- تُشير تطورات المواجهة المُسلحة بين الجيش السوداني والدعم السريع، في مدينة الفاشر، وكذلك في وسط البلاد وشرقها، إلى اقتراب النزاع بينهما من نقطة تحوّل، إذ إن السيطرة على أحد هذه المناطق ستُمثِّل نقطة تفوق استراتيجي، قد تؤثر في تحديد مآلات النزاع.
- سيتيح استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر إمكانية سيطرتها على كامل إقليم دارفور، وإعلان سلطة محلية جديدة في الإقليم. وقد يُعزز هذا التطور احتمالات تقسُيم السُلطة عملياً بين طرفي النزاع السوداني.
- تؤثر ثلاثة عوامل رئيسة في مستقبل النزاع السوداني، وهي: تطورات المواجهة العسكرية بين الأطراف؛ وموقف القوى الإقليمية والدولية من تقارُب الجيش مع روسيا؛ ودرجة الاعتراف الدولي بأي سلطة جديدة تُشكَّل من جانب طرفيّ النزاع.
- من المتوقع أن تستمر المواجهات بين طرفي النزاع السوداني دون حسم في خلال المستقبل القريب، ويعد هذا السيناريو انعكاساً لحالة توازن القوة التي يتسم بها الصراع حالياً، كما تُعزز حالة التنافس الدولي-الإقليمي من فُرص تحقيق السيناريو.
بعد مرور حوالي 14 شهراً على بدء الاشتباكات المُسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، إثر تصاعُد خلافاتهما حول ترتيبات إصلاح المؤسسة العسكرية؛ وصَلت المواجهات المُسلحة بين الجانبين إلى نقطة توازن حرجة، وتصاعدت الاشتباكات فيما بينهما في مدينة الفاشر، التي يسكنها 1.8 مليون نسمة، وتقع في ولاية شمال دارفور، وكذلك في وسط البلاد وشرقها، باعتبار أن السيطرة على أحد هذه المناطق ستُمثِّل نقطة تفوق استراتيجي، قد تؤثر في تحديد مآلات النزاع.
ملامح المواجهات الميدانية في الفاشر وشرق السودان
في أعقاب نجاح قوات الدعم السريع في السيطرة على كامل ولايات إقليم دارفور، باستثناء ولاية شمال دارفور، مَثَّلت عاصمة الولاية الفاشر أبرز المناطق التي شهدت تصاعُداً في حِدة الاشتباكات العسكرية اليومية في خلال مايو 2024، بعد نجاح “الدعم السريع” في فرض حصار على المدينة.
وتنبع أهمية الفاشر من أن وقوعها في أيدي الدعم السريع، سيتيح للأخيرة السيطرة على كامل إقليم دارفور، وإعلان سلطة محلية جديدة في الإقليم، بدلاً من سُلطة حاكم إقليم دارفور الحالي أركو مناوي، القريب من الجيش. وتُعزز هذه الاحتمالات من فُرص حدوث تقسُيم في السُلطة بالسودان. كما تتمتع الفاشر بأهمية ميدانية، لأن موقعها يسمح للدعم السريع بجلب الإمدادات من خارج البلاد بحرية أكبر، ويمنحها فُرصة تطوير الهجوم على الولاية الشمالية الواقعة تحت سيطرة الجيش.
ولا تعد وضعية المواجهات في كلٍّ من العاصمة وشرق البلاد أقل أهمية، فقد احتدمت الاشتباكات في الخرطوم، بعد نجاح الجيش في تقليص مساحة سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق غرب أم درمان، والتي تربط بين عناصر الدعم في العاصمة ودارفور. وبينما يتجه الجيش إلى استكمال مساعي إبعاد قوات الدعم عن مراكز الحُكم الواقعة تحت سيطرتها بالعاصمة، تحاول قوات الدعم فرض السيطرة على سلاح الإشارة، الذي يُؤدي دوراً بارزاً في منع القيادة العامة للجيش من الوقوع تحت سيطرتها.
وفي شرق البلاد، تعثّرت مساعي الجيش الرامية إلى إبعاد الدعم السريع عن ولاية الجزيرة، وأدى ذلك إلى تحوّل الولاية إلى قاعدة لهجوم قوات الدعم السريع بالمدفعية والمسيرات على قوات الجيش بولايتيّ القضارف وسنار، واللتين تُمثِّلا خط الدفاع الأول عن المقر الحالي لقيادة الجيش المركزية، والتي تقع في شرق السودان.
انعكاسات التطورات الميدانية على تحرَّكات الفاعلين السودانيين
يُمكن تحليل أبرز تحركات الفاعلين السودانيين الرئيسين في ضوء هذه التطورات، على النحو التالي:
1. تحركات الجيش
عوضاً عن القبول بالدعوة الأمريكية للعودة للمسار التفاوضي من خلال منبر جدة، اتجه الجيش السوداني إلى محاولة إضعاف الموقف الميداني للدعم السريع قبل الانضمام لأي عملية تفاوضية، واعتمد في هذا الصدد على تكثيف التعاون مع أطراف خارجية مثل إيران وروسيا، حيث أكدت تقارير مختلفة تقديم إيران طائرات مسيرة إلى الجيش السوداني. فيما كَشَف ياسر العطا مساعد قائد الجيش عن التوصل لاتفاق مع الحكومة الروسية، يقضي بمنح الجيش السوداني السلاح، في مقابل قبوله بإعطاء نظيره الروسي مركز دعم لوجستي على مياه البحر الأحمر السودانية.
ولا يُعد زيادة الدعم العسكري الروسي بمثابة العامل الوحيد الذي من شأنه التأثير على مجريات القتال لصالح الجيش، إذ تملك موسكو نفوذاً في منطقة الساحل الإفريقي، قد يسمح لها بتضييق الخناق على الإمدادات القادمة للدعم السريع في دارفور، في وقت لا تتمتع قيادة الدعم السريع بعلاقات جيدة بقوة دولية توازن موسكو.
وانعكس مدى ارتفاع درجة رهان الجيش السوداني على دعم موسكو، في اتجاهه نحو إسراع تنفيذ مقتضيات التعاون معها، وتزامَن التقارب بين الجانبين مع إعلان الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، عن توجه الجيش لتشكيل حكومة وإصدار وثيقة دستورية جديدة، وهي ترتيبات تُمهِّد لاتخاذ تدابير قانونية تُتيح منح موسكو المركز اللوجستي، ومن شأنها كذلك تقليص فُرص التوافق مع القوى المحلية السودانية المناوئة للجيش.
وللتغلب على النقص النوعي في عناصر المشاة، أدمج الجيش قوات حركتيّ العدل والمساواة (جبريل إبراهيم)، وتحرير السودان (أركو مناوي) في عملياته ضد الدعم السريع، فيما أشار قائد الجيش عبد الفتاح البُرهان عزمه تشكيل قوة رسمية جديدة تضم العناصر المدنية المُسلحة التي تُدعى ” المقاومة الشعبية”، والتي يُعتقَد أن الحركة الإسلامية تُسيطر على أغلب عناصرها.
2. تحركات الدعم السريع وحلفائها السياسيين
إلى جانب التركيز على محاولة حسم المواجهات الميدانية، عملت قوات الدعم السريع على تعزيز فُرص الاعتراف الدولي بأي سُلطة قد تُنشئها في مناطق سيطرتها، عوضاً عن سُلطة الجيش، واتجهت إلى تخفيف حِدة التداعيات المحتملة للاتهامات الموجهة لها من جانب أطراف محلية ودولية بارتكاب جرائم بحق المدنيين، وألقت مسئولية ذلك على الجهات المُسلحة الأخرى، مُتهمة الحركات المُسلحة القريبة من الجيش بالتسبّب في بدء القتال بالفاشر.
تزامَن هذا مع اتخاذ قيادة الدعم السريع تحركات عكست حرصها على الحفاظ على تحالفها السياسي مع تنسيقية “تقدم”، والذي ظهر في توقيع قيادتي الدعم والتنسيقية اتفاقاً مشتركاً في أديس أبابا، في يناير 2024، دعا إلى وقف القتال، وتصفية تمكين الحركة الإسلامية بمؤسسات الدولة. وعلى رغم اتهامات التنسيقية المتكررة لقوات الدعم بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، حرصت قوات الدعم السريع على المُشاركة في فعاليات المؤتمر التأسيسي للتنسيقية، الذي عُقِد في العاصمة الإثيوبية في مايو 2024.
وبغرض تقويض شرعية هياكل الحُكم التابعة للجيش، اتجهت قيادة الدعم السريع إلى إنشاء إدارات مدنية جديدة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وتناغمت تحركاتها في هذا الصدد مع توجهات “تقدم”، إذ أعلن الهادي إدريس، القيادي بالأخيرة، عن اتجاههم إلى نزع الشرعية عن حكومة الجيش. وبعد نجاح الجيش في التحالُف مع حركتيّ أركو مناوي وجبريل إبراهيم، وتقارُب قوات الدعم السريع مع عدد من حركات دارفور الأصغر الأخرى، مثل حركة تحرير السودان (الهادي إدريس)، سعى عبد الله حمدوك رئيس تنسيقية “تقدم” إلى تقليص فُرص ميل التحالفات العسكرية المحلية لصالح الجيش والحركة الإسلامية، ووقَّع بصفته الشخصية اتفاقين منفصلين في نيروبي مع كلٍّ من حركتيّ عبد الواحد نور التي تعد الأكبر في دارفور، وحركة عبد العزيز الحلو، وهي الأكبر في منطقتيّ النيل الأزرق وكردفان، وتوافَق معهما على ضرورة إعادة بناء الجيش على أساس وطني علماني، مع إنهاء نفوذ الحركة الإسلامية داخل مؤسسات الدولة، وإبعاد عناصرها في حزب المؤتمر الوطني عن العملية السياسية الانتقالية.
يُذكر أن تنسيقية “تقدم” تتبنى مشروعاً لإنهاء الحرب، يدعو طرفيّ القتال لاعتماد التفاوض كآلية سلمية لحسم خلافاتهما، وتعوِّل على التعاون مع الاتحادين الأوروبي والأفريقي في سبيل دفع طرفيّ القتال للقبول بمقترحاتها، لكنها عجزت عن التوافق مع قيادة الجيش على هذه المقترحات منذ تشكيلها في أكتوبر 2023.
مواقف الأطراف الدولية والإقليمية
نتيجة إبداء قادة الجيش السوداني اتجاههم للتقارب مع موسكو، تصاعَد الاهتمام الأمريكي بالانخراط في مساعي حلحلة الأزمة، وأعلنت واشنطن أنها لن تعترف بأية سُلطة جديدة قد تُشكَّل في دارفور. وللمرة الأولى منذ أكثر من عام، أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اتصالاً هاتفياً مع البُرهان، ودعاه لاستئناف مباحثات جدة، وهو ما رفضه الأخير، مُتمسكاً بخروج الدعم السريع من المناطق السكنية والمدنية قبل بدء المفاوضات.
من جهتها، اتجهت دول الاتحاد الأوروبي إلى التعاون مع إثيوبيا وكينيا من أجل تعضيد الشرعية السياسية لتنسيقية “تقدم”، ولوَّح الاتحاد باحتمال فرضه عقوبات جديدة على طرفيّ النزاع السوداني، كما شارك مندوبون عن البعثات الدبلوماسية الأوروبية ودول الترويكا (النرويج، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية) في مؤتمر تأسيس “تقدم”.
وأظهر القرار الذي تبنَّاه مجلس الأمن الدولي، في 13 يونيو، وطالَب فيه برفع الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، وبالوقف الفوري للقتال في المنطقة، وانسحاب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة المدنيين وأمنهم؛ أظهرَ الانسجام بين مواقف القوى الغربية الرئيسة تجاه النزاع السوداني، لاسيما في إقليم دارفور. وقد حصل القرار على موافقة 14 عضواً في المجلس بينما امتنعت روسيا عن التصويت عليه، انطلاقاً من أن القرار السابق لوقف إطلاق النار في السودان خلال شهر رمضان، وفقاً لما قالته آنا يفستيغنييفا، نائبة المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، «ظل حبراً على ورق». ومن المحتمل أن امتناع موسكو عن التصويت على القرار، مَردُّهُ الخشية من أن استخدام الأطراف الغربية القرار الأممي ذريعةً للتدخل في السودان، إذ دعا القرار الأمين العام للأمم المتحدة إلى طرح المزيد من التوصيات حول سُبل حماية المدنيين، وذلك بالتشاور مع “السُلطات السودانية”، والجهات الإقليمية صاحبة المصلحة.
ومع اقتراب المواجهات المُسلحة من الولاية الشمالية الحدودية مع مصر، دخلت القاهرة على خط إدارة الأزمة، لمنع تدهور الأوضاع على حدودها الجنوبية، وأعلنت عزمها تنظيم مؤتمر للقوى السودانية في نهاية يونيو 2024 لبحث إنهاء الحرب، وأرادت مصر بهذه الخطوة ملء الفراغ الدبلوماسي الذي قد ينتج عن عدم استئناف مباحثات جدة.
ومع أن المبادرة المصرية لاقت ترحيباً مبدئياً من القوى السودانية القريبة من الجيش، وقوى تنسيقية “تقدم”؛ يبدو أن نجاح المبادرة يواجه بعض التحديات، من بينها اشتراط الخارجية السودانية إشراك عناصر “المقاومة الشعبية” في المباحثات، وإبعاد مُمثلي الدعم السريع وحلفائه الإقليميين، وقوبلت هذه المطالب بإعلان تنسيقية “تقدم” عقدها اجتماعاً مع آلية الاتحاد الإفريقي المعنية بحلحلة النزاع، وأكدت “تقدم” أن الآلية اعتبرت “منبر جدة” المنبر الوحيد الفاعل.
مستقبل النزاع في السودان
استناداً إلى ما سبق، يمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل رئيسة تؤثر في مستقبل النزاع السوداني، وهي: تطورات المواجهات العسكرية بين طرفيّ القتال؛ وموقف القوى الإقليمية والدولية من تقارُب الجيش مع موسكو؛ ودرجة الاعتراف الدولي بأي سلطة جديدة تُشكَّل من جانب طرفيّ النزاع.
وفي ضوء هذه العوامل، يُمكن تحديد أربعة سيناريوهات محتملة، قد تحكم تطورات النزاع السوداني في المستقبل القريب، وهي:
السيناريو الأول، نجاح أحد طرفيّ النزاع في حسمه عسكرياً. تتقيد فُرص تحقّق هذا السيناريو بصعوبة نجاح أحد طرفيّ الصراع في تحقيق تفوق حاسم على مُنافسه، فقد يقود تقارب الجيش مع روسيا أو إيران إلى دفع الأطراف المنافسة للأخيرين نحو تعزيز القدرات القتالية للدعم السريع، بينما تنخفض احتمالات دعم واشنطن للجيش بسبب تقاربه مع موسكو، كما يصعُب نجاح الدعم السريع في حسم المواجهات في وسط البلاد وشرقها، نظراً لتمتّع الجيش بوجود عسكري مهم في هذه المناطق.
السيناريو الثاني، التوصل لاتفاق بين الأطراف المتنازعة. في ظل صعوبة الحسم العسكري، قد يستجيب طرفا القتال إلى مبادرات حلحلة الأزمة، لكن تظل قدرتهما على التوصُّل لاتفاق نهائي ضعيفة نسبياً، بسبب اتساع نقاط الخلاف التفاوضية، ولذلك يعد هذا السيناريو غير مُرجَّح، وإن كان فُرص حدوثه أعلى من السيناريو الأول.
السيناريو الثالث، استمرار المواجهات دون حسم. يبدو هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً في خلال المستقبل القريب، ويعد انعكاساً لحالة توازن القوة التي يتسم بها الصراع حالياً، كما تُعزز حالة التنافس الدولي-الإقليمي من فُرص تحقُّق السيناريو.
السيناريو الرابع، تقسيم السُلطة في السودان. تُشير معطيات الوضع الحالي إلى تزايُد احتمالات حدوث هذا السيناريو، وخاصة إذا نجحت قوات الدعم السريع في السيطرة على منطقة “الفاشر”، وهي خطوة ربما يتبعها الإعلان عن سُلطة مدنية تُمثِّل الأمر الواقع الجديد في إقليم دارفور، وهو سيناريو وارِد الحدوث، وقد يتطور في المدى المتوسط إلى انفصال إقليم دارفور بالكامل عن السُلطة المركزية، مع استمرار الصراع المُسلح بين الجانبين بوتائر مختلفة. وقد تؤدي حالة الاستقطاب الدولي حول السودان دوراً في لجوء بعض الأطراف الدولية إلى التعامُل مع السُلطة الجديدة في حدود معينة، وعدم الاعتراف بها بوجهٍ كامل.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/alsirae-ala-alfashir-wa-atharuh-almuhtamal-fi-mustaqbal-alnizae-alsuwdani