جستن دارجن: أكاديمي مبرز في شؤون الطاقة بمنطقة الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد، وباحث سابق في جامعة هارفارد
شهد قطاع الغاز في قطر عدة تحولات إلى أن صار ركيزة رئيسية في استراتيجية البلاد التنموية والانتقال إلى اقتصاد لا يرتكز على مداخيل المحروقات ومحافظ على سلامة البيئة.
كانت قطر، طيلة العقدين المنصرمين، رائدة في تصدير إنتاج الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم، وتمكنت من تأمين موقع جيد لها لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من ارتفاع مستويات الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال. تتمتع الدولة الصغيرة بموقع استراتيجي في الخليج؛ حيث تقع على طرف شبه الجزيرة العربية، وتحاذي حدودها دولتي البحرين والإمارات العربية المتحدة. تحكم دولة قطر نخبة متعلمة وطموحة ومتسامحة تشجع فلسفة قوية مبنية على الانفتاح على السوق. ومع ذلك، فقد كان التحاق دولة قطر بسوق الغاز الطبيعي المسال متأخرًا، ويعود ذلك، في جزء منه، إلى محدودية عدد السكان البالغ حوالي 2.576.181 نسمة (يناير/كانون الثاني 2019)، لا تتعدى نسبة القطريين منهم 40%. كما تعد قطر إحدى أسرع دول العالم على مستوى معدلات النمو السكاني الذي يعود إلى قوة أدائها الاقتصادي؛ حيث سجلت، في الفترة الممتدة ما بين 2010-2015 زيادة ديمغرافية كبيرة في عدد السكان بلغ معدل 40%، مع الإشارة إلى أن معظم النمو كان بسبب التدفق الهائل للعمال الأجانب. يتصدر الغاز الطبيعي قائمة صادرات قطاع الطاقة في قطر، وتبلغ احتياطياتها المؤكدة من الغاز الطبيعي حوالي 12% من إجمالي الاحتياطيات العالمية(1). وتقدر كمية الغاز الطبيعي بحوالي 24.7 تريليون متر مكعب، بالإضافة إلى 22.3 مليار برميل (2019) من المكثفات الجزيئية المصاحبة، وهو ما يجعل قطر تمتلك ثالث أكبر احتياطي مؤكد من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وإيران. وتقدر نسبة الاحتياطي مقارنة بمستوى الإنتاج في قطر، مبدئيًّا، بما يتراوح ما بين 100 و135 عامًا تقريبًا وفقًا لمعدلات الإنتاج الحالية. ويقع معظم الغاز القطري في حقل الشمال البحري الضخم، وهو أكبر حقل للغاز الطبيعي غير المصاحب (ليس مختلطًا بالنفط) في العالم.
أصبحت قطر، في العام 2006، أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم (بعد أن تجاوزت ماليزيا)، وترغب في تنويع اقتصادها ومواردها من الغاز الطبيعي من خلال الاستثمار في حقول إنتاج الغاز الصخري وحقول الغاز الطبيعي المسال، الواقعة في أميركا الشمالية وفي مختلف بقاع العالم. ولأن استراتيجية قطر الاقتصادية تقوم على التنوع، فإننا نجدها اليوم ممثلة في كل قطاع من قطاعات تجارة الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال والغاز المُحَوَّل إلى سوائل وغاز خطوط الأنابيب وسوائل الغاز الطبيعي.
من ناحيته، تمكن الاقتصاد القطري، باستمرار، من تحقيق نمو اقتصادي قوي. وحتى خلال الأزمة المالية التي شهدها العالم في العام 2009، أثبت نمو قطر الاقتصادي مرونته في مواجهة الانكماش الاقتصادي العالمي بفضل ما حققته مبيعات قطر العالمية من الغاز الطبيعي المسال. وللتذكير في هذا السياق، فإن قطر كانت تعد إحدى أفقر الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، قبل أن تبلغ وضعها الحالي كواحد من أقوى اقتصادات منطقة الخليج، ويقارَن نمو الاقتصاد القطري السريع بما شهده قطاع النفط السعودي من وفرة وازدهار جعل المملكة العربية السعودية، بشكل غير متوقع إلى حدٍّ ما، في دائرة الضوء العالمية مع بدايات العقد السابع من القرن الماضي.
وهكذا أصبحت قطر اليوم واحدة من أغنى دول العالم بفضل ارتفاع مستوى مبيعاتها من الهيدروكربونات، وبات نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي يبلغ سنويًّا حوالي 63.000 دولار (ما قبل جائحة كورونا 2019)، ويُرَجَّح أن يرتفع أكثر في السنوات المقبلة بعد الركود المسجل عام 2020 بسبب وباء كوفيد-19.
جعل حقل الشمال من قطر مصدرًا إقليميًّا مهمًّا للغاز الذي تضخه عبر خط أنابيب دولفين، كما جعلها أيضًا المورِّد الرئيسي للغاز دوليًّا من خلال صادراتها من الغاز الطبيعي المسال. ويعتبر حقل الشمال كذلك حجر الزاوية الأساسي الذي تبني عليه قطر سعيها لانتهاج سياسة خارجية مستقلة.
يُنظر إلى أمير قطر الأسبق، خليفة بن حمد آل ثاني، على أنه كان يتبنَّى سياسة أقل استباقية، على مستوى تأمين تنمية الموارد الطبيعية في قطر مما كان مع ابنه، حمد بن خليفة آل ثاني. وفي الواقع، فقد اتسمت مقاربة الأمير حمد التقديرية برؤية ثاقبة ترى أن موارد قطر من الغاز الطبيعي ضرورية لتحقيق أمنها وضمان تنميتها الاقتصادية، وسبيلها لتعزيز أهمية دورها على الساحة الدولية. وبالفعل، وكما فهم الأمير حمد، صاحب النظرة الثاقبة، فإن ثروة قطر الطبيعية كانت تمثِّل أيضًا نقطة ضعفها، وهو ما يتطلب، بالتالي، الاعتماد على المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص التحالف مع الولايات المتحدة.
مخزون قطر من الغاز
يقع خزان القبة الشمالية الغربية، وهو حقل مُدمج لتكثيف الغاز، في الخليج العربي على مفترق الحدود البحرية الإيرانية-القطرية. ويشير التشكيل الطبقي، المعروف باسم “قوس قطر”، إلى التشكيلات الطبقية للرواسب المعروفة تحت مسمى التشكيل القَبْلي لحقل الخف -والتي تعود إلى العصر البُرمي- وتقع على عمق ما يقرب من 3050 مترًا تحت سطح الأرض، وتمتد من الشمال إلى الجنوب عبر شبه الجزيرة العربية بأكملها. وبالقرب من أقصى نقطة من خريطة قطر، إلى ناحية الشمال “طرف قطر”، تنحرف الطبقة الفرعية إلى اتجاه شمال شرق قطر. هناك تقديرات متعددة عن حجم الاحتياطيات الإجمالي في الحقل المشترك بنحو 50.1 تريليون متر مكعب، أما الكمية القابلة للاستخراج فهي 24 تريليون متر مكعب لقطر و14 تريليون متر مكعب لإيران(2)، والمتبقي 12.9 تريليون متر مكعب من المستبعد استخراجها لأن تقنية الاستخراج الحالية لا تسمح بذلك(3).
حقل الشمال: التطور والخصائص
يغطي حقل الشمال مساحة تعادل ما يقرب من نصف مساحة دولة قطر الإجمالية، وهو خزان كربونات بسُمك متغير في جميع أنحاء الخزان يبلغ 457 مترًا تقريبًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه عند اكتشافها لحقل الشمال، كانت قطر تنظر إليه على أنه اكتشاف “مخيب للآمال” بسبب الصعوبات في إيجاد أسواق تصدير للموارد المصنَّفة كاحتياطيات غاز طبيعي “معزولة ومُستعصية عن الاستغلال”(4).
وعن تلك الأيام، يقول، وزير الطاقة الأسبق، عبد الله بن حمد العطية: “أذكر كل الذين نصحوني ونصحوا بلدي بألا نباشر أعمال الغاز المسال”(5).
ولأن شركة قطر للبترول لم تكن تدرك إمكاناتها المستقبلية، فقد خصصت كامل إنتاجها من الغاز للاستهلاك المحلي. وبما أن نظرتها للغاز لم تكن إيجابية في أوائل السبعينات، فقد عمدت قطر إلى حرق حوالي 80% من الغاز الطبيعي المصاحب (المختلط بالبترول) المقدَّر بـ6.13 مليارات متر مكعب (أي ما يعادل 16.8مليون متر مكعب يوميًّا)(6). ومع إدراك قطر لقيمة ثروة الغاز التي تمتلكها، خفضت نسبة الغاز البري المشتعل إلى 66% في العام 1974، ثم بحلول العام 1979، خُفضت النسبة إلى أقل من 5%.
وعلى الرغم من تأميم قطر لحقل الشمال للغاز في أواخر السبعينات، إلا أن عملية التسليم جرت في أجواء ودية للغاية. وعلى عكس ما أعقب عمليات التأميم التي شهدتها دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأميركا اللاتينية، أبقت قطر على تعاقدها مع شركة “شل” لتوفر لها الخبرة التقنية والدعم المطلوبين. وبالإضافة إلى حقل الشمال، فإن قطر تملك حقولًا ثانوية أخرى من الغاز غير المصاحب. يقع خزان “الخف” للغاز غير المصاحب أسفل أقدم خزان نفطي منتِج في قطر هو حقل دخان النفطي الصغير نسبيًّا مقارنة بحقول الغاز البحرية الأخرى. ويحتوي حقل دخان على ما يقدر بنحو 141 مليار متر مكعب من الغاز المصاحب، و1.41 مليار متر مكعب من الغاز غير المصاحب.
كان حقل دخان ينتج، تقريبًا، كل الغاز غير المصاحب بقطر قبل اكتشاف حقل الشمال، كما أُنتجت أيضًا كميات صغيرة من رواسب الغاز في حقل الغطا الغازي الواقع على بعد حوالي 3048 مترًا أسفل منطقة الخوف. بالإضافة إلى ذلك، هناك كميات أقل من الغاز المصاحب في حقول ميدان محزم، وعد الشرقي، وبو الحنين، وحقول نفط منطقة الريان. ولم تتمكن قطر، في عهد حكم خليفة بن حمد، عن اتباع سياسة إنتاج مكثف، ويعود ذلك، بالدرجة الأولى، إلى التعقيد في عملية التسيير.
تطور صناعة الغاز في قطر
على إثر اكتشافه، بات حقل الشمال عماد برنامج قطر للتنمية الاقتصادية. فتاريخيًّا، وعلى غرار معظم دول الخليج، كانت مقاربة قطر لنفسها تتم من خلال المنظور الضيق لدولة “منتجة للنفط” ولم تتمكن من إدراك سهولة تحقيق أرباح من الاستثمار في استخراج احتياطياتها من الغاز الطبيعي. ومع ذلك، فإن لجنة مكوَّنة من مسؤولين قطريين، جرى تشكيلها في العام 1962، أعدَّت تقريرًا تناول دراسة فعالية الوزارات الحكومية الإدارية، وهي الدراسة التي أعدها “آرثر د. ليتل”، والتي أطلقت الدعوة إلى تنويع مصادر الدخل وحثَّت على التحول من الاعتماد على النفط إلى تطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى، وبالخصوص قطاع إنتاج الغاز الطبيعي.
أعربت دراسة “آرثر د. ليتل” عن قلقها إزاء اعتماد قطر الاقتصادي والمالي الكامل على قطاع النفط، الذي توقعت نضوبه بحلول عام 1982، وحذرت من مواصلة ذلك النهج. لذلك حثَّ التقرير القيادة القطرية على تطوير قطاعات أخرى غير نفطية، وخاصة الاستثمار في ثروة البلاد من الغاز الطبيعي. فيما بعد، اعتمدت الحكومة على نتائج دراسة آرثر د. ليتل، وخططت لتنويع واسع النطاق في الصناعات البتروكيماوية(7). ثم بحلول العام 1964، أخذت الحكومة القطرية تلك التوصيات على محمل الجد وبدأت في تنفيذها على نطاق واسع. غير أن الاضطرابات الجيوسياسية، التي تلت فرض منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (OAPEC)، عام 1973، حظرًا نفطيًّا، بالإضافة إلى قيام الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط عالميًّا. وقد أدى ذلك الارتفاع الكبير في أسعار النفط حينها إلى حصول قطر على تدفقات هائلة من الإيرادات التي وظَّفتها الدولة للتخفيف من معظم آثار انخفاض معدلات الإنتاج بسبب بلوغ حقول النفط نهاية حياتها الإنتاجية.
وعلى الرغم من تحذيرات دراسة آرثر د. ليتل، لم تمنح قطر إنتاج الغاز الطبيعي سوى القليل من الاهتمام خلال هذه الفترة. ولأن استفادة قطر كانت كبيرة من اضطرابات سوق النفط، التي شهدتها عشرية السبعينات من القرن العشرين، فقد حوَّلت الحكومة القطرية عائدات النفط المتزايدة نحو الاستثمار في المجالات الاجتماعية وخصصت استثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية.
وبعد بلوغ إنتاج قطر من النفط ذروته في السبعينات (حوالي 500.000 برميل في اليوم)، زاد اقتناع شركات النفط العالمية بأن حقول النفط المُتقادمة لم تعد تستحق ضخَّ المزيد من الاستثمار فيها. وعلاوة على ذلك، فإن طبيعة عقود الخدمات التي كانت تقترحها قطر قلَّلت من جاذبية ذلك التوجه حتى من الناحية المالية. وبحلول منتصف الثمانينات، كان الاقتصاد لا يزال يعتمد اعتمادًا كبيرًا على قطاع النفط. هذا، وقد أدت سياسة التنويع الاقتصادي وانخفاض أسعار النفط، في الفترة ما بين 1979 و1983، إلى انخفاض نسبة العائدات المئوية لإيرادات الحكومة المتأتية من تصدير النفط من 93% إلى 80%(8). ثم، ومع حلول العام 2019، بلغ إنتاج قطر من النفط نحو مليوني برميل يوميًّا.
وعلاوة على ما تقدم، وفي العام 2019، غادرت قطر رسميًّا منظمة أوبك كردٍّ استراتيجي من حكومتها على الحصار الذي فرضته عليها كل من السعودية ومصر والبحرين والإمارات لمدة ثلاث سنوات. في المقابل، شهد قطاع النفط العالمي تطورًا غير مسبوق في العقود الماضية.
وقد كان هذا الانسحاب ذا دلالتين: دلالة على أن قطر ترفض البقاء في تنظيم يُخضع مصالحها الوطنية لمصالح القوى النافذة في التنظيم. ثانيًا: أن حصة قطر الإنتاجية من البترول تنخفض بانتظام لأن حقولها لم تعد تمتلك نفس القدرة الإنتاجية السابقة، فلقد تراجعت من 1.9 مليون برميل يوميًّا، في سنة 2013 إلى 1.8 مليون برميل يوميًّا، في 2020(9)، وستضطر إذا بقيت في منظمة أوبك أن تخفض إنتاجها بينما هي أقل إنتاجًا من أعضاء آخرين.
بالعودة إلى عملية تطوير حقل الشمال، فقد توقفت المرحلة الأولى من تطويره عدة مرات، قبل أن يتقرر تاريخ بدء تشغيله في العام 1990. من ناحية أخرى، لم يعطِّل غزو العراق للكويت تنفيذ معظم مشاريع التنمية الإقليمية الكبرى فحسب، بل وتسبَّب أيضًا في توجيه تركيز حكومات الخليج، بما فيها قطر، إلى القضايا الخارجية(10). وبالإضافة إلى هذا، واجهت قطر أيضًا عديد العقبات الأخرى خلال هذه الفترة. فقد أدت عمليات إجلاء العمالة من أصحاب المهارات والكفاءة، أثناء عمليتي درع الصحراء وعاصفة الصحراء، إلى تأخير تقدم الأعمال في حقل الشمال بشكل ملحوظ. وإضافة إلى ذلك، فقد تراجع تقدم الأعمال بسبب قضايا أخرى عديدة تتعلق بالبنية الأساسية. فعلى سبيل المثال، عانى 14 بئرًا من آبار الإنتاج الستة عشر، في المرحلة الأولى، من تسرب على مستوى أغلفة الأسمنت(11).
بالإضافة إلى ذلك، وقبل أسبوع من تاريخ البدء الذي نُقِّح ليكون في الثالث من أغسطس/آب 1990، اكتشف المهندسون تسربًا كيمياويًّا في أنبوب بري فأعلنوا وقف تشغيل حقل الشمال(12). بعد ذلك، توافق تاريخ 3 سبتمبر/أيلول، أو ديسمبر/كانون الأول 1991 مع حلول الذكرى العشرين لاستقلال قطر واكتشاف حقل الشمال، وكان أيضًا التاريخ الذي بدأ فيه الإنتاج في حقل الشمال. وحتى ذلك التاريخ، كان معظم الغاز الطبيعي القطري يأتي من حقلين نفطيين أحدهما بري والثاني بحري؛ حيث تمت معالجة الغاز المصاحب، المنتج فيهما، في مجمع مسيعيد.
بعد هذا التاريخ، استفادت قطر من حدثين زادا من حجم إقبال الأسواق الدولية والإقليمية على طلب غازها الطبيعي، وهما: أولًا: الاستخدام واسع النطاق لتوربينات الغاز المُدمجة في توليد الطاقة في عقد التسعينات. وثانيًا: خفض التكاليف في مختلف مراحل سلسلة معالجة الغاز الطبيعي المسال. وكان من شأن هذه التطورات أن أتاحت لدولة قطر إعادة تشكيل استراتيجيتها السابقة، ومن ثم إعادة توجيه الموارد التي يجلبها الغاز من مرحلة الاكتفاء بتوليد الطاقة محليًّا وإنتاج البتروكيماويات إلى أسواق التصدير العالمية.
ومع ذلك، وبعد أن فقدت مكانتها الريادية العالمية في مجال تصدير الغاز الطبيعي المسال منذ العام 2010، فإن قطر تسعى اليوم إلى استعادة تلك المكانة التي فقدتها، كما أنها تعاني أيضًا من وفرة الغاز الطبيعي المسال في أنحاء مختلفة من العالم، بالإضافة إلى ما بات يعانيه هذا القطاع من ضعف الطلب الدولي عليه مع ازدياد أعداد المنافسين المنتجين للغاز الطبيعي المسال وتراجع أسعار النفط العالمية في الفترة من 2014-2017، وما شهدته تلك الأسعار من تراجع آخر في أعقاب انتشار الوباء العالمي كوفيد-19 خلال عام 2020 فضلًا عن نمو كارتلات المستهلكين. وأخيرًا وليس آخرًا، عانت قطر أيضًا من تنامي الضغط على النموذج التعاقدي طويل الأمد. ومع ذلك فمن المتوقع، كما هو موضح أدناه، أن تستعيد قطر تلك المكانة عندما تدخل خطوط أنابيبها الجديدة مرحلة الإنتاج. وقد كانت قطر فرضت تعليقًا اختياريًّا على التنقيب عن الغاز وإنتاجه في حقل الشمال امتد 12 عامًا، من العام 2005 إلى 2017. وفي هذا السياق، كانت القيادة القطرية تمدِّد قرار تعليق إنتاجها من الغاز على أساس سنوي بهدف الإبقاء على حظوظها كاملة في إمكان التصدير مستقبلًا.
بعد أن رفعت الحكومة القطرية تعليق الإنتاج الاختياري في العام 2017، أعلنت قطر عام 2019 عن خطتها لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طن إلى 126 مليون طن سنويًّا بحلول العام 2027. وفي هذا السياق، خطَّطت شركة قطر للبترول لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال ليبلغ حوالي 110 ملايين طن متري بحلول عام 2024، وأعلنت عن بناء أربعة خطوط أنابيب جديدة للغاز الطبيعي المسال لإدارة الزيادة المقترحة(13). جاء هذا الإعلان في الوقت الذي دخلت فيه قطر في منافسة شرسة مع روسيا وأميركا وأستراليا، التي زادت في إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال وهو ما أدى إلى تراجع الأسعار إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات. وكانت شركة قطر للبترول قد أشارت، في وقت سابق، إلى توجهها نحو رفع إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى 110 أطنان مترية بحلول عام 2024. وتأتي هذه الزيادة المخطط لها في الإنتاج في أعقاب كشف أعمال الحفر والتقييم المجراة في حقل الشمال عن وجود احتياطيات من الغاز الطبيعي تتجاوز 50 تريليون متر مكعب(14).
وقد جاء هذا الإعلان بعد أن واجهت قطر تنافسًا شديدًا من الولايات المتحدة وروسيا في مضمار الهيمنة الشاملة على الغاز المسال، عندما زاد منافسو قطر من إنتاجهم للغاز المسال؛ ما جعل الأسعار تنخفض لمستويات غير مسبوقة منذ سنوات عديدة(15).
ومع ذلك، وعلى الرغم مما تواجهه من منافسة قوية، فرضها كبار منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم، فإن قطر لا تزال تتمتع بعدد من المزايا لا تتوافر لدى مصدِّري الغاز الطبيعي المسال الآخرين. ويمكن تعداد تلك المزايا على النحو التالي: أولًا: تمتلك قطر كميات من الغاز هي الأكثر انخفاضًا من حيث التكلفة الإنتاجية في العالم؛ حيث يكون سعر التعادل قريبًا من الصفر، (الإيرادات تساوي المصروفات)، بفضل الإيرادات من السوائل المنتجة أساسًا. وعلاوة على ذلك، فإن الغاز القطري، في المقام الأول، هو غاز “رطب” كونه يحتوي على كميات كبيرة من سوائل الغاز الطبيعي والبوتان والبروبان (الغاز النفطي المسال)، وهو ما من شأنه توفير مصادر إيرادات إضافية. وبالإضافة إلى ذلك، تتمتع قطر أيضًا بوفرة في الحجم وتكاليف إنتاج منخفضة؛ وهو ما يجعلها تتقدم عن غيرها من المنتجين الآخرين الذين يجدون صعوبة بالغة في تحقيق وفرة الحجم وخفض تكلفة الإنتاج. لذلك، فإنه يجب، عند النظر فيما إذا كانت الشركات الأخرى ستتمكن في المستقبل من الحصول على حصة سوقية من قطر، الأخذ بعين الاعتبار أسعارها التعادلية التي تكون أعلى في العادة (الإيرادات أعلى من المصروفات). من ناحية أخرى، وعلى الرغم من سير العمل على بناء مناطق جديدة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال، فإنه لا يوجد أي بلد آخر يمكنه مضاهاة قطر من حيث القدرة على إعادة التفاوض بخصوص العقود القديمة وإنشاء عقود جديدة مفيدة للطرفين.
ومع ذلك، ثمة اليوم تباين في الرؤى بين المسؤولين القطريين وبعض المشغِّلين الأجانب؛ حيث تسعى الحكومة إلى إطالة أمد فترة إنتاج احتياطياتها من الغاز الطبيعي لتجنب نضوب الحقل سريعًا. غير أن هذا التوجه يتناقض مع الاستراتيجية التي يتبنَّاها شركاؤها الأجانب، الذين يسعون بجد إلى تحقيق أقصى قدر من الربح السريع في أسرع وقت ممكن لتعويض تكاليف الاستكشاف. وبسبب هذا الاختلاف الجوهري في الاستراتيجيات، فإن التطوير الميداني الإضافي في حقول الغاز القطرية قد يواجه بعض الصعوبات إلى أن تتوصل الأطراف إلى توافق مشترك.
وبما أن معظم الغاز الطبيعي القطري كان مرتبطًا بالنفط، في السابق، فإن فترات ضعف الطلب على النفط وحصص أوبك الصارمة أعاقت تطور العديد من الصناعات المعتمدة على الغاز وحالت بينها والوصول إلى كفاءة عالية. في المقابل، تواجه قطر حتى الآن، بسبب ثروتها الكبيرة المستمدة من الغاز، عقبات فريدة لا تواجهها البلدان النامية الأخرى. ورغم أن اقتصاد دولة قطر، الصغير نسبيًّا، لا يعيق استثمار الدولة الكثيف لرأس المال، إلا أن قدرة استيعابه المحدودة وقاعدته الديمغرافية الصغيرة، تبرز كعقبات أمام توظيفٍ منتِجٍ لثروة الدولة الهائلة. وبما أنه لا يمكن لقطر تحقيق نموها الاقتصادي، على النحو الذي تريده، بالاعتماد فقط على مستوى طلب سوقها المحلية، فإن توجه الدولة نحو الخارج لفترة طويلة هو الخيار المستقبلي المتاح أمامها.
يرى المسؤولون القطريون في التنويع الاقتصادي مفتاحًا لتحقيق استدامة اقتصادية شاملة. وعلى هذا الأساس، ضخَّت الدولة استثمارات تقدَّر بمليارات الدولارات في مختلف القطاعات الاقتصادية(16). لكن، ورغم بذل هذه الجهود العملاقة، إلا أن الاقتصاد القطري لا يزال يعتمد بشكل كبير على الغاز (المنبع والمعالجة النهائية) وقطاع الهيدروكربون بشكل عام؛ ذلك لأن برنامج التنويع الاقتصادي لا يزال في طور النمو. ومع ذلك، فإن جهود التنويع التي تفاخر بها دولة قطر قد لا تقود نحو تحول جوهري يُبعدها عن الاعتماد على الهيدروكربونات، لأن معظم مشاريع التنويع الاقتصادي تتركز في سلسلة الصناعات ذات القيمة المضافة في المعالجة النهائية، مثل قطاع البتروكيماويات. وعلى الرغم من أن أسعار البتروكيماويات، وغيرها من المنتجات ذات القيمة المضافة أكثر استقرارًا ولا تتعرض لتقلبات السوق، على غرار ما تتعرض له أسعار النفط الخام والغاز غير المعالج، إلا أن هذه المنتجات نفسها لا تزال تعتمد على قطاع الهيدروكربونات وقد لا تمثل تنويعًا اقتصاديًّا حقيقيًّا.
وقد أخذت قطر مبكرًا دورًا رياديًّا في قضية المناخ باستضافة قمة المناخ 18 في 2012، ووضعت تدابير واسعة تهدف إلى خفض الانبعاثات الحرارية. تخطط قطر لخفض هذه الانبعاثات بنسبة 25 بالمئة أقل من بقية الدول، من خلال إنشاء بنية تلتقط وتخزِّن الغازات الكربونية المنبعثة من تسييل الغاز وتخزينه(17).
وقد شرعت قطر في تنفيذ خطط خفض الكربون والميثان التزامًا باتفاق باريس 2015، وللانضمام للتدابير الأوروبية مثل استراتيجية الميثان المعلنة، في أكتوبر/تشرين الأول 2020(18). كل هذه الإجراءات ستقي قطر الضغوطات المتزايدة في مجال التغير المناخي.
علاوة على أن قطر للبترول أشارت إلى أن خطط خفض الكربون، وهي جزء من استراتيجية الاستدامة، ستكون “اتجاهًا واضحًا نحو خفض شدة الانبعاثات من منشآت تمييع الغاز بنحو 25 بالمئة، وفي منشآت المنبع (عمليات التنقيب والاستخراج) بنحو 15 بالمئة، وكذلك خفض شدة التوهج في منشآت المنبع بأكثر من 75 بالمئة”(19).
قطر للبترول: إعادة الهيكلة والتوسع عالميًّا
أدى الانخفاض المسجل على مستوى أسعار النفط، الذي بدأ في منتصف عام 2014 وما تبعه من ضغوط مالية ترتبت عليه، إلى دخول شركة قطر للبترول في عملية إعادة هيكلة متعددة الأبعاد، فدمجت، ضمن هذه العملية، شركتي قطر غاز وراس غاز. وقررت شركة قطر للبترول تعميق حضورها في أصول الطاقة العالمية في الخارج. ولإكساب نفسها قدرة أعلى على المنافسة، بادرت شركة قطر للبترول إلى إجراء تخفيض كبير في عدد موظفيها وانسحبت من قطاعات الأعمال التي قدَّرت أنها غير أساسية. وبعد الفراغ من عملية إعادة الهيكلة التي استمرت ثمانية أشهر، حوَّلت شركة قطر للبترول تركيزها الجديد نحو وقف انخفاض مستويات الإنتاج المحلي للنفط وتوسيع استثماراتها الدولية في مجال الطاقة. كما فرضت قطر شروطًا أكثر صرامة على شركات الطاقة الأجنبية التي تسعى إلى تطوير مشاريعها داخل الدولة. كان الهدف من تنفيذ هذه التدابير هو خفض التكاليف من أجل تعزيز موقف شركة قطر للبترول في المنافسة، مع مصدِّري الغاز الطبيعي المسال الجدد، على الاستحواذ على حصة الأسواق الناشئة.
لقد أعادت شركة قطر للبترول، من خلال عمليات دمج هياكل الشركات وتشكيل تحالفات مع الموردين والعملاء وإنشاء شراكات استثمارية في الأسواق الخارجية، تشكيل نفسها بشكل شامل بهدف تحقيق الاستفادة من كفاءاتها الأساسية لتصبح أصغر حجمًا ويكون أداؤها أكثر كفاءة في السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال. وبهذا المعنى، فقد سعت شركة قطر للبترول، التي كانت في طليعة الشركات الدولية، إلى أن تتحول إلى شركة طاقة عالمية تتماثل مع نموذج شركات النفط الدولية الغربية الكبرى.
ولتعزيز نموذج الأعمال الجديد لشركة قطر للبترول، كان تصريح الرئيس التنفيذي لشركة قطر للبترول، سعد بن شريدة الكعبي، واضحًا ومحددًا، عندما قال: “إن الاستثمار الأجنبي المستقبلي في قطر سيخضع لمعايير وشروط بالغة الصرامة”. وأشار، في هذا السياق، إلى أنه “يتعين على المستثمرين الأجانب التنافس بشكل أكبر وتقديم المزيد لإقناع شركات البترول الوطنية بقبول شراكتها”(20). وقد كان من شأن هذه الشروط، بالغة الصرامة بشأن الاستثمار، أن أدَّت إلى إضعاف الاهتمام الأجنبي بتطوير قطاع الغاز القطري، بشكل ملحوظ، على مدى السنوات القليلة الماضية.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنه حين أوقفت قطر إنتاج الغاز اختياريًّا، فإن مستقبل تطوير قطاع الغاز في قطر أصبح محدودًا. لذلك، قررت شركة قطر للبترول الحفاظ على تأثيرها العالمي. في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أعلنت شركة قطر للبترول عن تأسيس “شركة أوشن للغاز الطبيعي المسال المحدودة” (Ocean LNG)، ثم كان أن مُنح هذا الكيان التسويقي الجديد تفويضًا لإدارة محفظة قطر من الغاز الطبيعي المسال من طرف شريك من خارج قطر في المستقبل. إن الهدف من إنشاء شركة أوشن للغاز الطبيعي المسال، وفقا لما ذكرته القيادة القطرية، هو تجاوز القيود المحلية المفروضة على إنتاج الغاز القطري المحلي، أي وقف العمل الاختياري في حقل الشمال، وخلق تآزر استثماري مع ارتفاع إنتاج الغاز الطبيعي في حقول أخرى.
الطلب المحلي: تحويل الغاز إلى سوائل، والبتروكيماويات وتوليد الطاقة
يتمثل جزء من استراتيجيات قطر للتنويع في زيادة الإيرادات المتحصل عليها من مبيعات الغاز الطبيعي. إن أسعار الغاز الإقليمية تعتبر منخفضة نسبيًّا – في الأشهر الأولى من 2021 عند مقارنتها بالسعر العالمي للنفط. وتسعى قطر إلى التخلص من معضلة التسعير هذه وزيادة الإيرادات من خلال تحويل الغاز الطبيعي إلى منتجات عالية الجودة ومكررة، مثل تحويل الغاز إلى سوائل وبتروكيماويات. وقررت القيادة القطرية تعزيز التصنيع المحلي وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة مع تكلفة منخفضة للكهرباء والمواد الخام.
تمثل سياسة قطر لتسييل غاز حقل الشمال جوهر الخلافات الإقليمية حول إمدادات الغاز القطرية الجديدة أو الموسعة. وللتذكير في هذا السياق، لم تحقق قطر، خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، تنويعًا ملحوظًا في قائمة المشترين لغازها فحسب، بل عزَّزت أيضًا نموها الاقتصادي من خلال وضع وتنفيذ خطط لاستخدام الغاز المحلي وصادرات الغاز الطبيعي المسال وتسييل الغاز. غير أن نهاية القرن الماضي شهدت مراجعة قطر أولوياتها فيما يتعلق بالغاز وإعادة توجيهها بشكل لافت عبر إعطاء الحكومة القطرية الأولوية، في الاعتمادات المالية، للمشاريع المحلية تليها مشاريع تصدير الغاز الطبيعي المسال فمشاريع صادرات خطوط الأنابيب، وانتهاءً بمشاريع إنتاج الغاز الطبيعي المسال.
كان استهلاك قطر المحلي للغاز قد شهد تطورًا مطَّردًا ليبلغ 41.4 مليار متر مكعب عام 2019 (أي بزيادة قدرها 7.2% في المتوسط على مدى العقد 2008-2018). من هذا المنطلق، يبدو واضحًا أن قطر لا تكتفي فقط بالحرص على تأمين إمدادات الطلب المحلي الحالي، بل ترغب أيضًا في الاحتياط من المخاطر كي لا تكون عاجزة عن توفير الاحتياجات المحلية إذا ما زادت وتيرة التصنيع السريع. في حال استمرار الاتجاه على ما هو عليه الآن، بسبب التوسع الصناعي السريع، فإن ارتفاع الطلب على الغاز سيواصل تصاعده الحاد على المدى المتوسط إلى الطويل.
استراتيجية قطر في تحويل الغاز إلى سوائل
لم تكتف قطر بتركيز اهتمامها على تأكيد ريادتها العالمية على مستوى قطاع الغاز الطبيعي المسال، بل وحققت أيضًا تقدمًا في مجال آخر مبتكر، هو تحويل الغاز إلى سوائل. وقد أبدت قطر تصميمًا على توظيف الاحتياطيات الهائلة لحقل الشمال لتعزيز مكانتها الريادية. وفي هذا السياق، فإن لعملية تحويل الغاز الطبيعي إلى وقود سائل فوائد بيئية؛ حيث إن الديزل أو “النافثا” أو غاز البترول المسال يحتوي على نسب منخفضة من الكبريت ومن العطريات، وهو مشبع بالأوكتان عالي القيمة. ويؤكد مؤيدو تحويل الغاز إلى سوائل على أن هذا التوجه يعد استراتيجية تنويع متفوقة، لأن إنتاج السوائل لا يتطلب ضخ استثمارات إضافية في البنية التحتية بينما يتطلب إنتاج الغاز الطبيعي المسال استثمارات مثل توفير الناقلات المتخصصة، وإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز تقليدي وتوفير مرافق للتخزين.
مع بدايات القرن الحالي، سُجِّل اهتمام مبدئي متزايد بإنتاج الغاز المُحول إلى سوائل، وقد اتضح ذلك عندما وقَّعت شركة قطر للبترول العديد من خطابات الاهتمام ومذكرات التفاهم مع العديد من شركات النفط العالمية لإنشاء مشاريع واسعة بهدف تحويل واسع للغاز إلى سوائل، وسيكون الهدف من ذلك تصنيع مخزونات النفط الأساسية والوقود الصناعي (أو الوقود الغازي). وفي هذا الإطار، جرى إلغاء العديد من هذه المشاريع، أو تأجيل تنفيذها إلى أجل غير مسمى، بسبب تنفيذ قطر وقفًا اختياريًّا للإنتاج في حقل الشمال. وفي ردِّها على هذا التوجه، وخاصة في أعقاب إلغاء مشروع “إكسون موبيل بالم” Exxon Mobil Palm لتحويل الغاز إلى سوائل وفي ظل إعطاء حكومة قطر الأولوية لإمدادات الغاز المحلية على حساب مشاريع التصدير، قدَّمت شركة قطر للبترول وعدد من شركات النفط العالمية تقديرًا مغايرًا للجدوى الاقتصادية لتلك المشاريع.
لقد رأت قطر في تحويل الغاز إلى سوائل أداة تنويع مناسبة لتكثيف مواكبتها للصناعات ذات القيمة المضافة. ومع ذلك، وبما أن معظم مشاريع تحويل الغاز إلى سوائل شهدت زيادات قصوى في الميزانية المرصودة لتغطية التكاليف، فقد قررت قطر الحد من توسع مشاريع تحويل الغاز إلى سوائل، وركزت، بدلًا من ذلك، على المشروعين المتبقيين من مشروعي تحويل الغاز إلى سوائل، وهما مشروعا “أوريكس” و”بيرل”. إلا أن كلا المشروعين واجها، منذ إطلاقهما، زيادات في ميزانية التشغيل المرصودة لهما وتأخيرات مستمرة في بدء العمل.
القطاع البتروكيميائي القطري
عرفت صناعة البتروكيماويات في قطر نموًّا سريعًا خلال العقد الماضي (سجَّل القطاع نموًّا بنحو 10% سنويًّا في الفترة من 2005 إلى 2015)، وهو ما فرض طلبات إضافية على احتياطيات البلاد من الغاز. إن اهتمام قطر بالتوسع في البتروكيمياويات مبني على حاجتها إلى استحداث صناعة متنوعة يكون لها قيمة مضافة، على مستوى المعالجة النهائية، وتتمتع باستقرار يمكِّنها من تحمل التقلبات المستمرة في سوقي النفط والغاز العالميين.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن هدف قطر يتمثل في استحواذها على المركز الرابع ضمن أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم مع محفظة (سلة) منتجات واسعة التنوع. ولتعزيز طموحها، انخرطت قطر في برنامج استثماري بقيمة 15 مليار دولار بقيادة شركة قطر للبتروكيماويات (قابكو) وشركة قطر للكيماويات (Q-Chem) وشركة قطر للفينيل (Q-Vinyl) وشركة قطر للأسمدة (قافكو)، إلى جانب غيرها من الشركات الأخرى(21).
إلا أن كل ذلك، لم يمنع تعرض حصة قطر في سوق البتروكيماويات للتهديد بفعل انخفاض مستويات الطلب في الأسواق الخارجية الحرجة وارتفاع معدلات الإنتاج في بلدان أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل: السعودية والإمارات وعُمَان وإيران وغيرها. كما دخلت أميركا الشمالية أيضًا على خط رفع مستوى المنافسة بعد ما شهدته من طفرة في إنتاج الغاز الصخري. وقد كانت أسعار مواد خام الإيثان في قطر تنافسية بالمقارنة مع أسعار منتجي مواد خام النفثا في الفترة من 2011 إلى 2014، التي عرفت ارتفاعًا في أسعار النفط الخام. هذا، وفي الوقت الذي تخلَّت فيه قطر، وبقية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عن تخصيص المواد الخام منخفضة التكلفة للصناعات المحلية، فإننا نجد أن تكلفة إنتاج البتروكيماويات في أميركا باتت تنافسية بشكل استثنائي. إلا أن ميزة التكلفة المنخفضة التي كانت تتمتع بها أميركا قد أخذت في التلاشي بفعل تأثيرات وباء كوفيد-19، بينما تسببت الجائحة، وفي ذات الوقت، في إلحاق أذى كبير بصناعة البتروكيماويات القطرية بسبب انخفاض الطلب من الصين.
وفي نفس سياق ما تقدم، فإن ما جعل التوسع السريع لقطاع البتروكيماويات القطري ممكنًا هو انخفاض تكلفة المواد الخام المستخدمة في إنتاج الغاز الطبيعي (التي تعادل ما بين 0.75 إلى1 بقياس الوحدة الحرارية البريطانية؛ علمًا بأن أسعار المواد الخام تعادل ما يقرب من ثلاثة أرباع تكلفة الإنتاج)، هذا فضلًا عن الدعم القوي الذي تقدمه دولة قطر لتطوير القطاع، يضاف إليه قرب أسواق التصدير المهمة جغرافيًّا، مثل الصين وباقي دول شرق آسيا والهند، والتي تعد من البلدان الأكثر تسارعًا في الطلب على البتروكيماويات. ومع ذلك، فقد واجه العديد من خطط المشاريع، في قطر، تأخيرات ناجمة عن نقص المواد الخام، والذي يرجع في الأساس إلى التوسع القطاعي الكبير المسجَّل في السابق.
من جهة أخرى، تتوقع منظمة “أوبك” بتفاؤل حذر عودة نمو الطلب على البتروكيماويات، بل تعتقد أنه ربما يتجاوز معدلات النمو، المسجلة سابقًا، بسبب ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي لسكان العالم مصحوبًا بارتفاع الناتج المحلي الإجمالي (قبل كوفيد-19). غير أن هذا القطاع لا يزال يواجه تهديدات بعد اعتماد لوائح تنظيمية جديدة لمحاربة التلوث البيئي (هي قوانين وتراتيب لمكافحة النفايات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد) في جميع أنحاء العالم، أو ما يُعرف باسم الاقتصاد الدائري، الذي يقوم على إعادة تدوير واسعة النطاق، وبسب أيضا حالة سلامة الاقتصاد العالمي غير المستقرة بسبب تأثيرات جائحة كوفيد-19. ولهذا، فإن الرهان الآمن على نمو الطلب على البتروكيماويات ليس مؤكدًا في الوقت الحالي، بل وقد يؤثر بشدة على مداخيل قطر من البتروكيماويات في المنظور القريب إلى المتوسط.
قطاع الطاقة الكهربائية
إن قطاع توليد الطاقة محليًّا هو القطاع الوحيد الأكثر تعطشًا للغاز في قطر، مع التذكير بأن معدلات استهلاك الفرد الواحد، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مرتفعة أصلًا. ويعد توليد الكهرباء للفرد القطري من بين أعلى مستويات توليد الكهرباء في العالم؛ حيث يُسجل سنويًّا معدل ارتفاع على الطلب بنسبة تتراوح بين 6 و8%.
لا شك في أن القطاعات السكنية والقطاعات كثيفة الاستخدام للطاقة تمثل العوامل الهيكلية البنيوية الأعلى طلبًا للطاقة في قطر. ففيما يتعلق بالقطاع الصناعي، فقد فرض مصنع “قطالوم” (شركة قطر للألومنيوم)، الذي بدأ تشغيله في العام 2010، ضغطًا إضافيًّا هائلًا ومتصاعدًا على طلب القطاع الصناعي للطاقة. أما فيما يتعلق بأسباب ازدياد طلب المجمعات والوحدات السكنية على الطاقة فيعود إلى الارتفاع المسجل في معدل النمو الديمغرافي منذ العام 2010، والذي بلغ حوالي 27%.
ولتلبية تزايد الطلب، رفعت قطر، على مدى العقود العديدة الماضية، قدرتها على توليد الطاقة بشكل لافت؛ حيث بلغت قدرتها الحالية توليد 11.5 غيغاوات من الطاقة، وهي زيادة ضخمة للغاية إذا ما علمنا أن مستوى توليد الطاقة لم يتجاوز 1200 ميغاوات فقط في عام 1997. ومع أن قطر تمتلك فعليًّا قدرة كافية على توليد الطاقة، غير أن ذروة الطلب بدورها ترتفع بسرعة؛ حيث بلغت 8.4 غيغاوات في عام 2019.
على مستوى موازٍ، استغلت قطر، جزئيًّا، أسواق الديون الدولية لتحصيل مليارات الدولارات الضرورية لتوسيع قطاعي الطاقة والمياه؛ حيث تتراوح الحصة المخصصة للنقل والتوزيع في توسيع البنية التحتية، وحدها، ما بين 15 و20 مليار دولار. وتحاول قطر، على غرار العديد من دول الخليج الأخرى، تلبية ذروة الطلب من خلال اعتماد مقارنة من شقَّين يتمثلان في زيادة إمدادات الطاقة من ناحية، وتنفيذ تجديد شامل للشبكة، من ناحية أخرى. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى اتخاذ قطر خطوات استباقية جبارة لاستيعاب التزايد المتوقع على الطلب مع انطلاق مسابقة كأس العالم لكرة القدم 2022.
وكما هو الشأن بالنسبة للعديد من المشاريع العملاقة الأخرى في قطر، فإن الباعث الرئيسي على تطويرها فائق السرعة لقطاع الطاقة هو توفير الكميات الهائلة من الكهرباء اللازمة لتغذية الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة في البلاد، والتي تشهد توسعًا كبيرًا وتتطلب إمدادات ثابتة من الطاقة. وعلى الرغم من أن قطر لا تواجه احتمالات انقطاع التيار الكهربائي، وغيره من الاضطرابات في توزيع الغاز/الطاقة -التي تعاني منها دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى- إلا أنه ما من شك في أن تطور قطاع الطاقة السريع بات يفرض ضغوطًا هائلة على مرافقها؛ حيث يحدث في بعض الأحيان، أن يفوق العرض الطلب أو يقترب الطلب من العرض.
نشير هنا إلى أن قرار فصل مرحلة توليد الطاقة عن مرحلة النقل والتوزيع ساعد قطر على تجنب النقص، الذي يعاني منه جيرانها، من خلال تسهيل اتخاذ قرارات بتشييد محطات جديدة في وقت قياسي. ومع ذلك، فإن هدف قطر، من خلال انتهاج مقاربة حذرة تجمع بين تطوير الغاز الطبيعي في المستقبل واتخاذ موقف حكيم تجاه إنشاءات الطاقة، يتمثل في توفير ما يسمح لها بحماية التنمية الصناعية المستقبلية.
ارتقاء مستمر
بحلول العقد الأخير من القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من الألفية الثالثة، نجحت قطر بامتياز في رحلتها السريعة نحو تبوؤ مركز الصدارة كأكبر منتِج للغاز الطبيعي المسال في العالم، وذلك بفضل الاحتياطيات الهائلة التي يكتنزها حقل الشمال، وبسبب تنسيق الإنتاج مع شركات النفط الدولية المختلفة في المشاريع المشتركة لشركتي “راس غاز” و”قطر غاز”. إلا أن قطر، على الرغم من كل ذلك، سجَّلت انخفاضًا كبيرًا في الطلب على غازها الطبيعي المسال نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية. في المقابل، تمكنت قطر من إدارة مركزها في السوق ببراعة. ولأجل تنويع قاعدة عملائها والخروج بأخف الأضرار من تأثير الاضطرابات الاقتصادية العالمية، خلال فترة الأزمة، استطاعت قطر إنشاء محفظة ضمَّت أكثر من 25 دولة مستوردة. كما أثبتت قطر، أيضًا، تمتعها بالمرونة الكافية لتكييف وضعها مع السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال من خلال الدمج بين نماذج تعاقدية مختلفة، مثل العقود طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل، والتسعير على أساس المحور أو مؤشر النفط، فضلًا عن اعتمادها أسلوب المبيعات الفورية.
في المُجمل، سمح مستوى التكلفة المنخفض للإنتاج في قطاع الغاز الطبيعي لقطر بالبقاء في الصدارة أمام منافسيها، وقد تمكنت من ذلك بفضل الموقع المميز لحقل الشمال ووفرة مخزون غاز البترول المسال والمكثفات، بالإضافة إلى ما يضخه لها حقل الإيثان من إنتاج. لكن، ومع هذا، فسيتحتم على قطر التعامل مع بعض العقبات الصعبة على المدى القريب إلى المتوسط؛ فقد حطمت جائحة كوفيد-19 الاقتصاد العالمي. وفي الوقت الذي بدأت فيه أسعار الطاقة العالمية تشهد ارتفاعًا، فإن أسواق الطاقة العالمية لا تزال تشهد مستويات متفاوتة من التقلبات. ولمواجهة ذلك، ستعتمد قطر، إلى حدٍّ كبير، على عودة مستويات الطلب الآسيوي على الغاز الطبيعي المسال.
في المحصلة، تبدو قطر في وضع جيد مقارنة بأستراليا وأميركا وروسيا التي لا تزال تعاني بشدة من آثار الإغلاق الاقتصادي ولا تبدو قادرة على تكييف نفسها مع عملية صنع القرار بنفس المرونة التي تمتلكها قطر على هذا المستوى.
ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور كريم الماجري.
(1) “Statistical Review of World Energy,” British Petroleum, 2021, https://www.bp.com/content/dam/bp/business-sites/en/global/corporate/pd… (accessed 20 July 2021), p.34.
(2) Jean-Francois Seznec, “Sharing a Pot of Gold: Iran, Qatar and the Pars Gas Field,” Middle East Institute, 22 August 2016, https://www.mei.edu/publications/sharing-pot-gold-iran-qatar-and-pars-g… (accessed 13 November 2021),. p.2; Justin Dargin, “The Dolphin Project: The Development of a Gulf Gas Initiative,” Oxford Institute for Energy Studies, 2008, https://www.oxfordenergy.org/wpcms/wp-content/uploads/2010/11/NG22-TheD… (accessed 15 July 2021); “Qatar Natural Gas Profile,” U.S. Energy Information Administration, 20 October 2015, https://www.eia.gov/international/analysis/country/QAT (accessed 13 November 2021).
(3) Ibid.
(4) Lucy Williamson, “Qatar’s Fortunes Boom with Gas,” BBC News, 14 February 2006, http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/4709696.stm (accessed 20 July 20 2021).
(5) Ibid.
(6) Naji Abi-Aad, “Natural Gas Reserves, Development, and Production in Qatar,” Observatoire Méditerranéen de L’Energie, April 1998, https://inis.iaea.org/collection/NCLCollectionStore/_Public/29/029/2902… (accessed 15 July 2021), p. 6.
(7) Jill Crystal, Oil and Politics in the Gulf: Rulers and Merchants in Kuwait and Qatar (Cambridge: Cambridge University Press, 1995), p.158.
(8) The Middle East and North Africa 2004 (Oxford: Routledge, 2004), p. 943.
(9) Every year, Qatar produces nearly 2% of its oil reserves. “Statistical Review of World Energy,” British Petroleum, 2021, https://www.bp.com/content/dam/bp/business-sites/en/global/corporate/pd… (accessed 15 July 2021), p. 23.
(10) Justin Dargin, “The Dolphin Project: The Development of a Gulf Gas Initiative,” Oxford Institute for Energy Studies, 2008, https://www.oxfordenergy.org/wpcms/wp-content/uploads/2010/11/NG22-TheD… (accessed 15 July 2021).
(11) David G. Victor, et al., Natural Gas and Geopolitics: From 1970 to 2040 (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p. 244.
(12) Ibid.
(13) The four LNG mega-trains (8 MTPA each) would come online at intervals of three to six months after the first one begins operation in 2024. Stuart Elliot and Herman Wang, “Qatar Sees Four LNG Mega-Trains Coming Online in 3-6 Month Intervals: al-Kaabi,” S&P Global Platts, 8 October 2019, https://www.spglobal.com/platts/en/market-insights/latest-news/natural-… (accessed 13 July 2021).
(14) Ibid.
(15) Dahlia Nehme, “UPDATE 4-Qatar Plans to Boost LNG Production to 126 mln T by 2027,” Reuters, 25 November 2019, https://www.reuters.com/article/qatar-energy-qp-idUSL8N2851HI (accessed 17 July 2021).
(16) “Qatar doubles down on economic diversification,” Oxford Business Group, 2019, https://oxfordbusinessgroup.com/analysis/determined-diversify-country-h… (accessed 24 July 2021).
(17) Kevin Adler, “Qatar Petroleum Commits to Low-Carbon LNG in its Latest Expansion,” IHS Markit, 11 February 2021, https://ihsmarkit.com/research-analysis/qatar-petroleum-commits-to-lowc… (accessed 25 July 2021).
(18) The EU Methane Strategy asserts that non-EU imported pipeline gas and LNG contribute three to eight times the emissions of comparable products produced in the Europe. Ibid.
(19) Ibid.
(20) Adal Mirza, “Qatar Sets 7mn t/yr 2030 Carbon Capture Target,” Argus 14 January 2021, https://www.argusmedia.com/en/news/2176949-qatar-sets-7mn-tyr-2030-carb… (accessed 13 November 2021).
21)a21 See, Qatar Petrochemical Production Figures, Gulf Petrochemicals and Chemicals Association, Available at http://www.gpca.org.ae/qatar/
.
رابط المصدر: