التوترات البحرية ونشر الصواريخ: أزمة جديدة في بحر الصين الجنوبي

في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة جنوب شرق آسيا، تصاعدت المخاوف بشأن نشر الولايات المتحدة لنظام صواريخ متوسطة المدى في شمال الفلبين، وهو الأمر الذي أثار قلقًا “كبيرًا” لدى الصين. والتي أعربت عن مخاوفها من أن هذا التطور العسكري قد يزعزع استقرار المنطقة، خاصة في ظل الصراع المتزايد حول بحر الصين الجنوبي. وفي محاولة لتهدئة المخاوف الصينية، أكد وزير الخارجية الفلبيني “إنريكي مانالو” أن هذا الانتشار مؤقت وغير موجه ضد أي دولة معينة.

وفي هذا السياق، تطرح تساؤلات رئيسية حول تداعيات هذه الخطوة على العلاقات الصينية-الفلبينية، ومستقبل الاستقرار في المنطقة: وهل يمكن لهذا الانتشار العسكري الأمريكي أن يُعزز من التوترات الإقليمية، أم أن الفلبين قادرة على إدارة التوازن بين تعزيز قدراتها الدفاعية وتجنب تصعيد النزاع مع الصين؟

جذور الأزمة

تعود جذور الأزمة إلى التوترات المتزايدة في منطقة جنوب شرق آسيا، وخاصة في بحر الصين الجنوبي، حيث تتنافس عدة دول على السيادة الإقليمية على الممرات المائية المهمة. في هذا السياق، قامت الولايات المتحدة بتحركات عسكرية لتعزيز حضورها في المنطقة، وذلك بالتعاون مع حلفائها الإقليميين مثل الفلبين.

في أبريل 2024، أعلن الجيش الأمريكي عن نقل نظام صواريخ متوسط المدى إلى شمال الفلبين كجزء من تدريبات قتالية مشتركة مع القوات الفلبينية. وهذا النظام القادر على إطلاق صواريخ “ستاندرد ميسيل-6” المضادة للصواريخ والطائرات، وصواريخ “توماهوك” الهجومية التي يمكن أن تصيب أهدافًا بعيدة، يُعد من أكثر الأسلحة تطورًا في الترسانة الأمريكية.

كان الهدف من هذه الخطوة، بحسب التصريحات الأمريكية، هو تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة بين الولايات المتحدة والفلبين، وتحسين الاستعدادات لمواجهة أي تهديدات محتملة، كما تهدف لتحسين جاهزية القوات وتعزيز التعاون العسكري بين البلدين. تشمل هذه التدريبات دعمًا من المروحيات ونيران المدفعية، وتركز على تحسين القدرة اللوجستية لإمداد القوات بالذخيرة والاحتياجات الأساسية في ظروف المعركة. تأتي هذه التدريبات أيضًا في إطار جهود إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لتعزيز التحالفات العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة، وخاصة من الصين.

ومع ذلك، فإن هذا التحرك جاء في وقت حساس بالنسبة للعلاقات الصينية-الفلبينية، حيث تعارض الصين بشدة هذه التحركات، معتبرة أن الوجود العسكري الأمريكي المتزايد في الفلبين يهدد الاستقرار الإقليمي ويزيد من مخاطر الصراع الجيوسياسي. لكن على الرغم من ذلك، تواصل الفلبين دعمها لهذا التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، معتبره أنه ضروري لتعزيز الدفاعات الإقليمية، لا سيما في ظل النزاعات المستمرة في بحر الصين الجنوبي.

قلق صيني

ردًا على هذا التحرك، أعربت الصين عن قلقها “الكبير”، وحذرت من أن نشر مثل هذه الأنظمة الصاروخية يمكن أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك تعترض الصين بشدة على الوجود العسكري الأمريكي المتزايد في منطقة بحر الصين الجنوبي، واصفة إياه بأنه “تنمر ملاحي” يشعل المواجهات ويهدد الاستقرار الإقليمي. جاء ذلك بعد تصريحات وزير البحرية الأمريكي “كارلوس ديل تورو” الذي انتقد تصرفات الصين العدوانية في البحر المتنازع عليه، مؤكداً على التزام الولايات المتحدة بحماية حلفائها في المنطقة، بما في ذلك الفلبين، وفقاً لمعاهدة الدفاع المشترك لعام 1951. ومتهمًا الصين بالاستمرار في تحدي القرارات الدولية التي تنفي مطالباتها في بحر الصين الجنوبي، محولة بعض الشعاب المرجانية إلى قواعد عسكرية، مما يزيد التوترات مع الدول المجاورة.

في المقابل، ترفض الصين الاتهامات الأمريكية، معتبرة أن واشنطن تسعى إلى استعراض القوة وخلق التوترات البحرية من خلال انتشارها العسكري بعيدًا عن أراضيها. وتشدد بكين على أن بحر الصين الجنوبي ليس ساحة صراع للدول الكبرى. وعلى الرغم من المحاولات الدبلوماسية للحد من التصعيد، لا تزال الصين والدول المجاورة تواجه توترات مستمرة بسبب المطالبات المتداخلة في المنطقة.

محاولات طمأنة

حاولت الفلبين تهدئة التوترات بتأكيد أن هذا الانتشار هو مؤقت ويهدف فقط لأغراض التدريب، وأنه لا يشكل تهديدًا على الصين. في السياق ذاته؛ أكد وزير الخارجية الفلبيني، إنريكي مانالو، أن نظام الصواريخ الأمريكي الموجود في شمال الفلبين هو نظام مؤقت ولم يتم نشره بهدف زعزعة استقرار المنطقة. وذلك خلال محادثاته مع نظيره الصيني “وانغ يي” في “لاوس” على هامش اجتماعات رابطة دول جنوب شرق آسيا الشهر الماضي، كما حاول “مانالو” تهدئة المخاوف الصينية بالقول إن الأسلحة الأمريكية ليست موجهة ضد الصين أو أي دولة أخرى في المنطقة.

أوضح “مانالو” أن الهدف من نشر الصواريخ هو تعزيز التعاون الدفاعي بين الفلبين والولايات المتحدة من خلال التدريبات المشتركة، وليس تعزيز الوجود العسكري الدائم في المنطقة. كما أشار إلى أن النظام الصاروخي قد يتم نقله خارج الفلبين في وقت قريب، مما يعني أن وجوده مؤقت ولن يؤدي إلى تغييرات دائمة في التوازن العسكري الإقليمي.

هذه التطمينات تعكس محاولة الفلبين لتجنب تصعيد التوترات مع الصين، مع الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، يبدو أن هذه المحاولات لم تكن كافية لتهدئة جميع مخاوف الصين، التي تستمر في التعبير عن قلقها من التحركات العسكرية الأمريكية في المنطقة.

لكن على الرغم من هذه التطمينات، فإن وجود هذه الأسلحة المتطورة في الفلبين أثار مخاوف واسعة من احتمالية تصاعد النزاع، خاصة في ظل تصاعد التوترات البحرية بين الصين والفلبين في بحر الصين الجنوبي. ولم يتم إطلاق النظام الصاروخي خلال التدريبات، مما يعكس حساسية الموقف ورغبة الجانبين في تجنب تصعيد غير ضروري على الأقل في الوقت الراهن.

لكن المخاوف الصينية لم تتبدد بشكل كامل، حيث ترى بكين أن هذا التحرك جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تطويقها عسكريًا من خلال تعزيز التحالفات الأمريكية مع دول المنطقة. كما ترى أن هذه التحركات قد تؤدي إلى تقويض استقرار المنطقة وزيادة التوترات، مما قد يجر المنطقة إلى نزاع عسكري لا يُحمد عقباه.

  تداعيات الاصطدامات البحرية

تأتي التحركات الأمريكية الفلبينية الأخيرة تزامنًا مع تزايد التوترات البحرية بين الصين والفلبين، فخلال الأشهر الماضية حدثت تصادمات ومواجهات بين السفن البحرية من الطرفين الصيني والفلبيني لعل من أبرزها:

الاصطدامات الأخيرة في أكتوبر 2023، والتي وقعت بين سفن خفر السواحل الصينية وسفينتين تابعتين لخفر السواحل الفلبينيين قبالة جزيرة “توماس الثانية” في بحر الصين الجنوبي. وهذه الاصطدامات تسببت في أضرار للسفن الفلبينية وأثارت غضب السلطات الفلبينية، مما أدى إلى استدعاء دبلوماسي صيني في العاصمة الفلبينية “مانيلا” للاحتجاج.

وفي الأونة الأخيرة، تتعرض السفن الفلبينية لمضايقات من قبل السفن الصينية، والتي تشمل إيقافها ومنعها من القيام بمهامها في المياه المتنازع عليها، ما يؤدي إلى تصعيد النزاع في المنطقة.

وردًا على تلك الاتهامات تُجادل بكين بأن السفن الفلبينية كانت تتعدى على المياه الصينية وتقوم بأنشطة استفزازية، بما في ذلك محاولة تعزيز مواقعها في المياه الضحلة، مما أدى إلى الاصطدامات.

ومن جانبها جددت  الولايات المتحدة تحذريها لبكين، مُعلنة -عبر معاهدة الدفاع المشترك لعام 1951- تحذيرها بأنها ستدافع عن الفلبين في حالة تعرضها لهجوم مسلح من قبل الصين. كما أعربت الولايات المتحدة وحلفاؤها عن قلقهم إزاء تصرفات الصين، مشيرين إلى أن المناورات الصينية تنتهك القانون الدولي.

لكن على الصعيد الأخر، تعتبر الصين الانتقادات الأمريكية والفيليبينية جزءًا من حملة لتشويه سمعتها ولتعزيز الهيمنة الأمريكية في المنطقة. وترى الصين أن مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي تستند إلى حقائق تاريخية وقانونية، وتعتبر أنشطة السفن الصينية في المنطقة مشروعة وضرورية لحماية سيادتها. وتتهم الصين الولايات المتحدة بتحريف الحقائق والتدخل في نزاع محلي لا علاقة لها به، مشيرة إلى أن واشنطن تستخدم “حرية الملاحة” كذريعة لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة ولتوسيع نفوذها الجيوسياسي على حساب الصين.

كما ترى الصين أن تصرفاتها في بحر الصين الجنوبي هي ردود فعل على الاستفزازات المتكررة من الدول المجاورة التي تحاول تعزيز وجودها في المناطق المتنازع عليها بمساعدة الولايات المتحدة. وترفض الصين ما تصفه بالتدخل الأمريكي في الشؤون الإقليمية الآسيوية، مؤكدة أنها تسعى للحفاظ على السلام والاستقرار من خلال ضبط النفس واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية.

السيناريوهات المتوقعة

يمكن طرح عِدة سيناريوهات حول تصاعد التوترات في منطقة بحر الصين الجنوبي، وما ترتب عليها من نشر صواريخ أمريكية في الفلبين:

  • أولًا: تصاعد التوترات الإقليمية؛ من الممكن أن يؤدي نشر الصواريخ الأمريكية في الفلبين إلى تصاعد التوترات بشكل كبير بين الصين والولايات المتحدة، مما قد يجر المنطقة إلى مواجهة عسكرية. في هذا السيناريو، قد تشهد منطقة بحر الصين الجنوبي تصعيدًا في المواجهات البحرية بين الصين والفلبين، مع تزايد احتمالية تدخل الولايات المتحدة لدعم حليفها الفلبيني. هذا التصعيد قد يشمل اشتباكات عسكرية محدودة أو مناوشات ترفع من درجة المخاطر في المنطقة.
  • ثانيًا: تسوية دبلوماسية؛ في هذا السيناريو، قد تتمكن الأطراف المعنية من التوصل إلى تسوية دبلوماسية لتجنب التصعيد. من خلال المفاوضات المباشرة بين الصين والولايات المتحدة، وبالتعاون مع الفلبين، يمكن أن تُعقد اتفاقات تهدف إلى تخفيف التوترات، مثل تحديد إطار زمني محدد لوجود الصواريخ الأمريكية وضمان عدم استخدامها في التصعيد ضد الصين. وقد تساعد هذه التسوية في الحفاظ على استقرار المنطقة وتخفيف المخاوف.
  • ثالثًا: استمرار التوازن الاستراتيجي؛ يمكن أن يؤدي الانتشار المؤقت للصواريخ إلى تحقيق توازن استراتيجي بين القوى الكبرى، مما يمنع تصعيد الصراع بشكل كبير. في هذا السيناريو، قد تبقى التوترات قائمة، ولكن ضمن حدود معينة، حيث تسعى الولايات المتحدة والفلبين إلى تعزيز التعاون العسكري دون تجاوز الحدود التي قد تؤدي إلى نزاع مباشر مع الصين. ستستمر جهود التهدئة وتقديم التطمينات، بينما تظل الأنشطة العسكرية ضمن نطاق تدريبي مؤقت.
  • رابعًا: تفكك التحالفات الإقليمية؛ قد يتسبب الصراع حول نشر الصواريخ في تفكك بعض التحالفات الإقليمية. في هذا السيناريو، وقد تسعى بعض دول المنطقة إلى اتخاذ موقف محايد أو التوسط لتقليل التوترات، مما يؤدي إلى إعادة تقييم التحالفات والتعاون بين الدول، وقد يتجلى ذلك في تغييرات في السياسات الأمنية والتحالفات الإقليمية.

ختامًا، تُبرز الأزمة الحالية حول نشر الصواريخ الأمريكية في الفلبين؛ كيف يمكن للتحركات العسكرية التكتيكية أن تُفاقم التوترات الدبلوماسية في منطقة حيوية مثل بحر الصين الجنوبي. وبينما تسعى كل من الفلبين والولايات المتحدة إلى تعزيز قدراتهما الدفاعية في وجه التهديدات المتزايدة، فإن القلق الصيني يعكس أهمية الاستقرار الإقليمي في المنطقة. فضلًا عن أن تصاعد التوترات تُبرز تحديات إدارة العلاقات الدولية في ظل المنافسات الجيوسياسية المتزايدة. وفي ظل هذا الوضع المعقد؛ تبقى الحلول الدبلوماسية والتفاهم المشترك أمورًا ضرورية للحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، وتجنب أي تصعيد يمكن أن يؤثر سلبًا على مصالح جميع الأطراف المعنية.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82225/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M