هدى رؤوف
تاريخياً اتسمت العلاقات بين تركيا وإيران بالتنافس، فلكل منهما أجندتها ومشروعها الإقليمي، وطموحها نحو السيادة والسيطرة، لكن على الرغم من أن اضطرابات الدول العربية منذ العام 2011 أطلقت العنان لطموحات الدولتين، وزاد التنافس بينهما في استغلال التطورات الجيوبوليتيكية بالمنطقة، إلا أنه أوجد فرصاً للتعاون والتنسيق في ما بينهما، من دون أن يعنى ذلك اختفاء التنافس الإقليمي بينهما، والناجم عن طبيعة كل نظام وطموحه.
وشكّل تدهور الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط فرصة لتنامي مساحة طموحات الدولتين، فعلى الاضطرابات تفكك كثير من الدول العربية، وما زالت التداعيات سواء بانهيار تلك الدول وتزايد الإرهاب وانتشار الميليشيات المسلحة في مواجهة السلطة المركزية، وتزايد ولاءاتها لدول أخرى مثل تركيا وإيران، وكل ذلك أدى الى إطالة أمد صراعات وحروب المنطقة. وهي عوامل أسهمت في انطلاق التنافس التركي الإيراني، والتنسيق لمنع الصراع بينهما على خلفية تناقض المصالح. وواقع الأمر أن هناك عوامل محددة قاربت العلاقات بين البلدين، وأخرى تشكل مصالح متناقضة بينهما.
وعملت إيران وتركيا بشكل متزايد على تنسيق السياسات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث تعملان معاً في قضايا عدة، ويعود تعزيز التنسيق بينهما إلى أسباب اقتصادية وجيوسياسية، وتعد إيران المورّد الرئيس للنفط والغاز الطبيعي إلى تركيا من خلال خط أنابيب مشترك، وهناك تفاهم في ما يتعلق بالموقف من القضية الكردية في المنطقة، ومنع محاولات إقامة دولتهم الخاصة، كما نمت علاقتهما انطلاقاً من معارضة دور الولايات المتحدة في سوريا، والرغبة في تقليل الدور الأميركي في المنطقة بشكل عام، بما يتيح الفرصة لتمدد طموحاتهما. ولديهما مصالح مشتركة أخرى، ترتبط بعدائهما لكل من مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية.
وثمة مؤشرات عدة لتزايد الحاجة الإيرانية للدعم التركي، ومنها زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى تركيا في 15 يونيو (حزيران) الماضي، وهو أحد أكثر الاجتماعات رفيعة المستوى التي عقدت منذ انتشار وباء كورونا. وكان يهدف من الزيارة إلى الحصول على الدعم التركي في تخفيف العقوبات وحظر الأسلحة. وفي المقابل ستساعد إيران تركيا في ملفات عدة، لذا أعلنت إيران دعمها لدور تركيا في ليبيا، وإعلان جواد ظريف دعمه حكومة الوفاق الليبية، وسط مزاعم بأن الحرس الثوري ينقل أسلحة سراً إلى قوات الجيش الوطني الليبي المدعوم من روسيا بقيادة خليفة حفتر.
كما قامت تركيا وإيران بالتنسيق لضرب الجماعات الكردية في شمال العراق في 17 يونيو، وقد هدفت العمليات العسكرية إلى زيادة القواعد التركية في المنطقة الكردية شمال العراق، وإلى محاولة عزل حزب العمال الكردستاني عن الحدود الإيرانية.
والعلاقة بين البلدين تخضع كذلك للعامل الروسي الذي يناور بينهما، ويعمل على تقييد قوتيهما في ملفات المنطقة بما لا يزيد مساحة تأثيرهما، فيختل ميزان القوى بينهما، وتعد سوريا أهم الملفات التي يتنافس وتنسق فيها الأطراف الثلاثة، فتركيا وروسيا على جانبين مختلفين في سوريا، مع ذلك اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400، كما تقوم تركيا وروسيا بدوريات مشتركة في سوريا، ويختلف موقفهما من نظام بشار الأسد عن موقف إيران حليفته. وهكذا تلعب تركيا دوراً مزدوجاً في سوريا، لكنها أيضاً تجد القواسم المشتركة مع إيران وروسيا في ساحات أخرى.
ولا يقتصر التنسيق بينهما في شأن ليبيا وسوريا فقط، بل يمتد إلى اليمن، حيث أشار جواد ظريف إلى اليمن وعن وجود وجهات نظر مشتركة مع الجانب التركي حول سبل إنهاء الأزمة في ليبيا واليمن. حديث ظريف عن اليمن في ظل التوجه الإيراني المنفتح على تركيا، يشير إلى رغبة تركية – إيرانية في التنسيق ضد التحالف العربي في اليمن، والذي تقوده المملكة العربية السعودية وسبق وأيدته تركيا، لكن في ظل سعي تركيا للاستفادة من كل أزمات الإقليم، يبدو أنها تسعى إلى زيادة نفوذها في اليمن، وخصوصاً في الأجزاء الجنوبية من خلال دعم حزب الإصلاح، والمعروف باسم الفرع اليمني للإخوان المسلمين، أو الحرص على الحضور في الطرق الجنوبية للبحر الأحمر وطرق إمدادات النفط، فتركيا حريصة على وجودها العسكري في الصومال منذ 2014، كما عملت على عقد اتفاق مع السودان يمكّنها من استعادة ميناء سواكن.
ويمكن القول إن العامل الاقتصادي هو المحدد الأهم في محاولة تركيا وإيران الحفاظ على علاقتهما ما بين التنسيق والتنافس أو تحجيم نفوذ الآخر من دون الوصول للصدام. فحاجات الطاقة التركية وموارد النفط والغاز الطبيعي الهائلة في إيران كانت محركاً مهماً، وإيران هي ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي لتركيا بعد روسيا. كما أن طهران مصدر مهم للنفط الخام، ولكن تسببت العقوبات الأميركية في خفض حجم التجارة الثنائية بين تركيا وإيران من حوالي 10.7 مليار دولار في عام 2017 إلى 5.6 مليار دولار فقط في عام 2019، وهو ما يمثل خفضاً بنسبة 50 في المئة وفق أحد التقارير.
أما إيران فتركيا أهم شريك تجارى لها، وأكبر مستورد للغاز الطبيعي والمستورد الرئيس للنفط الخام، كما تعد بوابة اقتصادية مستقبلية لأسواق الطاقة الأوروبية وغير النفطية.
إن التقارب المفاجئ للمصالح الجيوسياسية والأمنية بين إيران وتركيا، وتقرّب إيران بالأخص منها، يأتي بفعل ما تعانيه إيران من الضغوط الاقتصادية المتزايدة بسبب حملة “أقصى ضغط” من إدارة ترمب، ومن ثم تسعى إيران إلى تأمين التبادل التجاري مع تركيا، وتخفيف عزلتها الإقليمية من جهة أخرى.
ومع ذلك لا تزال الدولتان خصمين متنافسين، فعلى رغم ما قد يتشاركونه من مصالح اقتصادية وأمنية محددة، فإن مصالحهم متعارضة في ساحات عدة في الشرق الأوسط، وما لم تحدث مواجهة بينهما بشكل مباشر، فقد تدفعان بتوظيف وكلاء آخرين للمواجهة وتنفيذ استراتيجيتهما.
ربما يكون موضوع ضمّ القدس نقطة التلاقي التالية بينهما، والتي يوظفها كل منهما حيث يحتاج، ويحولانها إلى قضية جديدة لحشد الدعم الشعبي في الداخل والمنطقة.
رابط المصدر: