف أو تراقب أداء المؤسسة التعليمية الأهلية؛ فكيف بها أن تدعمه وتسانده. ناهيك عن عدم الاستقرار في سياسة القبول في الجامعات والكليات الأهلية سنوياً.
ليس هذا وحسب فهي لم تترك الباب مفتوحا على مصراعيه إنما أسهمت من خلال لجانها التفتشية غير المنضبطة على إشاعة مفهوم الفساد الإداري والمالي في هذه المؤسسات، فالدولة على سبيل المثال قد وضعت ضوابط لتأسيس المدارس والجامعات الأهلية، وهذه الضوابط في واقعها لا تتوافر في المؤسسات التعليمية الحكومية فكيف يمكن أن تتوافر في المؤسسات التعليمية الأهلية الحديثة، فكانت هذه اللجان تساوم في كل مرة على توافر هذه الشروط، وإلا فإنها تكتب تقريرا من شأنه أن يعطل هذه المؤسسات أو يغلقها، فانتقلت عدوى الفساد الإداري والمالي سريعا إلى مؤسسات التعليم الأهلي بسبب عدم واقعية الضوابط من جهة، ورغبة مؤسسي هذه المؤسسات التعليمية في تحصيل أرباح سريعة على حساب الطلبة وذويهم من جهة ثانية.
2. إدارة المؤسسات التعليمية الأهلية: في الواقع كان ومازال هم مؤسسو المدارس والكليات والجامعات الأهلية وإداراتها هو كيفية الحصول على أرباح سنوية جيدة مقابل خدمات تعليمية هزيلة لا تتناسب وطبيعة الأجور الدراسية التي تجنيها من أولياء الطلبة. حتى أضحت الاستثمارات في القطاع التعليمي الأهلي لاسيما في الجامعات، خصوصا المجموعة الطبية من أفضل الاستثمارات في العراق. ورغم ذلك مازالت أغلب الكليات والجامعات الأهلية لا تمتلك أبنية (مملوكة) والبنايات التي تشغلها حالياً غير مناسبة لأنها لم تصمم كأبنية جامعية تتناسب مع التطور الكمي والنوعي لهذه الكليات، وأصبحت أغلب الكليات الأهلية تعاني من نقص مستديم في مجال تخصيص القاعات الدراسية والمرافق الإدارية الذي لا يتناسب الموجود منها حالياً مع الأعداد المتزايدة للطلبة، بالإضافة إلى نقص المختبرات والتجهيزات الملحقة بها في بعض الأقسام للكليات الأهلية.
كل هذه الأسباب والتحديات التي تقف في وجه التعليم الأهلي يدفع ثمنها الطلبة وذووهم مرة من خلال ارتفاع كلفة التعليم الجامعي الأهلي من خلال زيادة نسبة (الأجور الدراسية) التي تحددها الكلية الأهلية، ومرة –وهو الأهم- من خلال المخرجات الرديئة لهذا التعليم، والتي تؤثر مباشرة على مستقبل الطالب وعلى مستقبل البلاد بأسره.
إذن ماذا ينبغي أن نعمل من أجل دفع العملية التربوية والتعليمية الأهلية تجاه تحقيق نتائج مرضية لذوي الطلبة ومستقبل البلد؟
1. إن التعليم العالي الأهلي ينبغي أن لا يكون نسخة مكرر من التعليم العالي الرسمي، والكليات الأهلية مدعوة للتميز في المناهج والكتب والاختصاصات، وقد تتطلب الحاجة إلى إيجاد هيكل إداري يضمن إبقاء مؤسسات التعليم الأهلي تحت إشراف الدولة ضمانا لتنمية المصالح العلمية والوطنية العليا، ولكن هذا الإشراف يجب أن لا يمتد إلى الأمور الإدارية والعلمية الأخرى. فهناك معادلة طردية وهي كلما تدخلت الدولة في شؤون القطاع الخاص زاد الفساد الإداري والمالي والعكس صحيح.
2. زيادة حجم الإنفاق الاستثماري في الكليات الأهلية والتوسع الجديد والمستمر في خلق وتطوير أنشطتها المختلفة والمتمثل باستحداث الأقسام العلمية الجديدة، وبناء المرافق الخدمية والإدارية والإنشائية والقاعات الدراسية والمختبرات العلمية، وتوفير المستلزمات الأساسية اللازمة لسير العملية التربوية وضمان استمرارها، وتعين الملاكات التدريسية والوظيفية.
3. أن تتكفل الدولة بتوفير بعض المستلزمات المادية للتعليم العالي الأهلي وخاصة ما يتعلق بالأبنية والأجهزة والمستلزمات، ويمكن كذلك تقديم القروض والمنح التي تسددها الكليات الأهلية على أقساط وشمول المؤسسات التعليمية الأهلية بمبدأ الإعفاء الضريبي وما شابه، فضلاً عن شمول التدريسيين والعاملين في مؤسسات التعليم العالي الأهلي بالامتيازات والحقوق التي يتمتع بها أقرانهم في مؤسسات التعليم العالي الرسمي.
4. خفض أجور التعليم الأهلي إلى الحد المعقول، بحيث يستطيع أولياء الطلبة من دفعها بطريقة إذ أن أجور الدراسة في التعليم الجامعي الأهلي تشكل (عبئا على كاهل المواطنين بشكل عام) حسب ما جاء في نص الأمر الديواني 56 لسنة 2019.
رابط المصدر: