بعد ثمان سنوات من التباعد التركي الإماراتي جاءت زيارة الشيخ طحنون بن زايد، في الثامن عشر من أغسطس/آب الجاري، إلى العاصمة التركية لمحاولة بحث آفاق جديدة لعودة العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي.
وقد جاءت هذه الزيارة بعد أشهر من اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين، هو الأول من نوعه منذ خمس سنوات، تم من خلاله تبادل التهاني بعيد الفطر بين الطرفين، ولهذا يتوقع المراقبون للشأن التركي الإماراتي أن البلدين يحاولان تطبيع العلاقة بينهما من جديد، واستثمار سياقات التقارب الإقليمي في إعادة ترتيب الملفات البينية، والاستفادة من فرص التعاون التجاري التركي الإماراتي في تذليل الخلافات السياسية. لكن هل هناك رغبة حقيقية لدى الطرفين للانتقال إلى خطوات عملية لحلحلة الملفات الخاصة وتسوية الملفات الإقليمية، أم أن العلاقة ستبقى بحجمها الحالي.
يبحث تقدير الموقف في دوافع الزيارة الإماراتية لتركيا، وانعكاس آثارها على العلاقات بين البلدين، والسيناريوهات المستقبلية للعلاقات التركية الإماراتية.
دوافع التقارب التركي الإماراتي
يعيش العالم اليوم حالة من تسارع الأحداث والمتغيرات السياسية والاقتصادية، برزت معها حالة من تغير موازين القوى، وإعادة ترتيب العلاقات الدولية والإقليمية، وتنويع التحالفات السياسية، والبحث عن شراكات جديدة، وفي ظل هذا الواقع تسعى بعض دول الإقليم لإعادة ترتيب تموضعاتها السياسية، والاستفادة من المتغيرات الجديدة.
أولاً: الدوافع التركية
بدأت تركيا منذ نحو عام بمحاولة ترتيب الملفات الخارجية، واضعة على نسق أولوياتها تطبيع العلاقة مع المحور المصري السعودي الإماراتي، بعد سنوات من التصعيد السياسي والإعلامي بين هذه الدول، وتهدف تركيا من وراء ذلك إلى العودة لسياسة تصفير المشاكل، وقد سبق الزيارة الإماراتية لتركيا جولة من المفاوضات السرية والمكالمات الهاتفية والإيحاءات الإيجابية بين البلدين.
تشعر تركيا بأن هناك توجهات دولية لفرض الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وتوسيع دائرة التطبيع لتشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى بعد موجة التطبيع السابقة، وأي توسع لنفوذ الكيان الإسرائيلي في المنطقة معناه تهميش الدور التركي، وربما لهذا تحاول تركيا أن تسابق الزمن في التقارب مع الدول العربية، وتوسيع دائرة المشتركات السياسية لقطع الطريق أمام المشروع الصهيوني أو التخفيف من تأثيره.
كذلك تعيش تركيا وضعاً اقتصادياً مضطرباً يدعوها للاستفادة من كل الفرص المتاحة من أجل استقرار العملة، وتعزيز فرص الاستثمار داخل تركيا، للحد من حالة التضخم ومعالجة آثار البطالة وتداعيات أزمة كورونا، والإمارات هي من أكبر مستوردي السلع التركية، وتعد “الشريك التجاري الأول لتركيا في الشرق الأوسط”، حسب تصريحات الوزير الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش.
ثانياً: الدوافع الإماراتية
للإمارات أهداف اقتصادية وسياسية تدفعها للتقارب مع تركيا، حيث تستثمر الإمارات داخل تركيا بـ4.3 مليارات دولار، حسب وكالة الأناضول، ولهذا تسعى للمحافظة على مصالحها الاقتصادية في تركيا، وتطويرها.
وإذا كانت المصالح الاقتصادية هي الملف العلني الأهم في الزيارة، حسب ما تناولته وسائل الإعلام، فإن قضايا الاستثمارات وغيرها لا تتطلب لقاء خاصاً برئيس الجمهورية، كما أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين لم تؤثر فيها كثيراً الخلافات السياسية، ومن ثم يبقى التساؤل عن الدوافع الحقيقية من الزيارة، وما إذا كانت دوافع سياسية عامة تتعلق بالنظام الإماراتي وتسوية خلافاته مع أنقرة، أم دوافع إقليمية أكبر لحلحلة مشاكل المنطقة، ومحاولة الإمارات أداء دور إقليمي أوسع، خصوصاً بعد انكماش دورها نتيجة خلافها مع السعودية، وضعف علاقتها بالإدارة الأمريكية الجديدة، والمتغيرات الإقليمية في أفغانستان والدور القطري في هذا الملف.
إضافة إلى ذلك يبدو أن الإمارات تدرك فشل تدخلاتها في أكثر من ملف، وأن ذلك أدى إلى مزيد من احتقان الشعوب العربية ضدها، ولهذا ربما تبحث عن مخرج لإعادة رسم صورتها الذهنية لدى الشعوب العربية، خصوصاً في ظل المتغيرات الدولية المتمثلة بذهاب ترامب ونتنياهو، وهما أشهر صديقين للإمارات، إضافة للسعي التركي لحلحلة عدد من الملفات، وهو ما تخشى الإمارات أن يتسبب في إبقائها في عزلة إقليمية.
انعكاسات التقارب التركي الإماراتي
التقارب التركي الإماراتي في حال تطوره قد يؤدي إلى انعكاسات متعددة، سواء على مستوى وضع الحلول للملفات الثنائية وتخفيف التصعيد المتبادل، أو على مستوى الملفات الإقليمية.
أولاً: الانعكاسات البينية للتقارب التركي الإماراتي
هناك عدد من ملفات الخلافات البينية بين البلدين، على رأسها الاتهامات التركية للإمارات بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة، إضافة إلى الدعم الإماراتي لمليشيات قسد وحزب العمال الكردستاني ودعم مجاميع مسلحة تابعة للأسد، واستضافة الإمارات لبعض المعارضين الأتراك، لكنها ربما ملفات طارئة على مستوى علاقة البلدين، ويمكن التوصل إلى تفاهمات واضحة بشأنها، ويبدو أن اللقاءات التي جمعت بين مستشار الأمن القومي الإماراتي ومدير الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، ناقشت عدداً من هذه الملفات.
تركيا تدرك جيداً الفرق بين المناورة السياسية والنية الجادة لإحداث تغيرات حقيقية في العلاقات التركية الإماراتية، ولهذا فإن أي مناورة سياسية للإمارات يمكن أن تؤثر سلباً في العلاقات مع تركيا، لكن يبدو أن الإمارات جادة في تبريد عدد من الجبهات، خصوصاً بعد زيارة الشيخ طحنون لقطر، والمتغيرات السياسية في أفغانستان، والخشية من مآلات المرحلة القادمة.
ومع ذلك ستبقى حالة من التوجس بين البلدين، وسيبقي كل منهما على جزء من الملفات للضغط على الآخر، ولا يستبعد أن تعيد الإمارات اختلاق مشاكل اقتصادية داخل تركيا بطريقة غير مباشرة، لكن هذه الخطوة لن تكون لمصلحتها.
ثانياً: الانعكاسات الإقليمية للتقارب التركي الإماراتي
ملف التقارب التركي الإماراتي في حال وصل إلى نقاط عملية من المتوقع أن تكون له انعكاسات إقليمية، حيث من المفترض أن يسرع في تسوية العلاقات التركية المصرية، وقد يتيح لأبو ظبي تفعيل الخطة الإماراتية لتسوية النزاع الإثيوبي مع القاهرة والخرطوم، والاستفادة من المبادرة التركية في هذا الملف، نظراً للتقارب التركي الإثيوبي، إضافة إلى إمكانية التقارب مع قطر، خصوصاً أن هذه الزيارة تبعتها مباشرة زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي لقطر، ولعل تركيا من اشترطت ذلك، إضافة إلى إدراك الإمارات للدور القطري والتركي في أفغانستان، وإدراك تركيا لعودة علاقة الإمارات بالنظام السوري، وذلك قد يشجع تركيا على الاستفادة من الموقف الإماراتي في أداء دور غير مباشر في هذا الملف، أما على مستوى الملف السعودي فيبدو أن تطبيع السعودية لعلاقتها مع تركيا سيكون أبطأ نتيجة حساسية هذا الملف من جهة، والخلاف السعودي الإماراتي من جهة أخرى.
تحاول الإمارات تطبيع علاقتها بالقوى الإقليمية الكبرى؛ إيران وتركيا والكيان الإسرائيلي، لتحقيق طموحها الإقليمي، لكن هذه القوى ربما تنظر إلى المحاولات الإماراتية على أنها أكبر من حجمها الحقيقي، خصوصاً تركيا وإيران، اللتين تنظران إلى الإمارات على أنها مسؤولة عن عدد من أزمات المنطقة، ومن ثم فإن الانعكاس السياسي للزيارة على الطموح الإماراتي ربما يظل محدوداً.
هذا التقارب قد تكون له تطورات سلبية تتعلق بوضع اللاجئين والمعارضين السياسيين في كلا البلدين، وخصوصاً في تركيا، نتيجة احتضانها لعدد كبير من الدول المتأثرة من السياسة الإماراتية في المنطقة، وقد عمدت تركيا سابقاً إلى تخفيف حدة النبرة الإعلامية القنوات المصرية في محاولة للتقارب مع مصر، ويُتوقع أن تقوم الحكومة التركية بإجراءات مماثلة ضد عدد من المؤسسات والشخصيات المعارضة للتخفيف من خطابها الحاد ضد النظام الإماراتي.
مستقبل العلاقات التركية الإماراتية
التقارب التركي الإماراتي حتى في حال تطوره لن ينتقل من التأزم إلى التحالف مباشرة، حيث إن هذه الخطوة صعبة في ظل المعطيات الحالية، ولهذا جاء التركيز على الشق الاقتصادي، والذي يُفهم منه أن الملف السياسي وتعقيداته المختلفة بحاجة إلى وقت أطول ولقاءات أعمق، ومن المتوقع أن تبقى العلاقة التركية الإماراتية في ضوء السيناريوهات الآتية:
السيناريو الأول: التسوية الكاملة
يتوقع هذا السيناريو تسوية كل ملفات الخلاف التركي الإماراتي الثنائية والإقليمية، وعودة العلاقات كما كانت قبل الربيع العربي، ويعزز هذا السيناريو:
– التغير في السياسة الخارجية التركية، والتوجه نحو حلحلة الملفات الإقليمية.
– حرص الإمارات على الاستفادة من المكانة التركية في أداء دور إقليمي أكبر، وهذا قد يؤدي لتطور العلاقة بشكل متسارع.
– التغير في موازين القوى الدولية، خصوصاً بعد ذهاب ترامب، والتطورات الأخيرة في أفغانستان.
– التمهيدات المشتركة قبل الزيارة.
ويضعف هذا السيناريو تعقد الملفات الإقليمية، وتباين السياسات الخارجية للبلدين، وضعف الثقة نتيجة الوصول إلى مرحلة متطورة من تعقيد العلاقة في السنوات الماضية، وتداخل كثير من الملفات مع دول أخرى.
السيناريو الثاني: استمرار التوتر
يفترض هذا السيناريو بقاء العلاقة في إطارها الطبيعي قبل الزيارة، واعتبار الزيارة حالة من المناورة السياسية لا أكثر، ويعزز هذا السيناريو:
– التعقيدات الإقليمية نتيجة تداخل الفواعل المختلفين.
– التباينات السياسية بين البلدين تجاه عدد من الملفات.
– وصول العلاقة بين البلدين إلى مرحلة متقدمة من التأزم.
السياقات المتعلقة بملف العلاقات الإماراتية السعودية، وأن الزيارة لا تعدو كونها رسالة إلى السعودية.
ويضعف هذا السيناريو التصريحات الإيجابية بين البلدين، ومحاولة الحد من حدية الخطاب الإعلامي، والتحركات الإماراتية الموازية مع عدد من الدول العربية وعلى رأسها قطر، التي تعد أحد أسباب تأزم العلاقات التركية الإماراتية.
السيناريو الثالث: التقارب الجزئي
يتوقع هذا السيناريو الاستقرار الجزئي للعلاقة، خصوصاً في الملف الاقتصادي، وبعض الملفات البينية، والتفاهم على بعض الملفات الإقليمية، ويبدو أن هذا هو السيناريو المرجح؛ للمعطيات الآتية:
– السعي الأمريكي للتفرغ للملفات الدولية يتطلب تهدئة الملفات الإقليمية، والاستثمار الأمريكي لها في توجهاته القادمة.
– وصول الطرفين إلى شبه قناعة بأهمية تسوية الملفات السياسية واستتباب العلاقة بينهما.
– المصالح المشتركة السياسية والاقتصادية للبلدين.
– الطموح الإماراتي لممارسة دور إقليمي يدعوها لتبريد بعض الجبهات والتفرغ لأخرى.
– إمكانية السيطرة على الملفات الثنائية.
خاتمة
العلاقات التركية الإماراتية يسيطر عليها عدد من الملفات المفتوحة والمتطورة، على رأسها: المواقف المتباينة من القضايا الفلسطينية والمصرية والسورية والليبية، وخلافات شرق المتوسط والدور الإماراتي في ذلك، والعلاقة الإماراتية باليونان، وقضايا الجماعات السياسية الإسلامية، والدعم الإماراتي للتشكيلات العسكرية المعادية لتركيا، وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان تسوية كل الملفات المفتوحة بين البلدين، لكن يمكن التوصل إلى بعض التسويات الثنائية ورسم حدود عامة للتفاهم بما لا يضر بالمصالح الاقتصادية بين الدولتين، مع بقاء حالة التوجس قائمة.
.
رابط المصدر: