- آنا بورشفسكايا
- أندرو جيه. تابلر
وسط تصاعد النزاع في ناغورنو-كاراباخ، تراقب إيران وروسيا عن كثب التطورات في جنوب القوقاز، بدءً من العلاقات الدافئة بين إسرائيل وباكو، وإلى احتمال تحويل السيطرة على ممرات النقل في المنطقة.
في 26 آذار/مارس، قدم أول سفير لأذربيجان لدى إسرائيل أوراق اعتماده إلى الرئيس إسحاق هرتسوغ. وقبل أسبوعين من ذلك التاريخ، أشار مسؤولون في باكو إلى أن طائرة عسكرية إيرانية حلقت دون سابق إنذار على طول الحدود المشتركة بين البلدين، في خطوة هي الأحدث في سلسلة من التصعيدات.
وظاهرياً، قد تبدو هذه التطورات غير مترابطة ببعضها البعض، ويبدو أن التوترات الآذرية-الإيرانية المتصاعدة مدفوعة بتداعيات حرب عام 2020 حول جيب “ناغورنو-كاراباخ” المتنازع عليه، ومن بينها جهود باكو الأخيرة لتأمين الوصول إلى الممرات المحددة في اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه روسيا والذي أنهى القتال بين أرمينيا وأذربيجان. ولكن في الصميم، تشعر إيران بالقلق أيضاً من العلاقات العامة الوثيقة والمتنامية بين أذربيجان وإسرائيل. وتُعد هذه العلاقة إحدى التحولات الجيوستراتيجية الأخيرة المتعددة التي تؤثر على حسابات طهران، من بينها الغزو الروسي لأوكرانيا، وما نتج عن ذلك من توطيد علاقة إيران بموسكو، واتفاق سلام محتمل يمكن أن ينهي بشكل دائم ثلاثة عقود من النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. ومن وجهة نظر طهران، يهدد السيناريو الأخير بتحويل التوازن الإقليمي بعيداً عن إيران وروسيا، لا سيما فيما يتعلق بالسيطرة على البنية التحتية الإقليمية للنقل.
التحوّلات الإقليمية بعد حرب عام 2020
في أعقاب النزاع الإقليمي والعرقي بين أرمينيا وأذربيجان على خلفية ناغورنو-كاراباخ في الفترة بين 1988 و 1994، تم تجميد النزاع لعقود. ولكن التوترات المستعرة تحولت إلى حرب ثانية واسعة النطاق في أيلول/سبتمبر 2020، بعد أن نقلت السلطات الأرمنية الحاكمة في ناغورنو-كاراباخ برلمان المعقل إلى مدينة شوشا ذات الأهمية الثقافية والتاريخية بنظر البلدين. ورداً على ذلك، شنت أذربيجان هجوماً عسكرياً متعدد المحاور استعادت من خلاله سبع مقاطعات ذات أغلبية أذربيجانية في المنطقة. وكشفت سرعة الحملة عن تخطيط مسبق دقيق، فضلاً عن مساعدة كبيرة من تركيا وإسرائيل، شملت استخدام الطائرات المسيّرة التي تم الحصول عليها من كلا البلدين.
وبعد ستة أسابيع من القتال، أطلقت القوات الأرمنية – التي أصابها الذعر من انهيارها – صواريخ إسكندر روسية الصنع على باكو في محاولة لوقف الهجوم. ولكن وفقاً للعديد من المحللين والمسؤولين، أسقطت أذربيجان الصواريخ باستخدام نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي “باراك 8”. وعندما توسطت موسكو لاحقاً في وقف إطلاق النار، تمكنت باكو من فرض شروط أدت إلى طرد القوات الأرمينية من كل منطقة باستثناء الجزء الشمالي من ناغورنو-كاراباخ، المرتبط بأرمينيا عبر “ممر لاتشين”. وكما هو مبين في ذلك الاتفاق، تم دعم القوات الأرمنية المتبقية منذ ذلك الحين من قبل “قوات حفظ السلام” الروسية (التي تقوم بدوريات في “ممر لاتشين”) و “جهاز الأمن الفيدرالي الروسي” [جهاز الحدود الروسي”] (الذي يقوم بدوريات على حدود أرمينيا، التي تشمل حدودها غير المحددة مع أذربيجان).
وتشمل أراضي أذربيجان المستصلحة مناطق على طول حدودها مع إيران، بالإضافة إلى جزء من الطريق السريع الرئيسي الذي يربط إيران بأرمينيا، والذي هو طريق تجاري مهم لروسيا والبحر الأسود. وقد أفادت بعض التقارير أن الغضب عم طهران عندما بدأت باكو لاحقاً بفرض ضرائب على الشاحنات الإيرانية التي تحمل البضائع على طول هذا الطريق. ولعل الأهم من ذلك هو أن كبار المحللين والمسؤولين في المنطقة يقولون إن هذا الطريق كان – وربما يظل – ممراً رئيسياً لتهريب المخدرات وتهريب النفط وأنشطة أخرى تمثل خرقاً للعقوبات وتساعد في تخفيف الضغط الاقتصادي على الجمهورية الإسلامية. ويبدو أنه تم استخدامه أيضاً لإرسال أسلحة روسية إلى أرمينيا عبر إيران. وفي الواقع، دعمت طهران بشدة أرمينيا في الماضي، بينما كانت روسيا الضامن الأمني الرئيسي ليريفان لسنوات وهي متحالفة معها في “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”. ومع ذلك، يبدو أن موسكو تميل بشكل أكثر علانية نحو أذربيجان خلال حرب 2020.
التوترات الحدودية الأذرية-الإيرانية: لماذا الآن؟
تصاعدت التوترات مع طهران في الأشهر الأخيرة عندما حاولت باكو إنفاذ مادتين من اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020. فقد دعت “المادة 6” إلى بناء طريق جديد عبر “ممر لاتشين” بحلول عام 2023. وعندما فتحت أذربيجان هذا الطريق قبل الموعد المحدد في آب/أغسطس الماضي، اعتبرت أرمينيا أنه كان شديد الانحدار ويقع خارج الممر. وتقوم القوات الروسية الآن بدوريات على الطريق الجديد.
وفي شق آخر [من الاتفاق]، تدعو “المادة 9” إلى “رفع الحظر” عن جميع الروابط الاقتصادية وروابط النقل في جميع أنحاء المنطقة، وعلى الأخص بين أذربيجان و”جمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي” (“جمهورية نخجوان الذاتية”) الغربية التابعة لها. وبموجب هذا البند، سيتم ربط المنطقة المعزولة بأذربيجان عبر “ممر زانجيزور”، وهو ممر ضيق يمتد على طول الحدود بين أرمينيا وإيران ويخضع لدوريات من قبل “جهاز الأمن الفيدرالي الروسي”. ولكن إيران مترددة في تغيير الوضع الراهن هناك لأن زانجيزور هي نقطة وصولها البرية الوحيدة إلى أرمينيا. بالإضافة إلى ذلك، طالما تمنع أرمينيا التجارة مع ناختشيفان عبر الممر، يجب على أذربيجان أن تمر عبر إيران للوصول إلى المنطقة المعزولة، مما يمنح طهران نفوذاً على باكو.
وأدت الحوادث العسكرية والأمنية المختلفة إلى تأجيج التوترات الثنائية، من بينها الادعاء المذكور سابقاً المتعلق بانتهاكات المجال الجوي:
• في تشرين الأول/أكتوبر، أجرت إيران تدريبين عسكريين كبيرين بالقرب من الحدود مع أذربيجان. وزعمت طهران أنها قدمت لباكو إشعاراً مناسباً. ومع ذلك، قوبلت التدريبات بقلق.
• في تشرين الثاني/نوفمبر، اعتقلت السلطات الأذربيجانية تسعة عشر شخصاً يزعمون أنهم تلقوا تدريبات من قبل إيران لتنفيذ عمليات في أذربيجان. ويُزعم أن المشتبه بهم نُقلوا جواً إلى سوريا لإجراء تدريبات عسكرية. كما تم اتهامهم بتهريب مواد دينية بشكل غير قانوني عند عودتهم إلى بلادهم أذربيجان.
• في كانون الثاني/يناير الماضي، اقتحم مسلح السفارة الأذربيجانية في طهران، مما أسفر عن مقتل قائدها الأمني وإصابة اثنين من الحراس. وألقى الرئيس إلهام علييف باللوم على “مؤسسة إيران” على خلفية الهجوم.
• في آذار/مارس، أفادت بعض التقارير، أن عملاء إيرانيين حاولوا اغتيال النائب الأذربيجاني فاضل مصطفى، المعروف بمعارضته للنظام الإيراني.
ووفقاً للمحللين والمسؤولين في المنطقة، تسعى طهران أيضاً إلى إبقاء أذربيجان تحت السيطرة بسبب مشاكل الاحتجاج الخاصة بها في البلاد. وتشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى ثلث سكان إيران هم من الأذربيجانيين، ومعظمهم يعتبرون أذربيجان مركزاً لتاريخهم وثقافتهم. وفي السنوات الأخيرة، أصبح إثبات الذات لدى المجتمع الأذربيجاني أكثر بروزاً في إيران، مما أجبر النظام على التحرك بحذر عند اتخاذ قرار بشأن الموقف الذي يجب أن يتخذه خلال حرب عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان. وأدت حركة الاحتجاج الحالية في إيران إلى تسليط الضوء بصورة أكثر على القضايا الأذربيجانية – في تشرين الثاني/ نوفمبر، اتخذ الرئيس علييف خطوة غير مسبوقة للتعبير علناً عن دعمه لهذا المجتمع، متعهداً، “سنبذل قصارى جهدنا لحماية أسلوب الحياة العلماني لأذربيجان والأذربيجانيين في جميع أنحاء العالم، ومن بينهم الأذربيجانيون في إيران”.
وتقلق طهران أيضاً من العلاقات المتنامية بين أذربيجان وإسرائيل، التي هي أحد أكبر موردي الأسلحة لباكو. وعندما زار وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بيني غانتس أذربيجان في تشرين الأول/أكتوبر، وقّع البلدان عدة اتفاقيات عسكرية وأمنية. كما تُعمّق باكو تحالفها طويل الأمد مع تركيا، التي تنافس إيران ولديها الآن المزيد من الفرص لتأكيد نفوذها في المنطقة وسط حرب أوكرانيا.
التحوّلات بعد حرب روسيا في أوكرانيا
يبدو أن موسكو تقترب أكثر من أذربيجان منذ غزوها لأوكرانيا. فلم يستجب الكرملين لدعوات أرمينيا للحصول على دعم عسكري في أيلول/سبتمبر الماضي، خلال موجة القتال الأكثر دموية مع أذربيجان منذ عام 2020. كما أنه لم يتمكن من وقف عمليات الإغلاق الأخيرة لـ “ممر لاتشين”.
ووفقاً لاتفاقية وقف إطلاق النار لعام 2020 التي تم التوصل إليها بوساطة روسية، يُفترض أن يظل هذا الممر “تحت سيطرة قوات صنع السلام في الاتحاد الروسي”. ولكن الأذربيجانيين بدأوا يتَحَدّون هذه القوة في أواخر العام الماضي. ففي كانون الأول/ديسمبر، أفادت بعض التقارير أن “نشطاء في مجال البيئة” بدأوا بمنع القوافل العسكرية الروسية من دخول الممر. كما انضموا إلى أعضاء منظمات غير حكومية أذربيجانية مختلفة في إقامة معسكرات احتجاجية بالقرب من شوشا على طريق مؤدية إلى الممر. ومن بين مطالبهم دعوة القوات الروسية للسماح بعمليات التفتيش لمنع الأرمن من نقل الذهب والنحاس المستخرج من ناغورنو-كاراباخ، الأمر الذي تعتبره باكو استغلالاً غير قانوني لموارد أذربيجان الطبيعية. كما تم قطع إمدادات الكهرباء والغاز من أذربيجان بشكل دوري. وفي شباط/فبراير، أدى النقص المحلي في الغذاء والدواء إلى إصدار المحكمة الجنائية الدولية حكماً مؤقتاً تأمر بموجبه باكو بضمان حرية الحركة عبر الممر.
وتثير هذه المشاكل الشكوك في يريفان حول قدرة روسيا على حماية حليفها في المعاهدة. فقد تفاقمت التوترات بفعل خطط أرمينيا للتصديق على “نظام روما” التأسيسي لـ “المحكمة الجنائية الدولية”، الذي تعتبره موسكو “غير مقبول” الآن بعد أن أصدرت “المحكمة الجنائية الدولية” مذكرة توقيف بحق الرئيس فلاديمير بوتين في 17 آذار/مارس. وفي كانون الثاني/يناير، ألقت موسكو باللوم علناً على أرمينيا في تعطل محادثات السلام مع أذربيجان. من جانبه، تحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مراراً وتكراراً مع بوتين عن “مشاكل” القوات الروسية، حتى أنه اقترح أن تسعى موسكو للحصول على تفويض لإرسال قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة إلى ناغورنو-كاراباخ “إذا لم تفِ روسيا بالتزاماتها”. وتعزز جميع هذه القضايا من دون شك ثقة باكو بذاتها أكثر فأكثر.
وفي غضون ذلك، تجد روسيا نفسها للمرة الأولى معتمدة على إيران بسبب دعم طهران العسكري لحرب أوكرانيا – وهو ما قد يُفسّر سبب غض الطرف عن أنشطة إيران في أذربيجان. وعلى الصعيد الاقتصادي، تدعم كل من موسكو وطهران توسيع “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” عبر جنوب القوقاز، مما قد يسمح لهما بالالتفاف على العقوبات الغربية وربما تغيير ميزان القوى في تلك المنطقة.
توصيات في مجال السياسة العامة
أدت سنوات من الإهمال الأمريكي لجنوب القوقاز إلى خدمة المصالح الروسية والإيرانية هناك، وقد وصلت المنطقة الآن إلى نقطة انعطاف. ولكن الوضع المتوتر يوفر أيضاً فرصاً لإرساء سلام مستدام.
وعلى الرغم من أن روسيا وإيران ستفضلان على الأرجح الإبقاء على نزاع منخفض المستوى بين أذربيجان وأرمينيا بينما تستخدمانهما بشكل متزايد كطرق نقل بديلة، إلّا أن تركيز موسكو الحالي على أوكرانيا يمنح واشنطن فرصة. ولن تدعم المشاركة الأمريكية الإضافية رفيعة المستوى في جنوب القوقاز جهود السلام بين باكو ويريفان فحسب، بل ستواجه أيضاً الأنشطة الروسية والإيرانية في المنطقة، وتضمن وصولاً أمريكياً أكبر إلى تلك المنطقة، وتساهم في معالجة مخاوف حقوق الإنسان. وتُعد محادثة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخيرة مع رئيس الوزراء باشينيان خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن واشنطن لم تضع بعد استراتيجية شاملة فيما يتعلق بجنوب القوقاز.
ويمكن أن تشمل الخطوات الأخرى:
• دعم الانتشار النهائي لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بدلاً من القوات الروسية في المناطق المتنازع عليها في ناغورنو-كاراباخ.
• دعم مهمة المراقبة المحدودة الأخيرة للاتحاد الأوروبي على الجانب الأرمني من الحدود.
• دعم تطبيع أرمينيا مع تركيا، لا سيما وأن يريفان قد تقيم علاقات أوثق مع إيران من أجل التعويض جزئياً عن تباعد روسيا النسبي.
• استكشاف الفرص الإقليمية مع تركيا وإسرائيل، اللتين اصطفت مصالحهما مؤخراً في جنوب القوقاز ضد إيران.
• البحث عن طرق لتقريب جنوب القوقاز من الغرب، بدءً من زيادة التجارة والمساعدات الخارجية إلى إمكانية إنشاء منتديات دبلوماسية جديدة تستبعد روسيا.
ويُعتبر الوضع مهيأً للمشاركة الأمريكية. فرئيس الوزراء باشينيان هو أكثر زعماء أرمينيا تأييداً للغرب منذ عقود، بينما دخلت أذربيجان أساساً في شراكات مع الولايات المتحدة في قضايا على غرار عمليات التحليق العسكرية. وكما قالت المساعدة السابقة لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوروبا وأوراسيا، كارين دونفريد، للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر، ساهمت المساعدة الأمنية الحدودية غير الفتاكة المقدمة من الولايات المتحدة إلى باكو في مواجهة التهديدات العابرة للحدود من قبل إيران وتعطيل طرق التهريب إلى روسيا وأوروبا.
وعلى نطاق أوسع، يظل جنوب القوقاز رابطاً لوجستياً رئيسياً بين الغرب والشرق الأوسط الأوسع وآسيا الوسطى. وكان لروسيا وجود عسكري راسخ هناك لأكثر من قرنين، وتحوّل الوضع في ناغورنو-كاراباخ إلى أطول نزاع في المنطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي. وسيكون تحقيق السلام في تلك المنطقة بمثابة إنجاز جيوسياسي قوي يعزز المصالح الأمريكية على جبهات متعددة.
.
رابط المصدر: