مقدمة
مرّت دول مجلس التعاون بفترات رواج اقتصادي بسبب ارتفاع أسعار النفط تلتها فترات ركود، كما شهدت أسعار النفط على مدى الأربعين سنة الماضية تقلبات سريعة في الأسعار. ومنذ الطفرة النفطية الأولى عام 1973 وما تلاها من تدفق للإيرادات النفطية في دول مجلس التعاون، أصبح الهبوط في أسعار النفط مصحوباً بتأثير عميق على اقتصاديات دول الخليج. وكان الهبوط في الإيرادات النفطية يحدث إمّا بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط، أو الانخفاض في الإنتاج. والفترات السابقة التي شهدت هبوطاً حاداً في أسعار النفط هي 1982 – 1986، و1998-1999، و2008-2009، وتعتبر الفترة الأولى – وهي فترة الثمانينات – هي الأكثر تشابهاً مع الانخفاض الحالي في أسعار النفط. فمن أوجه التشابه بين انخفاض أسعار النفط اليوم وانخفاضها في فترة الثمانينات، هو أن هبوط أسعار النفط كان نتيجة لتوسع الإنتاج النفطي خارج أوبك، وتزايد الجهود في كثير من الدول المتقدمة لتحسين كفاءة استخراج البترول وخفض تكلفة الإنتاج، بالإضافة إلى الترشيد في استخدام الطاقة الذي قادته وكالة الطاقة الدولية عبر استراتيجيتها، ما أدّى إلى تحوّل سوق النفط إلى سوق مستهلكين.[1] والأهم هو التشابه في هبوط الأسعار لفترة طويلة، خصوصاً مع توقع العديد من التقارير في عام 2016 استمرار انخفاض أسعار النفط لفترة ممتدة، مع توقع أن تمر دول مجلس التعاون بسنوات ركود اقتصادي كتلك السنوات التي تلت انخفاض أسعار النفط في حقبة الثمانينات.
من هنا نركز في هذه الورقة على أوجه التشابه في سياسات دول مجلس التعاون تجاه انخفاض أسعار النفط في حقبة الثمانينات والانخفاض في عامي 2015-2016، من خلال قراءة سياساتها المالية أثناء فترات رواج أسعار النفط وانخفاضها، كمحاولة لإدراك الثابت والمتغيّر في الظروف، ومدى استفادة دول مجلس التعاون من دروس انخفاض أسعار النفط، خصوصاً وأن المرور بأي تجربة يتطلّب استعارة دروس الماضي، وإن لم يتم الاستفادة من تلك الدروس خلال فترات رواج أسعار النفط، فلا يزال في الوقت متسع للاستفادة منها أثناء حقبة انخفاض الأسعار، من أجل تجنّب حالة الركود الاقتصادي التي خلفها انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات، والتخلّص من تبعات تذبذبات أسعار النفط وما تلحقه من أضرار على اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي.
خلفية على فترة السبعينات والثمانيات
نجحت دول أوبك لأول مرة في أن تصبح عاملاً فاعلاً في سوق النفط في سبعينيات القرن الماضي. فقد أصبحت قرارات الإنتاج والتسعير بيد الدول المنتجة بشكل كبير، حيث سيطرت دول أوبك على 55% من إنتاج النفط خلال الفترة 1973-1974. وفي خضم تداعيات حرب أكتوبر 1973 بين الدول العربية والكيان الصهيوني، ارتفعت أسعار النفط بشكل تصاعدي، واستمرت أسعار النفط خاضعة لهذا التطور في السوق النفطية من سوق المستهلكين إلى المنتجين لفترة من الزمن، حتى وصلت الأسعار إلى 13 دولار للبرميل في عام 1978 بعد أن قدرت بأقل من ثلث هذ السعر قبل عام 1973.
وقد تلى ذلك ظهور ملامح نموذج جديد للاستهلاك النفطي منذ عام 1974، متمثّلة بانخفاض الطلب على النفط نظراً لتدارك الدول المستهلكة للنفط للخطر بترشيد استهلاكها للنفط. إلا أنه في عام 1980، مع التداعيات الجيوسياسية للثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية، عادت أسعار النفط وارتفعت بشكل غير مسبوق، حتى وصلت في نهاية 1980 إلى 39 دولار للبرميل بعد أن كان السعر 8 دولار للبرميل في 1973.[2]
مرّت دول الخليج للمرة الثانية بفترة رواج في أسعار النفط، وقد أدى ارتفاع أسعار النفط إلى تضاعف الإيرادات النفطية في دول مجلس التعاون، حيث بلغت الإيرادات النفطية لدول الخليج في عام 1981 126 مليار دولار حسب ميزانيات الدول المعنية،[3] بمتوسط تغيّر في الإيرادات زاد بنسبة 210 % عن عام 1977. إلّا أنه على الرغم من مؤشرات بروز طبيعة جديدة للسوق النفطية، متمثلة بتحولها إلى سوق مستهلكين، لم ينعكس ذلك في مصروفات دول الخليج، التي زادت إنفاقها بشكل سريع من غير الأخذ بالحسبان تلك التطورات.
سياسة التعامل مع انخفاض إيرادات النفط في الثمانينات
مع ارتفاع المخزون النفطي في الدول المستهلكة، إلى جانب سياسات ترشيد استخدام الطاقة في تلك الدول، بدأت صادرات أوبك بالانحسار تدريجياً.[4] وقد أدى ذلك إلى انخفاض صادرات دول الخليج النفطية من 27.6 مليون برميل يومياً في عام 1979، بمتوسط 14.5-% سنوياً، حتى وصلت إلى 10.8 مليون برميل يوميا فقط عام 1985.[5] فبدءاً من عام 1982، أصبح إنتاج الدول غير الأعضاء في المنظمة متساوي مع إنتاج دول أوبك، في الوقت الذي انخفض فيه استهلاك العالم من النفط حوالي 6 ملايين برميل نتيجة لتنفيذ برامج ترشيد الطاقة وإحلال مصادر بديلة محل النفط.[6] لذا قررت الدول الأعضاء في أوبك انتهاج سياسة جديدة ظلّت مستمرة إلى اليوم، حيث تقوم على توزيع الحصص بين أعضاء المنظمة، باستثناء السعودية التي تركّز دورها كمنتج مرجّح وكعامل للاستقرار بحكم طاقتها الإنتاجية، وبدأت تفعيل هذه السياسة في مارس عام 1982.
إلّا أنه بسبب عدم التزام بعض دول أوبك بحصتها الإنتاجية،[7] وجدت السعودية نفسها في عام 1985 في موقف حرج، بعد أن تراجع إنتاجها إلى 2.2 مليون برميل في شهر أغسطس من ذلك العام، بعد أن كان 9.8 مليون برميل في عام 1980.[8] قررت بعدها السعودية التخلّي عن دورها كمنتج مرجّح للنفط في سبيل استعادة نصيبها من السوق، وانتهجت أوبك بعد ذلك “سياسة الحرية للجميع” في الإنتاج، ما أدى إلى انفراط أوبك وانهيار سعر النفط في يوليو 1986 إلى 7 دولار للبرميل.[9] ويفسّر البعض أن تمسّك السعودية بمستوى إنتاجها في عام 2016 رغم الانخفاض الحاد في سعر النفط واتباعها سياسة الدفاع عن حصتها، يهدف إلى عدم تكرار سيناريو الثمانينات. وهو ما ذكره وزير النفط السعودي علي النعيمي في أكثر من مناسبه، حين خسرت حصتها السوقية والحفاظ على الأسعار معاً.[10]
في عام 1985، ومع انخفاض أسعار النفط والإنتاج، واجهت اغلب دول مجلس التعاون عجوزات في الميزانية بلغت نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي في ذلك الوقت. وقد استثنيت من ذلك البحرين وعمان نوعاً ما، اللتان استفادتا من كونهما خارج منظمة أوبك في 1985، حيث لم تكن لديهما التزامات على صعيد الحصص، مما سمح لهما بتعويض انخفاض أسعار النفط عبر زيادة الإنتاج، وتعرضهما لنسبة عجز منخفضة نسبياً بالنسبة للناتج المحلّي. إلّا أنه مع نهاية سنة 1986، ومع انفراط أوبك وتوقّف نظام الحصص، عانت جميع دول مجلس التعاون من دون استثناء من عجوزات مرتفعة في موازناتها.
بعد الأزمة المالية التي مرت بها دول الخليج في منتصف الثمانينات، تبيّن أنه كان يتعيّن على دول الخليج أثناء فترة رواج أسعار النفط خلال الفترة 1973 – 1981 ادخار ما يقرب من 80% تقريباً من إيراداتها النفطية واستثمارها إن كانت تريد مواجهة العجوزات التي تلتها.[11] وهذا طبعاً هو النموذج الذي نجحت به النرويج من خلال إدارتها للمصادر البترولية.[12] إلّا أن الطريقة التي تعاملت بها دول الخليج مع الإيرادات النفطية كانت مختلفة، حيث مثلت تلك الإيرادات القادمة من الخارج تضخماً كبيراً في الميزانيات، مما فاقم تبعات انخفاض أسعار النفط بعد ذلك.
وتركّزت سياسات الإنفاق خلال فترة رواج أسعار النفط في كيفية توزيع هذه الإيرادات، والتي انصبت في زيادة المصاريف الجارية والرأسمالية. بدأت بعدها دول الخليج المعاناة من جرّاء سياساتها المالية خلال سنوات الطفرة بعد انخفاض أسعار النفط وتراجع إنتاجها، حيث سارعت لمحاولة التخلص من أعباء الميزانية التي فاقمت من نسبة العجز، إلّا أنه على الرغم من تلك المحاولات كان من الصعب تقليصها.
فقد كان الإنفاق الجاري (باستثناء السعودية بنسبة بسيطة) يشهد نمواً إيجابياً خلال السنوات اللّاحقة (1985-9019)، وكان التقليص الأكبر في الإنفاق الرأسمالي في جميع دول المجلس. وعلى الرغم التقليص الحاد للنفقات الرأسمالية، كان الارتفاع الضخم في النفقات الجارية خلال فترة رواج الأسعار مصحوباً بتأثير سلبي على دول الخليج، نظراً لصعوبة إجراء تخفيض كبير في الإنفاق الجاري الذي يستحوذ على 60 – 70 % من إجمالي الإنفاق العام في دول مجلس التعاون، ولأن حجم التوظيف العام والذي يعتبر أساس سوق العمل المحلّي سيتأثر بالتغير في النفقات الجارية. ومن خلال النظر لنسبة التغيّر في الإنفاق الجاري خلال (1985-9019)، نستنتج أن دول الخليج قررّت تبنّي سياسة مالية لا زالت قائمة حتى اليوم، تقوم على السعي لتمويل العجوزات في الميزانية العامة من خلال حلول مؤقتة، كخفض النفقات الرأسمالية وإصدار السندات لتمويل العجز، بدلاً من محاولة إصلاحه. وكانت هذه السياسة المالية عامل رئيسي لتفاقم الخلل الاقتصادي على مدى الثلاثين عاماً الأخيرة.
الدروس المفترض الاستفادة منها من تلك التجربة
بعد تبعات الانخفاض الحاد في أسعار النفط في منتصف الثمانينات وما تلاها من آثار على اقتصاديات دول مجلس التعاون، توقع العديد من الخبراء أن دول أوبك ودول الخليج على وجه الخصوص ستكون حذرة تجاه الارتفاعات المستقبلية في أسعار النفط.[13] ومن خلال النظر إلى تلك التجربة سيكون بالإمكان تلخيص الدروس المفترض الاستفادة منها في تلك الحقبة في عدة نقاط:
1- أن أسعار النفط متذبذبة، وزيادة الإنفاق العام بشكل مطرد مع ارتفاع أسعار النفط أمر غير مستدام، حيث ستكون عواقب نمو الإنفاق وخيمة حين حدوث هزة في أسواق النفط، من هنا أصبح لزاماً على دول الخليج تكوين خارطة طريق من أجل تجنب تحديات تذبذب أسعار النفط، تقوم على تبنّي معدّلات نمو في المصروفات متساوية مع معدل النمو في فترة ما قبل رواج أسعار النفط، واستثمار الإيرادات النفطية في مصادر دخل بعيدة عن تقلّبات أسواق النفط.
2- أن تذبذبات أسعار النفط تفضي إلى تعطيل خطط التنمية وتأجيل الكثير من المشاريع الكبيرة، فتقلّب الإيرادات النفطية أدّى كما في تجربة الثمانينات إلى خفض المصروفات الرأسمالية بشكل حاد من أجل تدارك العجوزات في الموازنة العامة، وهو ما أدّى إلى تعطيل الكثير من المشاريع التي يتطلب تنفيذها سنين عدة، ومن أجل إيجاد حل لهذه المشكلة يجب على دول الخليج ادخار نسبة كبيرة من الإيرادات النفطية في فترة الرواج، وألّا تزيد النفقات الجارية بشكل مفرط حتى لا تذهب الأموال المدخرة في إنفاق استهلاكي بعد انخفاض أسعار النفط ومن أجل ضمان استمرارية المشاريع التنموية.
3- إن تدفّق الإيرادات النفطية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بشكل غير مسبوق على دول الخليج، كان ينقصه في المقابل مؤسسات قوية بصورة استثنائية تقوم بالتغلب على مشكلات حجم الإيرادات النفطية وتقلباتها، حيث أن إدارة هذا المورد الناضب يكون صعباً في حال غياب هذه المؤسسات، والذي قد يؤدي إلى التعامل مع الثروة النفطية بطريقة “تحويل ثروة مادية ناضبة كالنفط، إلى ثروة مالية أو ورقية يتم إنفاقها بدل توليد ثروة جديدة بعمل منتج”.[14]
الطفرة النفطية الثالثة وانعكاساتها على دول الخليج
في عام 2003 كان نمو الاقتصاد العالمي عاملاً رئيسياً لزيادة الطلب على النفط، خصوصاً في الصين التي أصبحت تستورد حوالي 50% من استهلاكها من النفط في عام 2006 بعد أن كانت مكتفية ذاتياً في أوائل التسعينات، وهو ما أدّى بدوره إلى زيادة أسعار النفط بشكل سريع من 23 دولار للبرميل عام 2002 إلى دولار147 في عام 2008. وارتفعت معها قيمة صادرات دول الخليج من النفط والغاز من 123 مليار دولار في عام 2002 إلى 614 مليار دولار في 2008.[15]
وكان نمو الإنفاق العام في دول مجلس التعاون منخفضاً نسبياً خلال الثمانينات والتسعينات مقارنةً بالنمو الكبير في الإنفاق العام بعد الطفرة النفطية الأولى في 1973 والطفرة النفطية الثانية عام 1979. وبعدما أدّت سياسات دول الخليج إلى زيادة الانفاق الحكومي في فترات ارتفاع أسعار النفط، ما أدّى إلى آثار سلبية على اقتصاد دول المجلس، لاحت في الأفق فرصة ذهبية لدول المجلس لتصحيح المسار والبدء في مرحلة جديدة من خلال استفادتها من الارتفاع غير المسبوق في أسعار النفط مع بداية الألفية الثالثة، عبر ترشيد استخدام الإيرادات النفطية والحفاظ على مستوى الإنفاق لتفادي أخطاء حقبة الثمانينات. حيث أن دورات سوق النفط المعروفة بتقلباتها مع اختلاف أسبابها، تتطلب التعامل مع أي دورة جديدة بالاستفادة من دروس الماضي.
إلّا أن دول الخليج اتبعت سياسات على صعيد الإنفاق مشابهة لتلك السياسات التي اتبعتها في الثمانينات بل أكثر خطورة، تمثّلت بارتفاع المصروفات العامة بشكل مطرد مع ارتفاع أسعار النفط، كما لو أن فترة رواج أسعار النفط دائمة، غير مستفيدة من عواقب هذا الارتفاع الذي حصل خلال النصف الثاني من فترة الثمانينات حين انخفضت أسعار النفط. وعلى الرغم من أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط كان قد حدث في 2008 بسبب الأزمة المالية العالمية، حين واجهت ثلاثة من دول الخليج عجوزات في ميزانيتها، كان ذلك بمثابة إنذار لدول الخليج لتدارك أخطائها من جديد. إلّا أن دول مجلس التعاون استمرّت باتباع نفس السياسة في إدارة الإيرادات النفطية بعد ذلك، حين عادت الأسعار مرة أخرى للارتفاع في 2010 عبر المزيد من النمو في الإنفاق العام، وعلى صعيد النفقات الجارية على وجه الخصوص، والتي كانت نسبة التغيّر بها في دول الخليج بمتوسط 367.5 % خلال الفترة 2002-2014. تضاعفت معها أسعار التعادل لميزانيات دول الخليج بشكل مفرط، لتتخطى حاجز 100 دولار للبرميل في ثلاثة دول من دول مجلس التعاون.
وقد أدّت سياسات دول مجلس التعاون في التعامل مع الطفرة النفطية الأخيرة إلى تفاقم الخلل الإنتاجي المتمثل في تواصل الارتفاع المفرط في مساهمة النفط في الناتج المحلّي الإجمالي بدلاً من تنويع مصادر الدخل. يوضح الرسم البياني التالي مجموع الناتج المحلّي لدول المجلس الست، ونسبة التغيّر في مساهمة النفط في الناتج المحلّي الإجمالي.
الفرصة التي أتيحت لدول الخليج
خلال فترة التسعينات، شهدت دول الخليج نسبة نمو في الإنفاق متحفظة نوعاً ما، بسبب استقرار عوائد النفط في أوائل التسعينات. كان متوسط نمو الإنفاق السنوي في دول الخليج خلال تلك الفترة حوالي 3.9%.[16] ولو افترضنا أن دول مجلس التعاون استوعبت درس الثمانينات من خلال حفاظها على معدلات نمو حقبة التسعينات أثناء فترة رواج أسعار النفط في الطفرة النفطية الثالثة، خصوصاً في النفقات الجارية، واستثمرت تلك الفوائض في خطط تنمية مستدامة تهدف لاستمرارية النمو الاقتصادي ليشمل الأجيال القادمة، لكان الوضع اليوم مختلفاً، ولكانت القيمة المطلوبة لسعر البرميل لمعادلة ميزانيات دول الخليج مختلفة، وقيمة الصناديق السيادية للسعودية والكويت وأبوظبي متساوية أو متجاوزة لقيمة الصندوق السيادي النرويجي. بالإضافة إلى أن سياسات الإنفاق والبرامج الاقتصادية لو كانت أكثر ترشيداً وأقل اندفاعاً مع الطفرات النفطية، لتمكّنت دول الخليج من مواجهة تحديات انخفاض أسعار النفط باحتياطات مالية أكثر والتزامات مالية أقل. وحتى في ظل انهيار أسعار النفط اليوم، كانت دول الخليج (باستثناء البحرين) ستحقق فوائض مالية لو تم اعتبار سعر متوسط البرميل 50 دولار.[17] هذا مع افتراض تغطية نفقات الميزانية من خلال الإيرادات النفطية بشكل كامل.
ازمة أسعار النفط الحالية
في عام 2010 ومع بداية التعافي العالمي من آثار الأزمة المالية، عادت الأسعار لترتفع بعد هبوطها الحاد إلى 77.4 دولار للبرميل، حتى كسرت حاجز 100 دولار للبرميل وتستقر عند 107 دولار في 2011 و109 دولار في 2012.[18] إلا أنه مع دخول الربع الأخير من 2014، بدأت أسعار النفط بالهبوط مرة أخرى.[19] تباينت الآراء حول أسباب ذلك الهبوط، إذ يعزو البعض ذلك إلى وجود فائض في العرض، بينما يفسّره آخرون بوجود حرب إنتاج بين الجهات والدول المنتجة. وعلى الرغم من تحسّن الأسعار بعض الشيء في منتصف 2015، إذ استقرت عند مستوى 62 دولار للبرميل، إلّا أن الأسعار عادت للهبوط مرة أخرى في سبتمبر لتصل إلى 42 دولار وإلى 38 دولار في نوفمبر 2015. وبدا جليّاً مع نهاية 2015 وبداية 2016، مدى تعقيد الازمة النفطية، إذ استمرت أسعار النفط بالإنخفاض حتى وصل سعر خام مزيج برنت لفترة وجيزة الى ما دون 30 دولار.
وقد كشفت أزمة انهيار أسعار النفط هشاشة نماذج التنمية في دول الخليج، نظراً لعدم تبنيها سيناريوهات مواجهة التقلبات في السوق العالمية الواحدة من أشد السلع تقلباً، أي النفط، خصوصاً وأنها قد عانت من قبل من تداعيات تقلباته غير المحسوبة، والتي يعتمد عليها اقتصاد دول المجلس بشكل رئيسي. وإذا ما اخذنا بالاعتبار التضخم والارتفاع المطلق للنفقات بنحو 506%، واحتسبنا الارتفاع في مستوى تكاليف الإنتاج، فإن مستوى الأسعار عند 30 و40 دولار للبرميل في عام 2016، بالنسبة لدول الخليج، تعتبر أدنى من 10 – 15 دولار أمريكي للبرميل الذي تحقّق 1986 و1998.
يشكل التفاوت في الأوضاع الاقتصادية بين دول مجلس التعاون أحد المخاطر الرئيسيّة التي تواجهها، فقدرة كل دول الخليج على احتمال الأزمات الاقتصادية تختلف عن قريناتها. ففي بداية فترة الانتفاضات العربية في 2011، قامت بعض الدول التي تمتلك وفرة ماليّة بتعويض جاراتها من أجل طرح الحلول الاقتصادية لمعالجة الأزمة، وقد لا تتكرّر نفس الحلول مرة أخرى إذا اشتد الوضع الاقتصادي في كل دول المجلس، ولم يعد بالإمكان لبعض الدول مساعدة جاراتها. ويمكن تقسيم دول الخليج في القدرة على مواجهة الأزمة إلى ثلاث مجموعات، تميّزها عدة عوامل، كحجم الصندوق السيادي والإنتاج النفطي ونسبة النفقات الجارية من إجمالي الإنفاق العام. يوضح الجدول التالي توزيع دول الخليج الست إلى ثلاث فئات، حسب القدرة على مواجهة الازمة، وفرق سعر النفط لمعادلة الميزانية لكل دولة عن سعر 30 دولار للبرميل، وهو السعر الذي نتج عن التعامل السياسي مع الأزمة، من خلال رفض الأطراف المنتجة للنفط التعاون على خفض الإنتاج وإصرار بعضها على زيادته.
لا يعني تصدر الدول للترتيب في الجدول قدرتها على تجاوز الأزمة، إنما القدرة على الصمود لفترة أطول. فنلاحظ أن دول كقطر والسعودية والإمارات تتميّز بنسبة نفقات رأسمالية أكبر نسبياً من جاراتها، حيث بلغت النفقات الرأسمالية لهذه الدول 30% في السنة المالية 2014-2015. في حين تشير التعاملات السابقة لدول الخليج مع انخفاض أسعار النفط إلى توجهها السريع نحو تقليص الإنفاق الرأسمالي بالدرجة الأولى.
ولا يعني ذلك القدرة على تفادي عجز الموازنة العامة، فالإيرادات النفطية المتوقعة في السعودية ستكون أقل من النفقات الجارية، بينما سيؤدي تقليص النفقات الرأسمالية مرة أخرى إلى تعطيل الكثير من المشاريع التنموية، خصوصاً المشاريع الطويلة الأمد. يشكلّ عجز الموازنة الكبير تحديّاً للسعودية، فالإنفاق العام في منتصف الثمانينات كان يساوي 16% من إجمالي الإنفاق عام 2015، ما فاقم من انكشافها على تقلبات أسعار النفط.
أما الكويت، التي تعتبر إحدى أكثر دول الخليج انكشافاً على أسعار النفط من ناحية اعتماد ميزانيتها على أسعار النفط، فمن المتوقع أن يكون عجز موازنتها في السنة المالية 2015-2016 حوالي 26 مليار دولار، وهي نسبة مرتفعة، إلّا أنها معقولة إذا ما قورنت بالاحتياطي الكويتي المقدّر 592 مليار دولار.[20] بينما يختلف العجز في ميزانية السعودية، المقدّر بـ 130 مليار دولار، والذي قد يؤدي إلى تآكل سريع في الاحتياطيات المالية الوقائية، خصوصاً مع السحوبات الكبيرة للأصول الخارجية التي أجرتها السعودية رغم أن الازمة لا تزال في بدايتها، والتي تقدر بـ 100 مليار دولار،[21] الأمر الذي قد يضعف من القدرة على الاستفادة من تلك الاحتياطات المالية في القيام بإصلاحات في الهيكل الاقتصادي في حال استخدمت في تعويض عجز الموازنة فقط. ولا شك من أن التجارب السابقة للسعودية حيال التعامل مع عجوزات الموازنة أعطتها الكثير من الخبرات، لكن يبقى التحدّي في التغلب على عجز الموازنة من خلال ترشيد الإنفاق من دون التعرّض للانكماش الاقتصادي، المصحوب بزيادة نسبة البطالة وخروج الأموال من السوق المحلية، وانخفاض حجم الائتمان في القطاع المصرفي الذي حصل مع تقلّص الإنفاق الحكومي بنسبة 50% عام 1987.[22]
من المهم التنويه إلى أن السعودية لا تزال تمتلك عناصر مهمّة في الأزمة الراهنة لم تكن متوفرة لديها قبل 26 عاماً. فعلى الرغم من أوجه التشابه العديدة في تبعات انخفاض أسعار النفط على السعودية بين أواخر الثمانينات واليوم، إلّا أنها تواجه عجز الميزانية في ظروف أفضل. فهي امتلكت في 2014 احتياطات مالية أكبر، فيما يصنّف الصندوق السيادي السعودي في المركز الرابع عالمياً بمقدار 670 مليار دولار. وبلغ الاحتياطي النقدي نسبة 100% من الناتج المحلّي في 2014، فيما بلغ الدين المحلي السعودي 1.1 % من الناتج المحلّي مقارنة بـ 119% في عام 1990.[23] وقد يعطيها ذلك القدرة على الصمود على المدى القريب، لكنها ستواجه معضلة في ظل استمرارية حجم العجز على حاله في موازنتها.
في المقابل، ستواجه دول الخليج الأخرى صعوبات في تخفيض إنفاقها بسبب انخفاض الإنفاق الرأسمالي مقابل الإنفاق الجاري. فالنفقات الرأسمالية تعد منخفضة بالنسبة لباقي دول الخليج في الكويت والبحرين بحوالي 8.7% للأولى و12% للثانية. إلّا أن الكويت ستكون أقل تأثراً من البحرين نظراً للفوائض المالية الكبيرة التي حققتها في السنوات الأخيرة. لكن يبقى الامر بالنسبة للكويت أكثر صعوبة من الإمارات وقطر. فمن المتوقع أن يبلغ عجز الموازنة في السنة المالية 2015-2016 حوالي 60% من الميزانيّة، فيما لا تزال تلك الدول تحاول خفض الإنفاق بصعوبة بسبب ارتفاع نسبة النفقات الجارية التي تشكل 91% من إجمالي النفقات.
وتعتبر عمان والبحرين الأكثر انكشافاً على الأزمة الحاليّة من ناحية العجز في الميزانية بسبب إنخفاض الاحتياطات المالية مقارنة مع جاراتهما. تحاول عمان الاستفادة من مستويات الدين الحكومي المتدنيّة ومن تصنيفها الائتماني في تمويل موازنتها، إلّا أن اتجاه السوق النفطية أدّى إلى تجاوز العجز للتوقعات، والذي أصبح يقدّر بخمسة مليارات ريال، بعد أن كان العجز المتوقع هو 1.8 مليار ريال عماني، أي ما يقارب 20% من ناتجها المحلي.[24] وقد كانت عمان في فترة الثمانينات أقل الدول الخليجية انكشافا على أسعار النفط، حيث كان العجز في الموازنة العامة 1.5 % في عام 1986. وحين تراجعت أسعار النفط بشكل حاد في تلك الفترة، لجأت عمان إلى استخدام احتياطاتها النفطية الجديدة في ذلك الوقت، فرفعت إنتاجها بنسبة 130% في فترة الثمانينات،[25] مستفيدة من التزام أوبك بالحصص ومن كونها غير عضوة في المنظمة. ونظراً لارتفاع إنتاجها في تلك الفترة بعد انخفاض أسعار النفط وليس أثناء فترة رواج الأسعار، ساعدها ذلك على تجنّب الانكشاف على تذبذبات أسواق البترول.
إلّا أن السياسة المالية العمانية خلال العقد الأخير فاقمت من تبعات انخفاض أسعار النفط، فقد سلكت عمان منهج دول الخليج في رفع الإنفاق العام بشكل سريع مع ارتفاع أسعار النفط، ما أدّى إلى تضاعف إنفاقها بنسبة 360% خلال العشر سنوات الماضية، وبلوغ نسبة النفقات الجارية (التي يصعب خفضها) 78% من إجمالي المصروفات في 2015. بالإضافة إلى أن إبقاء أوبك للإنتاج على ما هو عليه وعدم تقليص حصص أعضائه في الأزمة الراهنة، حال دون استفادة عمان من كونها خارج المنظمة.
وفي حالة البحرين، فهي تمتلك أعلى سعر تعادل لموازنتها في الخليج، وهو 120 دولار، ما يجعلها الأكثر تضرراً من تراجع الإيرادات النفطية التي تشكل 86% من إيراداتها. و تجاوز نمو الإنفاق في البحرين نمو الإيرادات بنسبة كبيرة خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة المصروفات الجارية التي تبلغ 88% من مصروفاتها، تتكوّن من الأجور والدعم الحكومي الذي يخضع لتأثيرات سياسية، ولا شك أن خفض هذه النفقات سيكون مصحوباً بتأثيرات على المشهد السياسي. ولا تزال الخيارات أمام البحرين محدودة، فهي تمتلك أقل نسبة من الاحتياطات المالية في الخليج، إذ تقدّر بـ 11.1 مليار دولار، بالإضافة على تعهد دول الخليج بإيداع 10 مليارات دول خلال عشر سنوات.[26] وتأثر دول الخليج الأخرى قد يؤثر سلباً على الدعم الذي كانت تتلقاه في السابق، ما يعني أولاً غياب الحلول الاقتصادية في التعامل مع أزماتها الداخليّة، وثانياً ضرورة إجرائها لإصلاح هيكلي، مما يفرض عليها المزيد من الضغط الاقتصادي.
تتمتّع الإمارات وقطر والكويت بقدرة على تجاوز انكشافهم على أسعار النفط على المدى القريب نظراً لامتلاكهم نسبة عجز منخفضة مقارنة مع دول الخليج الأخرى بالنسبة للناتج المحلي، وتمتعهم باحتياطات مالية ضخمة تعينهم على تمويل الموازنة العامة. فلو كان العجز لسنة أو سنتين، فإن القرار حول كيفية تمويل عجز الميزانية سيكون محسوماً، حيث ستكون المفاصلة مالية فقط، إذ ستتجه هذه الدول إلى الاقتراض إذا كانت تكلفة الاقتراض أدنى من العائد المحتمل من استثمارات صناديقها السيادية، أي تصنيف الاستثمارات حسب حجم عائدها المحتمل، وتسييل الاستثمارات التي تحقق عائداً أقل من تكلفة التمويل.[27] لكن إذا كان انخفاض أسعار النفط لفترة طويلة، فلاشك أن هذه السياسة لن تكون قابلة للإستمرار، إذ من المتوقع أن ترتفع النفقات الجارية لدول الخليج بمقدار بحلول عام 2030 نظراً لتضاعف أعداد الداخلين لسوق العمل.[28] وإذا كانت بعض دول الخليج قادرة على تمويل العجز خلال بضع السنوات القادمة، فمن المؤكد أنها ستشترك مع سائر دول الخليج في انتهاء حقبة ارتفاع الإنفاق بالشكل الذي شهدناه خلال الفترة (2002 – 2014) بالإضافة إلى التوقعات بتراجع النمو الاقتصادي مالم تراجع سياساتها. وخلاصة الأمر أنه قد يكون بمقدور بعض دول الخليج تدبير أمورها المالية والاقتصادية في عام 2016، لكن في المستقبل المنظور، ستحتاج كافة الدول إلى إصلاحات جذرية إذا ما رغبت بالمحافظة على قوة قطاع النفط وحمايته من الانهيار. ومهما أسعفت الاحتياطات المالية بعض دول الخليج في تجنّب الضغوط المالية ومتطلبات سوق العمل لفترة من الزمن، لا يجب أن يلغي ذلك دورها الأهم في خلق فرصة تغيير مبكّرة لسياسات لم تعد صالحة.
الصناديق السيادية الخليجية
استفادت دول الخليج من الفوائض المالية في جانب رئيسي واحد، وهو إنشاء صناديق ادخار العائدات النفطية أو ما يعرف بالصندوق السيادي. إلّا أن الصناديق السيادية ينقصها الكثير من الشفافية حول قيمتها الحقيقية ونوعية استثماراتها، كما أن أهدافها غير واضحة المعالم، ولا تصدر تقارير تفصيلية عن عملياتها. وفي الكويت التي تعتبر أكثر دول الخليج شفافية، تم مناقشة الوضع المالي للدولة في جلسة سريّة في مجلس الأمة، وكان النقاش فقط حول عرض لإجمالي احتياطات الأجيال القادمة من غير التعرّف على تفاصيلها.[29]
في المقابل، فبمجرّد الدخول على موقع صندوق التقاعد النرويجي، مثلاً، بالإمكان معرفة التغيّر الفوري في قيمة الصندوق الذي يبلغ 866 مليار دولار وبشفافية عالية، وباستراتيجية معلنة. حيث تقوم النرويج باستثمار 60% من صناديقها السيادية في أسهم، و35 % دخل ثابت، و5% عقار، وبتوزيع جغرافي واضح.[30]
بشكل عام، تكمن أبرز أهداف الصناديق السيادية في الخليج في استثمار الفوائض المالية النفطية خلال فترة رواج الأسعار، وتهدف إلى توفير احتياطات مالية تعين على الاستقرار المالي وتغطية العجز في الميزانية في حال انخفاض أسعار النفط. إلّا أن دول الخليج كانت تستطيع الاستفادة من رواج أسعار النفط وتطوير حجم الصناديق السيادية بشكل أفضل، حيث أن إنشاء الصناديق السيادية لم يجنب ارتفاع الإنفاق الجاري خلال سنوات الطفرة، وهو ما حرم دول الخليج من استثمار المداخيل الضخمة من العملة الأجنبية في تطوير حجم الصناديق السيادية. بالإضافة إلى أن استثمارات الصناديق السيادية تكمن بنسبة كبيرة في استثمارات قصيرة الأجل ودخول ثابتة، كسندات دين الخزانة الأمريكية وأسهم الصناديق الخاصة[31] من أجل ضمان سيولتها في أوقات الحاجة. وهو ما أضعف فوائد وعائدات تلك الصناديق.
وسيكون انخفاض أسعار النفط مؤشراً لمدى علاقة دول الخليج بصناديقها السيادية، حيث إن لم تنجح دول الخليج في تخفيض نفقاتها، ستشهد الصناديق السيادية تراجعاً في التحويلات إليها، وفي حال استمر العجز في ميزانيات دول الخليج على المدى المتوسّط، فستشهد الصناديق السياديّة الكثير من السحوبات.[32] والحقيقة أن هبوط أسعار النفط بنسبة 70% من قيمتها، لا يدع مجالاً للشك بأن الصناديق السيادية ستتأثر سلباً، نظراً لاعتماد دول الخليج بصورة أساسية على أسواق النفط. ما يعني أن كل شهر يمر بالسعر الهابط للنفط يعني استهلاك بضعة شهور من الوفر الذي تم بنائه في حقبة الرواج. وعليه، فإن عامل الزمن قاتل ولا يمكن تعويضه. ومما لا شك فيه أن وجود أو عدم وجود صناديق الادخار لا يجب أن يغني عن تبني استراتيجية للتنمية قادرة على تحويل ما في باطن الأرض إلى أصول منتجة فوق الأرض.
الأزمة إلى أين؟
بعد انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات، استغرقت أسعار النفط للعودة لمستوياتها السابقة عشرون عاماً، لم تتجنّب خلالها دول الخليج الركود الاقتصادي. فقد ظلّت لسنوات تتوقع عودة الأسعار مرة أخرى، وتركّز جهدها الرئيسي في كيفيّة تمويل عجز الموازنة العامة من خلال خفض النفقات الرأسمالية، والذي أدّى إلى تعطيل الكثير من خطط التنمية، ومن خلال لجوئها للاقتراض. والمفترض في الوضع الراهن هو ألا تتلكأ دول الخليج في إصلاح أوضاعها المالية المضطربة، إذ لا يعرف مدى طول الحقبة من الضعف في سوق النفط. فعلى الرغم من توقع وكالة الطاقة الدولية ارتفاع الأسعار تدريجياً لتستقر على سعر يقارب 80 دولار للبرميل في 2020، وهو أقل من سعر التعادل الحالي لأربعة من دول المجلس، إلّا أن السناريوهات التي توقعتها الوكالة سابقاً لم تكن دقيقة. فبعد أزمة انهيار الأسعار في 1986، توقعت الوكالة أن يستعيد سعر النفط كامل قيمته قبل الأزمة في عام 1995، إلّا أنه استعاد 50% فقط من قيمته السابقة في 1980،[33] ولم تعد أسعار النفط لكسر حاجز 30 دولار للبرميل إلّا مع بداية الألفية الثالثة.
من هنا ندرك أن الاكتفاء بالمراهنة على عودة أسعار النفط الذي تتوقعه أوبك، وتمويل العجز حتى تعود الأسعار، لا يجب أن يكون بأي حال من الأحوال الأسلوب الوحيد في التعامل مع الأزمة الراهنة. ويبقى الخوف الرئيسي من تفاقم الآثار السلبية لحالة الصراع على الحصص بين النفط التقليدي، خصوصاً وأن العلاقات السائدة بينها تبدو في أسوأ حالاتها. وفي حال انفراط الإنتاج مرة أخرى نتيجة حرب الأسعار، فستكون عواقبه على الدول المنتجة وخيمة، وأعظم مما كانت عليه في الثمانينات. فالآثار التي خلقتها حقبة رواج أسعار النفط على الدول المنتجة سلبية جداً ويصعب تعويضها. ويكمن هذا التحدي خصوصاً في ظل ارتفاع معدلات التوظيف في القطاع العام، حيث لا تزال العمالة المواطنة تتركّز بأكثر من 70% في القطاع العام في أربعة من دول مجلس التعاون.[34] واستمرار هذه السياسية غير مستدام حتى في حال عودة أسعار النفط إلى كسر حاجز 100 دولار للبرميل، حيث من المتوقّع أن يتضاعف الداخلين إلى سوق العمل مع حلول عام 2030،[35] ما يعني تضاعف نفقات دول مجلس التعاون.
الخلاصة أن أسعار النفط غير معروف مستقبلها، ومن هنا أصبح لزاماً على دول الخليج مراجعة سياساتها الاقتصادية، والاستعمال الأمثل لتلك الفوائض في دعم عملية الانتقال من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اقتصاد منتج. فقد كان النمو المطرد في الإنفاق العام خلال العشرة سنوات الماضية مصحوباً بتبعات سلبية، وقد كشفت الأزمة الحالية مدى خطورة السياسة السابقة. ولعل انخفاض أسعار النفط من جديد يعطي فرصة لدول الخليج لإعادة النظر في سياساتها المالية، ككبح نمو النفقات والاعتماد شبه مطلق على أسعار النفط.
خاتمة
واجهت دول الخليج تبعات انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات، حين اعتمدت على النفط بشكل مطلق، ما أدى إلى عواقب اقتصادية بعد الانخفاض في أسعار النفط. ومن المتوقّع من أي إدارة مرت بتلك التجربة أن تستحضر تلك التبعات في تعاملها مع الإيرادات النفطية المستقبلية من أجل التخلص من نقمته، وليكون معيناً على التنمية لا عائقاً لها. إلّا أنه لا يبدو أن دول الخليج استفادت من دروس الماضي بشكل كامل أثناء حقبة رواج أسعار النفط، فلا يزال النفط المصدر الأساسي لتمويل الموازنة، ولم يصاحب ارتفاعه خطط مدروسة تضع بعين الاعتبار التجارب السابقة. حيث زادت النفقات العامة بشكل مطرد كما لو أن فترات رواج أسعار النفط دائمة، فيما اكتفت بعض دول الخليج بإنشاء صناديق سيادية تدير الفوائض المالية وتنحصر مهمتها الأساسية في تمويل العجز أثناء حصوله، بدلاً من محاولة إصلاح الخلل الاقتصادي. وهذا ما شاهدناه من تسارع بعض دول الخليج إلى السحب من احتياطيها لتمويل العجز في موازنتها منذ بداية الأزمة الراهنة.
يتيح ضعف سوق النفط الحالي، رغم تبعاته السلبية، فرصة لإعادة ترشيد السياسة المالية المنفلتة والاستفادة من دروس انخفاض الأسعار السابقة، وأن لا تتأخر تلك الإصلاحات بحجة أن الهبوط مؤقت. فالصناديق السيادية، مهما بلغت قيمتها، ستتأثر سلباً مع السياسة المالية الحالية. فالتجارب السابقة لدول الخليج مع انخفاض أسعار النفط تؤكد وجود علاقة طردية وقوية بين الصناديق السيادية وسوق النفط في حالتي الرواج والضعف. واليوم ومع عودة الأزمة وتوقع حصول عجز الموازنة في ثلاثة دول في الخليج بنسبة 20% من ناتجها المحلّي، أصبح الطلب ملحاً لإيجاد حلول اقتصادية تخلّص دول الخليج من الاعتماد المطلق على إيرادات النفط، وتقوم على تبنّي خطة للتنمية المستدامة تضمن الحياة الكريمة للأجيال القادمة.
http://goo.gl/WRGUW3
http://www.gulfpolicies.com/attachments/article/2167/GCCS2015.pdf