كان حضور الدين بارزًا وواضحًا لدرجة بدا فيها أن الجيش قد تحول من الجيش الإسرائيلي إلى جيش آلهة إسرائيل. وإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاؤه المتعصبون من حزب الصهيونية الدينية ــ يرون في حرب غزة المدخل إلى فرض هيمنتهم الكاملة على أرض إسرائيل التوراتية، وإبعاد الفلسطينيين…
بالتأكيد لم يكن التصور أو التوظيف الديني للحروب الإسرائيلية السابقة في المنطقة غائبًا عن الحكومات الإسرائيلية أو عن المؤسسات الدينية والسياسية اليهودية بشكل عام، إلا أنه يكاد ينحصر بالدور التقليدي الذي تؤديه كل المؤسسات الدينية الشرعية في أي دولة من دول العالم، ويكاد يقتصر على الفتاوى الخاصة بالجيش او المؤسسة العسكرية، أو في حالات عينية تحتاج إلى رأي المؤسسة الدينية أو الفقيه الديني وغيرها من الأمور التي تأخذ جنبة شرعية وادوار رمزية وتحفيزية للمقاتلين.
إلا أن التوظيف الديني الصهيوني للحرب الحالية الدائرة بين حماس وإسرائيل منذ تشرين الاول/ اكتوبر من العام الماضي، كانت أكثر الحروب الصهيونية التي استحضر فيها الدين والطقوس الدينية. فالجنود قبل دخولهم إلى قطاع غزة كانوا يؤدون الطقوس الدينية والصلوات، وكانت نصوص التوراة والأدعية ترافق الجنود في كل مكان خلال المعركة، بل في الغرف الإرشادية التي كانت تسبق دخولهم إلى قطاع غزة.
كان حضور الدين بارزًا وواضحًا لدرجة بدا فيها أن الجيش قد تحول من الجيش الإسرائيلي إلى جيش آلهة إسرائيل. وإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاؤه ــ المتعصبون من حزب الصهيونية الدينية ــ يرون في حرب غزة المدخل إلى فرض هيمنتهم الكاملة على أرض إسرائيل التوراتية، وإبعاد الفلسطينيين عنها تمامًا، وهي أرض محددة دينيًا تمتد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط؛ الامر الذي يؤكده زعماء الصهيونية الدينية وأعضاء من حكومة نتنياهو وشخصيات مثل (بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن جفير).
إذ يرى أبناء الصهيونية الدينية أن خدمتهم العسكرية هي حرب دينية أو إلهية، وللحرب الدينية في السياق الشرعي اليهودي جانبان: الأول حرب إنقاذ من أجل إنقاذ شعب إسرائيل من الأعداء الذين يهددون بتدميره، وتستوجب هذه الحرب خروج شعب إسرائيل إلى حرب استباقية من أجل الإنقاذ، والثاني هو الاحتلال، أي أن احتلال ارض إسرائيل هي واجب ديني.
وتتغلغل المعتقدات الدينية اليهودية في مختلف وحدات الجيش الإسرائيلي المشاركة في عمليات التوغل البري في غزة، التي تتغنى بفكرة “القومية المسيحانية”، التي تتلخص في الإيمان بالمسيح المنتظر والمنقذ والمخلص، الذي سيأتي في آخر الزمان ليخلص شعب إسرائيل، وفق معتقداتهم. ويعتقد بعض الصهاينة في إسرائيل، ولاسيما من المؤيدين لحكومة نتنياهو، بإن هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان بمثابة بداية لحرب يأجوج ومأجوج التي تنبأ بها منذ فترة طويلة، والتي من شأنها أن تبشر بقدوم المسيح. فضلًا عن ذلك، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي استدعى بــ “نبوءة إشعياء”، في تبرير حربه على غزة، وهي إحدى أساطير العهد القديم. إذ قال: «نحن أبناء النُّور، بينما هم أبناء الظَّلام، وسينتصر النورُ على الظلام». والنور والظلام هما مصطلحان دينيان يشار لهما إلى الخير والشر ونهاية العالم في الثقافة الدينية، وظهرا في القرن الثاني قبل الميلاد في أدب الرؤيا، بعد انتهاء النبوة في إسرائيل، وفيهما إشارة إلى المخلص أو المنقذ في الديانة اليهودية.
كما استدعى نتنياهو نصًا دينيًا آخر بقوله: «يجب أنْ تتذكروا ما فعله “العماليقُ” بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدَّس، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان، وفرقنا الذين يقاتلُونَ الآن في غزَّة وحولها». وكلمة العماليق: هي إشارة إلى قبيلة من البدو الرحَّل الذين سكنوا شبه جزيرة سيناء وجنوبي فلسطين، وتعني في الثقافة اليهودية الصهيونية «ذروة الشر الجسدي والروحي». بهذا التصور يعطي الإسرائيليون تصورهم الديني عن حرب غزة.
وبموازاة هذا التصور والتوظيف الديني الصهيوني، نجد أن مشروعية الدفاع عن أرض فلسطين عند حماس والفلسطينيين بشكل عام، لا تستند إلى حقوق دفاعية (سياسية أو قانونية فقط)، بقدر ما تنتمي إلى المنظومة الدينية الإسلامية، أو الاصولية الإسلامية المتشددة. ففي قبالة التشدد والتوظيف الديني اليهودي على أرض فلسطين، نجد ميثاق حماس لعام 1988 الذي ينص على أن أرض فلسطين هي “وقف إسلامي”، وهو وقف غير قابل للتصرف بموجب الشريعة الإسلامية، مكرس للأجيال المسلمة المستقبلية، ولا ينبغي إهدار أي جزء منها أو التنازل عنه. وفي مبادئها وسياساتها، التي أصدرتها في عام 2017، تؤكد حماس أنها “ترفض أي بديل للتحرير الكامل والشامل لفلسطين، من النهر إلى البحر. وفي قبال الرؤية الدينية لنهاية العالم ويوم القيامة التي تصورها الصهيونية ومشروعية حروبها في غزة والمنطقة، نجد الرؤية الدينية المقدسة التي تعطيها حماس لاستمرارية حربها ضد إسرائيل في بعض نصوصها، فهي تؤمن بأن يوم القيامة لن يأتي حتى يقاتل المسلمون اليهود… وعندما يختبئ يهودي خلف “الحجارة والأشجار”، فإن تلك الحجارة والأشجار ستقول: “يا مسلم، يا عبد الله، هناك يهودي خلفي، تعال واقتله”.
على الرغم من أن وثيقة حماس لعام 2017 تضع “الصهاينة” وليس اليهود بشكل عام، كأعداء رئيسيين لها. بالإضافة إلى ذلك، نجد الرؤيتين الدينيتين (الإسلامية واليهودية) بشكل عام، تؤطران هذه الرؤى المتقابلة، وكلاهما يستدعيان ويوظفان الحجج والبراهين الدينية والتاريخية بأحقيتهما بأرض فلسطين؛ الأمر الذي يزيد من تعقيد حالة ومسار الحرب ويطل من امدها، ويعرقل الجهود الدبلوماسية التي تحاول أن تضع حل يتقاسمه طرفي الازمة، ولاسيما أن كلا الرؤيتين مدفوعة ومسنودة من جهات خارجية دينية تقاسمها ذات الرؤى، سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي واليهودي.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا أمام الرأي العام والمجتمع الدولي: هل النظام العالمي الحالي بُني على اساس ديني أم على اساس علماني؟ أليس هو النظام الذي وضع الإنسان وكرامته وحقوقه وحرياته فوق كل الاعتبارات الأخرى؟ فلماذا نشاهده اليوم يكيل بمكيالين لما يجري في غزة وما تقوم به إسرائيل من ابادة جماعية وتجويع بحق الفلسطينيين وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان؟
بالمجمل يبدو بأن التوظيف الديني للحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل، سيزيد من أمد الحرب ويعرقل الجهود الدبلوماسية لحلها، وربما سيوسع دائرة الصراع في المنطقة، ولاسيما إذا ما نجح ترامب في العودة إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/39900