التنين أم النسر: من سيتفوق في نهاية الحرب الباردة المستعرة حالياً؟

أوضح المقالات السابقان ضمن هذه السلسلة مواطن قوة وتفوق كل من أمريكا والصين في مجال الذكاء الأصطناعي، لكنهما لم يجيبا عن التساؤل المركزي الذي تم طرحه هنا: من سيتفوق في نهاية هذه الحرب الباردة المستعرة حالياً؟ أؤمن تماماً أن التنبؤ بمستقبل التنافس الجيوستراتيجي صعب جداً…

أوضح المقالات السابقان ضمن هذه السلسلة مواطن قوة وتفوق كل من أمريكا والصين في مجال الذكاء الأصطناعي، لكنهما لم يجيبا عن التساؤل المركزي الذي تم طرحه هنا: من سيتفوق في نهاية هذه الحرب الباردة المستعرة حالياً؟ أؤمن تماماً أن التنبؤ بمستقبل التنافس الجيوستراتيجي صعب جداً أذ أن أفضل العقول في العالم لم تتنبأ مثلاً بالأنهيار المفاجىء الذي حصل للأتحاد السوفيتي.

ويذكر من هم بعمري من المختصين أن الاتجاه العالني في الثمانينات من القرن الماضي كان يتجه الى التنبؤ بأن اليابان ستصبح بحلول التسعينات القوة الأقتصادية والتكنولوجية الأولى أو الثانية عالمياً نظراً للقفزات الهائلة التي حققتها في ذلك الوقت، لكن ذلك لم يحصل أبداً. فهل سيصيب الصين ما أصاب اليابان وأبطأ من تقدمها؟ أم أن الصين حالة مختلفة وستتفوق على أمريكا، بخاصة في مجال الذكاء الأصطناعي، كما يخطط قادتها لذلك؟

لتبسيط الأجابة على هذا التساؤل فهناك خمس قوى أساسية، في أعتقادي، يجب أن نقارن بين أميركا والصين فيها:

ذكاء اصطناعي

التكنولوجيا. لا شك أن أمريكا تمتلك حالياً تفوقاً تكنولوجياً واضحاً في المفاتيح الأساسية للذكاء الأصطناعي وبخاصة في مجال أشباه الموصلات (راجع المقال الأول). وقد زاد القانون الذي سنته أدارة بايدن قبل سنتين حول حظر تصدير التقنيات الخاصة بالشرائح الالكترونية من صعوبة السباق بالنسبة للصين التي ما زالت تحاول بشتى الطرق للوصول لنفس الحافات التكنولوجية التي بلغتها أمريكا.

ليس هذا فحسب، بل أن الريادة التكنولوجية، أو ما يسمى بمزية الفاعل الأول First-mover advantage كون أمريكا كانت الرائدة في مجال التكنولوجيا الرقمية، أعطتها القدرة على التحكم في كثير من المفاتيح التكنولوجية الفاعلة. مثلاً، لا يوجد اليوم سوى نظامين تشغيليين OS للحواسيب في العالم هما آبل وأندرويد وكلاهما أمريكي. كما أن اللغة الانكليزية هي لغة العلم والحاسوب الأولى في العالم، وتسمى باللغة المجسّرّة أو الرابطة lingua franca أذ أن حوالي 60 بالمئة من محتوى الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) عالمياً هو بالانكليزية.

من جانب آخر فأن أهم تطبيقات التواصل في العالم هي أمريكية (انستغرام، فيسبوك، واتساب…الخ). أن هذه المزايا (الريادة واللغة والتطبيقات) تتيح تفوق تكنولوجي كبير لأمريكا على الصين. مع هذا فالصين تحاول جاهدة لتقليص الفجوة في هذه المجالات. خذ مثلاً تطبيقات التواصل الأجتماعي، فقد بات تطبيق تك توك Tik Tok الصيني خلال خمس سنوات من أطلاقه خامس أكبر تطبيق من حيث عدد المستخدمين الذي بلغ اليوم بحدود 1.7 مليار شخص، في حين أن التطبيق الصيني WeChat أحتل المركز السادس بحوالي 1.33 مليار مستخدم، علماً بأن التطبيقات الأربعة الاولى جميعها امريكية (فيسبوك، يوتيوب، واتساب وأنستغرام) وبعدد مستخدمين يصل لحوالي 10 مليار مستخدم.

كما أن الصين باتت اليوم تنافس وبقوة في مجال البحث والتطوير العلمي R&D والذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة حتى بداية هذا القرن. ففي الوقت الذي أنفقت فيه أمريكا على البحث والتطوير حوالي 270 مليار دولار في عام 2000 فأن الصين أنفقت 33 مليار دولار فقط في ذلك العام.

أما اليوم فيكاد يتساوى الانفاق الامريكي (640 مليار دولار) مع الانفاق الصيني (580 مليار دولار)، رغم أن أمريكا ما زالت متفوقة جداً في مجال النفاق على البحوث الاساسية Basic research أذ تنفق 60 بالمئة من الأنفاق العالمي على تلك البحوث مقابل 20 بالمئة للصين.

ونتيجة لهذا التنافس الصيني فقد زادت براءات الاختراع الصينية المسجلة خلال المدة من 2000-2019 من 0.6 بالمئة فقط الى 22 بالمئة من مجمل الأختراعات العالمية، في حين تقلصت براءات الاختراع الاميركية المسجلة خلال نفس المدة من 42 بالمئة الى 22 بالمئة! هذا ما جعل تارون جبرا Tarun Chabbra  مدير التكنولوجيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي يقول قبل حوالي سنتين «أن أميركا لم تعد القطب المهيمن على العلوم والتكنولوجيا S&T في العالم».

حجم المعلومات

الديموغرافيا. توفر الديموغرافيا عنصر قوة مهم للصين مقابل أمريكا. ففي بلد تعداده 1.4 مليار نسمة، يخضع بالكامل لسيطرة الحزب الشيوعي الصيني فأن هذه الديموغرافيا توفر عنصرين أساسيين للذكاء الأصطناعي. الأول هو حجم المعلومات الهائل عن السكان والذي يوفر قاعدة بيانات ممتازة لأغراض التعلّم والتطوير للذكاء الأصطناعي بخاصة وأنه(بعكس أمريكا) لا توجد قوانين تمنع الشركات والمعاهد الصينية المختصة من أستخدام هذا البنك الهائل من البيانات المتوفرة عن كل شيء بدءً من أماكن وأوقات التسوق ومروراً ببيانات مراقبة الأشخاص والوجوه والتصرفات في الشوارع وأنتهاءً بمعلومات البنوك والأجهزة الأمنية والمعلومات الشخصية السرية بما في ذلك التعليقات والمحادثات على شبكات التواصل الصينية المغلقة والمراقبة بكثافة من قبل الذكاء الأصطناعي الذي تمتلكه المؤسسات الصينية.

أما الميزة الثانية المهمة لهذا التفوق السكاني فهي الميزة الاقتصادية. أن الشركات الصينية المصنعة لأشكال وتطبيقات الذكاء الأصطناعي لديها سوق كبيرة جداً لمنتوجاتها وهو ما يحقق لها ميزة اقتصادية مهمة. من جانب آخر فأن الحجم الكبير أذا رافقه تطور اقتصادي وخطط تعليمية صحيحة يمكن أن يوفر مزايا علمية مهمة.

ففي الوقت الذي كانت فيه أمريكا هي البلد الأول عالمياً في عدد خريجي العلوم والهندسة في عام 2000 حيث خرّجّت نصف مليون خريج مقابل 360 الف خريج للصين في نفس الاختصاصات لذات السنة، فأن الصين باتت اليوم تخرج أربع أضعاف خريجي أمريكا في تلك الأختصاصات (1.3 مليون خريج للصين مقابل 300 الف لأمريكا).

وفي مجال علوم الحاسوب تحديداً فأن الصين تخرج اليوم 185 الف خريج مقابل 65 الف لأمريكا. وحتى خريجي الجامعات الأمريكية في مرحلة الدكتوراه في علوم الحاسوب فأن هناك 3 من كل 10 خريجين هم أميركان مقابل 2 صينيين! لكن يجب علينا عدم أغفال عامل ديموغرافي مهم هو الهجرة. ففي الوقت الذي لا يتعدى وعاء الأستقطاب للمتخصصين الصينيين حاجز ال 1.4 مليار هم سكان الصين فقط، فأن كل العالم (بحدود 8 مليار شخص) هم وعاء الأستقطاب المحتمل للمتخصصين في الذكاء الأصطناعي بسبب قيود التجنس والهجرة للصين مقارنة بأمريكا.

ففي عام 2020 تم تجنيس 1000 شخص فقط من غير الصينيين ممن ولدوا في الصين مقابل حوالي 700 الف أجنبي تم تجنيسهم في أمريكا منهم أكثر من 26 الف صيني في نفس العام! أن أكثر من نصف مُلّاك أفضل 500 شركة أمريكية هم من المهاجرين. وحتى نع السياسات المتشددة للهجرة التي أتبعتها أمريكا بعد عهد ترامب فأن أمريكا ما زالت مقصداً رئيساً للطامحين ببلوغ ما يسمى بالحلم الامريكي American dream .

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/informatics/39286

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M