جلال سلمي
في ذروة العاصفة الثلجية التي ضربت تركيا في يناير/كانون الثاني الماضي، توقف ضخ الغاز الطبيعي من إيران إلى تركيا على نحوٍ مُفاجئ، وهو ما أحدثَ صدمةً وقلقاً لدى المسؤولين الأتراك، في حين تذرعت طهران بوجود عطل فني غير مقصود.
أخذت أنقرة الأمر على محمل الجد، مُتجهةً نحو تكثيف مساعيها للبحث عن مصادر مُتعددة لتوفير الغاز الطبيعي. في ذات السياق، قُرئ الحدث على أنه رسالةٌ سياسيةٌ صاعقة من إيران لأنقرة، مفادها: ما زلتم بحاجة إلى الغاز الإيراني، لذا محاولتكم لتعزيز مركزية موقعكم الجغرافي ليكون ممراً مهماً لنقل الغاز من الشرق نحو الغرب لا بد أن يكون بالتوافق معنا.
هذه القراءة الأولية للأزمة بين البلدين تدفعنا للتساؤل عن حجم تبادل الطاقة بين الطرفين، وطبيعة الأزمة المذكورة وأسبابها، وصولاً إلى الحديث عن محاولات تركيا توفير بدائل عن الغاز الإيراني.
تبادل الطاقة بين البلدين: باب مفتوح رغم كل الخلافات
تستورد تركيا ٢١.٥ مليون طن أو يزيد من النفط الخام سنوياً، ويُغطي ذلك ٧٥٪ من حاجتها؛ ٢٢.٤٪ من هذه النسبة توفرها إيران، التي تحتل المرتبة الثانية بعد العراق ضمن قائمة موردي النفط لتركيا.
من ناحية الغاز الطبيعي تُغطي تركيا ما نسبته ٩٩٪ من حاجتها بالاستيراد، وقد بلغ مجموع واردات أنقرة من الغاز الطبيعي لعام ٢٠٢٠ ما يربو على ٤٠ مليار متر مكعب، ١٦٪ من هذه النسبة تُغطيها طهران. وهنا أيضاً تحتل إيران المرتبة الثانية بعد روسيا ضمن قائمة موردي الغاز الطبيعي لتركيا.
وكان عام ١٩٦٢ عام تدفق أولى مكعبات الغاز الإيراني إلى تركيا، غير أن الطرفين وقعا، في آب/أغسطس ١٩٩٦، اتفاقية بموجبها تزود طهران أنقرة بـ ٢٢٦ مليار متر مكعب خلال ٢٢ عاماً، على أن تُحسب المدة المذكورة بعد تدفق الكمية الأولى، وقد تدفقت الكمية الأولى عام ٢٠٠٢.
بلغ متوسط حجم التبادل التجاري العام بين الطرفين ٦ مليارات و٨٥٦ مليون دولار من عام ٢٠١٧ وحتى عام ٢٠٢٠. تعكس المُعدلات المذكورة حجم الترابط الاقتصادي الوثيق بين البلدين، بل وتطوره الدائم والمُستقر رغم خلافاتهما السياسية المُتعددة؛ لا سيّما في الميدانين السوري والعراقي.
تبادل الطاقة تحديداً هو الباب الخلفي للعلاقات التركية – الإيرانية، الذي يحرص كلا الطرفين على تجنيبه شرارات الاحتدام السياسي وقطبية الاختلاف الأيديولوجي، غير أن هزات التوازنات الإقليمية الأخيرة طالت أركان باب التعاون في تبادل الطاقة بين الطرفين، وذلك بوقف طهران إمدادات الطاقة في أوج حاجة أنقرة إليها.
قطع الغاز: رسالة سياسية.. لا للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي
بالرجوع إلى منتصف التسعينيات، ظهرت بوادر أزمة إيرانية – تركية نتيجة التقارب التركي– الإسرائيلي في المجال العسكري، إذ شعرت طهران حينذاك بتهديد أمني استخباري من جراء هذا التقارب. مؤشرات تلك الأزمة انعكست حينها من خلال اتجاه طهران نحو استصدار قرار على هامش قمة منظمة المؤتمر الإسلامي لعام ١٩٩٧ يستنكر التحرك التركي تجاه شمال العراق، ودعم منظمة “حزب الله” التي تأسست داخل الأراضي التركية منتصف التسعينيات.
إذن، هي رسالة سياسية توجهها طهران لأنقرة عندما تشعر بأن مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية مُعرضة للخطر. وكانت أزمة قطع طهران الغاز الطبيعي عن تركيا في ٢٨ يناير/ كانون الثاني ٢٠٢٢، لمدة ١٠ أيام، محطة جديدة من محطات الرسائل السياسية الإيرانية لتركيا.
أسفر قطع الغاز عن توقف عدد من المصانع التركية الكُبرى من جراء فرض أنقرة قيوداً وزيادات هائلة على أسعار الكهرباء التي يُنتَج معظمها بالغاز الطبيعي، حيث أدى انقطاع الغاز المستورد من إيران إلى انخفاض تدفق الغاز إلى الصناعات الكبيرة ومحطات الكهرباء بنسبةٍ تصل إلى ٤٠٪، وذلك أدى إلى ارتفاع أسعار الكهرباء بنسبة ٥٠٪.
القرار الإيراني بوقف ضخ الغاز كان ضربةً قويةً لتركيا في ظل ما تعانيه من تصاعد ملموس لتكاليف استيراد الطاقة نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، ذلك الأمر دفع المصرف المركزي التركي إلى إقراض شركة خطوط أنابيب الطاقة التركية “بوتاش” ما يقارب ٤ مليارات دولار لتغطية حاجتها من الغاز بالاستيراد من أذربيجان ومُوردين آخرين.
هذه النتائج السلبية لتوقف ضخ الغاز في زمنٍ تعاني منه تركيا أصلاً من نقصٍ في أصولها الأجنبية ستدفع، على الأغلب، المسؤولين الأتراك لتفكير جاد في تنويع موردي الغاز لتركيا.
تتعدد الأسباب الحقيقية لحدوث الأزمة بين الطرفين، غير أن السبب الأساسي والأول يتعلق بالمعادلة الجيو-اقتصادية الجديدة التي تجلّت ملامحها بعد رفع واشنطن الغطاء السياسي والدعم المادي عن خط “ميد ـ إيست” الذي كان من المخطط له نقل الغاز الإسرائيلي ضمن المياه الإقليمية لقبرص اليونانية واليونان. ملامح المعادلة الجيو – الاقتصادية المذكورة بانت أيضاً بعد خطوات تقارب أنقرة من تل أبيب وسط الحديث عن مشاورات لطرح مشروع نقل الغاز الإسرائيلي نحو أوروبا من خلال الأراضي التركية.
ومصطلح الجيو–اقتصاد يُشير إلى الجانب الجغرافي – الاقتصادي للمشاريع الاقتصادية الاستراتيجية التي تسعى من خلالها الدول إلى تحويل مواقعها الجغرافية لحاضنة تدر عليها الدخل الوفير.
إن خطوات تحسين العلاقات بين تركيا والكيان الإسرائيلي، على نحوٍ يؤسس لخارطة جيو – سياسية واقتصادية، تجعل من تركيا فاعلاً مهماً وأساسياً في نقل الطاقة من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز نحو أوروبا. وهذه الخطوة سترفع من قيمة أنقرة وأهميتها في مشاريع نقل الغاز على حساب الجغرافيا المحيطة، لا سيّما سوريا، التي تسعى طهران تحديداً لجعلها منافساً جيو-استراتيجياً لأنقرة في مشاريع نقل الغاز، حيث ترمي طهران لمد الخط “الإسلامي” أو “الفارسي” الذي ينطلق من أراضيها إلى العراق ومن ثم سوريا وصولاً إلى لبنان ومن ثم أوروبا.
لا ريب أن أي مشروع غاز بين الكيان الإسرائيلي وتركيا من شأنه أن يلحق ضرراً نسبياً بالعلاقات بين طهران وأنقرة، بل ويمكن أن يؤسس لمحور تركي–إسرائيلي–عربي غير مباشر في نقل الغاز المصري والإسرائيلي إلى الأردن وسوريا ولبنان من جهة، وتركيا من جهةٍ أخرى، ومن تركيا إلى أوروبا، وهو ما يقلل من أهمية الخط “الإسلامي” الإيراني.
هذه التطورات تجعل طهران مُتجهةً نحو الضغط على أنقرة بما تملك من أوراقٍ، بشكلٍ صلبٍ، بغية تذكير الجانب التركي بصعوبة تجاوز إيران في هذه المشاريع، وذلك لأنه من ناحية قانونية هناك اتفاقية تبادل غاز بين الطرفين تنص على أنه لا يمكن لأنقرة إلغاؤها أو تخفيف الكميات التي تستوردها من إيران حتى عام ٢٠٢٤، كذلك الرسالة سياسية لتركيا على نحو أن طهران لن تصمت حيال ما يمكن أن يضر بمصالحها الاستراتيجية.
إلى جانب عامل تحسين العلاقات التركية – الإسرائيلية، لُمس مؤخراً مسعى أنقرة لتحقيق ذات المعادلة في آسيا الوسطى والقوقاز؛ من خلال تأسيس شبكات نقل غاز من تلك المناطق نحو أوروبا عبر الخطوط المارة من تركيا، وهذا ما شكّل عامل ضغط آخر على طهران، لا سيّما أن هناك تشابكاً وثيقاً في العلاقات بين الكيان الإسرائيلي وأذربيجان، حيث إن ٤٠٪ من مجموع احتياج الكيان الإسرائيلي إلى النفط الخام تغطيه أذربيجان، فضلاً عن التعاون العسكري الوطيد بين أذربيجان والكيان الإسرائيلي من جهة، وأذربيجان وتركيا من جهةٍ أخرى، مما يؤسس لأشبه ما يكون بالتطويق الجغرافي الإقليمي لإيران.
وليس ذلك فقط، بل هناك التنسيق التركي – الباكستاني – القطري – الغربي في ملف أفغانستان المحاذية لإيران. وذلك ملف جيو-سياسي هامشي ربما، لكنه يؤثر سلباً في نفوذ ومصالح إيران الأمنية في أفغانستان، لذلك كان هناك تحرك إيراني صلب ضد أنقرة.
أنقرة… تنويع المصادر هو الدرع الواقي
بطبيعة الحال لا يمكن أن تقف أنقرة مكتوفة الأيدي أمام التهديد الاستراتيجي الذي تعرضت له مؤخراً من قبل إيران.
أمن الطاقة يُصنف ضمن عناصر الأمن القومي للدول، وبوعي هذه النقطة تمضي أنقرة نحو تنويع مصادرها من الطاقة.
في مسألة الغاز الطبيعي تحديداً، تحاول أنقرة منذ سنوات تنويع مصادرها، إذ تستورد من روسيا وأذربيجان والجزائر ونيجيريا، بل ومن فنزويلا. لكن حتى ذلك الترتيب لا يمكن وصفه بأنه تنويع، إذ تعتمد أنقرة على روسيا بنسبة ٥٥٪ لتغطية حاجتها من الغاز، وهذا يعني أن أنقرة التي تسعى منذ عام ٢٠٠٢ لتنويع مصادر استيرادها للطاقة، لم تحقق ما ترنو إليه حتى الآن.
وفي ضوء هذا المحور، يُشار إلى أن السيناريو المُرجح لتعامل أنقرة مع الأزمة الأخيرة يكمن في استمرارها في البحث عن مصادر بديلة لكن بدون التخلي الكامل عن إيران، لماذا؟
أولاً: العامل القانوني الذي يفرض على أنقرة الالتزام باستيراد الغاز حتى عام ٢٠٢٤.
ثانياً: العامل الجغرافي والتكلفة الناتجة عن البعد الجغرافي بالنسبة للبدائل، حيث إن خط الغاز القائم بين تركيا وإيران يوفر على تركيا كلفة النقل بصورةٍ كبيرة، أما الاتجاه نحو الاستيراد من دولٍ بعيدة؛ كالجزائر ونيجيريا وفنزويلا، فسيجعل التكلفة عالية.
ثالثاً: عدم منطقية الاعتماد على بدائل أخرى بشكلٍ كبير، حيث إن البديل الجيد لتركيا من ناحية الجغرافيا والتكاليف هي روسيا وأذربيجان، لكن ليس من المنطق استبدال الاعتماد المُطلق على طرف باعتماد مُطلق على طرفٍ آخر، والواقعي أو المنطقي هو الإبقاء على حالة الاعتماد النسبي والتنويع للمصادر.
رابعاً: المخاطر السياسية والأمنية والاقتصادية التي قد تُكبدها طهران لأنقرة في المنطقة؛ لا سيّما في الملفين السوري والعراقي، إذ قد تزيد طهران من مستوى منافستها لأنقرة في تلك الملفات، بل قد تنقل الصراع إلى ميادين أخرى، وقد يؤثر ذلك على التبادل التجاري العام بين الطرفين. وإذ تدرك أنقرة تلك النقطة، فعلى الأرجح ستفضل الإبقاء على عنصرٍ يحفظ العلاقات قائمةً ولو بالحد الأدنى بين الطرفين.
وفي هذا الإطار، الواضح أن أنقرة على المدى القريب ستعمل على رفع مستوى اعتمادها على الغاز الأذربيجاني بما يجعله يتفوق على مُعدلات استيراد الغاز الإيراني، وكذلك ستركن إلى الغاز الجزائري كاحتياطي، حيث وقعت عقداً لتجديد تزويد الجزائر تركيا بالغاز حتى عام ٢٠٢٤، أما على المدى البعيد، فستركن إلى ربط غاز تركمانستان بخط الغاز الذي ينقل لها الغاز الأذربيجاني، ومن ثم ستسعى لمد خط من قطر إليها، وذلك الخط يُخطط له أن يمر من قطر إلى السعودية ومن ثم الأردن فسوريا وصولاً إلى تركيا، وهناك مشاورات بين الدوحة وأنقرة بهذا الخصوص، كذلك ستعتمد أنقرة على مشاريع نقل الغاز من الدول المُنتجة إلى الدول المُستهلكة لتوفر كميات كبيرة وغير منقطعة من الغاز بأقل التكاليف.
تركيا سوقاً رئيسية لموردي الطاقة
بعد عام ٢٠٠٢، مضت أنقرة نحو تطبيق استراتيجية تحويل موقعها الجغرافي إلى صنبور مركزي في نقل الغاز من الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى نحو أوروبا. وفي ضوء ذلك عملت على مد الخطوط التالية:
– خط العرب: وقعت اتفاقيته عام ٢٠٠٨. ينقل الغازين المصري والإسرائيلي إلى الأردن وسوريا ومنها إلى لبنان وتركيا ومنها إلى أوروبا، مؤخراً أعيد إحياؤه بتوجيه أمريكي، وتنتظر تركيا التفاوض حول استكمال إنشائه، حيث توقف عند مدينة حمص السورية.
– خط جنوب القوقاز “إس سي بي – تاناب – تاب”: ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر تركيا. نشط منذ عام ٢٠١٨، وتسعى تركيا لتحويله إلى خطٍّ ينقل غاز دول آسيا الوسطى بالعموم، لا سيّما تركمانستان وكازاخستان. والخط مدعوم مادياً من قبل الاتحاد الأوروبي بصورةٍ سخية.
– خط السيل التركي: ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، وقعت اتفاقيته عام ٢٠١٦، وأعمال إنشائه ما زالت مستمرة.
هذه الخطوط، وغيرها، تجعل لتركيا مستقبلاً لامعاً في التحول إلى مركز نقل الطاقة في العالم، وهذا الأمر يعود على تركيا بالفوائد التالية:
– رفع مستوى النفوذ الدبلوماسي لتركيا؛ حيث إنها ستمسك بزمام أهم صنابير الطاقة في العالم، ما سيجعل لها مكانة مهمة في حساب الدول ذات العلاقة.
– رفع مستوى أمن الطاقة؛ وقد لُوحظ كيف أثر التحرك الإيراني سلباً على أمن الطاقة التركي عندما قُطع. فأمن الطاقة التركي سيكون مؤمناً من خلال مشاريع نقل الطاقة وذلك بحصول تركيا على ما يلزمها من طاقة وفق اتفاقيات مُتعددة، وكذلك من خلال معادلة مد خطوط نقل الطاقة والحفاظ على أمنها مقابل الحصول على مصادر طاقة متنوعة بأقل الأسعار وبالمجان في بعض الأحيان.
خاتمة
الخلاصة؛ تعمل تركيا على التحوّل إلى مركز إقليمي للطاقة من خلال الربط بين منتجي الموارد الطبيعية في الشرق والمستهلكين الأوروبيين. وهذا يفتح صفحة جديدة في مسار العلاقات بين إيران وتركيا، لكن على الأرجح سيميل الطرفان إلى التوافق لا القطيعة.