مصطفى قطبي
على مدى الأعوام الأخيرة، حظي التقرير السنوي الدولي بشأن التنمية البشرية، الذي يصدره سنويا برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالكثير من الاهتمام والمتابعة، ليس فقط من جانب الدول التي يشملها التقرير، وهي نحو 188 دولة من دول العالم، ولكن أيضا من جانب مختلف الهيئات والمنظمات والمؤسسات الدولية، العاملة في مجالات الاقتصاد والتنمية، وذلك بالنظر إلى المصداقية التي يتميز بها هذا التقرير، وحرص القائمين عليه على اتباع أساليب علمية ومعايير محددة، تبعده عن شبهة الانحياز أو المجاملة أو عدم الدقة، التي قد تصيب تقارير أخرى، على مستويات مختلفة بخاصة وأن النتائج التي يتمخض عنها التقرير تدخل في اعتبار مؤسسات كثيرة، في تعاملها مع الدول المختلفة.
على عتبات عام جديد تبقى إشكالية التنمية البشرية مثار الحديث، ويتناول الباحثون في كل دولة الأرقام الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الكبرى حول العالم بعين فاحصة في طريقهم لاستشراف حظوظ بلادهم من النمو والتنمية في قادم الأيام. وفي هذا الإطار فان التقرير السنوي للتنمية البشرية لعام 2020، الذي صدر قبل أيام من جانب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يتسم بقدر كبير من الأهمية، حيث جاء تصنيف الدول كالآتي: النرويج احتلت المركز الأول في المؤشر متبوعة بإيرلندا وسويسرا، وهونغ كونغ وإيسلندا وألمانيا والسويد، وحل المغرب بمرتبة متأخرة في مؤشر التنمية البشرية لسنة 2020، حيث جاء في المركز 121 من أصل 189. وتقدمت دولا مثل الجزائر (91) وتونس (95) القريبة من المغرب عليه في الترتيب، إضافة إلى دول عربية أخرى كالأردن (102) وليبيا (105)، وفلسطين (115) ومصر (116).
في هذا السياق يبقى فرض وليس نافلة على كل دولة أن تتأمل حقيقة أوضاعها الاقتصادية وفرصها في النمو من عدمه وهل هي تمضي في سياق آمن يقيها شر المخاطر وتقلبات الأوضاع أم لا؟ اللافت في التقرير السنوي الدولي بشأن التنمية البشرية، أنه يأتي في زمن تفشي جائحة كوفيد- 19 التي تسببت في أوضاع اقتصادية وإنمائية عربية غاية في التردي. هنا يطفو السؤال على السطح: وماذا عن التنمية في العالم العربي؟ قبل الخوض في عمق المسألة من الجانب الاقتصادي، ينبغي التوقف أمام ركنين أصيلين في الموضوع: تنمية البشر، وتنمية الحجر، فلا يمكن القطع بان المسألة ضرب من ضروب المفاضلة، لكنها ترتيب أولويات، فالبشر دائما وأبدا يسبق الحجر، فلا نهضة لأمة تقوم على الثروة بل إن العنصر البشري هو من يأتي تاليا بالثروة، واليابان خير دليل، فهي دولة لا تمتلك من الموارد الأولية إلا القليل جدا، لكنها رغم ذلك أضحت اليوم في مقدمة دول العالم المالكة والمبتكرة وبالتالي المصدرة للتكنولوجيا، فيما دول أخرى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا تمتلك من الثروات الطبيعية لاسيما النفط الكثير، وتنظر إليها فتراها متراجعة في سلم النمو والتنمية، سيما وأن عنصرها الإنساني متراجع خطوات عديدة في سياق درجات التطور البشري.
وعلينا أن نعترف أنّه من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تنجح أية تنمية متوازنة في أي بلد مهما كانت الإمكانات المتاحة لديه كبيرة، إذا لم تكن هناك إدارة ناجحة تتولى شؤون هذه التنمية تقوم على محركين، الأول يرتبط ارتباطا وثيقا بقراءة الحاجات الأساسية، والثاني المحرك الخاص بحساب رصيد الكلفة المطلوبة دون أن يؤدي ذلك إلى استنزاف الإمكانات المتوافرة وفائض القيمة، وبمعنى مضاف أن تحقق ناتجا تراكميا لهذا الاقتصاد على صعيد التنمية المستدامة مع معالجة كل النتائج المغايرة المحتملة، وأن تغطي هذه المهمة كل مفردات النمو، لأن الخلل في مفردة معينة لا بد أن يأكل من جرف المفردات الأخرى بما فيها الحالة الاقتصادية اليومية للشخص الواحد.
نحن إذًا أمام متلازمة بنيوية ينبغي أن تلبي هذه المفردات، وهنا يتحقق النجاح، مع هامش لا يمكن الاستعاضة عنه يستمد حضوره من حقيقة أن (فن الإدارة الجيدة هو الاقتصاد بالوقت)، وإزاء ذلك أيضا لا يستقيم خط الشروع في التنمية إلا من خلال تحقيق شرط التنبؤ والتخطيط مع التبصر. والتنبؤ هنا يعني التوقع انعكاسا للواقع الذي أصبح أحد المعارف العلمية الرائجة، ومن مستلزماته أن يقوم على قراءة للإمكانات المتاحة ومستلزمات تطورها، وفي الخطوة اللاحقة المكملة يأتي التخطيط في غطاء من التبصر، إنها في النتيجة الولادة الشرعية للمشاريع التنموية.
إن ما يستنزف التنمية ببلداننا العربية، الافتقار إلى نظام ضريبي محصّن ضد كل أشكال الفساد، لأن من شأن نظام ضريبي بنزاهة عالية لا بد أن يحقق مداورة ذكية وفاعلة وشفافة للموازنة المالية العامة، بل إن من شأنه أن يحد من هوس الجشع وما يترتب عليه من تباين في الحقوق والواجبات المطلوبة من المواطنين إذا تم اعتماد نظام ضريبي يقوم على استيفاء العدل.
الحال أيضا، تتمثل حصانة التنمية في الاستثمار بالأخلاقيات الوطنية، وبمعنى مضاف أن يكون المواطن أمينا على حقوق دولته بالقدر الذي يكون فيه أمينا على حقوقه الشخصية، فهنا ينتصر اعتبار المسؤولية التضامنية، والوضع في ذلك يظل بحاجة دائما إلى الشعور بمسؤولية التكليف، أي ما يسمى بالتنمية المستدامة للوعي، لذلك لا بد من المراجعة الدورية مع وجود منظومة ضريبية تقوم على استحصال حقوق الدول وفي الوقت نفسه تحرص على حقوق المواطنين، إنها معادلة ضامنة حتما للتنمية الصحيحة.
إن واحدة من وجوه الخلل في التنمية، أي تنمية، الاستنزاف الذي يصيبها من جراء الخضوع لاعتبارات التجريب المتكرر بذريعة البحث عن الإطار الأكثر قابلية للتطبيق، وهذا المرض الاقتصادي شائع، خصوصا إذا ارتبط بمتغيرات سياسية وادعاء القدرة على إحداث تغييرات جوهرية بخلاف ما يراه البعض الآخر لتلك السياسة، وليس بعيدا عن هذا الواقع أن اقتصادات دول عربية مصابة بهذا الداء.
أما الاستنزاف الأشد للتنمية ببلداننا العربية، فهو الذي يرتبط بتصعيد الإدمان الاستهلاكي والسياسات الإرضائية التي لا بد أن تأكل من حصة التنمية ذات الأمد البعيد، لأن مثل تلك الإرضاءات تراهن على المسكنات الاقتصادية الآنية، وبخلافه يرى خبراء بأنه كلما طال أمد التنمية توفرت فرص أكثر لها، مع مراعاة عدم الوقوع في فخ معضلة (رفاه الوقت) التي تعيش مع أغلب الاقتصادات العربية، وبالمقابل تكسب الدول ذات التنمية المستدامة فرصتها في التمكين عند مراعاة ضمانات ديمومتها، والأهم أن تكون هناك صناديق مالية يضع مسؤولوها بالاعتبار أن المال الاستثماري يمثل شريان الدولة، أية دولة.
ويستحق هنا طرح السؤال الآتي: أين بلداننا تنموياً… بعيدا عن بكائيات الشكاوى وندب الحظ في عدم تبني سياسات تنموية فاعلة؟ لا بد من الإشارة إلى أن الدول العربية لا يمكن أن تتحرك إلا بما تفرضه الإرادات السياسية، وهنا يكمن بعض مسببات المرض الاقتصادي العربي مؤلفا مفازات له تحت وطأة إرضاء الأنانيات في تبني إجراءات لا تأخذ بعين الاعتبار الحاجة الحقيقية لبلداننا.
هل أدلكم على عينات من ذلك؟ ما عليكم إلا أن تتصفحوا مئات، بل آلاف مسودات مشاريع نحرت وتبعثرت آمالها على مذبح النكايات والتشفي السياسي والنزعة الثأرية، بدون أي وجه حق إلا لإشباع عروض الغرور ونقص الرصيد المعرفي والإصغاء إلى ما يريد الآخرون الذين فوضوا أنفسهم إدارة شؤوننا مع التفطن بين الحين والآخر للحاجات التنموية الأساسية، ولكن في اللحظة الحرجة عند مخافة الانفلات، حيث يعاد الانتباه إلى أي منعطف مؤلم من الخسائر الجسيمة.
والنتيجة المؤكدة أن كارثية المشهد العربي قد بدأت عندما توقف العقل العربي الذي أبدع ابن رشد، وابن سينا، والكندي، وابن عربي، والفارابى، وأبو حيان التوحيدي، وابن حزم الأندلسي، عن الاجتهاد، وإغلاق بابه، إذ فتح الباب واسعا للرؤى الجامدة وللأصوليات الظلامية، والجماعات الراديكالية التي نعاني منها في العقود الأخيرة، و”داعش” لن تكون آخر طبعة منها، إن استمر باب الاجتهاد مغلقا، ما يعني أن حال ومآل العالم العربي، مفتوح على مصراعيه لجهة “الانسداد التاريخي” القاتل حيث الخير في كل سلف والشر في كل خلف.
الواضح وبخلاف أية مكابرة، أن أغلب الدول العربية هي الآن في اللحظة الحرجة للحالة الاقتصادية العامة، وضمن هذه الأغلبية، هناك أغلبية من السياسات التنموية العلاجية فحسب، ولا أقول السياسات الترقيعية ولكنها لا تستطيع أن تعطي مردودا إيجابيا يمكن الاعتماد عليه، وإن نتجت عنها فوائد معينة فهي سرعان ما تتلاشى مع مرور الزمن، لذلك لا مناص من التنبؤ والتخطيط على أساس الحاجة الفعلية للتنمية المستدامة. لهذا لابد من الرجوع إلى التجارب الأممية التاريخية في التنمية وصعود السلم الحضاري، ونحن هنا لا نتحدث عن التجربة أو التجارب الأوربية والتي راكمت نتاج خمسمائة عام من ثروات العالم، أو عاشت عصورا من الصراع الفكري والسياسي قبل أن يطيب لها المقام في مقاعد “عصور النهضة”، إنما نتحدث عن أمم قريبة من شرقنا الأوسط تاريخياً وكذا جغرافياً وديموغرافياً، أمم كانت وإلى وقت لا يتجاوز عدة عقود من الزمن في أسفل القاع الحضاري للمدنية والإنسانية على حد سواء، واستطاعت عبر القيادة الواعية والوطنية القفز على الصعاب، وتقديم نماذج رائدة في عالم التنمية من العالم الثالث إلى العالم الأول.
خذ إليك على سبيل المثال نموذج دولة سنغافورة والتي ظلت حتى وقت استقلالها عام 1965 وخلاصها من الاحتلال الانجليزي دولة تمثل نموذجاً من نماذج التخلف بكل صوره، والسؤال كيف استطاع “لي كوان يو” قائد ذلك البلد أن يحدث معجزة حولت تلك الجزيرة ـ الدولة لمثال يحتذى في التنمية لكل دول المنطقة، بل لدول العالم النامي بلا تفرقة، ويرتفع متوسط دخل الفرد الحقيقي من ألف دولار وقت استقلالها عن الاستعمار إلى أكثر من 40 ألف دولار حالياً؟ كان نجاح سنغافورة في الوصول إلى درجة عالية غير مسبوقة من التنمية مرتبطا ارتباطا جذريا بالعنصر البشري في تقاطعاته وتجاذباته العلمية والفكرية، قبل اتساقه مع الأجهزة أو المعدات والمباني والمنشآت؟
خلاصة الكلام: إن أردنا تنمية حقيقية غير زائفة في عوالمنا وعواصمنا العربية، فلابد من قهر الفساد ومواجهة حاسمة وحازمة للمفسدين، فهؤلاء سبب رئيسي من أسباب التخلف والرجعية التي تعاني منها دول العالم الثالث بشكل كبير، بل أن الدول العظمي في العصور الحديثة لم تعد تعمد إلى الحروب العسكرية لهزيمة أعدائها، بل تذهب في طريق إفساد الحياة داخل دول الضد، الحياة في كل أشكالها ومناحيها بدءاً بالحياة التعليمية، فالسياسية، وكذا الاقتصادية، والإعلامية.
رابط المصدر: