وقَّعت تونس والاتحاد الأوروبي، قبل زهاء شهرين، وتحديداً في 16 يوليو 2023، مذكرة شراكة استراتيجية، كان دافعها الأساسي قضية الهجرة غير النظامية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. لكن هذا الاتفاق، على قصر المدة التي مرَّ بها، بدأ يواجه تحديات فعلية، تجلى أبرزها في الخلاف الدائر بين الطرفين حول تطبيق بنوده، وتحديداً تلك المتعلقة بإدارة ملف الهجرة، وجهود الحكومة التونسية في هذا الإطار.
محاور الخلاف التونسي-الأوروبي وتداعياته
كان واضحاً منذ توقيع مذكرة التفاهم بين الجانبين التونسي والأوروبي، أن التقدُّم في ملف الهجرة سيكون المؤشر الرئيس لقياس مدى نجاح الاتفاق بينهما. وكانت التقديرات الرسمية الأوروبية قد أشارت إلى أن 45 ألف مهاجر غير نظامي، بينهم حوالي 5000 مهاجر من أصل تونسي، غادروا انطلاقاً من تونس نحو أوروبا هذا العام، وهي زيادة كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة. ويُظهِر هذا الرقم أن تونس “أصبحت بلد عبور مُفضَّل للمهاجرين”.
وفي إطار مقايضة المساعدات المالية[1] بتعاون أكبر من السلطات التونسية في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، بقي الاتفاق الأوروبي مع تونس رهن تطبيق طرفيه لتعهداتهما، حيث شرعت السلطات التونسية منذ نهاية يوليو في تشديد الرقابة على المسالك البحرية التي يعبر منها المهاجرون، وكذلك الرقابة على المهاجرين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء. في المقابل، كان المعسكر الأوروبي يعيش حالة انقسام تجاه هذا الاتفاق. فقد قدَّم رئيس الوزراء الهولندي المحافظ، مارك روته، الذي شارك في توقيع الاتفاق، استقالته بعد رفض شركائه في الائتلاف الوسطي دعم سياسته الجديدة الصارمة بشأن اللاجئين. فيما ضغط اليسار داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي من أجل عدم إقرار الاتفاق، مطالباً بالتحقق من الوضع السياسي والحريات الديمقراطية داخل البلاد، الأمر الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى إرسال وفد للقيام بجولة داخل تونس، ولقاء قيادات من المعارضة والنقابات والمجتمع المدني.
ومن الناحية القانونية، طالبت أمينة المظالم بالاتحاد الأوروبي، إميلي أورايلي، المفوضية الأوروبية بتوضيحات بشأن الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتونس، وبتحديد نوع الضمانات التي يمكن إدراجها في الاتفاقية من أجل ضمان احترام السلطات التونسية للحقوق الأساسية في عملياتها للحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية. وأمهلت المفوضية حتى 13 ديسمبر 2023 لتوضيح ما إذا كانت قد درست الاعتبارات الحقوقية والقانونية قبل إبرام الاتفاقية، وكيف تعتزم تقييم عواقب الاتفاق الأوروبي-التونسي على قضايا حقوق الإنسان.
دفع هذا الانقسام الأوروبي حول الاتفاق، الجانب التونسي إلى الردّ، وممارسة نوعٍ من الضغط المضاد، من خلال منع دخول وفد البرلمان الأوروبي، بقيادة النائب الألماني عن حزب الشعب الأوروبي، مايكل غاهلر. وفي رسالة موجهة إلى بعثة الاتحاد في تونس، اقتصرت السلطات التونسية على الإشارة إلى أن هؤلاء “لن يُسمَح لهم بدخول التراب الوطني”. فيما دعت مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين في البرلمان الأوروبي إلى التعليق “الفوري” لهذه “الشراكة”. وبالتزامن، أرخت السلطات التونسية رقابتها المشددة للمسالك البحرية، ما أدى إلى وصول أكثر من 7000 مهاجر غير نظامي إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية بين 12 و14 سبتمبر، الأمر الذي دفع السلطات المحلية إلى إعلان حالة الطوارئ في الجزيرة.
وبينما يتعرَّض التضامن الأوروبي وإدارة الهجرة للاختبار، أعلنت ألمانيا في 13 سبتمبر تعليقها استقبال المهاجرين من إيطاليا، ما عكس فشلاً في احترام آلية التضامن بين الدول الأعضاء التي تهدف إلى تخفيف [الضغط على] نقاط الدخول الرئيسة. وفي يونيو الماضي، توصلت الدول الأعضاء إلى اتفاق بشأن الميثاق الجديد حول اللجوء والهجرة، والذي نص بشكل خاص على إصلاح لائحة دبلن وإدخال إجراءات حدودية إلزامية، من أجل التقييم السريع لطلبات اللجوء غير المقبولة. وتتعرض الحكومة الائتلافية في إيطاليا أيضاً لضغوط في هذا الملف؛ فقد أعلن ماتيو سالفيني، شريك الائتلاف ونائب رئيس مجلس الوزراء، في 13 سبتمبر، أن الجهود الدبلوماسية لإدارة الهجرة قد فشلت. وبالنسبة له، فإن إيطاليا تواجه “أزمة أشبه بالحرب التي تديرها قوى إجرامية”. وبالتالي، فقد أعلن أنه مُستعد لاستخدام “كل الوسائل للرد”. ومنذ بداية العام 2023، وصل 75,065 طالب لجوء إلى الشواطئ الإيطالية، مقارنة بـ 31,920 في نفس الفترة من عام 2022.
وعلى رغم وجود قوى معارضة قوية داخل الاتحاد الأوروبي للاتفاق مع تونس حول الهجرة، بسبب الاعتراض، أولاً، على طبيعة السلطة الجديدة في تونس؛ وثانياً، على سياسات الهجرة التي يريد الاتحاد تطبيقها، فإنّ التيار الرئيس داخل الاتحاد، والمكون من المؤسسة التنفيذية، المفوضية الأوروبية، وحكومات روما وباريس وأمستردام وبولندا والمجر، ومن ورائهم طيف واسع من قوى اليمين واليمين المتطرف، يريدون المُضي في سياسات تفويض إدارة تدفقات الهجرة لدول الجوار، ومن بينها تونس، كما جرى سابقاً مع تركيا وليبيا، حيث ظل الاتحاد الأوروبي لسنوات يُموِّل خفر السواحل الليبي، للحد من تدفق المهاجرين، رغم جميع الانتقادات الحقوقية تجاه سياسات أنقرة وطرابلس مع المهاجرين.
لكن هذه المحاذير والانتقادات الحقوقية والسياسية، لم تنجح بعد في زعزعة موقف المفوضية الأوروبية المُدافِع بقوة عن الاتفاق مع تونس، إذ أعلنت في 24 سبتمبر صرف القسط الأول من المساعدات المالية لتونس بقيمة 127 مليون يورو، والتي تشمل: 60 مليون يورو لسد عجز الميزانية العامة للدولة، إذ تخشي المفوضية من أن يؤدي سيناريو الانهيار الاقتصادي إلى دفع المزيد من المهاجرين إلى الشواطئ الأوروبية؛ وحوالي 67 مليون يورو للمساعدة في الحد من الهجرة غير النظامية. كما وضعت رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، التعاون مع تونس ضمن الأركان الأساسية لخطتها العاجلة لحلّ الأزمة في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، من خلال ترتيب عمليات بين تونس والوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل واليوروبول لمكافحة تهريب المهاجرين إلى الجزيرة. وهذا مؤشر يدل على نجاح سياسة الضغط واستغلال الموقع الجغرافي، التي ينتهجها الجانب التونسي تجاه الأوروبيين.
في الوقت نفسه يستغل تيار اليمين المتطرف، التباطؤ في تطبيق الاتفاق بين الطرفين، لحشد الحد الأقصى من الأنصار قبل شهور من الانتخابات الأوروبية، التي يسعى إلى كسبها. فقد أثارت قضية وصول أكثر من 7000 مهاجر إلى جزيرة لامبيدوزا جدلاً واسعاً، ودفعت رموز اليمين المتطرف إلى زيارة الجزيرة. فيما كشفت الأزمة عن قصور البرامج الانتخابية التي طرحتها رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية، جيورجيا ميلوني، قبل وصولها السلطة، واقترحت فيها انتهاج سياسة “الحصار البحري” لمنع قدوم المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. ومن المعروف، في هذا الإطار، أن أوروبا شدَّدت سياسات الهجرة واللجوء بشكل كبير في أعقاب وصول أكثر من مليون لاجئ، معظمهم من سورية، في الفترة من 2015 إلى 2016، مما أدى إلى زيادة شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي نددت بتدفق اللاجئين باعتباره تهديداً للشعوب والثقافة الأوروبية. أما داخل تونس، فلا تزال سياسات الدولة تجاه المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، تُشكِّل إحدى محركات المعارضة المحلية لنظام الرئيس قيس سعيّد، حيث ترفض المعارضة، لاسيما اليسارية ومنظمات المجتمع المدني، طبيعة الاتفاق مع الجانب الأوروبي القائمة على مقايضة المساعدات مقابل حراسة حدود الاتحاد الأوروبي، كما ترى أن هذا الاتفاق يُضفي شرعية دولية على سياسات الرئيس سعيّد المحلية.
اقرأ أيضاً: |
الآفاق المستقبلية للاتفاق التونسي-الأوروبي
يبدو التعاون بين الحكومة التونسية والاتحاد الأوروبي مفتوحاً على أكثر من مسار مستقبلي، بالنظر إلى حالة الضبابية السياسية التي تواجه الطرفين. ففي الجانب التونسي، لا تزال البلاد تواجه احتمال اشتداد الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة، في خضم مُضي الرئيس قيس سعيّد في مساعيه لتعزيز هيمنة مؤسسات نظامه الجديد، حيث من المزمع إجراء انتخابات الغرفة الثانية للبرلمان في ديسمبر المقبل. وفي الجانب الأوروبي، تستعد مؤسسات الاتحاد لتجديد نفسها من خلال انتخابات أوروبية في يونيو 2024.
ويمكن، تبعاً لذلك، رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للاتفاق التونسي-الأوروبي، ومسارات تطبيقه، على المديين القصير والمتوسط، وذلك على النحو الآتي:
السيناريو الأول: المُضي في تطبيق بنود الاتفاق، وعلى رأسها تلك الخاصة بقضية الهجرة غير الشرعية. وهذا المسار ممكن في حال حافظ الائتلاف الحاكم في إيطاليا على تماسكه. ومن خلاله ستتمكن تونس من الحصول على مساعدات مالية تُخفِّف من عجز الموازنة العامة، وربما تضمن لها إبرام اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، والذي بقي مُتعثِّراً منذ حوالي عامين. في المقابل، سيغض الاتحاد الأوروبي الطرف عن الانتقادات السياسية والحقوقية التي يتعرض لها نظام الرئيس سعيد من طرف المعارضة المحلية، ومن منظمات المجتمع المدني، ومن قوى اليسار داخل مؤسسات الاتحاد.
السيناريو الثاني: فشل تطبيق الاتفاق، بسبب الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي حول سياسات الهجرة، والموقف من نظام الرئيس قيس سعيّد. وهذا المسار ممكن أيضاً في حال تفكك الائتلاف الحاكم في إيطاليا، أو في حال تصاعدت سياسات التحكم في الفضاء العام من طرف السلطات التونسية، خاصة تجاه نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني، والمعارضة السياسية والنقابية، إذ عندها ستكون المؤسسات الأوروبية مُجبرة على خفض المساعدات والدعم المالي. لكن في هذه الحالة سيتعيَّن على أوروبا مواجهة موجة هجرة كثيفة يمكن أن تكون غير مسبوقة، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من الضغط على الحكومات ويرفع من شعبية أحزاب اليمين المتطرف. لكن في الوقت نفسه، قد يؤدي ذلك إلى خسارة الرئيس سعيّد شركاءه الأوروبيين بوصفهم الداعم المالي والسياسي الأكبر له.
السيناريو الثالث: تطبيق جزئي للاتفاق، من خلال التركيز على تنفيذ البنود المتعلقة بملف الهجرة غير النظامية في مقابل صرف المساعدات المُعلَن عنها، دون المضي في تطبيق الاتفاق على نحو شامل، بما في ذلك ملف التأشيرات والتعاون في قطاع الطاقة، وغيرها من المجالات. وهذا السيناريو هو الأقرب للحدوث، حيث سيستفيد نظام الرئيس سعيّد من جرعة مساعدات مالية يمكن أن تسد جزءاً من عجز الموازنة، أو تكون ضمانة لقرض من صندوق النقد الدولي، فيما سيستفيد الأوروبيون من حلٍّ وقتي لمسألة الهجرة، كما حدث سابقاً في اتفاقاتهم مع ليبيا وتركيا، دون التوصل إلى حلول مستدامة، بالنظر إلى أن الجذور الرئيسة للأزمة تكمُن في هشاشة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمناخي في دول الانطلاق، وهي أساساً دول أفريقيا جنوب الصحراء، التي تعاني من سلسلة انقلابات عسكرية، وكذلك دول شمال أفريقيا، التي تواجه أزمة اقتصادية ومناخية غير مسبوقة. لذلك، فإن الاتفاق، تبعاً لهذا السيناريو، سيكون محلّ تطبيق وقتي في سقفٍ لن يتجاوز على الأغلب موعد الانتخابات الأوروبية بعد تسعة أشهر.
[1] وعد الأوروبيون بتقديم قرض بشروط ميسَّرة لتونس بقيمة 900 مليون يورو، وهو تمويل مرتبط باتفاق بين تونس وصندوق النقد الدولي، بمبلغ إجمالي قدره 1.9 مليار يورو. وبدفع مساهمات غير قابلة للاسترداد يناهز مجموعها ربع مليار يورو موزعة على النحو الآتي: 150 مليون يورو لتلبية احتياجات السيولة للخزانة التونسية، و105 مليون يورو لمكافحة الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر. كما شمل الاتفاق التونسي-الأوروبي تعهدات بتوفير تمويلات إضافية موجهة للتنمية من بينها 10 مليون يورو لتعزيز التبادل الطلابي، ودعم حوالي 80 مدرسة للاستعداد للتحول الرقمي والأخضر، بمساهمة قدرها 65 مليون يورو.
.
رابط المصدر: