صلاح خليل
تسعى السياسية الخارجية الروسية إلى تعزيز حضورها على الساحة الأفريقية وذلك ضمن أهدافها الاستراتيجية لعام 2023، وهذا التوجه المتزايد يأتي في إطار مزاحمة النفوذين الأمريكي والفرنسي، أو ما يمكن أن نطلق عليه المنافسة الاستراتيجية خارج المجال. وقد ساهم تفجر الصراع في أوكرانيا في منح التواجد الروسي في أفريقيا المزيد من الأهمية، كأداة لنقل صراعها مع القوى الغربية إلى خارج الحدود.
أدوات روسية
تعتمد روسيا في دعم نفوذها في القارة على تقديم نموذج جديد للتأثير، يختلف جذريًا عن المقاربة الغربية، حيث إن البديل الروسي يعتمد على إجراءات غير نمطية، حيث لا تستثمر روسيا بشكل كبير في المجالات الاقتصادية والتجارية، بل تعتمد على سلسلة من الإجراءات غالبًا ما تكون خارجة عن القانون والتأثير المباشر، مثل صفقات الأسلحة والمرتزقة، مقابل الموارد والشراكة الطويلة الأمد لتحقيق مكاسبها بعيدًا عن تنمية الدول الأفريقية.
وتراهن روسيا على دعم نفوذها وبناء مستقبل علاقاتها مع أفريقيا، وتنفيذ استراتيجيتها وسياستها الخارجية، بالاعتماد على النخبة الأفريقية، حيث تقوم بتقديم الدعم والمساعدات لهذه النخبة لتأمين بقائهم في السلطة لأطول فترة ممكنة، وإغراقهم في الديون من أجل امتلاك تأثير على عملية صنع القرار في هذه الدول، والتأثير على توجهاتها الخارجية، وفي الأخير ضمان تبعيتها لموسكو.
نموذج قوات فاجنر كأداة للنفوذ الروسي
تحتفظ موسكو بقوات فاجنر (المرتزقة) كأداة للتدخل المباشر، وهي قوات يتم نشرها عادةً في الدول التي تعاني من صراعات داخلية، أو في الدول التي تعج بالاضطرابات ونشاط الجماعات المسلحة. وحتى عام 2022، كانت فاجنر قد نشطت في سبع دول أفريقية هي: السودان، مالي، أفريقيا الوسطى، غينيا، موزمبيق، وليبيا، ومدغشقر. ولكن مع حلول العام الجديد أصبح من المتوقع تزايد اتساع انتشار فاجنر داخل القارة ليشمل دولًا أخرى، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، أنغولا، سيراليون، وأثيوبيا، لتقوم بأدوار متعددة تجمع بين حماية النخبة الحاكمة وممتلكاتهم واستثماراتهم، والانخراط في بعض النزاعات التي تهدد بعض القادة الأفارقة من البقاء في السلطة.
ويمكن تسليط الضوء على بعض الدول الأفريقية التي تنشط فيها روسيا من خلال أدواتها:
غينيا: بعد عملية الانقلاب التي أطاحت بالرئيس ألفا كوندي، في سبتمبر 2021، سعت روسيا إلى تركيز جهودها على دعم المجلس العسكري للجنرال “مامادي دومبويا” مقابل صفقة كبيرة تسمح لروسيا الاستفادة من حق التعدين في جميع أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك تمكنت روسيا من الاستفادة من التراجع الأمني والخلافات الدبلوماسية بين دول تلك المنطقة في بناء نفوذ عسكري متحدية ومتجاوزة الهيمنة الفرنسة والأمريكية في تلك المنطقة.
مالي: أتاح المجلس العسكري الحاكم فرصة كبيرة لروسيا لأن تكون لاعبًا محوريًا في منطقة الساحل، عقب الاستيلاء على السلطة سنة 2020، من خلال المشاركة الكبيرة لقوات فاجنر التي توفر الدعم وتعمل كغطاء سياسي للسلطة العسكرية في مالي، وتساعدهم في تقديم الاستشارات لعدم العودة البلاد مرة أخرى إلى عملية الانتقال الديمقراطي. كما تعمل روسيا من خلال قادة تلك الدول على أن يكون تواجدها كبديل لتقليص الدور الأوروبي والأمريكي معًا في مكافحة الفواعل المسلحة من غير الدول كالقاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، وبوكو حرام، والجماعات المشابهة الأخرى التي تنشط في تلك البلدان وتهدد الاستقرار فيها.
بوركينافاسو: بعد الانقلاب الذي قام به النقيب إبراهيم تراوري واستولى على السلطة في بوركينافاسو في سبتمبر 2022، كانت هناك تكهنات واسعة النطاق بأنه قد يتيح المجال لقوات فاجنر للعمل جنبًا على جنب مع قوات الجيش الوطني، لمحاربة المتشددين الإسلاميين الذين ينشطون في أجزاء كثيرة من البلاد. وتسعى روسيا للتمدد أكثر في غرب أفريقيا وتهديد المصالح الأمريكية في تلك المنطقة حيث تمركز قوات فاجنر في شمال بوركينافاسو، بما تسبب في أزمة مع دولة غانا المجاورة، حيث انتقد بشدة رئيس غانا “نانا أكوفو أدو” وجود عناصر تابعة لمجموعة فاجنر في المناطق الحدودية بين بلاده وبوركينافاسو والتي اعتبرها تمثل تهديدًا لبلاده، الأمر الذي دفع السلطة الانتقالية في بوركينافاسو لاستدعاء سفيرها في أكرا للتشاور بشأن التصريحات التي أدلى بها الرئيس “أدو”. وكانت السلطة الانتقالية في بوركينافاسو قد أبرمت صفقة مع روسيا بموجبها تخلّت واجادوجو عن مناجم تحتوي على احتياطيات من الذهب بالقرب من حدود مع غانا لروسيا نظير خدمات قوات فاجنر للتعامل مع الجماعات المسلحة في شمال البلاد. تلك الصفقة دفعت رئيس وزراء بوركينافاسو “أبولينير كيليم” لزيارة روسيا في ديسمبر 2022.
جنوب أفريقيا: في فبراير القادم 2023، سوف تلتحق جنوب أفريقيا بالعديد من الدول الأفريقية التي ستكون لديها علاقة مع روسيا في مجالات عسكرية وأمنية، خاصة وأن التعاون بين البلدين يشهد تطورات سريعة منذ انضمام جنوب أفريقيا لمجموعة بريكس. وسوف تجري روسيا والصين وجنوب أفريقيا تدريبات عسكرية مشتركة بمشاركة “الفرقاطة أدميرال غورشكوف”، وهي سفينة حربية روسية تحمل صواريخ تفوق سرعة الصوت من الجيل الجديد، وهي أول مشاركة رسمية روسية “للفرقاطة” بصواريخ “زركون” التي تنطلق بسرعة تزيد تسعة أضعاف سرعة الصوت ويبلغ مداها أكثر من ألف كيلومتر.
إخفاق أمريكي في مواجهة نفوذ روسيا
على الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه روسيا في القارة الأفريقية، ففي المقابل فشلت الولايات المتحدة من خلال القيادة الأفريقية الأمريكية المشتركة (أفريكوم) من الحد من تأثير النفوذ الروسي في مجال الإنفاق المكثف على القواعد العملياتية والخطط الطويلة الأجل للحفاظ على وجودها الاستراتيجي داخل القارة.
وعلى الرغم من الزخم العسكري الأمريكي المتمركز في حوالي 27 موقعًا عسكريًا للعمليات في القارة الأفريقية، من شرقها إلى غربها، تقوم الولايات المتحدة أيضًا بتأسيس وجود في مناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية، مثل البحر الأحمر وخليج غينيا. حيث يتم إنفاق حوالي 330 مليون دولار بحلول عام 2025 على بناء قواعد عسكرية أمريكية ومشاريع البنية التحتية ذات الصلة، التي تركز على أنشطة مكافحة الإرهاب وعمليات القوات الخاصة والدعم الإنساني، إلى جانب حماية المصالح التجارية الأمريكية في مواجهة الوجود والروسي المتزايد، بالإضافة لمواجهة الخطر المتزايد للقرصنة في خليج غينيا. كما جاءت الاتفاقية التي أبرمتها الولايات المتحدة الأمريكية مع جمهورية الرأس الأخضر، في 2020، لتسمح للقوات الأمريكية باستخدام أرخبيلها عسكريًا على نحو يؤجج المنافسة الجيوسياسية العالمية في منطقة غرب أفريقيا.
مكاسب روسية وخسائر أفريقية
من شمال القارة في ليبيا، ونيجيريا في غربها، وأثيوبيا في شرقها، قامت موسكو ببناء تحالفات عسكرية استراتيجية بشكل متزايد في السنوات الماضية. وأصبحت روسيا تقدم بدائل للشراكات السابقة مع الدول الغربية. وفي عام يوليو 2022، رفض نواب في الكونغرس الأمريكي تمرير صفقة بيع أسلحة لدولة نيجيريا، قيمتها مليار دولار، بحجة انتهاكات في حقوق الإنسان ارتكبتها الحكومة النيجيرية. وفي أغسطس، أي بعد شهر، نجحت روسيا في إبرام اتفاق مع الحكومة النيجيرية لتزويدها بالمعدات العسكرية.
وأصبحت فاجنر في بعض البلدان الأفريقية كيانًا أكثر تنظيمًا وأقوى على مجابهة جيوش تلك الدول، مما يهدد عدم الاستقرار وسيادة هذه البلدان التي تعاني دائمًا من بيئة اجتماعية هشة وأزمة اندماج وطني، مما يعني أن فاجنر في كثير من الأحيان تكون غالبًا دولة داخل دولة في بعض الدول الأفريقية وهو ما يهدد سيادة هذه الدول. كما تعمل فاجنر على تنفيذ مهام كبيرة في نزاعات وحروب أهلية داخل القارة، فضلًا عن تضرر سمعتها بسبب تبني عناصرها أفكارًا يمينية متطرفة واستخدامها العنف ضد المدنيين الأفارقة في تلك الدول التي تتمركز فيها. وقد شكّل ضعف المؤسسات الحكومية، والثروات المعدنية الباهظة الثمن، حافزًا مهمًا لروسيا لتحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة وموارد طبيعية مثل الماس والذهب والمعادن الأخرى، وما تزخر به القارة الأفريقية من ثروات عامل آخر في ارتفاع عدد قوات فاجنر المنتشرة في أفريقيا.
ولا يستبعد أن تواصل موسكو توسيع نفوذها في أفريقيا للعام الحالي بأقل تكلفة مالية وسياسة أكثر مرونة من النخبة السياسية. لكن بالنظر إلى الاتجاه السلبي في التنافس الروسي الأمريكي في أفريقيا، يبدو في نهاية المطاف أن كلاهما يسعيان لعدم الاستقرار السياسي لتلك الدول، ويعملان على التعاون والتنسيق من خلال حكومات ضعيفة، تفسح المجال لهما لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية، مما يؤدي إلى توقف التنمية وارتفاع حدة الاستقطاب الاجتماعي المبني على القبلية والإثنية، وهو ما يعني أن حضور روسيا لن يقل تكلفة على القارة عن حضور غيرها من القوى الكبرى التي تتكالب على النفوذ والمصالح في القارة الأفريقية، دون أدنى مسئولية حقيقية عن نهوض هذه الدول والمجتمعات من أزماتها المتراكمة منذ الحقبة الاستعمارية.
.
رابط المصدر: