تقوم فكرة هذه المقالة على أن الصراع الأميركي الصيني وصل مرحلة جديدة أبعد من مسألة الحرب التجارية التي سبق أن أعلن عنها رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترمب، خلال حملته الانتخابية، حين كرس حملته لمسألة التراجع الاقتصادي الأميركي لصالح الصين، وذكر ضمن ما ذكر، أن التبادل التجاري بين البلدين مائل بشكل لا يمكن السكوت عنه لصالح الصين، آملا في تصحيح المسار، عبر إعادة التوزان إلى الميزان التجاري من خلال استعادة المصانع الأميركية في الصين، والضغط على الحلفاء من أجل شراء البضائع الأميركية الصنع مع حظر تصدير التقنية الحساسة للشركات الصينية، حينها برز أمام أنظار العالم مصطلح: الحرب التجارية.
إن أوجه الصراع الجديدة توسعت بشكل لافت وشملت مجالات حيوية غير تلك المعهودة في حالات التنافس التجاري بين بلدين، وقمت خلالها بتحديد أوجه الصراع، منها ما هو اقتصادي بشكل أساسي، ومنها ما هو أيديولوجي، ومنها ما هو مؤسساتي.
مسارات التنافس بين القوتين
في المسار الاقتصادي، توجد مسألة التنافس الاقتصادي في الصراع بين الدول الكبرى.
في المسار الأيديولوجي، لا بد من إيضاح محورية الصراع بين الليبرالية الغربية والاشتراكية الشرقية في تعبئة الجمهور العام، كما أن هذه الفلسفة لها انعكاسات مهمة على بناء التحالفات الدولية، ويدعم الصراع الأيديولوجي فكرة تقسيم العالم إلى دول ديمقراطية تقودها الولايات المتحدة، ودول استبدادية تدخل ضمنها روسيا والصين، كما يؤثر في طريقة إدارة الدولة، والفارق هائل بين النتائج التي تنتج عن دولة تتبنى الليبرالية بشتى صنوفها، وبين مجتمع أو دولة تتبنى الاشتراكية، وكيف ينعكس الانقسام الأيديولوجي على الصراع الأميركي الصيني. ونحن إذ نشير إلى هذا الفارق، لا ينبغي أن نغفل عن أن الاقتصاد الصيني نما وتطور عبر تبني أفكار رأسمالية غربية المنشأ، لذا فإن الصراع الأيديولوجي، وإن كانت عناوينه تقليدية ليبرالية مقابل اشتراكية، أو يمينا مقابل يسار فإنه أكثر تعقيدا لأن الصين أكثر مرونةً وانفتاحا على استعارة بعض أدوات الليبرالية الغربية من سابقها الاتحاد السوفياتي.
في المسار المؤسساتي، من المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية نجحت في تأسيس مؤسسات دولية كبرى، مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الحرة، وغيرها من المؤسسات التي حافظت على مصالح القوة المهيمنة، إلا أن الصين لم تعتبر هذا الأمر محسوما بالكامل، فقد شرعت فعليا في تأسيس مشروعها الاستراتيجي الثوري (طريق الحرير الجديد)، وعملت مصارفها ذات الطبعة العالمية بالتوازي مع المؤسسات الغربية في ضخِّ القروض الميسرة للدول القريبة منها سياسيا. معلنةً بذلك، منافستها للمؤسسات الدولية المنضوية تحت عباءة واشنطن. خذ على سبيل المثال لا الحصر، نماذج بعض دول أفريقيا أو باكستان، سنجد تحولا هائلا في العلاقات بين هذه المناطق، وبين الولايات المتحدة والصين لصالح الأخيرة.
واليوم، تنضم ساحات جديدة، أو لنقل ارتقى الصراع إلى ساحات أكثر شمولا من خلال عقد مجموعة من التحالفات قامت بها الولايات المتحدة في الجغرافيا السياسية القريبة من حدود الصين: ومنها على سبيل المثال التحالف الرباعي “كواد” (Quad) الذي يضم الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا، كما أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن اتفاق أمني خاص لتبادل تقنيات عسكرية متقدمة في محاولة لمواجهة الصين تسمى “أوكوس” (AUKUS)، وهو ما يفرض علينا واقعا جديدا، يُعرف بـ”الحرب الباردة الجديدة”، لكن طرفها الآخر هو الصين هذه المرة، لذا لا بد لنا من إجراء إعادة تقييم لهذا الصراع، بحيث تشير معظم القراءات الأولية إلى عدم إمكانية تجاوز فكرة اندلاع مواجهة عسكرية بين القوتين.
في المسار الأيديولوجي، لا بد من إيضاح محورية الصراع بين الليبرالية الغربية والاشتراكية الشرقية في تعبئة الجمهور العام
وتأكيدا لهذا التطور في الصراع، كتب مركز “راند” (Rand) في واحدة من دراساته الكثيرة حول الصراع بين الولايات المتحدة والصين، وهو مركز محسوب على وزارة الدفاع الأميركية، أن المؤسسة راجعت احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين قبل ست سنوات، وخلص معدو التقرير إلى أن “الصراع المسلح بين البلدين، وإن لم يكن مرجحا، فإن الإمكانية حقيقية بما يكفي، بحيث إنها تستلزم سياسات رشيدة وإجراءات رادعة”. كما نشرت مؤسسة “راند” دراسة أخرى في وقت لاحق بعنوان: “الحرب ضد الصين: التفكر فيما لا يقبله العقل”.
أما البروفيسور غراهام أليسون (Graham T.Allison)، فقد أشرف على إعداد مشروع فكري ضخم من خلال فريق عمل خاص بجامعة “هارفارد” العريقة، لمراجعة سجل صراعات القوى الكبرى التاريخية للأعوام الخمسمئة الأخيرة.
توصل البحث إلى نتيجة مفادها أن ست عشرة حالة أسفر خلالها صعود أمة كبيرة عن زعزعة مكانة دولة مهيمنة. وقد أفضى ذلك إلى أن اثنتي عشرة حالة أدى بها الصراع إلى قيام حرب كبرى، وأنّ أربعا منها فقط لم ينتج فيها الصراع إلى قيام حرب. وهو ما أطلق عليه أليسون فخ “ثيوسيديديز” نسبةً إلى مؤرخ يوناني قديم كتب: “إن صعود أثينا والخوف الذي سببه ذلك في إسبرطة هو ما جعل الحرب حتمية”.
بعد تتبُّع 500 عام من الصراع بين القوة المهيمنة والقوة الصاعدة، خلص أليسون إلى الآتي: “بغض النظر عن النيات، عندما تهدد قوة صاعدة بإزاحة قوة مهيمنة عن عرشها، يكون الصدام المسلح العنيف الناجم عن هذا التوتر البنيوي هو القاعدة، وليس الاستثناء”. طرح غراهام تساؤلا يقول: “هل الحرب بين الولايات المتحدة والصين قدرٌ محتوم؟ وبعد تناوله بلغة الأرقام لما سوف يصبح عليه الاقتصاد الصيني خلال العقود القادمة مع استمرار تراجع الاقتصاد الأميركي يجيب: إذا واصلت الأمور مسارها الحالي، فإن الحرب بينهما خلال العقود القادمة ليست ممكنة فقط، بل إن احتمال نشوبها أكبر بكثير مما نعترف به اليوم”، ثم يكمل أليسون قوله في موقع آخر: “وفقا لسجلات التاريخ، فإن احتمالات قيام حرب تكون دائما أكبر بكثير من احتمالات عدم قيامها”.
إن الفكرة الأساسية التي سبر أغوارها غراهام أليسون في دراسته الفريدة هي كيف يؤثر “الخوف” من فقدان المكانة على القرارات الاستراتيجية للدولة المهيمنة، بحيث يدفعها التخوف من خسارة امتيازاتها من اتخاذ قرارات صعبة، مثل الدخول في حرب كبرى. مما لا شك فيه، إن الولايات المتحدة في هذه المرحلة تعيش مثل هذه الحالة في تنافسها الاستراتيجي مع الصين.
لكن، ولكي لا يُفهم من السطور السابقة أننا نتنبأ بوقوع حرب كبرى وشيكة بين الاقتصادين الأكبر في العالم، لابد من العودة إلى التأكيد على أن مسارات المواجهة على الجبهات التي سبق ذكرها، وهي المسار الاقتصادي، والمسار الأيديولوجي، والمسار المؤسساتي لا زالت نشطة. بإيجاز، وأن الحرب الباردة الجديد بدأت بالفعل، وسوف تظل كذلك لعقود قبل الصدام العسكري، أو “الحرب الحتمية” التي لا يتمناها أحد ما لم يتحقق الاستثناء الذي تحدث عنه أليسون.
سوف نحصر اهتمامنا هنا في هذه المقالة بالجبهة الأهم في الصراع اليوم، والتي سوف تؤثر في جميع المسارات السابقة بشكل هائل، ويشبه أثرها أحجار الدومينو، بل تكاد تكون عنصر الحسم الأهم، ألا وهو التنافس التكنولوجي الأميركي الصيني.
القوة الصلبة والقوة الناعمة أثناء التنافس
إنَّ مفاهيم القوة الصلبة والناعمة مرَّت بتحوُّلات شديدة منذ نهاية الحرب الباردة، إلا أنَّ الحصيلة تكاد تكون واحدة، وهي: “إن الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية والقوة العسكرية ثروة مكتنزة، وتتيح الحصول على الثروة وحمايتها”. لذا فإنَّ تأثير مراكمة الثروات أمرٌ حاسم للتأثير في الصراع أو الحرب على المدى الطويل؛ أي أنَّ الاقتصاد القوي المؤهل لتحقيق نسب نمو قوية أثناء السلم والحرب هو الذي سيحسم نتيجة الحرب. لكن كيف يُبنى التفوُّق الاقتصادي إلا عن طريق ضمان التفوق التكنولوجي، وهذه مسألة لا يمكن أن تتم إلا عبر الاستثمار في البحث العلمي والتطوير أولاً، ثم التفكير في العائد الاقتصادي والسياسي لهذا الاستثمار.
غني عن القول بأن الولايات المتحدة تمتعت ولا زالت تتمتع بكونها قوة تقنية لا مثيل لها، لكن هذا ليس كل شيء، التقنيات الحديثة باتت متاحة للجميع، لكن تحويلها تلك التقنية إلى عامل حاسم في التنافس مسألة تحتاج لعمل مختلف عن مجرد النجاح في تسجيل براءة اختراع هنا أو صناعة جهاز هناك. المسألة تتعلق باحتكار مجموعة من الاختراعات والتقنيات التي لا يمكن للعالم بأجمعه الاستغناء عنها، بما يحول هذه القوة المالكة لهذه التقنيات لطرف متحكم في السوق والاسعار وكذلك من تباع له ومن لا تباع. بالتركيز على المسار الصيني، وإذا ما كانت القوة الصاعدة فعلاً تسير في مسار تقني تصاعدي قد يفضي في النهاية إلى حسم ملف القيادة في المسائل التكنولوجية عالية الحساسية، أم أن ما نشهده من صراخ اميركي غربي ما هو إلا تهويل من جماعات المصالح داخل اميركا وخارجها.
تعد الصين المستثمر الثاني عالمياً في البحث العلمي والتطوير والتكنولوجيا الحديثة بعد الولايات المتحدة. إن استراتيجية الصين تتمحور حول فلسفة ” الاستقلال التكنولوجي” ومن ثَمَّ، انعكاس ذلك الاستقلال التقني الذي تنشده بكين لزعزعة أو إزاحة مشروع القوة المهيمنة لصالح قوة جديدة أو تراجعها.
يقول المؤرخ الاميركي بول كيندي: “كان للقوتين التوأم، وهما التغيُّر التكنولوجي والتطور الصناعي، تأثير مستمر في سير النشاطات البرية والبحرية، إضافةً إلى تأثيرهما في القدرات النسبية للقوى العظمى”. أما المفكر الاميركي جوزيف ناي، المنظّر الأشهر للقوة الاميركية الناعمة، فقد أقرَّ في كتابه: “هل انتهى القرن الاميركي”: “إنَّ المشكلات الثقافية والاجتماعية لا تشير إلى انحدار محلي سيحدث قريبًا يرجَّح إضعاف القوة الخارجية الاميركية، لكن الركود الطويل الأمد على صعيد الإنتاجية والقدرة على النمو الاقتصادي المستدام يمكن أن يفعل ذلك”. ويضيف ناي في موقع آخر: “في مسألة التنافسية الاقتصادية مع الصين سيكون الاقتصاد الاميركي الرائد في كثير من القطاعات الجديدة حاسمًا في هذا القرن، مثل تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا النانو”.
تعد الصين المستثمر الثاني عالميا في البحث العلمي والتطوير والتكنولوجيا الحديثة بعد الولايات المتحدة. وتتمحور استراتيجية الصين حول فلسفة ” الاستقلال التكنولوجي”
يقر كثير من علماء السياسة المختصين في العلاقات الدولية بأن القوة الاقتصادية تجلب معها قوة عسكرية، وأن القوة العسكرية تحافظ على مكاسب القوة الاقتصادية وتعززها. وأن التنافس على الموارد لا زال قائما بين الدولة المهيمنة والدولة الصاعدة، وأن بعض الموارد لا زالت حيوية مثل مسألة النفط، والغاز، والمياه، والمعادن، تماما، كما شاهدنا بالدليل القاطع خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وانعكاس امتلاك روسيا لموارد مهمة وحيوية للعالم، مثل النفط والغاز والقمح على حسم الصراع، وتنفيذ الأجندة المطلوبة من الحرب. إلا أن الأزمة الأوكرانية، على سبيل المثال لا الحصر، كشفت أيضا بجلاء أثر التكنولوجيا الحديثة على بعض مسارات الحرب، فقد كانت خدمات “ستارلينك” (Starlink) التي قدمتها شركة “سبيس إكس” (SpaceX) التي يمتلكها الملياردير الأميركي إيلون ماسك واستخبارات صور الأقمار الصناعية من شركة “بلانيت لابز” (Planet Labs) من العوامل الحاسمة التي أثرت على مسار القتال.
إن فرض الأجندة من خلال القوة الصلبة المباشرة على الأرض، الذي مارسته بريطانيا العظمى وفرنسا وإن كان قائما فإنه غير كاف، وبناء القواعد العسكرية والتحكُّم المباشر بالأرض والهيمنة عليها بات أمرا غير حاسم للسيطرة على الجغرافيا السياسية، بالمعنى المادي. لقد انتقل العالم الحديث من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الوظيفية، وهي مسألة تتعلق أكثر ما تتعلق بمحورية هذه الجغرافيا، ومدى ترابطها مع العالم، من هنا تأتي خشية الولايات المتحدة الأميركية من مشروع طريق الحرير الجديد الذي تعمل الصين على تنفيذه بالتدريج، كي لا تستفز واشنطن المستنفرة من أجل تحجيم قدرات بكين، فيما بات يوصف بالحرب الباردة الجديدة.
لقد أضحى العالم أكثر ترابطًا وتعقيدًا من حيث وسائل النقل والاتصال وتشابك الاقتصادات، ومن ثَمَّ باتت الهيمنة تتجلى بأشكال مختلفة، منها التحكم في شبكات الاتصالات وخطوط نقل الطاقة وأنابيب الغاز، وفي النظام المالي العالمي من خلال مجموعة من المؤسسات والأنظمة، وكذلك السيطرة على شبكات النقل، مثل عدم السماح لها بالوصول إلى سلاسل التوريد المهمة، ومن الأمثلة المهمة على ذلك المساعي التي يقوم بها البيت الأبيض لمنع الصين من الوصول إلى تقنية أشباه الموصلات، بالضغط على المنتجين الرئيسين في الصناعة.
إن سياسة الهيمنة لا تستعدي فقط الوجود بالقرب من حدود العدو على أهميتها، بل كذلك حرمانه من استخدام “تقنية ” لا يمكن الاستغناء عنها، وجميعها أمور حيوية لا تقل أهمية عن حرمانه من الموارد الطبيعية كالمياه أو الطاقة، لذلك فإن الموارد لم تعد محصورة في الموارد التقليدية، كما أن عناصر القوة أصبحت أكثر تعقيدًا وشمولاً، لذا فإنَّ الهيمنة أصبحت تحتاج إلى موارد أكبر من أجل بسط النفوذ وإخضاع الآخرين للنظام العام الذي صمَّمته القوة المهيمنة على شكل هرم؛ تقف هي فوق الجميع وتوزِّع الأدوار والعوائد بحسب حجم كل طرف، ومدى رضاها عنه، وحاجتها إليه لاستقرار النظام العالمي، الذي يدر عليها بالعوائد المادية والقوة السياسية.
كيف تتصرف القوة المهيمنة عند الخوف؟
إن القوة المهيمنة لن تقبل الإخلال بعناصر النظام الذي أنشأته من أجل ضمان حفظ تفوقها، وإن صعود أي قوة يعد تهديدًا مباشرًا لوجودها، وهو ما قد يوقع العالم في فخ “ثيوسيديديز”. وخصوصًا، إذا ما كانت القوة الصاعدة مستاءة من آليات عمل النظام الحالي الذي تنظر إليه بوصفه عائقًا أمام طموحاتها وتقدُّمها، وتطمح إلى تغييره لصالحها.
بعبارة مختصرة، إن الإمكانيات الاقتصادية لبلد ما سوف تؤدي دورًا حاسمًا في الصراع بين الدول الكبرى، وليس من الحكمة نسيان أنَّ جزيرة مثل “بريطانيا العظمى” قد حكمت ربع البشرية؛ بسبب تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي. إن الاقتصاد الحديث يعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا، وإن الأخيرة ستلعب دوراً حاسماً في الصراع الدولي، وذلك لكونها متداخلة مع عدة عناصر منها العسكري، والأمني، والسياسي، والأيديولوجي. إن تطبيقات مثل “إكس” أو “تيك توك” ليست للتسلية والترفيه بل إن لها وظائف خطيرة تتعلق باقتصاد البيانات.
لم يعد الاقتصاد الحديث قائمًا على الصناعات التقليدية الثقيلة فقط، بل إنَّ أكبر خمس شركات في بورصة “وول ستريت” هي شركات التقنية، مثل شركة “آبل”، و”غوغل”، و”مايكروسوفت”، و”أمازون”، لذا فليس من المستغرب الكشف عن أنها الأكثر إنفاقا على البحث العلمي والتطوير.
رويترز
السفينة الحربية الروسية “غرومكي” تدخل ميناء جيانجيانغ ضمن تدريبات “البحر المشترك 2024” الروسية – الصينية في صورة وزعتها وزراة الدفاع الروسية في 13 يوليو
إن الصراع والتنافس التكنولوجي بات الساحة الحقيقية للصراع بين القوة المهيمنة والقوة الصاعدة، ولو أخذنا تقنية الجيل الخامس من شبكات الإنترنت على سبيل المثال، فإن البعض يشبهها “بالجهاز العصبي” للاقتصاد العالمي خلال السنوات القادمة، وتشير بعض التقديرات إلى أن الخدمة سوف تضيف 12 تريليون دولار للاقتصاد العالمي من عام 2020 إلى عام 2035.
أين ستذهب الأموال المتحصلة من التقنيات الحديثة؟ فمن ستكون له حصة الأسد منها سيصبح دون أدنى شك، الاقتصاد الأقوى عالمياً. ومن ثَمَّ، ستمكنه الفوائض المالية من بناء القوة العسكرية والمؤسساتية اللازمة لبسط هيمنته على العالم.
إن القوة المادية قوة ملموسة، وتتمثل في شكل رأسمال نقدي وحجم اقتصادي واضح كما كان الوضع حينما كانت الولايات المتحدة الأميركية فيما بعد الحرب العالمية تمتلك 50 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، أو القوة العسكرية التي هي عليها الآن، بوصفها أكبر ميزانية عسكرية في العالم، وجيشًا يمتلك قوة نارية غير متأتية للآخرين، عبر وجود قواتها القتالية في 800 قاعدة عسكرية منتشرة في قارات العالم أجمع، وقادرة على ضرب أهداف متنوعة في جميع القارات في وقت واحد، كانت ولا زالت حاسمة عند مقارنة القوة المهيمنة والقوة الصاعدة، إلا أن هذه القوة سوف تتأثر أيَّما تأثير، لكن ليس عبر السيطرة التقليدية على الموارد الطبيعية على أهميتها، كما ثبت خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن بجانب الموارد الطبيعية ثمَّةَ مسألة حاسمة في صراع الدول العظمى، ألا وهي مسألة الابتكار واحتكار التقنيات الحديثة، لأن التفوُّق التقني الذي يتأتَّى من البحث العلمي والتطوير إذا ما جرى تحويله إلى منتجات محتكرة ذات قيمة مضافة، فسوف يكون له تأثير هائل في تقسيم العمل على العالم، وعلى العوائد المادية، وإذا ما جمعنا الاثنين بعضهما مع بعض، فإن الدولة المتفوقة علميّاً واقتصاديّاً سوف تتبعها سيطرة سياسية وأمنية.
القوة المادية قوة ملموسة، وتتمثل في شكل رأسمال نقدي وحجم اقتصادي واضح كما كان الوضع حينما كانت الولايات المتحدة الأميركية فيما بعد الحرب العالمية تمتلك 50 في المئة من إجمالي الناتج العالمي
يجدر بنا هنا توضيح نقطة في غاية الأهمية، فنحن إذ نشير إلى التقدم العلمي والتفوق التقني لا نقصد بهما في مجال البحث العلمي فقط، أي المقالات العلمية والنشر الأكاديمي على أهميته، ولكن على مستوى “احتضان شبكة الابتكار العالمية بالكامل”، كما نوهنا في المقدمة لخدمة الجيل الخامس من الإنترنت، أو صناعة أشباه الموصلات، أو الذكاء الاصطناعي، وخدمة الأقمار الصناعية، أو صناعة الأدوية، أو التقدم التقني للتقطير الزراعي.
أمام هذا الحشد من الأدلة والقرائن، نجد أنفسنا نميل إلى الرأي القائل إن صراع القوى الكبرى اليوم هو تكنولوجي بالدرجة الأولى، ومن يكسب الحرب العلمية ويستفيد من مردودها سيكون المهيمن اقتصاديا، ومن ثَمَّ ستسمح له الفوائض بمراكمة عناصر القوة واستغلالها.
يقول المؤرخ بول كيندي، في دراسته المتخصصة عن “نشوء القوى العظمى وسقوطها” التي عمل خلالها على تتبع نشوء القوى العظمى وسقوطها خلال 500 عام: “النصر الذي حققته أيٌّ من القوى العظمى خلال تلك الحقبة أو الهزيمة التي لحقت بقوى عظمى أخرى كانا في غالبهما ثمرة أو عاقبة لحرب طويلة، كانت هذه الدولة أو تلك طرفًا فيها. بيد أن هذا النصر أو تلك الهزيمة كانتا أيضًا حصيلة للاستثمار الكفء بشكل أو بآخر لمصادر الإنتاج الاقتصادي، لهذا البلد إبَّان حربه. وأبعد من هذا أنهما حصيلة للطريقة التي كان فيها اقتصاد ذلك البلد ينمو أو ينهار مقارنةً بالدولة الطليعية الأخرى”، ثم يضيف قائلاً: “يبيِّن لنا تاريخ نشأة وسقوط بلدان كانت طليعية في ميزان القوى العظمى منذ التقدُّم الذي شهدته أوروبا خلال القرن السادس عشر ترابطًا دالاً بين الإنتاج ونمو عوائده من جهة، وبين القوة العسكرية من جهة أخرى”.
إنَّ مسار الانتصار في الحرب التكنولوجية مسار طويل وشاق، والصين مستوعبة لهذا الأمر جيدًا، فهي مدرسة في التخطيط الاستراتيجي الطويل، ونستطيع قياس ذلك من خلال تتبعنا للخطط الخمسية المتتالية التي تعلن عنها القيادة الصينية بين فينة وأخرى، ومنها تلك المعلنة لعام 2050 و2060 لاستراتيجيات الطاقة وغيرها من القطاعات.
اليوم، نجد أنَّ التركيز على البحث العلمي والتطوير والتحوُّل لدولة رائدة في الصناعات التكنولوجية أولوية استراتيجية لحكومة بكين، كما أنَّ الطرف الآخر، الولايات المتحدة، يستشعر حقيقة هذا التهديد الجدي لمكانته، وقد شرعت في خطوات احتواء النجاحات الصينية في هذا المضمار، عبر استهدافها بالعقوبات المباشرة، لأهم شركات التقنية الصينية مثل شركة “هواوي” و”تيك توك”، وكذلك غير المباشرة، من خلال منع الحلفاء من نقل التكنولوجيا الحساسة مثل أشباه الموصلات إلى الصين.
إن مسألة الخشية من صعود قوة جديدة مهددة لمكانة قوة مهيمنة قد بدأ فعلياً وقريباً قد نشهد بعض التحولات الكبرى التي تأتي انعكاساً واستجابةً لهذا التنافس، إن الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين تجاوز في أهميته الاستراتيجية من حيث المفهوم والمضمون مسألة التنافس الاقتصادي، أو التقني بين قوتين اقتصاديتين، لكونه أضحى صراعاً جيوسياسياً، يشمل ضمن ما يشمل، إعادة تشكيل النظام العالمي. لذا فإننا إذ نولي اهتماماً خاصاً بمسألة التنافس بين البلدين، فلأنه ببساطة شديدة متداخل في هذه المرحلة الحرجة من اختلال موازين القوى الدولية التي تشكلت بعد نهاية الحرب الباردة التي اختلت بشكل ملحوظ، حتى لا نقول أكثر
المصدر : https://www.majalla.com/node/320981/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D9%81%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A9