التيارات الإسلامية في الأزمة الليبية.. الدور والمستقبل

تتناول هذه الورقة دور التيارات الإسلامية المختلفة في المشهد السياسي الليبي الراهن، وتطلعاتها المستقبلية، فضلا عن التحولات التي شهدتها، والمسار الذي اتخذته. وكذلك تحاول فهم البيئة الحاضنة والسياقات المحلية والإقليمية فضْلًا عن التفاعلات التي حَكمتها، ولا سيما تلك التي سيكون لها تأثيرها في مستقبل هذه التيارات.

مقدمة

تعددت الاتجاهات السياسية في المشهد السياسي الليبي برؤى سياسية محضة، وأخرى فكرية وأيديولوجية، لتشكل فرقا وتيارات متعددة تؤدي دورا مهما في الشأن الليبي، منها: التيارات الإسلامية المختلفة، التي كانت ولا تزال تؤدي دورا فعّالا في المشهد السياسي الليبي، يزداد تفاعلا وانخراطا في المشهد السياسي، تبعا للحالة السياسية التي تمر بها البلاد بين الفينة والأخرى، اشتراكا وتشابكا مع الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، سواء تلك التي تتفق معهم في أي من التوجهات السياسية والأيديولوجية أو التي تختلف معهم في أي منها.

مؤخرا وبعدما يقارب ثلاثة عشر عاما تداخلت عوامل كثيرة -محلية وإقليمية ودولية- في ترتيب التيارات الإسلامية في الصفوف السياسية الداخلية في كل الأزمات التي تقع في البلاد، سواء من ناحية تبني الأدوار الوظيفية السياسية، أو تلك التي تتعلق بالمجال الديني المحض. وهذه الأخيرة عادة ما تخدم غايات سياسية وإن بطريقة غير مباشرة أو تعد لدور سياسي في المستقبل بطريقة أو أخرى.

من هذا المنطلق تحاول هذه الورقة الوقوف على دور التيارات الإسلامية المختلفة في المشهد السياسي الراهن، وتطلعاتها المستقبلية، والتحولات التي شهدتها، والمسار الذي اتخذته، وكذلك فهم البيئة الحاضنة والسياقات المحلية والإقليمية فضْلًا عن التفاعلات التي حَكمتها، وسيكون لها تأثيرها في مستقبل هذه التيارات.

كما ستركز الدراسة على الإسلاميين من منظور مجمل وشامل بما يوضح مكان ومكانة الإسلاميين من المشهد السياسي الليبي، ومن ثَمَّ تتحول الدراسة تدريجيا إلى التقسيمات الداخلية التي يمكن بها فهم واستيعاب التيارات المختلفة في البلاد، التي تنحصر في ثلاثة تيارات فاعلة في الساحة الليبية، هي: تيار الإخوان المسلمين، والتيار السلفي، والشخصيات الإسلامية المستقلة.

والجدير بالذكر أن المقصود بالتيارات الإسلامية في ليبيا في هذه الورقة: كُلُّ فصيل إسلامي يؤدي دورا سياسيا بطريقة أو أخرى في الشأن العام، بالإيجاب أو السلب، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بالموافقة والسير في سلطات الحكومات الوظيفية المختلفة، أو تلك التي تتبنى نهج المعارضة والسعي إلى الوصول إلى السلطة بآلياتها المختلفة والمتداخلة في الحالة الليبية.

الإسلاميون والأزمة الليبية

يعتبر الإسلاميون أحد أهم الفاعلين في المشهد الليبي الراهن، ولا يشكلون فريقا واحدا، بل هم أطراف متعددة، وتعتبر الخلافات بين بعضهم إحدى معضلات الأزمة الليبية. وقد تشكلت القوى الإسلامية الراهنة سياسيا في سياق ثلاث محطات أساسية شهدتها ليبيا.

ثورة فبراير والحركة المضادة: في خضم الأحداث التي كانت في الثورة الليبية منذ انطلاقها في 17 فبراير/شباط 2011، كان للتيارات الإسلامية المختلفة دور بارز فيها، سواء كانوا مقاتلين عسكريين شاركوا في الثورة عسكريا، أو من قبيل المشاركة السياسية المتباينة في الشأن الليبي منذ الثورة إلى الوقت الحالي، على اختلاف وتضارب مواقفهم. فقد كانت لهم أدوار مهمة في العمليتين الثورية والانتخابية، وكذلك الأزمتين السياسية والأمنية، وساهموا مساهمة فاعلة في إسقاط النظام السابق. كما شاركت عدّة جماعات وفصائل وشخصيات إسلامية في العملية الانتخابية أيضا(1)، ليكون لها دور بارز في العملية السياسية الآنية، وحتى المستقبلية في البلاد، وأصبحت جزءا رئيسيا منها، وبذلك فلا يمكن فهمُ المشهد السياسي الليبي واستشرافُ مستقبله دون فهم طبيعة عمل هذه التيارات ودورها في صنع القرار السياسي في البلاد بطريقة أو بأخرى. فقد هيمنت على المشهد السياسي الليبي في العقد الأخير، كثير من التقلبات والأزمات، وتجاذبت أطراف هذه “القوى الثورية” المصالح وتقاطعاتها الخارجية والداخلية، في واقع سياسي متقلب يكاد لا يهدأ. وفي المقابل هناك تيار مضاد لهذا التوجه، سعى للعودة بالبلاد إلى “حكم العسكر”، ودخل في مواجهات عسكرية مع القوى الأخرى، وحظي بدعم أطراف داخلية وقوى خارجية.

ولهذا يمكن توصيف المشهد السياسي الليبي الحالي بأنه ينحصر بين طيفين أساسين في الغالب: طيف “الثورة”، وعادة ما يمثله جُلُّ الإسلاميين الموجودين في المشهد الحالي من شخصيات مستقلة وأحزاب سياسية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وحزب العدالة والبناء، وتيار يا بلدي، وغيرها من الأحزاب والقوى الأخرى المشابهة، وغالبها في الغرب الليبي. أما الطيف الآخر، فهو طيف “الثورة المضادة”، و”عملية الكرامة”، إضافة إلى أحزاب توصف بأنها “علمانية”، وكذلك جلّ “التيار السلفي” خاصة في شرق البلاد.

هذا التباين في ليبيا حدث بفعل المواجهة في الإقليم، بين مسار الربيع العربي والثورات العربية من جهة، والدول المضادة والمناوئة للثورة، الأمر الذي شكّل معه هذا المشهد السياسي الداخلي في ليبيا، وتشكلت منه المحطات التي ولدت في سياقها قوى المشهد السياسي الحالي.

عملية الكرامة وفجر ليبيا(2): انطلقت عملية الكرامة في 16 مايو/أيار 2014 بمدينة بنغازي في شرق ليبيا(3)، بهدف الوصول إلى السلطة في طرابلس؛ مما تسببت في زيادة حدة الصراع الدموي والانقسام السياسي في البلاد. حيث هاجمت قواتها مقار متعددة للثوار والكتائب الإسلامية في بنغازي، قبل أن تصل إلى حدود العاصمة طرابلس، ومن ثم توسع الصراع ليشمل العديد من مناطق البلاد.

تصدت “كتائب الثوار”، وقطاعات من الجيش الليبي، في طرابلس وبنغازي لعملية “الكرامة” وأطلقت على عملياتها التي بدأت في 13 يوليو/تموز 2014، اسم “فجر ليبيا”. وجاء ذلك بعد شهرين من بدء عملية الكرامة ضد الثوار في بنغازي. اعتبرت هذه القوى عملية الكرامة حركة مضادة للثورة، لإلغاء مكتسبات ثورة 17 فبراير، وأنها تمرد على الشرعية وعلى “المؤتمر الوطني العام” الذي جاء عقب إجراء أول انتخابات تشريعية في تاريخ ليبيا. وقد حظيت عمليات “فجر ليبيا” بتأييد قطاعات واسعة من أنصار الثورة والأحزاب والتيارات الإسلامية المختلفة.

اتفاق الصخيرات: اتفاق الصخيرات(4) أو الاتفاق السياسي الليبي هو اتفاق شمل أطراف الصراع في ليبيا، وتم توقيعه تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، بإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر لإنهاء الصراع في البلاد المندلع منذ 2014. وقد بدأ العمل به لدى معظم القوى الموافقة عليه في 6 إبريل/نيسان 2016.

جاء هذا الاتفاق بعد صدور حكم المحكمة العليا ضد لجنة فبراير(5)، وبالتالي إبطال كل ما نتج عنها، أي إبطال الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2014، وأوجدت البرلمان الحالي، فدخلت البلاد حينها في أزمة شرعية برلمانية، أي شرعية بين المؤتمر الوطني العام والبرلمان الحالي.

 بموجب اتفاق الصخيرات، جرى تقاسم السلطة بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة(6)، الجسم الاستشاري المنبثق من المؤتمر الوطني العام. والجدير بالذكر أن أعضاء المؤتمر الوطني العام، انقسموا حول هذا الاتفاق بين مؤيد ومعارض، إذ اعتبره المعارضون تدخلا دوليا وإقليما في البلاد، وتجاوزا لحكم المحكمة العليا التي تبطل انتخابات 2014 البرلمانية، بينما اعتبره آخرون حلا للمشكل السياسي الحاصل في البلاد، وتماشيا مع الإرادة الدولية.

الإسلاميون في المشهد السياسي

يعتبر وجود الإسلاميين في المشهد السياسي الليبي إذا استُثني منهم “التيار السلفي” في كل المراحل التي مرت بها البلاد، يمثل التغيير ويقاوم عسكرة الدولة، فقد كان جُلُّ هذا التيار مع عملية “فجر ليبيا”، وكذلك ضد عملية “الكرامة” ومقاوما لها، خاصة في سنة 2019 عند الهجوم على العاصمة طرابلس. لكن وجوده في الاتفاقات السياسية وخاصة التي ترعاها البعثة الأممية في البلاد يعتريه شيء من الارتباك وعدم الاتفاق، كما هو الحال في “اتفاق الصخيرات” سنة 2015، حيث انقسم الإسلاميون بين مؤيد ومعارض لهذا الاتفاق، وإن ساروا في ركابه جميعا عندما صار أمرا واقعا.

في المقابل لا يمكن اعتبار التيارات الإسلامية وحدة واحدة، فالاختلاف بينهم واضح وجلي، في الرؤى والتصورات، وكذلك الاستراتيجيات والتكتيكات والتنظيمات والجماعات، حتى أصبحت التعددية لديهم حقيقة واقعية، بل تجاوزت هذه التعددية التنظيمات المختلفة لتطول التنظيم الواحد نفسه(7)، سواء تلك التنظيمات التي كان لها دور سابق في العمل السياسي الليبي ولم يعد لها وجود حقيقي الآن، مثل الجماعة الليبية المقاتلة، والسلفية العلمية، وحزب التحرير الإسلامي، وجماعة التبليغ والدعوة، وغيرها، أو تلك التنظيمات “المتطرفة” التي انتهى وجودها في البلاد بالقوة، أمثال: أنصار الشريعة، والقاعدة، وصولا إلى تنظيم الدولة، لعدّة اعتبارات، لعلّ أبرزها عملية “البنيان المرصوص”.

قادت حكومة الوحدة الوطنية عملية “البنيان المرصوص” ضد تنظيم الدولة، خاصة في مدينة سرت التي شكل فيها قاعدة له في وقت سابق. هذا التنظيم أوجدته أصلا تطورات المرحلة التي مرت بها البلاد وغياب الدولة، وليس له جذور في المجتمع الليبي، ولكن وجود هذا التنظيم وأمثاله، أتاح فرصا لقوى أخرى كي تفرض واقعا سياسيا جديدا، كما هو الحال مع “عملية الكرامة”. فهذه الأخيرة عزت سبب وجودها إلى محاربة تنظيم الدولة وأنصار الشريعة، لكن أهدافها كانت أبعد من ذلك(8)، ولم تكن تلك المحاربة من الأولويات؛ بل كان فرض واقع سياسي جديد هو المحرك والدافع الأول لهذه العملية، وتبين ذلك جليا بعد عملية “البنيان المرصوص” التي قادتها حكومة الوفاق الوطني وأسفرت عن القضاء على هذا التنظيم في مدينة سرت الليبية بدعم دولي، حيث حققت حكومة الوفاق الوطني آنذاك المدعومة من الأمم المتحدة انتصارا باهظ الثمن على هذا التنظيم(9)، في حين أن عملية الكرامة لم تحارب تنظيم الدولة في سرت رغم أنها كانت إحدى معاقلها.

أما على صعيد جذور التيارات الإسلامية، فقد كان لتنوعها دور كبير ومؤثر في نشأة المجتمع الليبي وتكويناته، وإن كان مصبوغا في العادة بالمذهب المالكي، والتصوف الإسلامي، نتيجة وحصيلة للامتداد التاريخي للحركة السنوسية(10) في البلاد وحُكمِها لها، غير أن هذا الامتداد لم يمنع من تَكَوُّن تيارات إسلامية أخرى، سياسية وعلمية وحتى جهادية عبر سنوات متتالية، أمثال: جماعة الإخوان المسلمين، والسلفية العلمية، والجماعة الليبية المقاتلة، وصولا إلى تيارات مسلحة عقب الثورة، أمثال: أنصار الشريعة، والقاعدة، وصولا إلى تنظيم الدولة، وليس انتهاء بالكتائب المؤدلجة في شرق البلاد وغربها.

وللإسلاميين راهنا وجود فاعل في بعض مؤسسات الدولة، كالأوقاف مثلا يمثله التيار السلفي. وأيضا لجماعة الإخوان المسلمين وبعض الشخصيات المستقلة وجود في المجلس الأعلى للدولة ويمثلون نسبة كبيرة فيه. ويمكن القول بشكل عام إن للإسلاميين وجودا فعّالا في المشهد السياسي الداخلي وحتى الخارجي، فكل الحوارات التي قادتها البعثة الأممية لحل الأزمات المختلفة في البلاد كان للتيارات الإسلامية وجود وتمثيل فيها سواء بشكل استقلالي فردي، وإن كان ذلك لا ينفك عن التيار المنتمين إليه بطريقة أو أخرى، أو بمشاركة التيارات نفسها ممثلة باسم الجماعة أو التيار بذاته.

  1. جماعة الإخوان المسلمين

تعتبر جماعة الإخوان المسلمين من أهم التيارات الإسلامية الفاعلة في المشهد السياسي الداخلي، وهي تسعى للدخول في السلطة بما يحقق أهدافها الداعية إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية، تحكم بالشريعة الإسلامية، وتلتزم بالتداول السلمي على السلطة.

أدّت جماعة الإخوان المسلمين في الثورة الليبية دورا بارزا، عبر عمل جماعي منظم أو عن طريق أشخاص في الجماعة، ابتداء من تكوين “المجلس الوطني الانتقالي”(11) أول جسم يحكم البلاد بعد نجاح الثورة، مرورا بإنشاء “المؤتمر الوطني العام”(12) الذي كان أول جسم تشريعي يتم انتخابه من القاعدة الشعبية للمجتمع، وصولا إلى وجودهم في الاتفاق السياسي “اتفاق الصخيرات”(13)، والأجسام التي نشأت عنه، من “المجلس الأعلى للدولة”(14) وحكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي(15).

لكن قوة الجماعة في السلطة تراجعت لاحقا، ويعتبر وجودها في النظام السياسي راهنا وجودا غير فعّال بالدرجة التي كان عليها في السابق. فمثلا في غرب البلاد يرتكز ثقلها في المجلس الأعلى للدولة -الجسم الاستشاري- عبر أعضائها الذين يمثلون نسبة كبيرة فيه، أما الحكومة التنفيذية فليس لها تأثير حقيقي فيها. وقد مرت الجماعة بمنعطفات ومسارات متعددة في السنوات العشر الماضية، سواء على الصعيد الداخلي لها، أو الخارجي، ويمكن تلخيص أهمها في محطات ثلاث:

إنشاء حزب سياسي: عقدت الجماعة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، مؤتمرا جامعا في بنغازي لأعضائها، وكان أول لقاء جامع للإخوان في ليبيا وضمَّ كثيرًا من إخوان الداخل والخارج، وقرَّروا فيه إنشاء حزب وطني مستقل عن جماعة الإخوان المسلمين(16). تأسس هذا الحزب بالفعل في 2012 تحت اسم حزب “العدالة والبناء”(17)، ليكون الفاعل السياسي الأبرز من بين كُتل سياسية إسلامية أخرى وغير إسلامية في الساحة السياسية في البلاد. وقد كانت هذه الخطوة هي الأهم للجماعة ومن أسباب تقويتها.

الانخراط في السلطة: أدت الجماعة في الساحة السياسية دورا بارزا في المجلس التشريعي الأول، المؤتمر الوطني العام، وكان لها أكثر من موقف وفعل سياسي داخل المؤتمر، سواء في اختيار رئيس الحكومة أو في القضايا السياسية المختلفة التي كانت تطرح تحت قبة المجلس التشريعي، الأمر الذي أهلها لأداء أدوار سياسية بارزة فيه في ذلك الوقت. لكن لما وصلت الجماعة إلى “اتفاق الصخيرات” انقسم أعضاء حزبها حوله، وإن كانوا قد أقروه.

الانقسام: انقسمت الجماعة في أعقاب إقرار اتفاق الصخيرات بين مؤيدين له ومعارضين، ولم يكن هذا الخلاف طارئا، بل كان يعكس نهجين يتعايشان في الجماعة، خاصة بين سنة 2014 و2021، وكان لذلك دور بارز في انقسام الحزب إلى قسمين، الأول: يرى أن الحزب لابد أن ينهج نهجا هادئا تقليديا، أي تجنُّب الصراعات السياسية مع القوى الأخرى والتركيز على الدعوة وبناء المجتمع. الثاني: يرى ضرورة مشاركة الحزب في العمل السياسي بفعالية وأن تكون له الأولوية، وأن يكون الحزب جزءا من التحولات السياسية محليا ودوليا.

انتهى هذا الاختلاف إلى الانقسام في المؤتمر العام للحزب في 19 يونيو/حزيران 2021، وقد توالت الاستقالات من المناصب العليا في الحزب(18)، وانتخب عماد البناني رئيسا لحزب العدالة والبناء، واتجه المعارضون إلى تكوين حزب جديد بأبجديات أخرى أطلق عليه “الحزب الديمقراطي”(19)، وجرى إشهاره في أكتوبر/تشرين الأول 2021 (20).

كما أن جماعة الإخوان المسلمين انتهت تنظيميا سنة 2021، فقد أعلنت الجماعة حل نفسها(21)، في 2 مايو/أيار2021، وتحوُّلها إلى جمعية دعوية هي “جمعية الإحياء والتجديد”(22) التي أصبحت الوجه الدعوي لحزب العدالة والبناء. وبالتالي فإن الخطاب العام للحزب لم يختلف عن خطاب الإخوان المسلمين السابق؛ فالحزب ذو مرجعية إسلامية، ويدخل في المشاركة السياسية من هذا القبيل، في كل برامجه، وتأخذ السياسة حيزا كبيرا من أعماله وبرامجه أكثر من الجانب الدعوي المحض الذي أصبح من اختصاص الجمعية. هذا المسار أفضى بالجماعة إلى الفصل فيها بين الحزب السياسي والجماعة الدعوية في السياق الليبي، ولم تستطع أن تستمر قوة فاعلة في المشهد السياسي الليبي كما بدأت.

إن التحولات التي مرت بها الجماعة كان سببها الرئيسي سياسيا، أي أنها تحول في مسار سياسي، ذلك أن “الحزب الديمقراطي” انتهج نهجا مخالفا لما يتبناه التيار المحافظ في الجماعة الذي يمثله الآن حزب “العدالة والبناء” برئاسة عماد البناني. غير أن الخلافات توسعت بين الطرفين أكثر، فقد ذهب “الحزب الديمقراطي” الوليد، إلى التحالف مع برلمان الشرق الليبي المؤيد لعملية الكرامة، الأمر الذي رآه المحافظون مسًّا بالثوابت والقيم التي تناهض عسكرة الدولة، وعودةً إلى مربع “الاستبداد”، باعتبار أن عملية الكرامة عملية “انقلابية” على المسار التشريعي في البلاد.

  1. التيار السلفي

التيار السلفي في حقيقته مصطلح كبير، وعباءة تحتوي الكثير من الاتجاهات المختلفة، والمتمايزة أيديولوجيًّا ومنهجيًّا، وهي: السلفية الجهادية، والسلفية السياسية الإصلاحية، والسلفية العلمية غير السياسية. ومن هذا المنطلق تميل الأدبيات الأكاديمية بعد كوينتن فيكتوروفيتش إلى هذا التقسيم(23). وفي ليبيا عرف هذا التيار واشتهر باسم “التيار المدخلي”، وهو خليط بين السلفية العلمية، والسلفية السياسية الإصلاحية التي تحمل السلاح(24)، ليس من أجل تغيير النظام، وإنما لحفظ مصالحها وأيديولوجيتها في غالب الأحيان. وهو تيار سلفي “متشدد” يعتمد في منهجه على أمرين: الولاء المطلق للسلطة الحاكمة والطاعة الكاملة للحكام والدفاع عن مواقفهم السياسية وسياساتهم مهما كانت، والهجوم المستمر على المخالفين، وخاصة من التيارات الإسلامية الأخرى(25).

وفي المقابل هناك أيضا جزء من “السلفية العلمية” التي تشارك في مؤسسات الدولة السياسية الرسمية، وعادة ما يركزون جوهريًّا على الدعوة وعلى ضرورة طاعة الحاكم، ولا يمارسون العنف ضد الحاكم “المتغلب” ولا يشاركون في السياسة المؤسسية(26).

بشكلٍ عام، لا يسعى عموم التيار السلفي في ليبيا إلى وضع نظريةٍ للدولة، والتعمق في آليات الحكم والسلطات التنفيذية، بقدر توجهه للسير في ركب “السلطة الحاكمة”، “واتباع ولي الأمر”. وبذلك صنع حالة من التكيّف مع السلطات المتعاقبة، والترابط معها، ليشكّل بيئة مناسبة لممارسة نشاطه وأفكاره (27).

استفاد هذا التيار من مكاسب ثورة فبراير 2011، خاصة مكسبي الحرية وانتهاء الحكم الفردي المطلق، فأنشأ كثيرا من المدارس الخاصة والمعاهد الشرعية التي تدعم توجهاته، وشكل حالة دينية جديدة في المشهد الديني الليبي، الذي يغلب عليه بالعادة المذهب المالكي والتصوّف. واستطاع التغلغل في المناطق النائية التي يتدنّى فيها مستوى التعليم والاقتصاد، فجعلها قاعدة خلفية له(28). كما عزز من وجوده الأساسي والمنظم داخل مؤسسات الدولة وخاصة الأمنية منها، بل إنه وصل في مرحلة متأخرة إلى تأسيس كليات تعلمية شرعية تتبع للجامعات الرسمية التابعة للدولة تنظيميًّا، فضلًا عن وجود مدارس تعليمية خاصة به في مدينة طرابلس.

تنامى هذا التيار في العقد الأخير من عمر الدولة الليبية، سواء في المجال السياسي أو الأمني، من خلال وجوده في كتائب مسلحة سواء في شرق البلاد أو غربها وإن تميز كل منهما عن الآخر في توجهه السياسي والأمني، الأمر الذي أهله لممارسة نفوذ سياسي داخل الدولة، سواء في الصراعات الداخلية أو على صعيد الانحيازات والاستقطابات السياسية المختلفة، وعزز من وجوده في مؤسسات الدولة الرسمية باعتبار أنه كان منحازا لها ورافضا للتغيير. وقد اقتصر وجود هذا التيار بداية على الشأن الديني البحت في الدولة والمجتمع، إلا أن هذه المعادلة لم تستمر طويلا خاصة مع التغيرات والتقلبات الأمنية والسياسية التي مرت بها البلاد، ليصبح هذا التيار مؤيدا لعملية “الكرامة” في الشرق، وغير مؤيد لمعارضيها في الغرب.

وفي أول استحقاق انتخابي في البلاد عام 2012 لأعضاء “المؤتمر الوطني العام”، ذهب كثير من الفاعلين في هذا التيار إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات السياسية، بهدف منع التيارات الإسلامية الأخرى من الوصول إلى السلطة؛ إذ تحوّل الأمر عندهم من منع القوى الأخرى من معارضة الحاكم أو الاعتراض عليه سياسيا، إلى ضرورة المشاركة السياسية لإسقاط التيارات الأخرى، خاصة الإسلاميين، ومنعهم من الوصول إلى الحكم. وعلى مستوى آخر تحوّل هذا التيار من منع وتحريم المشاركة السياسية في الدولة، إلى أكبر داعم لها ضد تيار الإخوان المسلمين ومن يسير على نهجهم في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت ثورة 17 فبراير(29).

تبدو المجموعات السلفية اليوم أقرب إلى المجموعات الشبكية من نمط التنظيم التقليدي؛ مما جعلها أكثر مرونة في التعامل مع الانقسام السياسي. فلم تنشغل مثلا بالخلاف الحكومي والانقسام الحاصل فيه، بل اهتمّت بتوطيد مكانتها السياسية والأمنية داخل البلاد، بهدف التمكين لنموذجها الديني(30).

قبل “عملية الكرامة” (2014) كانت التيارات المختلفة في البلاد ومنها التيار الإسلامي، وخاصة السلفي، تتنافس سياسيا على أربع جبهات: الجبهة الإعلامية، والجبهة المؤسسية السياسية، والجبهة الدستورية، وجبهة القوة الصلبة المسلحة(31).

ولكن بعد ذلك اصطف هذا التيار السلفي في شرق البلاد مع “عملية الكرامة”، محاربا في صفوفها، ومدافعا عنها، وبذلك تمازجت أفكاره مع الفكر العسكري. بل وجدت عملية “الكرامة” ضالتها في هذا الفكر والنهج، فقدمت له الدعم، مقابل وقوف هذا التيار مع عملية الكرامة في القتال وتخطئة كل من يصطف ضدها.

ظهرت في هذه المرحلة عدّة مصطلحات وصف بها هذا التيار مخالفيه، لعلّ أبرزها وصفه بـ”الخوارج” كل من يقف ضد عملية الكرامة. وقد وجد قادة هذه العملية، وكذلك الدول الداعمة لها إقليميا ودوليا، في هذا التيار حليفا دينيا محليا قويا، فقدموا له الدعم للاستفادة منه في هذه “العملية” من جهة، وليكون حركة مضادة للتيارات الإسلامية الأخرى الموجودة في البلاد من جهة أخرى.

فقد تعزز وجود سلفيي الغرب الليبي في الخطاب الديني المؤسسي في هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية(32). وتحظى هذه المؤسسة بدعم إحدى أهم القوى العسكرية في طرابلس، “قوات الردع الخاصة”. والجدير بالذكر أن هذه الأخيرة لم تُعلن انضمامها إلى قوات “الكرامة”، بل على العكس شاركت إلى حد ما في صد الهجوم على طرابلس في 2019(33)، الذي قامت به عملية الكرامة وباء بالفشل(34).

والخلاصة أن هذا التيار منقسم عمليا وليس أيديولوجيا إلى قسمين، الأول في شرق البلاد ويتبع عملية الكرامة ويتوجه بإمرتها أمنيا وسياسيا، في عملية تزاوج مصلحي بيروقراطي بينهما، إذ إن كل طرف يقدر مصلحته مع وجود الطرف الآخر، باعتبار أن هذا التيار يرى في عملية الكرامة راعية له من جهة، وحليفا له ضد التيارات الإسلامية الأخرى من جهة أخرى.

وأما الثاني ففي الغرب الليبي، وإن كان لم تظهر معالم تأييده الواضح لتوجه معين في العملية السياسية إلا أن سلوكه وتوجه يبين ذلك، إذ الغالب عليه الركون إلى كل عملية سياسية أو حكومة جديدة تكون واقعا في البلاد، وإذا كان ذلك ليس على الإطلاق فإنه الغالب حتى الآن، باعتبار قابلية وقدرة هذا التيار على التكيف مع أي سلطة قائمة أو تستجد في البلاد.

كما أثبت سلوك هذا التيار، أن علاقة السلفيين بالسياسة أكثر غموضًا وتعقيدًا، إذ يغلب عليه “التصرف بشكل غير سياسي” في “عالم سياسي” في حالاتٍ عديدة، كما يفتقر عموم التيار السلفي في ليبيا إلى القيادة الموحدة والهياكل التنظيمية. وكذلك فإنه أيدولوجيا لا يحظر سلوكا سياسيا معينا، فقد اختلف مثلا الفعل السياسي ممن كان منه في الشرق عمن كان منه في الغرب الليبي، دون إنكار قوي من قبل أي منهما على الآخر.

  1. الشخصيات الإسلامية المستقلة

تؤدي كثير من الشخصيات الإسلامية في البلاد دورا بارزا في العملية السياسية فيها، ولا سيما أن المجتمع الليبي محافظ في سلوكه في أغلبه؛ مما جعله مستجيبا لتوجهات العلماء في كثير من القضايا السياسية العامة، وبالفعل استجاب كثير من أبناء البلاد مثلا في شرق البلاد وغربها، وشاركوا بفعالية في ثورة 17 فبراير/شباط بناء على فتاوى علماء دين محليين لهم مكانة في المجتمع الليبي. من أبرز هؤلاء الشيخ الدكتور الصادق الغرياني(35)، فقد أفتى بوجوب المشاركة رجالا ونساء ضد النظام السابق “والجهاد ضد طغيان كتائبه”، ليتولى فيما بعد منصب مفتي الديار الليبية، وقد أدى دورا بارزا في العديد من القضايا السياسية، وشكل مظلة لكثير من الإسلاميين داخل البلاد وخارجها.

ومن القيادات الإسلامية الأخرى التي برزت بعد الثورة، نوري أبوسهمين، رئيس المؤتمر الوطني العام سابقًا، الذي أنشأ تيار “يا بلادي”، وهو في حقيقته رابطة تجمع الإسلاميين المستقلين، وقد تقارب معه كثير من الأحزاب الأخرى. كما اهتم أبو سهمين وتياره بالقضايا الداخلية، ولا سيما أنه برّر نشأة تياره بمواجهة التهديد الخارجي ورفض انتهاك السيادة، ثمّ مواجهة الفساد والانقلاب(36).

ومن الملاحظ أن غالب الشخصيات المستقلة، يجمعها مطلب استقلال الدولة بعيدا عن التدخلات الإقليمية والدولية، ويرون أن اتفاق الصخيرات كان يجب ألا يكون، وأنه أحد أسباب تردي الدولة، وتسبب في خروج الملف الليبي من أيدي الليبيين، وتحول إلى ملف إقليمي ودولي تتجاذبه المصالح الدولية.

وممن يحسب على المستقلين -أيضا- في الحالة السياسية الليبية الحالية، أشخاص كانوا في حركات إسلامية قبل الثورة، مثل عبد الحكيم بلحاج رئيس “الجماعة الليبية المقاتلة” سابقا، الذي ارتكزت فاعلية تنظيمه بعد الثورة في شكل عمل حزبي تحت اسم “حزب الوطن”(37)، معتمدا على دور بلحاج(38) فيه، وليس على عمل مؤسسي حزبي، وقد تمكن من الوصول بنسبة ضئيلة جدًّا إلى المؤتمر الوطني عبر القوائم الفردية في انتخابات 2012(39).

توافق هذا الحزب -بأشخاصه وليس بكيانه التنظيمي- مع حزب “العدالة والبناء” على كثير من القرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني العام، وكذلك في تأييدهما لعملية فجر ليبيا بعد الانقسام السياسي الذي بدأ يظهر خلال المرحلة الانتقالية، وفي رفضهما لعملية الكرامة، و”الانقلاب” على الإعلان الدستوري في فبراير/شباط 2014(40). من هذا المنظور، شهدت “الجماعة الليبية المقاتلة” تحولات من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي، ومن ثم من العمل الحزبي إلى الفردي المستقل(41)، وهؤلاء المستقلون حاضرون في الساحة السياسية الحالية في البلاد، ومن أبرزهم بلحاج.

أدى “بلحاج” دورا في الثورة الليبية عام 2011 وصولا إلى تأسيسه “حزب الوطن” في إبريل/نيسان 2012، الذي أصبح منصة لمزاولة عمله السياسي. وكان لبلحاج دور في كل الأحداث التي مرت وتمر بها البلاد بشكل “شخصي ومستقل” بعيدا عن المسمى الحزبي هذا، أو حتى عن التيار الذي يمثله بطريقة أو أخرى أي تيار “الجماعة الليبية المقاتلة” سابقًا.

بالمجمل، فإن أبرز الرموز والشخصيات الإسلامية المستقلة كانت لها قواعد ثابتة ورؤى واضحة اجتمعت عليها في قضايا محلية وسياسية، كان لها أثر بالغ في الحالة السياسية اليوم في البلاد، أبرزها: دعم وتأييد قانون العزل السياسي(42) عقب الثورة، وتأييد عملية فجر ليبيا ضد محاولة “الانقلاب” على السلطة في 2014 من قبل عملية الكرامة. قد يكون الاستثناء اختلافها حول قبول “اتفاق الصخيرات”، لكنها قبلت نتائج حوار جنيف الأخير في فبراير/شباط 2021 والمجلس الرئاسي الجديد الذي نشأ عنه وحكومة الوحدة الوطنية الحالية.

مستقبل التيارات الإسلامية

إن طول فترة الانقسام السياسي في البلاد، أظهر كثيرا من إمكانات التيارات الإسلامية في الفعل السياسي، وكذلك في التكوين والنشأة والتطور، ابتداء من العمل الديني البحت، وصولا إلى التداخل والتدافع الكبير نحو السلطة السياسية.

من الواضح أن التيار السلفي بمجمله سيستمر على الأبجديات التي سار عليها من قبل، وسيحافظ على وجوده في المسار الذي اتخذه قدر الإمكان، سواء في الشرق أو الغرب الليبي. ولكن هذا ليس على الإطلاق، فقد يتحول من حالة إلى حالة أخرى يكون فيها طرفا في أي صراع سياسي مستقبلي، باعتبار قابليته للتكيف مع أي سلطة تكون أو تستجد في البلاد.

أما جماعة الإخوان المسلمين والقوى المؤيدة لها من شخصيات مستقلة وأحزاب سياسية أو ما يمكن أن نطلق عليه طيف “الثورة”، فهي التي تقع في محل التنازع، وما إذا كانت قادرة على الاستمرار فضلا عن التأثير في مستقبل ليبيا. ويمكن حصر السيناريوهات المتوقعة لهذه القوى في:

سيناريو بقاء قوى الثورة: إن التيارات الإسلامية في ليبيا، وخاصة المُنظمة سياسيًّا، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والتيارات التي تناصر الثورة، والشخصيات الإسلامية المستقلة، تملك القدرة على البقاء والتأثير في مستقبل ليبيا السياسي، لأسباب عدة من أبرزها:

أولا: أنها تعتمد على “القوة المسلحة” على الأرض بالتوازي مع العمل السياسي، فهي ترى أن السلاح يضمن لها الحقوق السياسية والقدرة على البقاء السياسي، وليس الدستور ولا المؤسسات ولا حتى سيادة القانون، ولا حتى أصوات الناخبين وحدها. وهي ترى في هذا الخيار ضرورة لضمان وجودها وليس اختيارا لمبدأ العنف، بل هو وفق هذا المنطق دفاع عن الثورة وحماية لها من “الانقلابات” التي تحاك ضدها. في نهاية المطاف ستحجز القوة المسلحة لهذا الطيف مكانا في النظام السياسي الحالي ما لم تتغير قواعد اللعبة السياسية في ليبيا.

ثانيا: تمتاز هذه القوى بمرونة سياسية استثنائية رغم أنها عقائدية إسلامية، بل إن بعضها تحول إلى العمل السياسي المطلق وعقد تحالفات مع كل الأطياف السياسية، ليعزز من حضوره في اللعبة السياسية الداخلية، وليبقى جزءا من القوى التي يجب أن تراعيها القوى الإقليمية والدولية، ولا يكون الإقصاء والإبعاد في آخر المطاف هو مآله. ولتعزيز قوتها السياسية كانت جماعة الإخوان المسلمين قد فصلت العمل السياسي عن الدعوي، الأمر الذي سيساعدها على عقد تحالفات بمرونة عالية.

سيناريو إقصاء قوى الثورة: أي إقصاء وإبعاد جميع هذه التيارات بالقوة، وذلك بالاستعانة ببعض التيارات الصامتة سياسيًّا، مثل التيار السلفي، قياسا على ما كان في شرق البلاد، ليكون نموذجا معمما على كافة البلاد، وقياسا -أيضا- على ما كان في الدول المجاورة. لكن هذا السيناريو غير واقعي إلى الآن، لعدّة عوامل أبرزها: توازن القوة والسلاح بين أطراف الأزمة الليبية ومنها قوى “الثورة”، وبالتالي فإن هذه التيارات التي يمكن الاستفادة منها في هذا السيناريو ستبقى على ما هي عليه ولن يكون لها أثر جلي وواضح في العمل السياسي على الأقل في الأمد القريب.

خاتمة

لعل الدور الذي تؤديه التيارات الإسلامية في الوقت الراهن، والمآلات المستقبلية لها، متعددة بتعدد وجودها وتحولاتها. فجماعة الإخوان المسلمين، ستكون من التيارات الإسلامية الفاعلة في المشهد السياسي الداخلي، وإن اعترتها بعض التغيرات والتحولات. وسينهج “حزب العدالة والبناء” نهج العمل السياسي الهادئ، بعيدا عن الخصومات السياسية قدر الإمكان، في حين سيركز “الحزب الديمقراطي” على عقد تحالفات سياسية جديدة لن تقتصر على التيار الإسلامي، بل ربما ستتعداه إلى تيارات وأحزاب أخرى.

ومن المؤكد أن التيار السلفي في الشرق سيستمر في دعم عملية “الكرامة” ونهجها السياسي، أما في الغرب الليبي فسيسير على نهجه الحالي قدر الإمكان، في مهادنة أي حكومة تحكم البلاد وتعزيز نفوذه في مؤسساتها. إضافة إلى استمرار حالة التنافر بينه وبين التيارات الإسلامية الأخرى داخل البلاد سواء تيار الإخوان المسلمين أو بعض الشخصيات الإسلامية المستقلة، بل قد يتجاوز هذا الخلاف الأفق السياسي إلى المذهبي، كالاختلاف مع أتباع المذهب الإباضي في البلاد، لما يمثله هذا التيار من مشروع مغاير له.

وبالنسبة للأحزاب التي تقف في صف الثورة بتياراتها المختلفة فغالبا ما تصطف في اتجاه واحد في كل تغيير يحدث في البلاد، بالرغم من التناقضات والمنعطفات التي تكون بينها، وإن أدى ذلك في مرحلة متقدمة إلى تحويل نفوذ أغلب هذه التيارات لخدمة الفاعلين الجدد المصاحبين للحكومات الانتقالية(43).

أما الشخصيات المستقلة، فهي مرشحة لأداء أدوار أكبر وأكثر فاعلية في أي مشهد سياسي جديد قادم، لسهولة الاتفاق عليها في ظل استحكام الخلاف بين الأطر الحزبية.

وبالتالي فإن هذه التيارات الثلاثة “الإخوان المسلمين، السلفية، المستقلين” هي التي ستشكل أي ديناميات مستقبلية في خريطة عمل الإسلاميين في البلاد، التي ستنعكس على الحالة السياسية فيها مستقبلا.

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/6015

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M