التوترات الأمنية في مالي : دراسة في العوامل المؤثرة وآفاق استقرار الحكم

بتاريخ 19 سبتمبر 2024 أفاد مصدر أمني في مالي، بأن الهجوم الإرهابي في العاصمة المالية باماكو الذي استهدف معسكرا لتدريب الشرطة العسكرية ومطارا عسكريا، خَلف أكثر من 70 قتيلا و200 جريح، بالإضافة أن جنازات نحو 50 طالبا من الشرطة العسكرية تمت في اليوم نفسه وفقًا لصحيفة لوسوار، كما إن هذه العملية هي الأولى من نوعها منذ سنوات، حيث عادة ما تكون العاصمة المالية بمنأى عن هذا النوع من الهجمات، استكمالًا تشكّل الهجمات الإرهابية المتصاعدة، وآخرها الهجوم المؤسف الذي استهدف العاصمة باماكو، تحديًا خطيرًا للأمن القومي في مالي، وتُظهر مدى الحاجة إلى استراتيجيات وطنية شاملة لتعزيز استقرار البلاد.(1)

وفي هذا السياق، تدرك مالي أن استعادة الأمن والاستقرار يتطلب أكثر من التدخلات الأمنية، فهو بحاجة إلى مقاربة شاملة تُعالج مختلف العوامل المؤثرة التي يمكن أن تستغلها الجماعات الإرهابية لاستقطاب الدعم وتوسيع نفوذها، كما أن تحقيق هذه الأهداف يستدعي تكاتف الجهود الإقليمية والدولية، خاصة مع تعاظم التحديات الأمنية في منطقة الساحل.

وسنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على التوترات الأمنية في مالي، بالإضافة إلى تناول أبرز العوامل المؤثرة على استقرار الأمن القومي في باماكو من خلال المحاور التالية:

  • أولًا: العوامل الداخلية المؤثرة في التوترات الأمنية في مالي
  • ثانيًا: الفواعل الدولية والإقليمية في زعزعة الاستقرار الأمني
  • ثالثًا: آفاق استقرار الحكم في مالي: الحلول المقترحة

أولًا: العوامل الداخلية المؤثرة في التوترات الأمنية في مالي

تعد التوترات الأمنية في مالي من القضايا المعقدة التي تنطوي على العديد من العوامل الداخلية المؤثرة، والتي تتشابك لتشكل بيئة غير مستقرة تؤثر على سلامة وأمن البلاد، تأتي هذه التوترات نتيجة لتراكمات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية، حيث تساهم ضعف المؤسسات الحكومية، وتفشي الفساد، وانعدام العدالة الاجتماعية، وانتشار الفقر والبطالة في تفاقم الأوضاع. إضافة إلى ذلك، يلعب التنوع العرقي والقبلي دورًا في زيادة التوترات، حيث تتعرض بعض الجماعات للتهميش، مما يؤدي إلى شعور بالظلم وانعدام الثقة في الدولة. في هذا السياق، نجد أن الجماعات المسلحة والمتطرفة تستغل هذه الظروف الداخلية لصالحها، لتجنيد الأفراد وفرض نفوذها، وهو ما يزيد من تعقيد الأزمة الأمنية ويفاقم من التحديات التي تواجه مالي في سبيل استعادة الاستقرار والأمن الداخلي، وتتمثل العوامل الداخلية المؤثرة في التوترات الأمنية في مالي في الاتي:

  • (الصراعات العرقية)

تعد التوترات بين المجتمعات المحلية في المنطقة إلى زمن طويل، وتتجلى جزئيًا في تنافس الرعاة والمزارعين وصراعات السلطة المحلية، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على الأراضي. وقد أدى انتشار أسلحة الحرب والحجة القائمة على محاربة الجماعات الجهادية إلى تصاعد غير مسبوق في العنف العرقي، ومن القضايا الرئيسية التي تبرز هنا هي السيطرة على الأراضي الزراعية والمراعي، وقد أسهمت الظروف الأمنية المتدهورة في مالي، وانتشار الأسلحة والحرب ضد الجماعات الجهادية في المنطقة، في تأجيج الصراعات العرقية. إذ استفادت بعض الأطراف من تدهور الأوضاع الأمنية لتبرير العنف ضد مجموعات عرقية بعينها، ما أدى إلى تصاعد وتيرة العنف العرقي، خصوصًا في مناطق مثل موبتي وغاو. وكانت هناك حوادث دموية بين الفولاني والدوغون، حيث وقعت مجازر ضد أفراد من الفولاني اتهموا بدعم الجماعات الجهادية، مما أدى إلى مقتل العشرات وتدمير القرى، حيث شهدت منطقة موبتي في 23 مارس الماضي هجومًا مروعًا على مجتمعات الفولاني، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 134 شخصًا، في حلقة جديدة ضمن سلسلة من الاشتباكات العنيفة بين الطوائف. في هذا السياق، يدعو مدير مشروع الساحل، جان هيرفي جيزيكيل، السلطات المالية إلى العمل على وقف دوامة التطهير العرقي. (2)

  • (الجريمة المنظمة والتهريب)

تعتبر الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية في منطقة الساحل من أبرز التحديات التي تواجه السلام والأمن وحقوق الإنسان وأهداف التنمية المستدامة، كما جاء في تقرير جديد لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بعنوان “أثر الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية على الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل”. (3)

على صعيد آخر، تعد تجارة البشر قضية هامة في مالي، حيث تُعتبر البلاد مصدراً ومعبراً ووجهة للعمل القسري والاتجار بالجنس، والجدير بالذكر أن الاتجار الداخلي أكثر انتشارًا من الاتجار عبر الحدود. وقد ساهمت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وانعدام الأمن المالي في استمرار هذه الممارسات، كما تسهم الجماعات المسلحة المتمردة والمتطرفة في شمال ووسط مالي في تجنيد الأطفال واستغلالهم، حيث يُستخدم معظمهم في القتال والمراقبة ومهام أخرى.

كما تعتبر مالي نقطة عبور رئيسية لتهريب البشر في منطقة الساحل، إذ تسهل الشبكات القائمة حركة الأفراد، بما في ذلك الماليين وسكان دول جنوب الصحراء الكبرى، عبر الحدود. وغالبًا ما تُعتبر عمليات نقل المهاجرين داخل مالي وإلى الدول المجاورة على أنها تهريب المهاجرين بشكل خاطئ، وعلاوة على ذلك، أدى الصراع المستمر في مالي إلى تهديد خطير يتمثل في الاتجار بالأسلحة، حيث تتدفق الأسلحة من النزاع في ليبيا والدول المجاورة. ففي عام 2012، جلبت الجماعات المسلحة القادمة من ليبيا أسلحة ثقيلة ومواد أخرى، ولا تزال هذه الأسلحة تُستخدم وتُستكمل من خلال عمليات الشراء من البلدان المجاورة. (4)

  • (الانقلابات العسكرية)

على مدى السنوات الأربع الماضية، شهدت منطقة الساحل الأفريقي موجة من الانقلابات في سبع دول تمتد من غينيا على المحيط الأطلسي إلى السودان على البحر الأحمر، نجحت خمسة انقلابات عسكرية في خمس دول منهم: مالي، حيث شهدت مالي انقلابين، في عامي 2020 و2021، وأُطيح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في 18 أغسطس 2020، وكان بقيادة العقيد أسيمي جويتا (40 عامًا)، وعلى صعيد أخر بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في المناطق المتضررة من عدم الاستقرار السياسي، فإن عودة الدولة الغارقة في الاقتتال الداخلي في باماكو تبدو مستبعدة على نحو متزايد. وبالتالي فإن الجهاديين وغيرهم من الجماعات المسلحة قادرون بشكل أفضل على تقديم أنفسهم كسلطات بديلة بحكم الأمر الواقع، وعلى صعيد أخر تأثرت باماكو بشكل عميق بالانقلابات العسكرية التي شهدتها في السنوات الأخيرة من تأثيرات سلبية على الأمن القومي والاستقرار الداخلي، حيث أدت هذه الانقلابات إلى تفكك المؤسسات الحكومية وفقدان الثقة في النظام السياسي، مما خلق فراغًا أمنيًا استغلته الجماعات المسلحة والجهادية لتعزيز وجودها في المناطق الشمالية والوسطى من البلاد، مما أدى إلى زيادة العنف والنزاع، بالإضافة إلى تاثير تلك الانقلابات في تدهور الوضع الاقتصادي، حيث تراجع الاستثمار الأجنبي وتضررت السياحة، مما أثر سلبًا على فرص العمل والتنمية الاقتصادية. (5)

ثانيًا: الفواعل الدولية والإقليمية في زعزعة الاستقرار الأمني في باماكو

تعتبر باماكو مركزًا حيويًا للنشاط السياسي والاجتماعي في البلاد، غير أن الاستقرار الأمني فيها قد تعرّض لتهديدات متزايدة من قبل فواعل دولية وإقليمية متعددة. إن تعقيد الوضع الأمني في مالي يعود إلى تداخل العديد من العوامل، التي تسهم في تشكيل مشهد معقد يُعزز من انعدام الاستقرار الأمني في باماكو، مما يتطلب استجابة متكاملة ومتناغمة من السلطات المحلية والمجتمع الدولي للتصدي لهذه التحديات المتعددة، وتسهم هذه الفواعل في زعزعة الاستقرار في باماكو من خلال عدة نقاط رئيسية تشمل:

  • (الجماعات الإرهابية المسلحة)

وفقًا لبيانات حكومة الولايات المتحدة، كان عام 2022 الأكثر دموية في تاريخ مالي بسبب الهجمات الإرهابية وتكثيف جهود مكافحة الإرهاب من قبل القوات المسلحة المالية بدعم من قوات فاغنر، مؤخرًا، تصاعدت الأنشطة الإرهابية في مالي من حيث العدد وقوة الهجمات، حيث استمر الإرهابيون في استهداف المدنيين، والقوات المسلحة المالية، وقوات حفظ السلام الدولية، وكذلك القوات العسكرية الدولية. تشمل الجماعات الإرهابية النشطة في البلاد تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل (المعروف سابقًا باسم تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى)، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، بالإضافة إلى ميليشيات متطرفة أخرى. وقد أظهرت تصرفات تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل خلال الفترة المشمولة بالتقرير رغبتها في فرض سيطرة إقليمية بمنطقة الساحل (6)، وفي أحدث الهجمات، أعلنت جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة مسؤوليتها عن هجوم وقع صباح 17 سبتمبر 2024 في العاصمة باماكو، حيث استهدفت مدرسة تدريب عسكرية ومناطق أخرى في مدينة دي، كما شملت الهجمات منطقة قرب مطار المدينة. ولم تصرّح وزارة الأمن المالية بوجود ضحايا جراء هذه الهجمات. (7)

  • (التدخل الأجنبي)

شهدت مالي على مدار العقود الماضية تدخلاً أجنبيًا مستمرًا، كان للنفوذ الفرنسي النصيب الأكبر فيه. فمنذ استقلال مالي “الصوري” عن فرنسا في ستينيات القرن الماضي، استمرت فرنسا في إحكام سيطرتها على الموارد الاقتصادية والطبيعية للبلاد، حيث واصلت الشركات الفرنسية استغلال المعادن والثروات المالية، وسط سيطرة فرنسية غير معلنة على مراكز القرار السياسي. ورغم إعلان الاستقلال، ظل النفوذ الفرنسي حاضراً بقوة، مما جعل باماكو فعلياً ضمن النفوذ الفرنسي حتى العقد الحالي. (8)

وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت الضغوط الشعبية والسياسية داخل مالي لإنهاء هذا النفوذ، إلى أن جاء التدخل الحاسم من الانقلابيين العسكريين الذين أطاحوا بالوجود الفرنسي بشكل نهائي. ترافق هذا التحول مع تزايد الاستياء الشعبي من الوجود الفرنسي، إذ رأى كثيرون أن فرنسا استغلت البلاد وأخرت جهود تحقيق الأمن والاستقرار، وعلى صعيد أخر، بعد خروج فرنسا، توجهت مالي نحو شريك دولي جديد، روسيا، حيث ظهرت مجموعة فاغنر الروسية كبديل للنموذج الفرنسي، ولكن بصورة مختلفة فاغنر التي تُعتبر ذراعاً مسلحاً غير رسمي لروسيا، تقدم دعماً شاملاً لمالي يشمل المساعدات العسكرية والتدريب والمساعدات الاقتصادية والتنموية، وذلك مقابل الحصول على وجود لوجستي واستراتيجي في مالي. ويمثل هذا الوجود الروسي محاولة لتأسيس شراكة جديدة، مع السيطرة على بعض القواعد العسكرية وتطويرها، مما يحوّل مالي إلى نقطة لوجستية هامة لروسيا في منطقة غرب أفريقيا. (9)

ورغم هذه الشراكة الجديدة، إلا أن حضور الفاعلين الدوليين بهذا الشكل يسهم في زيادة التوتر الأمني وعدم استقرار الأمن القومي المالي، حيث يُنظر إلى التحولات في التحالفات الدولية على أنها تشكل تحديًا للسيادة، وتزيد من احتمال حدوث نزاعات داخلية وتجاذبات بين القوى الإقليمية والدولية. ويظل وجود قوى أجنبية جديدة، سواء فرنسية أو روسية، ضمن العوامل التي تؤدي إلى حالة من عدم اليقين وزيادة المخاطر الأمنية في مالي.

ثالثًا: آفاق استقرار الحكم في مالي: الحلول المقترحة

تشهد مالي تحديات سياسية وأمنية معقدة جعلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار منذ سنوات، متأثرة بالصراعات العرقية، وتهديدات الجماعات المسلحة، وتكرار الانقلابات العسكرية. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة لوضع آفاق واضحة لاستقرار الحكم، خاصة أن مالي تقع في منطقة الساحل الإفريقي، التي تُعد بؤرة اضطرابات إقليمية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها. لذا، تسعى الحكومة المالية إلى تنفيذ سلسلة من الجهود والإصلاحات بهدف تحقيق استقرار مستدام، وترسيخ سيادة القانون، وبناء مؤسسات قوية تضمن التمثيل العادل والمشاركة الفعّالة لجميع الفئات المجتمعية. تأتي هذه المبادرات ضمن إطار شامل يضم المصالحة الوطنية، وتنمية الاقتصاد، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، مع تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي.

  • (تعزيز اللامركزية) يعتبر تبني نهج اللامركزية أحد الحلول لتعزيز استقرار الحكم، حيث يمكن من خلاله تحسين إيصال الخدمات العامة إلى المناطق النائية وتعزيز مشاركة المجتمعات المحلية في صنع القرارات. يسهم هذا أيضًا في تقليل حدة التوترات العرقية حيث تشعر كل مجموعة أنها ممثلة ومؤثرة في اتخاذ القرارات، وفي سياق ذلك، أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي، الأربعاء 10 يوليو الماضي، إعادة السماح بأنشطة الأحزاب السياسية والجمعيات السياسية، التي علقتها في أبريل.
  • (إطلاق برامج تنموية اقتصادية) يُعد الاستقرار الاقتصادي عاملاً رئيسيًا لضمان الاستقرار السياسي والأمني. من خلال الاستثمار في قطاعات مثل الزراعة والبنية التحتية والتعليم، يمكن للحكومة تحسين مستوى معيشة المواطنين وتوفير فرص عمل، مما يقلل من احتمالات تجنيد الشباب من قبل الجماعات المتطرفة.
  • (دعم سيادة القانون والعدالة) على الحكومة أن تضمن تطبيق سيادة القانون بشكل عادل ودون تمييز، خاصة في المناطق التي تأثرت بالنزاعات. هذا يشمل أيضًا تعزيز النظام القضائي وتوفير العدالة للضحايا من أجل بناء الثقة في مؤسسات الدولة وتحقيق المصالحة.
  • (تعزيز البرامج التعليمية والتوعوية) التعليم هو ركيزة أساسية لتوجيه الشباب بعيدًا عن الفكر المتطرف. ينبغي على الحكومة تنفيذ برامج تعليمية تركز على التوعية بأهمية السلام والتعايش. كما يُمكن استخدام وسائل الإعلام المحلية والبرامج الثقافية لتعزيز القيم الوطنية ونبذ العنف.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M