تبددت الأحلام الغربية الأوروبية بشكل عام والأمريكية على وجه الخصوص عقب إعلان فوز الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بولاية جديدة ثالثة لمدة خمس سنوات قادمة، إذ طمح الغرب بالاستغناء عنه بتغيير جذري عبر معارضه “كمال كليجدار أوغلو” مما يسمح بحلحلة العلاقات المتوترة خلال ولاية أردوغان، ولكن عقب إعلان النتيجة، أصبح التعامل مع الوضع القائم أمرًا واقعًا لا مفر منه.
أردوغان يبدد أحلام الغرب بفوز المعارضة
على الرغم من أن كل المقومات كانت تشير إلى هزيمة حتمية، بين اقتصاد منهك وزلزال مدمر، ومعارضة متحدة تجمع بين الكماليين وجزء من القوميين وحلفاء سابقين، إلا أن شعبية أردوغان انقذت منصبه من الضياع، فقد فاز في جولة الإعادة بنسبة 52.1% من الأصوات، مستفيدًا من الأصوات العامة بشكل أفضل من خصمه، ويرى الغرب أنه لم يعتمد على هذا العنصر وفقط، فقد كانت لديه “القوة الكاملة” لوسائل الإعلام الحكومية التي وقفت خلفه وروجت لحملته بشكل كبير.
ولعل بعض المواقف الغربية المعلنة التي دعمت “كمال أوغلو”، والاتهامات الغربية بأن أردوغان ما هو إلا نموذج للقادة الآخرين في جميع أنحاء العالم الذين يقوضون الديمقراطية، كانت السبب وراء استفادة أردوغان في هذه الانتخابات، فقد عزز هذا الدعم روايته بأن المعارضة تعمل جنبًا إلى جنب مع قوى أجنبية ضده.
ولم يكن هناك شك في أن واشنطن اعتبرت “كيليجدار أوغلو” خيارًا أفضل بكثير، وتوقعت أن يحدِث تحول جيوسياسي في تركيا يخدم مصالحها إذا فاز، نظرًا لما تشهده الساحة السياسة الآن من مواجهة بين روسيا والغرب، والدور البارز لتركيا في تشكيل ميزان القوى في مناطق متعددة تمتد من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى وشرق البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي لا يمكن إنكار أن السياسة الخارجية لتركيا لها أهمية قصوى لجميع الجهات الفاعلة العالمية.
ولهذا يعتبر فوز أردوغان علامة واضحة على أن موقف أردوغان المتشدد تجاه الولايات المتحدة يحظى بشعبية بين الشعب التركي، حيث قد لا يرى أغلب الأتراك الولايات المتحدة على أنها “قوى عظمى”، وأن تركيا تستحق مكانة متقدمة بين دول العالم كونها العامل المشترك بين أبرز القضايا المهمة على الساحة العالمية.
العلاقات التركية الأمريكية بين ماضي وحاضر أردوغان
في بداية حكم أردوغان، تمتع الزعيم التركي بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، لكن مع تغير مسارات حكمه على مر عقدين من الزمان، حاول أردوغان خلالها إخراج تركيا من دورها المعتاد كشريك صغير للولايات المتحدة إلى لاعب إقليمي مستقل غير قابل لتطبيق سياسة الإملاءات، وذلك عبر عدة إجراءات وصفتها الولايات المتحدة بالـ “تخريبية” للسياسة الخارجية التركية.
ولطالما اعتبرت واشنطن أن إدارة أردوغان تعيق الديمقراطية في البلاد، وأنها السبب في إضعاف أحزاب المعارضة، مما جعل الصدع يتسع بين أنقرة وواشنطن بسبب قيمهما المختلفة، ولعل هذا الصدع أخذ في التزايد عقب احتجاجات 2016 التي خرجت ضد أردوغان في محاولة لإسقاطه، والتي زعم أردوغان حينها أنها مدعومة من واشنطن. هذا بجانب الدعم الأمريكي للقوات الكردية “الإرهابية من وجهة نظر أنقرة” في شمال شرق سوريا، ورفضها طلب تركيا تسليم “فتح الله جولن”، فكل ما سبق تراه أنقرة محاولات لاستفزازها والتقليل من مكانتها، ولكن لم يصل الأمر إلى حد القطيعة بين البلدين.
وخلال الانتخابات الأخيرة، كانت حملة أردوغان لعام 2023 هي الأشد معاداة للغرب وللولايات المتحدة على الإطلاق، ولكن رغم ذلك، تجنبت إدارة بايدن الانحياز لأحد الجانبين، وحاول بايدن التشويش على الأسئلة التي تضغط عليه من أجل تحديد الصف الذي يتمنى أن يقف بجانبه، لكنه برر بأن هناك مشاكل كافية في العالم أكبر من الانتخابات التركية في الوقت الحالي.
ولكن هذا لم يكن موقف بايدن المعتاد، ففي عام 2020، وقبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة، وصف بايدن أردوغان بالمستبد، مقترحًا أن تدعم أمريكا المعارضة التركية، وهي التعليقات التي أدانتها حينها تركيا باعتبارها “تدخلًا” في ذلك الوقت.
أما أعضاء الكونجرس، فقد انتقدوا أردوغان بشدة وأملوا علنًا بالتغيير في تركيا، كذلك دعا مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق “جون بولتون” الدول الأعضاء في الناتو إلى دعم أحزاب المعارضة في تركيا قبل الانتخابات العامة، زاعمًا أن أنقرة لا تتصرف كحليف “مسؤول” في الناتو، ليشن أردوغان وحزب العدالة والتنمية حملة فعالة ضد الرئيس جو بايدن من خلال تصنيف المعارضة على أنها تفضيله.
وبالنظر إلى أهمية استمرار أردوغان من عدمه بالنسبة لبايدن نجد أن للأمر تأثير كبير عليه، يصل إلى حد التأثير على رئاسته لأمريكا، إذ سيكون لمصير أردوغان تداعيات كبيرة ليس فقط على ديمقراطية بلاده، ولكن أيضًا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وربما أدى سعي بايدن للحفاظ على الديمقراطية في الخارج إلى تعقيد السياسة الخارجية الأمريكية، ليقف بايدن الآن حائرًا حول ما الذي يجب فعله عندما تتعارض القيم الديمقراطية لبلاده في تركيا مع المصالح الاستراتيجية.
فعلى الرغم من أن تركيا حليف في الناتو، إلا أن أردوغان غالبًا ما أحبط واشنطن في مواقف عدة، نجد أهمها في التقرب من روسيا- العدو الغربي الأبرز على الساحة الآن- ومعارضته العقوبات الغربية ضد روسيا في ظل التعهد الأبدي بمساعدة أوكرانيا اقتصاديًا وعسكريًا، وهو ما يعرقل سعي الولايات المتحدة لإنفاذ سيادة أوكرانيا، هذا بجانب اقتراح تركيا التقارب مع سوريا.
ولا ننسى أن أردوغان لا يزال يمانع انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي “الناتو” بدعوى رفضها اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه القضايا التي تشغل تركيا، بما في ذلك تسليم المطلوبين من النشطاء الأكراد الذين يعتبرهم إرهابيين، ومن هنا يمكن أن نفهم سبب عدم قدرة الولايات المتحدة ببساطة على تجاهل أو رفض أردوغان حتى ولو كان “غير ديمقراطي”.
التعامل الأمريكي مع واقع استمرار أردوغان
بعد أن مثلت الانتخابات التركية ضربة لبعض الحلفاء الغربيين الذين كانوا يأملون في أن تشهد فترة ما بعد أردوغان عودة تركيا إلى حلفائها التقليديين في الغرب، أصبح التعامل مع حقيقة استمرار أردوغان- في أكثر الظروف المشحونة من الناحية الجيوسياسية- أمرًا حتميًا، ولذا قد يصبح لدى الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين الآن بعض الأدوات للمساعدة في دفع الزعيم التركي بعيدًا عن بعض سياساته الأكثر ضررًا بالنسبة إليهم، خاصة وأن هناك توقعات بأن ينتهج أردوغان سياسة خارجية “محسنة” في المستقبل، ولكنها غير متغيرة عن سابقتها التي دافع عنها.
– ” شبه الاستقلال الاستراتيجي” الذي يرسخه من خلال حلف الناتو
يظل الناتو هو حجر الزاوية للأمن التركي، ويتفاخر أردوغان بأنه جعل تركيا قوة أكثر استقلالية ولها رأي بداخل الحلف قد يعارض مصالح الغرب، ولكن مؤخرًا تحدثت أنقرة لصالح قبول أوكرانيا وجورجيا، وذلك بعد الحصول على تنازلات بشأن التعاون الدفاعي ومحاكمة جماعة حزب العمال الكردستاني، كما وافق البرلمان التركي على انضمام فنلندا في مارس الماضي، ومع دخول التشريع السويدي الجديد لمكافحة الإرهاب حيز التنفيذ الكامل الشهر المقبل، وتعهدها بإرضاء أنقرة وتنفيذ جميع شروطها، فإن احتمالات انضمام السويد للتحالف ستكون مرتفعة.
ولكن على كلٍ، يبدو أن تركيا ستستمر في لعب دور مستقل داخل الناتو، وستبقى تركيا – كما كانت- العقبة أمام التنفيذ السلس لأجندة الولايات المتحدة في الناتو، والتي تكمن في بقاء تركيا كمساهم قوي في تدريب الحلف وجاهزيته ومهامه الدفاعية المشتركة، وأن تعمل داخل برنامجه لمواجهة المحور “الروسي- الصيني- الإيراني” إلى أقصى حد.
وفي ظل ولاية أردوغان الجديدة، تبقى هناك مخاوف من أن يقسم أردوغان الحلف بسبب تقاربه الشديد مع بوتين، ولكن في النهاية لا توجد نوايا تركية بالانسحاب منه، بالإضافة إلى أن الحلف لا يجرؤ على طرد تركيا، لأنها ببساطة تلعب دورًا أساسيًا في التوازن بين الغرب والشرق، كما أنها واحدة من أفضل أوراق المساومة للتعامل مع روسيا.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى احتمالية اندلاع حرب “يونانية –تركية”، وهي الحرب التي تمثل تهديدًا وجوديًا لحلف الناتو، خاصة في ظل فشل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في حمل أنقرة على التراجع عن أسباب حربها المحتملة ضد اليونان أو التراجع عن تحدياتها الرسمية للسيادة اليونانية، مما جعل الأمر متروك لمستوى تحمل ضبط النفس اليوناني لمنع نشوب الصراع، ولهذا قد تعمل إدارة بايدن على تقديم تنازلات لتركيا لإنهاء هذا العداء داخل التحالف.
– استراتيجية التوازن والتحوط بين القوى العظمى
وهنا نتحدث تحديدًا عن العلاقات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، وقد بعث أردوغان برسالة خلال حملته الانتخابية مفادها أن:” “علاقات تركيا مع روسيا لا تقل أهمية عن العلاقات مع الولايات المتحدة”، مما يعني أن الرئيس التركي سيظل مستمرًا في سياساته القديمة وهي وضع روسيا والولايات المتحدة ضد بعضهما البعض لتحقيق أقصى استفادة بمسك العصا من المنتصف، فمثلما لا تستطيع تركيا معاداة الولايات المتحدة وأوروبا بالكامل، لا تستطيع تركيا أيضًا معاداة روسيا بالكامل، وستظل التجارة والطاقة والتعاون الاقتصادي مع روسيا هي أولوية. هذا بجانب أن علاقات أنقرة مع موسكو تخدم أيضًا وظيفة استراتيجية مهمة للغاية تسمح لتركيا بتعزيز ثقلها في الشؤون الدولية، من خلال الحفاظ على وضع أردوغان كوسيط قيّم في أكبر قصة دولية حاليًا وهي “الحرب في أوكرانيا”.
أما الولايات المتحدة، فيبدو أنها ستضطر –مرغمة- إلى التصالح مع الواقع والتعامل مع سياسة أردوغان المستقلة لمدة خمس سنوات أخرى، فنجد أنها وافقت أخيرًا على طلب أنقرة بالسماح بشراء طائرات “F-16″، بالرغم من أنها طُردت من قبل من برنامج “F-35” جراء شرائها أنظمة الصواريخ الروسية “S-400″، فقد دعمت إدارة بايدن–عقب فوز أردوغان مباشرة- عملية البيع بالرغم من معارضة الكونجرس الذي طالب أن يتم اقترانها بالموافقة التركية على عضوية السويد، ولعل هذه الخطوة هي بادرة أمريكية لتحسين العلاقات المتوترة، وحمل أنقرة على التراجع عن استفزازاتها تجاه اليونان، كما ذكرنا سابقًا.
ويمكن أن تعمل إدارة بايدن في المقابل على إقناع أنقرة بالمزيد من التنازلات لمنع الأوليغارشية الروسية من استخدام تركيا كقاعدة للعمليات ووجهة لقضاء العطلات، مع العلم أن الضغوط السابقة من واشنطن كانت فعالة جزئيًا في دفع تركيا إلى منع عبور البضائع التي تخضع للعقوبات الغربية إلى روسيا، ولكن بالتأكيد سيظل الموقف العدواني الأمريكي في معاقبة الكيانات التي تتخذ من تركيا مقرًا لها والتي تنتهك القواعد قائمًا دون تغيير، حتى لو تحسنت العلاقات التركية الأمريكية في أصعدة أخرى، ويمكن أن تضغط الولايات المتحدة على تركيا في المستقبل إذا ارادت ألا تتحول الحرب في أوكرانيا إلى حرب أبدية، وستطلب منها حينها أن تختار جانبًا.
مجمل القول، سيعمل أردوغان كما في السابق على الحفاظ على تعددية الاتجاهات التي مكنته من إقامة علاقات بنّاءة مع روسيا والصين ودول في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والدفع بتركيا نحو أن تكون قوة عظمى ذات تأثير حتى لو كان ذلك على حساب تحالفات أنقرة مع الغرب، وبغض النظر عن استياء واشنطن.
.
رابط المصدر: