استقبلت بكين لأول مرة الرئيس الفلبيني “ماركوس جونيور” في أوائل عام 2023 استجابةً لدعوة الرئيس الصيني “شي جين بينج”، وهي تُعد أول زيارة له إلى دولة غير عضو في رابطة جنوب شرق آسيا “الآسيان”، كما أنها أول زيارة لرئيس أجنبي تستقبله الصين في هذا العام، بالإضافة إلى أنها خروج عما اعتاد عليه الرؤساء الفلبينيون الذين اعتادوا على اختيار واشنطن أو طوكيو كأول زيارة خارجية لهم.
نتائج محدودة
خرجت الزيارة بمجموعة من النتائج التي اعتبرها الجانب الفلبيني ضمن المكاسب السياسية الأكثر أهمية اعتمادًا على أن الفلبين في المرحلة الحالية تنظر لها كصديق وجار جيد، لكن يتضح أنها نتائج محدودة التأثير وفقًا لآراء تحليلية.
فقد توافق الجانبان بشأن الحل السلمي للنزاعات البحرية، وهو ما دفع الرئيس الفلبيني لاقتراح عقد مباحثات بين الجانبين الصيني والفلبيني حول النزاعات الخاصة ببحر الصين الجنوبي، وهو ما لاقى ترحيبًا صينيًا. لكن من غير المرجح أن تأتي تلك المباحثات بنتائج فورية، خاصةً إذا تم النظر إلى أن هناك آلية للتشاور منذ عام 2017 بين كل من الصين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان التي استهدفت منع أي تصعيد بينهم. كما أنّ هناك حوادث بحرية بين حرس الحدود الصيني وبين الصيادين الفلبينيين مما استدعى استياء مانيلا التي نشرت دوريات بحرية لحماية الصيادين. هذا بالإضافة إلى أن الصين لا تزال ترفض قرار التحكيم الدولي الصادر في عام 2016 لدعم مطالبات الفلبين في بحر الصين الجنوبي، كما أنها لم تعترف حتى الآن بمدونة قواعد السلوك الخاصة ببحر الصين الجنوبي، لأنها ترى أن تلك القواعد ستسمح لدول المنطقة بتوحيد قواهم ضد الصين.
ارتباطًا بذلك، كان هناك اتفاق ضمن عشرة اتفاقات شهدتها الزيارة يتضمن إقامة خط اتصال بين البلدين للمساعدة في حل المشكلات في بحر الفلبين الغربي وذلك بعدما اقترح مشرعون فلبينيون سن قانون للمناطق البحرية الفلبينية يستهدف تحديد وترسيم الحدود الإقليمية في المياه المتنازع عليها. كما تحاول مانيلا الاستفادة من علاقتها مع الصين بالاستمرار في الحصول على دعم بكين لتطوير البنية التحتية في الفلبين.
كما تلقّت الفلبين وعودًا بخطط استثمارية صينية بقيمة 22.8 مليار دولار، بالإضافة إلى 2.1 مليار دولار بخصوص التبادل التجاري، وهو ما دفع الرئيس “ماركوس” للتوقع بأن هذا سيؤدي إلى خلق ما يتراوح بين 10 آلاف إلى 30 ألف فرصة عمل. ذلك بجانب 14 اتفاقية في مجالات مختلفة، مثل: الزراعة، والتنمية، والأمن البحري، والسياحة. وفي مجال البنية التحتية، قدمت الصين مجموعة من التعهدات الاستثمارية للفلبين لأنها تعاني من مشاكل عديدة فيها.
وقد أبدت بكين استعدادها لاستئناف المحادثات الخاصة بمجال الطاقة والتعاون المشترك بشأن استكشاف موارد النفط والغاز في المناطق البحرية غير المتنازع عليها لتوسيع وتنويع مصادر الطاقة، بجانب التعاون في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
لكن يتم التشكيك في القدرة على تنفيذ تلك التعهدات، فقد سبق أن قدمت الصين في عام 2016 استثمارات بقينة 24 مليار دولار، وكان ثلثها مخصصًا لمشاريع البنية التحتية، لكن لم يتم تنفيذ تلك المشاريع، وهو ما جعل هناك توجهًا يرى أن الفلبين في علاقتها مع الصين تدخل فيما يسمى “فخ التعهدات”.
التفاف أمريكي
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تُحاول استغلال الفلبين ضمن خطتها لاحتواء الصعود الصيني، وقد ظهر هذا من خلال الزيارة التي توجهت بها نائبة الرئيس الأمريكي “كامالا هاريس” –كأول مسئول رفيع المستوى في إدارة بايدن- إلى الفلبين يوم 21 نوفمبر 2022 للقاء الرئيس “ماركوس جونيور” لتوجيه رسالة مفادها أن واشنطن “شريك أفضل” للاستقرار الاقتصادي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وذلك ضمن حضورها لقمة “أبيك” المنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في بانكوك عاصمة تايلاند، وستترأسها الولايات المتحدة عام 2023، وتستهدف منه التركيز على النمو الاقتصادي المستدام وإظهار الالتزام الأمريكي تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
كما يبدو أن الزيارة استهدفت الاستعداد لاستغلال مساحات استراتيجية في البلاد لإقامة قواعد عسكرية، فقد اشتملت التوجه لجزيرة “بالاوان” القريبة من بحر الصين الجنوبي وهي موطن قاعدة أنطونيو باوتيستا الجوية التي تعد مركز القيادة العسكرية الفلبينية المسئولة عن الدفاع عن مياهها والقيام بدوريات حول جزر سبراتلي المتنازع عليها بين الفلبين والصين.
ونتج عن هذه الزيارة الإعلان في الأول من فبراير 2023 عن اتفاق للتعاون الدفاعي بين البلدين استهدف السماح للجنود الأمريكيين باستخدام 4 قواعد عسكرية لمواجهة التحديات الأمنية الإقليمية، وذلك خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” للبلاد في سبيل استعادة العلاقات التي شهدت بعض التراجع في السنوات الأخيرة. يأتي هذا الاتفاق تأكيدًا للالتزام الأمريكي باتفاق الدفاع المشترك مع الفلبين، ودفاعها عن القواعد والأعراف الملاحية في بحر الصين الجنوبي، وأكدت على أهمية القانون الدولي للتجارة دون عوائق لأنه يمر خلال هذا البحر ما يقارب ثلث التجارة الدولية.
جاءت المشاريع الدفاعية المشتركة كجزء من اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز EDCA بين البلدين التي تم توقيعها في ظل إدارة “أوباما” في عام 2014. وتسمح تلك الاتفاقية للقوات الأمريكية باستخدام مواقع في البلاد لإجراء تدريبات أمنية مشتركة.
تحاول الولايات المتحدة من خلال مساعيها للتقارب مع الفلبين توجيه رسالة ضمنية إلى الصين بسبب أنشطتها في بحر الصين الجنوبي خاصةً بناء قواعد عسكرية وجزر صناعية يخضع بعضها للسيادة الفلبينية بما يعكس طموحاتها في منطقة المحيط الهادئ، بالإضافة إلى أنّ واشنطن تريد استغلال تعرض السفن الفلبينية للهجوم في بحر الصين الجنوبي كي تتواجد بحجة تنفيذ التزاماتها الدفاعية، إذ ستمكنها الاتفاقات المذكورة من الوصول إلى تسعة منشآت عسكرية فلبينية.
فضلًا عن ذلك؛ تسعى الإدارة الأمريكية من خلال الزيارات المتتالية والمبادرات الاقتصادية المطروحة وتوثيق الاتفاقيات الأمنية استعادة الثقة لدى الدول الآسيوية التي بدأت تتشكك في الالتزام الأمريكي تجاهها خاصةً بعد انسحاب إدارة “ترامب” من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ ورغبتها في رفع التكلفة الدفاعية التي توفرها الولايات المتحدة في تلك المنطقة مثلما أرادت إدارة “ترامب” من كوريا الجنوبية بتقاسم تكلفة القوات الأمريكية المتواجدة على أراضيها.
موقف فلبيني متأرجح
تُعد الفلبين أحد مناطق الولايات المتحدة الاستراتيجية لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة خاصةً تايوان، لأن الفلبين هي الأقرب إلى تايوان التي تقع في أقصى شمال لوزون على بعد 200 كم، والتي تعد موقعًا محتملًا للصواريخ وأنظمة المدفعية التي يمكن استخدامها لمواجهة الغزو البرمائي لتايوان.
يُساهم ذلك في التأثير على نظرة الفلبين لعلاقتها مع القوتين (الصين والولايات المتحدة) التي تشهد تغيرًا بتغير القيادات التي تأتي على رأس البلاد، فرغم نزاع الصين والفلبين على الجزر أقامت مانيلا علاقات وثيقة مع بكين في عهد الرئيس السابق “رودريغو دوتيرتي” منها خطط للتعاون في التنقيب عن النفط والغاز في بحر الصين الجنوبي، لكن تم إنهاء صفقات الاستكشاف رسميًا في يونيو 2022 بسبب التحديات الدستورية، علاوة على أن تلك الاتفاقيات قسمت الفلبينيين حول شرعية السلوك الصيني في المناطق المتنازع عليها.
فقد حوّل “دوتيرتي” سياسة مانيلا من التوجه نحو واشنطن إلى التمحور حول بكين، بل وتجاهل قرار هيئة التحكيم الصادر في عام 2016 حين قال إنه لن يفرض أي شيء على الصين، بل أجرى محادثات للاستفادة من مبادرة الحزام والطريق، مما شجع الصين على تقوية نفوذها في المنطقة.
وبالنسبة للرئيس “ماركوس”، فمنذ توليه في يونيو عام 2022 توجه لإعادة العلاقات العسكرية مع واشنطن، وفي الوقت نفسه يعمل على استئناف العلاقات الثنائية مع الصين –وهو نهج تفضّله بكين- بشأن القضايا الاقتصادية، إذ شهد لقاء هامشي لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ “أبيك” توافق صيني – فلبيني على أن القضايا البحرية لا تحدد مجمل العلاقات بين البلدين، لكن هذا لا يعني تنازله عن موقف بلاده المتعلق بالقضايا الأمنية في بحر الصين الجنوبي لأنه سبق وأكد أن بلاده “لن تتنازل عن أي بوصة لأي دولة وخاصةً الصين.
ختامًا، بينما تسعى الولايات المتحدة لتقديم الدعم الأمني للفلبين لحماية مياهها الإقليمية، تعمل الصين على ملء الجانب المتعلق بالتنمية الاقتصادية وتطوير علاقة ثنائية تجارية قوية مع الفلبين تجعلها أكبر شريك تجاري لمانيلا، فقد كان للمساعي الاقتصادية الأمريكية تأثير ضعيف لتوسيع الدول الآسيوية التي تبغي ضمها لتحالف مضاد للصين من خلال مبادرات مثل الإطار الاقتصادي الذي اقترحه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في الوقت نفسه، تحاول الفلبين من الناحية الدبلوماسية الحفاظ على كونها صديقة للجميع عبر تحقيق التوازن بين القوتين الصين والولايات المتحدة لتفادي مسألة محدودية مواردها الدبلوماسية والدفاعية ولتظهر في الوقت نفسه ذات سياسة خارجية مستقلة بما يسمح لها بممارسة المزيد من النفوذ. وهذا ما دفع “ماركوس” لرفض خضوع سياسة بلاده الخارجية لعقلية الحرب الباردة، فهو يريد اتباع نهج وسطي يضمن له تعزيز نظام بلاده الدفاعي بمساعدة أمريكية، وإقامة حوار ودي اقتصادي مع الصين شريكه التجاري الأكبر، أي أنه يسعى إلى استخدام علاقته مع الصين كورقة لممارسة نفوذ في مواجهة الغرب خاصةً في قضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية.
فيما يخص الموقف من تايوان؛ فقد سبق أن أكد “ماركوس” التزام بلاده بسياسة الصين الواحدة، وطالب بممارسة ضبط النفس بين الصين وتايوان وأن يسود الحوار والدبلوماسية بين الجانبين. ولا يزال من غير الواضح إلى أي مدى ستسمح الفلبين باستخدام أراضيها للدفاع عن تايوان، فهناك مخاوف من أن أي نزاع حولها سيجعل من الصعب على الفلبين أن تظل محايدة فيه وأنها ستكون الوجهة الأكثر احتمالًا للاجئين التايوانيين، وسيتعرض حوالي 150 ألف فلبيني للخطر بسبب أي هجوم صيني، وهذا ما أدى لخروج العديد من التظاهرات في الفلبين لمعارضة دخول البلاد في خصومة بين واشنطن وبكين.
لذا، قد تطالب الفلبين بضمانات أمريكية في حالة الهجوم في بحر الصين الجنوبي، والمساعدة في تحديث قواتها المسلحة، وفي الوقت نفسه تحصل واشنطن على ضمانات بشأن الوصول خلال العامين المقبلين في حالة الإعلان عن طوارئ في تايوان، وذلك لأن الزيارات الأمريكية الرسمية وتوقيع الاتفاق الخاص بالقواعد العسكرية في تصعيد بين الفلبين وبكين على اعتبار أن التصريحات والاتفاقيات التي سيتم توقيعها –خاصةً في المجال الدفاعي- تمثل عملاً استفزازيًا لبكين.
.
رابط المصدر: