مقدمة
تشكّل النظام العراقي الجديد، بعد سقوط بغداد عام 2003 بتحالف أميركي دولي أزاح حكم الرئيس صدام حسين، فكان هذا النظام في سياق تطور حالتين “إسلاميتين”، التطور الأول يتصل بالحركات والجماعات “الشيعية” المرتبطة بإيران بنيويا أو أقل من ذلك، والثاني بالحركات والجماعات “السنية” التي غلب عليها الطابع الإسلامي، ما بين معتدل ومتشدد. وهذه القوى وإن انتهى بعضها أو شهد تحولات عميقة فيه، فإن الاتجاه المنسوب إلى “الإسلاميين” بالجملة لا يزال حاضرا في المشهد السياسي العراقي، ولا يزال يؤدي دورا أساسيا في إدارة النظام أو التأثير فيه.
تميّزت الحركات الإسلامية “الشيعية” بغلبة التوجه الطائفي على برنامجها، كما غلب على بعضها سلوك “مليشياتي” في مناسبات عدة؛ مما يدفع إلى إعادة تعريفها ودراستها في هذا السياق الآخذ في الترسخ.
كما أن هناك تيارات “سنية” جهادية مؤدلجة عقائديًّا وطائفيًّا، وكان لها تأثيرها في السياق المحلي والإقليمي فضلا عن الدولي، ومن أكثرها تشددا “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، الذي سقطت دولته وانحسر “تنظيمه”، إلا أن الأوضاع السياسية والأمنية لم تستقر بعده حتى الآن.
ورغم ظهور العديد من الأحزاب التي غلب عليها الطابع السياسي فإنها كانت إسلامية في الغالب، وهو ما يؤكد أن المكون المنسوب للإسلاميين أساسي في العراق وفي إدارته السياسية.
من هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى بحث واقع التيارات الإسلامية والسياسية في العراق، ودورها في رسم حاضر ومستقبل الواقع العراقي، استنادًا إلى رؤاها الفكرية والسياسية، وأهدافها المعلنة وممارساتها على الأرض وفي الأروقة السياسية. وتأمل أن تعيد تعريف هذه القوى في دورها الجديد، وأن تلقي الضوء على تأثيرها في مستقبل العراق.
المشهد السياسي العراقي وموقع الإسلاميين الراهن منه:
يشهد العراق استقرارًا أمنيًّا هشًّا مع تغيرات نسبية في الأوضاع السياسية والاقتصادية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، وتحديدًا مذ تسنُّم محمد شياع السوداني (عام 2022) رئاسة مجلس الوزراء فيه. وبشكل عام، فإن المشهد السياسي العراقي يقوم على علاقات معقدة ومتشابكة بسبب غلبة الانتماء العرقي والطائفي على الانتماء الوطني، في الطوائف والأعراق والفصائل المختلفة، مع تأثيرات كبيرة للدول الإقليمية كالولايات المتحدة وإيران ودول الخليج العربي وتركيا. ويشكل الإسلاميون الجزء الأكبر والأكثر تأثيرًا في هذا المشهد.
وعلى العموم فإن المشهد السياسي العراقي الحالي، يقوم على موازنات عرقية ومذهبية، بين الشيعة والسنة والأكراد، وهذه القسمة الثلاثية تعتبر عربات القاطرة الأساس للنظام السياسي العراقي الراهن.
الأحزاب الشيعية تعد من أبرز الفاعلين، وهي تهيمن على مجلس النواب والحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2005. وهذه الأحزاب هي إسلامية بالدرجة الأولى، مثل حزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي، والتيار الصدري، وعصائب أهل الحق، وهي تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة وتحظى بدعم كبير من إيران. وتتبلور باتجاهات عسكرية مثلّها الحشد الشعبي الذي برز في منتصف عام 2014، استجابة لفتوى “المرجع الشيعي” علي السيستاني لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بعد سيطرته على 4 محافظات في شمال وشمال غرب البلاد، واقترابه من حدود العاصمة بغداد آنذاك. الجدير بالذكر أن الحشد يضم الآن العديد من الفصائل المسلحة، يصنف بعضها على أنه “ولائي” إشارةً إلى ارتباطه عقائديًّا بالولي الفقيه في إيران، والآخر (وهو قليل) ذو ولاءات وتقليد مرجعي طائفي محلي.
أما الأحزاب الإسلامية السنيّة فهي وإن كانت تؤدي دورًا مهمًّا في المناطق ذات الأغلبية السنيّة، فإنها على المستوى الوطني ضعيفة الحضور وقليلة التأثير في النظام السياسي القائم، خاصة بعد تراجع وانحسار الحزب الإسلامي العراقي. هذه الأحزاب يتأثر دورها ضمورا أو انتعاشا بالتوازنات الطائفية والسياسية في البلاد، وقد أصبح جلّ اهتمامها وتركيزها السعي للحصول على مزيد من التمثيل والحقوق سواء في مجلس النواب أو الوزارات العراقية، ويبرز حاليًّا حزب “تقدم” برئاسة محمد الحلبوسي، وحزب “سيادة” برئاسة خميس الخنجر، إضافة إلى أحزاب ترتبط بشكل مباشر بمطالب محافظات ذات أغلبية سنيّة مثل حزب “الأنبار هويتنا” و”ديالتنا”.
أما الأكراد فيتمتعون بحكم ذاتي في إقليم كردستان ولديهم قوى سياسية مهمة كالحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، وحزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني. ورغم قدرة القوى الكردية على التأثير الكبير في مقدرات العملية السياسية في العراق، فإنها ما زالت تكرّس جل أهدافها من أجل الحصول على ما يختص بشؤون الإقليم حصرًا، وتعطي أصواتها داخل مجلس النواب العراقي لمن يعدها بتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية أكبر. وتتسم العلاقة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان بالتوتر في أغلب الأحيان، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الموارد وعمليات تصدير نفط الإقليم وإدارة المنافذ البرية والجوية فضلا عن قضايا سياسية أخرى وأهمها تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بالمناطق المتنازع عليها.
هناك قوى أخرى ظهرت في المشهد العراقي كقوى عابرة للمشهد الطائفي والعرقي، وهي القوى التي قادت وشاركت في الاحتجاجات الشعبية عام 2019 المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد والطائفية وتحسين الخدمات. هذه الاحتجاجات هزت النظام السياسي في العراق وتسببت في استقالة حكومة عادل عبد المهدي وتعديلات في السياسات ووعود بتحقيق الإصلاح، بعض هذه القوى أصبح لاحقًا جزءًا من مساعي القوى السياسية الأخرى -ومنها الحركات السياسية الإسلامية- للدخول في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات المحلية والتشريعية.
الفاعلون الإسلاميون الأساسيون وتحولاتهم:
يمكن تصنيف التيارات الأساسية الفاعلة في المشهد العراقي من خلال حضورها المؤثر والفاعل في هذا المشهد، إلى تيارات جهادية، وفصائل شيعية مسلحة، وأخرى سياسية.
أولًا – التيارات “الجهادية”: من أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهو تنظيم عقائدي مسلح لا يلقي اهتماما لأي نشاط سياسي يؤهله ليكون حاضرًا في المشهد السياسي العراقي. يخضع تحركه الأمني والعسكري لمتابعة دقيقة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. وبحسب التقارير الأميركية المُبلغة للحكومة العراقية الحالية، فإنه بسبب غياب الردع النشط والمستمر قد تتطلع قوات “داعش” إلى الاستفادة من تدهور الوضع الأمني والحكم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرتها سابقًا(1)؛ لهذا تحرص واشنطن خلال مفاوضاتها مع الحكومة العراقية حول موضوع انسحاب قواتها من العراق على “ضمان عدم عودة التنظيم مرة أخرى”، وتعتبر واشنطن أن من الخطأ الاعتقاد بأن التحدي الوحيد أمام “داعش” هو التحدي العسكري فقط، مذكرةً بالآلية التي نشأ بها التنظيم في المقام الأول، وهي العامل الاجتماعي المتمثل بالمظالم الناتجة عن التوترات بين المكونات الرئيسية في المجتمع العراقي. كما تؤكد تقارير الاستخبارات الأميركية أن التنظيم ما زال “متغلغلًا في المناطق الريفية الصحراوية التي تشكل حاضنة وجوده الرئيسة”(2).
ويوجد هذا التنظيم في مناطق وتضاريس معقدة في العراق وسوريا، ويتراوح عدد مقاتليه وفق تقديرات وردت في تقرير لمجلس الأمن الدولي في فبراير/شباط 2023، بين 400 و500 مقاتل يتحركون ضمن مناطق بين العراق وسوريا(3)، ومن الصعوبة بمكان التنبؤ بشكل دقيق بما يمكن أن يكون عليه هذا التنظيم، وبمعاودته نشاطه في العراق بشكل واسع، حيث يرتبط ذلك بعدة عوامل عراقية وإقليمية ودولية، ويمكن إيجاز هذه العوامل بالآتي:
الوضع الأمني: يعتبر التحسن في الأمن والقدرة الأمنية على ملاحقة عناصر “داعش” من أهم العوامل التي تؤثر في تحجيم قدرته على إعادة تنظيم نفسه ونشاطه في العراق. واستطاعت القوات العراقية، بمنظوماتها العسكرية والاستخبارية، وبتحسن قدرتها على مراقبة الحدود خصوصا مع سوريا، أن تُبقي نشاط التنظيم في أضيق إطار ممكن(4)، ومع ذلك فإن أية تغييرات قد تمس بوجود أو بقاء قوات التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في سوريا والعراق، قد تخلّف تداعيات كبيرة على الجهود المبذولة لمكافحة عودة ونمو التنظيم في العراق ودول الإقليم المجاور في المستقبل المتوسط، فبرغم ما يعانيه التنظيم من استنزاف في القيادة وضعف في التمويل، فإنه ما زال قادرا على شن هجمات والتخطيط لتهديد مناطق متفرقة في العراق.
الظروف السياسية: إن استقرار الوضع السياسي في العراق، يغلق المجال الأمني أمام “التنظيم” وأي تدهور في الأوضاع السياسية قد يؤدي إلى زيادة في التوترات وإتاحة الفرصة أمام التنظيم وسواه من المليشيات للاستفادة من الفراغ الأمني. وقد ساعد “الاستهداف الطائفي” للسنّة في تعزيز وجود تنظيمي الدولة والقاعدة سابقا، ثم ساهم الاستقرار النسبي في الأوضاع السياسية داخل العراق خلال السنتين المنصرمتين، خاصة مع إعادة إعمار مساحات كبيرة من الموصل وصلاح الدين والأنبار، في إقناع القاعدة الشعبية برفض أي خطاب عقائدي أو أمني بشعارات وأيديولوجية طائفية في بيئتها. وأصبحت ترفض أي حضور لهذه التنظيمات في مناطقها، ويمكن أن نشهد في المستقبل المنظور تماسكًا اجتماعيًّا وسياسيًّا أكبر ضدها، لكن يبقى هذا الأمر مرهونا بحجم ومستوى التوافقات السياسية داخل العملية السياسية في العراق، وداخل قيادات “البيت السنيّ” أيضا.
التأثيرات الإقليمية والجهود الدولية: تعتبر هشاشة العملية السياسية، والتدخلات الإقليمية في العراق، أحد أهم أسباب بقاء المخاوف من استعادة تنظيم “داعش” لنشاطه في هذا البلد، وذلك بسبب التوترات “الـطائفية” التي تسببها المليشيات الساعية لإحداث تغييرات ديمغرافية في مناطق عديدة من المحافظات ذات “الأغلبية السنيّة”، في ظل غياب أو ضعف أجهزة الدولة العراقية الأمنية هناك.
بالمجمل تراجعت فرص وقدرة تنظيم “داعش” على تجنيد أعضاء جدد وعلى توفير قواعد وحاضنات شعبية له، في ظل استمرار التوازنات الإقليمية والجهود الدولية التي تكبح نشاط التنظيم وتحاربه، وفي ظل استمرار الاستقرار السياسي النسبي بالعراق. وكذلك نتيجة لتمثيل قوى وتيارات للمحافظات السنيّة بشكل متناغم مع القوى الشيعية الحاكمة، وانتعاش الاقتصاد في المحافظات السنيّة الرئيسة، ويضاف إلى ذلك تحسن الأداء العسكري للجهات الأمنية العراقية في ملاحقة مجموعات تنظيم “داعش” في غرب العراق. رغم الدعوات من بعض القوى السياسية العراقية الموالية لإيران إلى إخراج القوات الأجنبية وعلى رأسها القوات الأميركية من العراق، فإن العمليات العسكرية لهذه القوات لا تزال تمثل “المفتاح الرئيس لهزيمة التنظيم” وفق تأكيد قائد عملية “العزم الصلب” (أغسطس/آب 2022)، الجنرال ماثيو ماكفارلين(5).
إن الحكومة العراقية تدرك الحاجة إلى الدعم الدولي وخاصةً في مجالات تقديم المعلومات الاستخبارية، وتوجيه ضربات جوية دقيقة إلى مقار وأهداف تنظيم “داعش”، والتدريب، إلا أن مجموعة من المليشيات المسلحة المدعومة من إيران، عادت عام 2023 لتطالب بخروج القوات الدولية وعلى رأسها القوات الأميركية من العراق، وتزامنت تلك المطالبة بعمليات عسكرية استخدمت فيها الطائرات المسيّرة وصواريخ الكاتيوشا وصواريخ كروز استهدفت فيها قواعد أميركية.
رغم أن “تنظيم الدولة” والجماعات المنتسبة إليه ظلوا يواجهون استنزافا في القيادة، تمثلت بعمليات استهداف جوية مباشرة من قِبل قوات التحالف الدولية لمناطق وجودهم، وتراجع قدراتهم المالية بعد فقدانهم لمصادر تموينهم، فإن التنظيم احتفظ ببعض الإمكانات على شن هجمات محدودة والتخطيط لأخرى في العراق، بما ينذر باحتمال عودة التنظيم إلى تكثيف هجماته(6). هذه المخاوف تأخذها “دول التحالف” بقيادة الولايات المتحدة على محمل الجد لتؤكد ضرورة استمرار وجودها إلى جانب القوات العراقية لرصد ومتابعة أنشطة التنظيم والحد من نموه وتهميش مناطق عملياته إلى أضيق حدود، وهو ما يتناقض وتحقيق مطالب القوى السياسية العراقية الموالية لإيران، الخاصة بإلغاء الاتفاقية وإنهاء الوجود الأميركي ودوره في الحرب على تنظيم الدولة (داعش)، وعدم منحه أي فرصة للوجود في الأراضي العراقية تحت أي مسمى(7).
ثانيا – الفصائل الإسلامية “الشيعية” المسلحة:
تعتبر ظاهرة الفصائل الإسلامية “الشيعية” المسلحة في العراق إحدى أهم ظواهر عدم الاستقرار السياسي والأمني في هذا البلد، وتشير المعلومات المستقاة من الموقع الرسمي لـــ”هيئة الحشد الشعبي” في العراق(8) إلى وجود 67 فصيلًا “شيعيًّا” مسلحًا مسجلًا فيها. منها فصائل تنضوي تحت راية هذه الهيئة لكنها تتمتع بوضع خاص من حيث التسليح والقيادة والسيطرة، وتعمل بشكل منفصل ليس عن الهيئة فقط، بل وعن قرارات الحكومة العراقية والقيادة العامة للقوات المسلحة، وتعتبر “ولاية الفقيه” في إيران مرجعها السياسي والعسكري، وقد أصبحت عمليا “أذرعًا تنفيذية” لإيران في العراق.
تمثل هذه الفصائل جزءا من “محور المقاومة الإسلامية” ضد إسرائيل، وتتبنى موقفا معاديا لأميركا وحلفائها، وفي المقابل تدرج أميركا معظم الفصائل الموالية لإيران على قائمة “المنظمات الإرهابية”. من هذه الفصائل: منظمة بدر، عصائب أهل الحق، سرايا السلام، حزب الله العراقي، سرايا الجهاد والبناء، سرايا الخرساني، كتائب التيار الرسالي وغيرها. يرى الباحث مايكل نايتس(9) أن العراق اليوم يعتبر مثالًا على حكم الفصائل الشيعية المسلحة مبررًا ذلك بقوله “الفصائل المسلحة التي تشكل جوهر الكتلة الحاكمة في البلاد، أي “الإطار التنسيقي”، مؤلفة من أعضاء يزعمون انتماءهم لجبهة جهادية عابرة للحدود الوطنية تُعرف باسم “محور المقاومة”. ويتمثل هدفهم في حماية الثورة الإسلامية -التي بدأت في إيران عام 1979- وحماية جميع الامتدادات الحالية للنفوذ الإيراني في المنطقة”.
أما أبرز هذه الفصائل في العراق وفق دورها ونشاطها الحالي فهي:
كتائب حزب الله في العراق: تنظيم يضم فصائل بنيت عقيدتها على أساس طائفي، مثل لواء “أبو الفضل العباس”، كتائب كربلاء وزيد بن علي وعلي الأكبر والسجّاد. يتشابه أسلوب عمل كتائب حزب الله في العراق مع أسلوب حزب الله اللبناني، وهي تسعى إلى إفشال “المشروع الأميركي الإسرائيلي في الشرق الأوسط”، ولها ذراع سياسي يدعى “حركة حقوق”، يقوده عضو مجلس النواب حسين مؤنس. تحظى الكتائب بدعم فيلق القدس الإيراني وحزب الله اللبناني(10)، خاصة مؤخرا لدورها النشط إبان الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، وكان الناطق باسم الكتائب قد أعلن في يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن “الأميركيين شركاء أساسيون في قتل أبناء غزة وبالتالي عليهم تحمل العواقب”، وبذلك بدأت عمليًّا “المقاومة في العراق” بدخول معركة طوفان الأقصى وتوجيه ضرباتها إلى القواعد الأميركية”. كما أعلنت كتائب حزب الله العراقية بلسان المسؤول الأمني فيها، أبو علي العسكري، أنها جهزت أسلحة وقاذفات ضد الدروع وصواريخ تكتيكية لـ”مقاتلين في الأردن”، تحت اسم “المقاومة الإسلامية في الأردن”، وأن “المقاومة الإسلامية في العراق أعدت عدتها لتجهيز المقاومة الإسلامية في الأردن بما يسد حاجة 12 ألف مقاتل من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقاذفات ضد الدروع والصواريخ التكتيكية وملايين الذخائر وأطنان من المتفجرات، لنكون يدًا واحدة للدفاع عن إخوتنا الفلسطينيين”((11. هذا الدور وما سبقه من استهداف لمصالح وقواعد أميركية في العراق وسوريا جعل الكتائب أحد التيارات المؤثرة في مستقبل العراق السياسي والأمني والطائفي، ولاعبًا تحسب له حسابات أمنية وعسكرية مستقبلية سواء من طرف الحكومات العراقية وقواتها الأمنية أم من الولايات المتحدة وإيران.
عصائب أهل الحق: خرجت حركة عصائب أهل الحق، من رحِم التيار الصدري، فمؤسسها وقادتها كانوا كوادر في هذا التيار لكنهم انشقوا عنه وأسسوا منظمة خاصة بهم عام 2006. كان هدف العصائب المعلن “مقاومة الاحتلال الأميركي”، وأعلنوا بالفعل مسؤوليتهم عن هجمات عديدة على القوات الأميركية قبل إعلان انسحاب الولايات المتحدة من العراق في ديسمبر/كانون الأول عام 2011. تُصنف الحركة منذ تأسيسها على أنها إحدى القوى التي تتلقى الدعم والتدريب من قِبل فيلق القدس الإيراني. نجحت العصائب في تشكيل مسار سياسي لها حيث حصلت عام 2014 على مقعد واحد داخل مجلس النواب العراقي بمسمى كتلة “صادقون” ثم ازداد عدد مقاعدها إلى 15 مقعدا في انتخابات 2018؛ مما أهلها لدور سياسي داخل مجلس النواب العراقي، تحولت من خلاله إلى قوة سياسية وأمنية مؤثرة وجزء مهم في الإطار التنسيقي الحاكم في العراق خلال السنوات المقبلة، وهناك ترجيحات بحصول ائتلاف العصائب بقيادة قيس الخزعلي مع فيلق بدر بقيادة هادي العامري على 24 مقعدًا في مجلس النواب المقبل عام 2025(12).
سرايا السلام: رغم كون المليشيا الصدرية المسماة “سرايا السلام” تمثل الجناح العسكري للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، ورغم انتظامها في الحشد الشعبي بثلاثة ألوية (313 – 314 – 315)، بما يمثل ثقلًا عدديًّا وتعبويًّا كبيرًا في معادلة القوى، فإنها مهمشة سياسيًّا بسبب عدم استقرار القرارات التي تصدر عن زعيم التيار، إذ يعمد إلى تفعيلها تارة وتقليص دورها تارة أخرى، من ذلك أنه دعا في عام 2022، كتلته وهي الكبرى في مجلس النواب العراقي (73 نائبا) إلى الاستقالة بعد 8 أشهر من إجراء الانتخابات(13)؛ مما جعل قوته السياسية مهمشة سياسيًّا في الوقت الحاضر.
حركة النجباء: ربما تكون “حركة حزب الله النجباء” المليشيا الأكثر “عداء” من بين المليشيات المناهضة للولايات المتحدة والمدعومة من إيران في العراق. يعتبر زعيمها أكرم الكعبي نفسه “وجه المقاومة” المسلحة للوجود الأميركي هناك، ويحظى بعناية خاصة من إيران، ولا سيما أنه كان على صلة خاصة بقائد فيلق القدس، قاسم سليماني. وعلى عكس الجماعات الأخرى التي صنفتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب في العراق، مثل “كتائب حزب الل” و”عصائب أهل الحق” و”كتائب سيد الشهداء، لم تُشكل حركة الكعبي حزبًا سياسيًّا. وتشير التقديرات إلى أن “حركة حزب الله النجباء” مسؤولة عن معظم الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا شمال الفرات، فضلًا عن الهجمات على المواقع الأميركية في إقليم كردستان العراق. ومنذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024 نفذت الحركة موجة من الضربات ردًّا على العملية البرية الإسرائيلية في غزة، بما لا يقل عن 95 من إجمالي 136 هجومًا على القوات الأميركية(14).
كتائب سيد الشهداء: وهي منظمة ملقبة بعدة أسماء منها “لواء أبو الفضل العباس” و”كتائب كربلاء”، وقد انبثقت عن “كتائب حزب الله” العراقية، وتعمل بشكل مباشر مع الحرس الثوري الإيراني، وتركز بطريقة عابرة للحدود الوطنية على الأجندة الإقليمية المشتركة لـ”محور المقاومة” الإيراني، وقد وُسمت بالإرهاب من قبل الولايات المتحدة. تركز المنظمة على العمليات العسكرية العابرة للحدود. وزعيمها أبو آلاء الولائي (المعروف أيضًا باسم هاشم بنيان السراجي). تنضوي المنظمة تحت قيادة هيئة الحشد الشعبي العراقي من خلال اللواء 14، وتموّلها الدولة. الجدير بالذكر أن سلسلة قيادة هيئة الحشد الشعبي تتبع رسميا لـمكتب رئيس الوزراء العراقي القائد العام للقوات المسلحة، لكن كتائب الشهداء، كما هو حال العديد من فصائل هذه الهيئة، لا تلتزم بتوجيهات رئيس الوزراء في كثير من عملياتها(15). تسعى كتائب الشهداء لتطوير حضورها السياسي عبر مجالس المحافظات العراقية ومجلس النواب العراقي، وتهتم قياداتها بالإعلام ولديها قناة تلفزيونية هي “آي نيوز الفضائية”.
أما الفصائل الإسلامية الشيعية المسلحة الأخرى فأغلبها فصائل ليست قائمة بذاتها، بل تمثل هوامش متعددة للفصائل الكبرى، مثل حزب الله العراقي والنجباء وغيرها. حظيت هذه الفصائل بالتمويل والتدريب من قبل السلطات العراقية، وفي الوقت نفسه، تمتعت باستقلالية وخصوصية، فكل منها يمتلك هيكلا تنظيميا وقيادة منفصلة، وأبقت على صلة وثيقة بإيران(16).
ثالثا – التيارات والأحزاب الإسلامية السياسية:
الأحزاب الإسلامية الشيعية في أغلبها، تتماهى مع الحضور الإيراني في العراق بصيغته السياسية والأمنية والاقتصادية، كما أن لأغلبها حضورًا عسكريًّا مسلحًا. وهناك قوى وأحزاب إسلامية وسياسية بعضها شيعي والآخر سنيّ ليس لديها حضور فاعل عسكريًّا لكنها موجودة في العملية السياسية وبنسب تأثير متفاوتة، وسيتم التركيز هنا على أبرز هذه التيارات كالآتي:
1- التيار الصدري: يقوده مقتدى الصدر، ابن المرجع محمد صادق الصدر، ويحظى بشعبية كبيرة إذ بلغت كتلته البرلمانية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2021، 73 نائبا، إلا أنها في يونيو/حزيران 2022 استقالت من البرلمان بطلب منه. برز التيار قوة سياسية وعسكرية مؤثرة عام 2003 بعد احتلال العراق مباشرةً، عبر “جيش المهدي”، قبل أن يُجمّد أنشطته عام 2008. أصبح لتياره نواب في مجلس النواب ووزراء في الحكومة العراقية منذ عام 2005. يتمتع التيار الصدري بدعم شعبي واسع، خاصةً بين شرائح الشباب والفقراء، وذلك بسبب مواقفه في مناهضة الفساد وسوء إدارة الدولة، ودعوته إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي.
اتخذ مقتدى الصدر عام 2024 قرارا بتغيير اسم التيار من “التيار الصدري” إلى التيار “الوطني الشيعي”، لتجاوز التحديات وعلى أمل أن يساعد ذلك في العودة إلى المشهد السياسي بشكل أقوى متكئًا على الطائفة الشيعية في العراق. لكن هذه الخطوة قد تساهم في تقليص عدد ناخبيه، خاصة من خارج الطائفة الشيعية، لكون الكثير منهم كانوا يرون فيه زعامة وطنية بعيدة عن الطائفية إلى حد ما. لذلك تشير بعض التوقعات، إلى أن التيار الصدري لن يحصل في انتخابات 2025 على أكثر من 60 مقعدًا، في أفضل الأحوال(17).
يواجه التيار عدة تحديات منها: الانقسامات الداخلية، توتر علاقاته مع القوى السياسية الأخرى ولا سيما الموالية لإيران منها، وعدم استقرار قرارات زعيم هذا التيار وكثرة تغيرها؛ مثل قراره سحب نوابه من مجلس النواب، وإعلان اعتزاله النهائي للحياة السياسية في 29 أغسطس/آب 2022 في الوقت الذي كانت كتلته فائزة بأعلى الأصوات النيابية. لهذه الأسباب ليس من المستبعد أن يشهد التيار انقسامات داخلية، وتراجعا في شعبيته، ولا سيما أن التيار يرتكز بكل هيكليته على شخص واحد، زعيم ورمز ديني في آن واحد، هو مقتدى الصدر، وفي حالة غياب أو تغييب هذا الزعيم من قِبل خصومه، فإن كل مستقبل الحركة سيكون في مهب الريح.
2 – الحزب الإسلامي: انخرط “الحزب الإسلامي العراقي” -الذي يعتبر الواجهة السياسية لجماعة “الإخوان المسلمون” في العراق- في العملية السياسية منذ بداياتها الأولى عام 2003، طارحًا نفسه ممثلًا للعرب السُنّة، إلا أن هذا لم يمنع أن توجه اتهامات إلى الحزب من قوى سنية، بأنه إحدى أدوات المحتل الأميركي يومها لإقناع طائفتهم بقبول الأوضاع التي فرضها الاحتلال. وبحسب رئيس مركز قرطبة لحوار الحضارات فإن الحزب الإسلامي فشل في الوفاء بوعوده بحماية المجتمع السنّي وتوفير الخدمات وتحسين نظام الحكم(18).
الأمين العام الحالي للحزب الإسلامي هو رشيد العزاوي، وقد صل إلى مجلس النواب العراقي عن محافظة بابل مرشحًا عن قائمة “النصر” التي يتزعمها حيدر العبادي، وله تقارب لافت مع قيادات شيعية، منها زعيم مليشيا “بدر” النائب هادي العامري، وفالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي. وقد قضى العزاوي سنوات طويلة في إيران بعد هروبه من الأسر إبان حربها مع العراق في الثمانينيات19)).
تراجعت شعبية “الحزب الإسلامي العراقي” منذ الانتخابات البرلمانية عام 2010 إلى عام 2021، وقد شارك عدد من أعضائه، مرشحين مستقلين في قوائم ائتلاف الأحزاب السياسية الأخرى؛ ففي عام 2021 كان البعض ضمن “تحالف العقد الوطني” الذي ضم “حركة عطاء” بزعامة فالح الفياض، وحزب “الثبات”، و”رجال العراق”، و”وارثون”، و”تيار الإصلاح الوطني”، ولكن مُنِيَ الحزب الإسلامي بهزيمة ساحقة، وعزا ذلك إلى جهود مشتركة قامت بها أطراف مختلفة في الداخل والخارج لإسقاط مرشحيه، وقال إن تلك الأطراف لا تريد لمشروعه الوطني والإسلامي أن يكون له حضور في الساحة العراقية(20).
وبرغم هذا التراجع الشعبي الكبير للحزب فإنه ما زال يسعى إلى أداء دور في الحياة السياسية من خلال شغل بعض المناصب الحيوية، وأهمها منصب ديوان الوقف السني، حيث تولى رئاسته عام 2022 القيادي السابق في الحزب، مشعان الخزرجي. وفيما عدا ذلك فإن الخيارات المتاحة للحزب الإسلامي هي أن ينضوي ضمن حلف كبير وقوي، أو أن يهيئ نفسه للانسحاب تمامًا من العمل السياسي ليغير من هيكليته وبنيته وصيغ عمله، ويبني من جديد قاعدة شعبية تتناغم ومتغيرات الحاضر والمستقبل.
3- حزب الدعوة: أمينه العام، نوري المالكي، وعدد نوابه في انتخابات 2021 التشريعية 38 نائبًا. تحوّل حزب الدعوة العراقي الذي تأسّس عام 1957 على يد محمد باقر الصدر واستلهم أفكاره عن “ولاية الأمّة”، من حركة سرّية تعتنق الثورة الإسلامية، إلى لاعب أساسي في حكومة عراقية “تعددية”. وقد شهد الحزب تحوّلات أيديولوجية كبيرة بسبب التحديات التي واجهته من التأسيس حتى اليوم، سواء داخل العراق أم خارجه في فترات اللجوء بعيدًا عن متابعة قوى الأمن العراقية؛ وقد فرّ معظم قياديّي الحزب إلى إيران، وتعرّضوا فيها بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 إلى ضغوط شديدة، كي يتبنّوا الأسلوب الإيراني في الحكم الإسلامي؛ أي “ولاية الفقيه”، فغادر عدد كبير من أعضاء الحزب إلى المنافي (سوريا، المملكة المتّحدة، أوروبا والولايات المتّحدة)، بينما بقي آخرون في إيران واعتنقوا ولاية الفقيه(21).
بعد احتلال العراق عام 2003، تغيرت رؤية الحزب، وأصبح من أهم أهدافه أن يكون جزءًا من المنظومة الإسلامية الشيعية في الحكم القائم، واستطاع بدعم من إيران أن يحكم دورات عدة، ولا يزال يحظى بنفوذ رئيسي في الدولة وأجهزتها.
إن مشكلة حزب الدعوة الإسلامية هي فقدانه القدرة على التوفيق بين أجندته الإسلامية وبين النظام “الديمقراطي” الجديد الذي أصبح العراق محكومًا به، وتلاشت الرؤية الفكرية للحزب في الخطاب السياسي للحزب بعد 2003؛ بما اعتبره بعض قادته وقواعده تخلّيًا عن نظامه الداخلي، ورغم حصول أمينه العام، نوري المالكي، على دورتين رئاسيتين (2014-2006) ، ثم حيدر العبادي (2018-2014) ومن قبلهما إبراهيم الجعفري (2005)، فإنه وبدل أن يضاعف من حشود أتباعه تراجع أكثر أمام التيار الصدري، كما أنه لم يوظف موارده المالية وينميها كما فعل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية(22).
4 – المجلس الأعلى الإسلامي العراقي: حزب سياسي “شيعي” تأسس عام 1982، رئيسه الحالي همام حمودي. تأسس في إيران وبإشرافها على يد محمد باقر الحكيم خلال الحرب العراقية الإيرانية، وكان له ذراع عسكري أطلق عليه “فيلق بدر” الذي شارك في تلك الحرب إلى جانب إيران ثم انفصل عنه عام 2012 لأغراض انتخابية.
عمل المجلس خلال العقدين الماضيين كرقم سياسي أساسي ضمن التوليفة الشيعية، لكنه تراجع من حيث حضوره النيابي، إذ بلغ عدد نوابه الحالي ضمن تحالف قوى الدولة الوطنية 11 نائبًا، ويتركز وجوده في النجف، الديوانية، الناصرية، السماوة، بابل، الكوت وبغداد.
والجدير بالذكر أن عمار الحكيم، الذي كان يرأس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، أعلن انسحابه منه عام 2017 وأسس ” تيار الحكمة”. أراد الحكيم من خلال التيار الجديد اتباع نهجٍ أكثر وسطية، وأصبح أكثر ترديدا لشعارات سياسية جديدة، من قبيل “الشراكة الوطنية” و”الدولة العصريّة العادلة”، وذلك بدلا من شعارات “المجلس الأعلى” الخاصة بالولاية الفقهية و”تقديم المشاورة الصالحة للحاكم الإسلامي“ وما إلى ذلك.
تراجع نفوذ المجلس مؤخرا، مع تحولات المزاج الشعبي العراقي في المناطق التي شكلت تاريخيا قاعدة له، خصوصًا بين الشباب الذين يتوجهون تدريجيًّا إلى التيارات والقوى الجديدة التي أنشئت بعد احتجاجات تشرين 2019. وتعتبر علاقة المجلس مع إيران من العوامل المؤثرة في مستقبل الحزب بسبب الحساسية الكبيرة التي يتعامل معها الشباب العراقي على وجه الخصوص بموضوع النفوذ الإيراني في العراق(23).
5- حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني: حزب سياسي تأسس عام 1994، يمثل النسخة الكردية من تنظيم الإخوان المسلمين. يدعو الاتحاد إلى نشر القيم والمبادئ الإسلامية في المجتمع الكردي، وهو ذو حضور قوي بشكل خاص في محافظة دهوك، يقوده صلاح الدين بهاء الدين. حصل الحزب في انتخابات عام 2021 لمجلس النواب العراقي، على أربعة مقاعد في بغداد وخمسة مقاعد في مجلس النواب الكردستاني. يشارك بشكل فعّال في العملية السياسية في إقليم كردستان، وهو ذو دور فعّال في الوساطة وحل النزاعات داخل القوى والأطراف السياسية بالإقليم ومع الحكومة العراقية في بغداد بسبب تحالفاته مع الأحزاب الكردية الكبرى كالديمقراطي والاتحاد الكردستانيين. يؤمن “الاتحاد” بقيام حكومة تعددية عادلة تضمن حقوق الأقليات وتحترم الحريات السياسية في العراق(24).
6- حزب الفضيلة الإسلامي: حزب سياسي إسلامي شيعي، مرجعه الديني محمد اليعقوبي، ويقوده حاليًّا عبد الحسين الموسوي، يتركز وجوده في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية وأبرزها البصرة ثم محافظات ذي قار، والنجف، وميسان. يركز الحزب على تعزيز القيم الإسلامية والمبادئ الشيعية في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، وحصل في انتخابات 2021 على مقعد واحد تحت اسم “تحالف النهج الوطني”(25). يعمل الحزب على زيادة الوعي الديني والسياسي عبر مراكزه الثقافية والتعليمية، ويركز على الدفاع عن حقوق الشيعة في العراق وضمان تمثيلهم العادل في مؤسسات الدولة. لم يحصل حزب الفضيلة في الانتخابات الأخيرة على أي مقعد، ويبدو أن تركيزه في المستقبل القريب سيكون على زيادة مقاعده في مجالس المحافظات.
مستقبل التيارات الإسلامية في العراق:
المشهد السياسي في العراق معقد ومليء بالتناقضات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما يواجه عموم القوى والأحزاب العراقية الإسلامية وغير الإسلامية.
بخصوص القوى غير الإسلامية، يتصدر راهنا تحالف السوداني المشهد العراقي، وتشير التوقعات الخاصة بانتخابات 2025، إلى تعزز قوة تيار رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، رغم تواضع تمثيله الراهن في مجلس النواب، وهو ثلاثة نواب، كما له ثلاثة محافظين يرأسون محافظات لها ثقلها، في البصرة، والكوت، وكربلاء. يسعى السوداني نحو تشكيل تحالف عابر للطوائف والقوميات، وقد يتحالف معه التيار الصدري في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسيكون ذلك تحت عنوان محاربة الفساد والسيطرة على السلاح المنفلت والمليشيات خارج سلطة الدولة.
أما السنة وتحديدا العرب منهم، فيمثلهم حزب “تقدم” وهو تنظيم يقدم نفسه ممثلا لمصالح السنّة في العراق. تأسس في محافظة الأنبار العراقية من قبل رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي. لا يتمتع “تقدم” بمواصفات الأحزاب السياسية التقليدية، لكنه أصبح جزءًا من تحالفات سياسية قادته إلى مجلس النواب العراقي. زادت شعبيته بعد تحقق إصلاحات عمرانية وأمنية واقتصادية في المحافظات العراقية السنيّة وبغداد. ويواجه الحزب منافسة من أحزاب وتيارات سنيّة أخرى، لذلك يحافظ على تحالفات قوية مع قوى تضمن له البقاء والنمو، وتعد الأحزاب الكردية أحد أهم هذه القوى. كما أن مصلحته تكمن في تعزيز الخطاب الوطني الشامل بعيدًا عن الخطاب الطائفي، وهو ما سيساعد على تحسين صورة الحزب على مستوى العراق وليس على نطاق المحافظات السنيّة فقط.
أما القوى الكردية ومنها الإسلامية أيضا، فتكتفي بتعزيز وجودها وتفعيل نشاطها في مناطقها الجهوية، أما وجودها في السلطة السياسية والنظام العراقي فهو مرهون بحجم التحالفات المبنية على أساس المنافع المتبادلة بينها وبقية القوى العراقية.
أما مستقبل التيارات الإسلامية نفسها، فيمكن تحديده بناءً على مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ومن هذه العوامل الآتي:
- التحالفات السياسية والتوازنات الطائفية: يمكن للتحالفات بين الأحزاب الإسلامية والأطراف السياسية الأخرى أن تؤدّي دورًا مهمًّا في تحديد قوتها ونفوذها، مثل تحالف “التحالف الديمقراطي” و”تحالف القوى الوطنية”، كما أن التوازنات الطائفية، خاصة بين الشيعة والسنة والأكراد، ستكون عاملًا حاسمًا في تحديد مسار التحالفات ومستقبل التيارات الإسلامية، من ذلك “تحالف السوداني” و”الإطار التنسيقي”. إن هذين العاملين، يمكن أن يوسعا وينشطا حضور التيارات الإسلامية، ولا سيما إذا ما كانت القوى المتحالفة أو المتوازنة طائفيا وقوميًّا وسياسيًّا لديها من القوة والقدرة ما تضمن به تنفيذها لبرنامجها.
- التغيرات الداخلية والانشقاقات: استمرار الانشقاقات والصراعات الداخلية بين التيارات الإسلامية ولا سيما الشيعية الأساسية منها، مثل التيار الصدري ومنظمة بدر والمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة، قد يؤدي إلى إضعافها. وهذا سيدفع نحو ظهور قيادات جديدة ذات رؤى متباينة بما يعيد تشكيل المشهد السياسي الإسلامي برمته حينها.
- الحركات الاحتجاجية والإصلاحات: استمرار الأزمات في العراق السياسية منها والاقتصادية سيُفضي كما أفضى خلال عام 2019 إلى استمرار وتطور الحركات الاحتجاجية المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد. هذه الاحتجاجات ستمثل تحديًا كبيرًا للسلطة الحالية التي تقف وراءها الأحزاب الإسلامية المتهمة جماهيريًّا بالمسؤولية عن حالة التردي التي يشهدها العراق. وإذا لم تستطع تنفيذ إصلاحات حقيقية على هذا الصعيد، فإن هذا سيؤثر بشكل كبير في مستقبلها السياسي.
- التأثير الإقليمي والدولي: إن التغيرات في السياسة الإقليمية والدولية قد تعيد تشكيل التحالفات والنفوذ في العراق. كما أن أدوار القوى الإقليمية تؤثر، وستستمر، على كافة القوى العراقية، فالتأثير الإيراني في الفصائل الشيعية يؤدّي دورا أساسيا في تشكيلاتها وأدوارها. وهناك قوى سنيّة في المشهد العراقي يتم التأثير فيها من بعض الدول الخليجية وتركيا، وإن بدت تلك الدول أقل دعمًا من إيران لأتباعها. كما أن السياسات الأميركية في العراق، تؤثر في حضور الإسلاميين ضمن جملة تأثيرها في المشهد السياسي العراقي، وهي في اشتباك سياسي وأحيانا عسكري مع معظم القوى الإسلامية الشيعية والموالية منها لإيران على وجه الخصوص.
- الأمن والاستقرار: يعتبر استقرار الوضع الأمني في العراق، أحد أهم عوامل بقاء العملية السياسية فيه، وبعكسه فإن التهديدات الأمنية تهدد استمراره على وضعه الحالي، ومنها تهديد “داعش”، وانفجار الخلافات الأمنية بين الفصائل الشيعية وهو أمر متوقع لدى بعض الباحثين ومراكز الدراسات(26). وكذلك عدم استقرار الحكومة أو ضعف تطور أداء القوات الأمنية وعقيدتها القتالية، فإنه سينعكس سلبا على التيارات الإسلامية خاصة الحاكمة منها والمهيمنة راهنا.
- التطور الاقتصادي والاجتماعي: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق، بما في ذلك البطالة والفقر وتقديم الخدمات الأساسية، ستكون من العوامل الحاسمة في تحديد مستقبل التيارات الإسلامية وحجم نفوذها؛ لأن قدرتها على تحسين هذه الأوضاع وتعزيز التنمية سيكون لها تأثير كبير في شعبيتها واستمرارها في السلطة.
وفي ضوء هذه العوامل يمكن الإشارة إلى أهم ثلاثة سيناريوهات محتملة تتصل بمستقبل العراق ومستقبل التيارات الإسلامية في سياقه:
السيناريو الأول، مشهد الاستمرار والتعزيز: أن يستمر الوضع الحالي مع بعض التعديلات الطفيفة لتحسين الأمور بشكل تدريجي، بما يعني تحسين الوضع الاقتصادي والخدمي والأمني، دون تغييرات جذرية في النظام السياسي مما يحافظ على استقرار نسبي دون تحقيق تقدم كبير. كما يكرس هذا المشهد استمرار التحالفات السياسية الحالية للتكيف مع المؤثرات الداخلية والخارجية وإدارة الأزمات بشكل تدريجي دون الوصول إلى حلول جذرية. من ملامح هذا المشهد استمرار التهديدات الأمنية من قبل تنظيمات مثل تنظيم “داعش”، وقدرة الحكومة على الحفاظ على الأمن والاستقرار، كما تتحكم الأوضاع الاقتصادية، بما في ذلك أسعار النفط والبطالة والفقر، في تحقيق التعديلات الطفيفة بما يفضي إلى تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكما هو الشأن العراقي منذ عام 2003، فإن للقوى الإقليمية والدولية (مثل إيران، تركيا، الولايات المتحدة، دول الخليج العربي) دورًا مهمًّا في تكريس هذا المشهد. إن تحقيق الاستقرار نسبيًّا والاستمرار يكون عبر تعزيز التعاون بين الأحزاب السياسية المختلفة، بما في ذلك التيارات الإسلامية والقوى “العلمانية”. إن ملامح المستقبل القريب للنظام السياسي في العراق تتجه نحو تيارات وأحزاب ليست ذات عناوين وتفاصيل دينية، بل تميل إلى الاستفادة من النظام الانتخابي في العراق لإثبات حضورها عبر بوابات جماهيرها وصناديق الاقتراع. أفضل ما يمكن الإشارة إليه كنماذج لهذه التيارات والأحزاب السنيّة هو “حزب تقدم” الذي يرأسه رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي والقوى المتحالفة أو التي ستتحالف معه كحزب “السيادة” ورئيسه خميس الخنجر. أما شيعيًّا فيتقدم التيار الذي يقوده رئيس مجلس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني والقوى التي ستتحالف معه. هذان النموذجان نجحا في تثبيت صورة ذهنية لدى مؤيديهم أو متابعيهم، تمثلت بالابتعاد عن المرجعيات الدينية خلال عملهما الحزبي أو الوظيفي، كما حققا نجاحات مهنية (محدودة) في ميادين عملهما والمناطق التي تمثل جمهورهما. وفي سياق هذا السيناريو يبقى أغلب القوى الإسلامية على الحال التي هو عليها راهنا، لكن ذلك ليس لصالحه على المدى الأبعد.
السيناريو الثاني، مشهد التراجع والانحسار: إذا فشلت التيارات الإسلامية السياسية في معالجة التحديات الداخلية والخارجية، والاستجابة لمطالب الإصلاح في العراق، فقد تواجه تراجعًا في شعبيتها ونفوذها؛ مما يفتح المجال أمام حضور قوى سياسية جديدة، تزيد من عزلة وانحسار التيارات الإسلامية وبخاصة الشيعية منها، ذلك أن استمرار فشل هذه الأحزاب سيفضي إلى نهايتها سياسيًّا من خلال تفاقم الانقسامات السياسية والطائفية، بغض النظر عن إمكاناتها المالية والتسليحية والدعم الإقليمي أو الدولي. ومن أهم ملامح هذا المشهد زيادة الصراع الطائفي، وتصاعد الخلافات والانشقاقات داخل الأحزاب والتيارات السياسية(27)؛ مما يؤدي إلى ضعف الحكومة المركزية وعدم القدرة على تنفيذ الإصلاحات. أخطر ما في هذا المشهد هو احتمال زيادة التدخلات الإقليمية والدولية.
السيناريو الثالث، مشهد التغيير والتحول: في هذا المشهد قد تتصاعد التحولات السياسية بسبب الانهيار الاقتصادي وتفشي الفساد والمحسوبية، بما يؤدي إلى ولادة قوى جديدة في سياق تحولات إقليمية ودولية. أو قد يتغير الوضع جذريا بعودة الحركات الاحتجاجية التي تطالب بتغيير النظام والإطاحة بقيادات فاسدة واستبدالها بقيادات جديدة، بما يؤدي إلى حدوث تغيير جذري في النظام السياسي في العراق. إن أي تغيير في أساس بنية النظام العراق سيقود إلى تعديل الدستور لتقليل المركزية وتوسيع الحكم الذاتي للأقاليم والمناطق المختلفة، وهي مطالب موجودة راهنا بالفعل.
خاتمة:
رغم مرور أكثر من عقدين من الزمن على تغيير النظام السياسي في العراق وبروز النموذج الديني الطائفي لتبني العملية السياسية الجديدة في هذا البلد، فإن طبيعة الأحداث ومجريات الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية لا توحي بنجاح الأحزاب الإسلامية في إدارة البلاد وتطوير أدائها الحكومي والحزبي؛ بل إن تلك الأحداث أفرزت ظواهر خطيرة أبرزها المحاصّة الطائفية والفساد والانفلات الأمني.
إن الأحزاب والتيارات الإسلامية بشكليها الجهادي والسياسي كانت سيدة المشهد في العراق، وهي التي شكلت العراق الجديد منذ عام 2003 والمسؤولة بشكل مباشر عن حالة الاصطفافات والانقسامات العرقية والمذهبية بما سمح للتدخلات الإقليمية والدولية بتغذية هذه الانقسامات وأفضى لجعل العراق ضعيفًا في قدراته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما أفرز ظهور تيارات جهادية كتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ، أدخلت البلد في صراعات ودوامة من العنف سرعان ما تم تحويلها إلى أبعاد طائفية تسببت في تغييرات ديمغرافية وتغييب قسري لآلاف العراقيين وخاصة في المناطق السنيّة التي ظهرت فيها هذه التيارات الجهادية.
إن ظهور تنظيمات “جهادية سنية” عنيفة وسيطرتها على مساحات واسعة من شمال وشمال غرب العراق بين عامي 2014 و2017، أعطى مبررا لتشكيل هيئة الحشد الشعبي لمواجهتها، وذلك طبقًا لفتوى “الجهاد الكفائي” للمراجع الدينية الشيعية. وإذا “الحشد” قد استطاع القضاء تقريبًا على خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، فإن خطر النزاع المذهبي والطائفي قد ازدادت احتمالاته. أصبح الحشد بتشريع من الدولة العراقية، مؤسسة رسمية تضم 67 فصيلًا “شيعيًّا” مسلحًا بشكل كامل، مع ارتباط الكثير من فصائله بإيران، دون أن يكون للحكومة العراقية تأثير فعلي مباشر فيه. وقد توسع وتمدد حضور “الحشد” ليشمل كل العراق، حتى في المراكز السنية الأساسية في البلاد مثل الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى؛ مما يجعل العلاقة بين هذه الفصائل بتوجهاتها المذهبية، متوترة مع سكان تلك المناطق، وعرضة للتفجر في أي وقت. إن قوة النفوذ الإيراني في المشهد العراقي لا يبدو أنها ستتعرض لتغيرات جوهرية خلال المستقبل القريب، وذلك لاستقرار قوة العامل المذهبي وقوة حلفاء إيران من التنظيمات العسكرية.
في المقابل فإن ولادة قوى سياسية غير مؤطرة بشعارات طائفية وتوجهات سياسية إسلامية، مثل حزب تقدم وتحالف السيادة، وتحالف رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، ستقلل من هامش قوة هيمنة الأحزاب الإسلامية الشيعية “المسلحة” نسبيا، كلما عززت من تأثيرها في مركز السلطة التشريعية، في مجلس النواب، خاصة في حال نجاح هذه القوى في كسب تحالفات مع الأحزاب الكردية الكبيرة مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني.
في ظل هذا الواقع، يبقى مستقبل التيارات الإسلامية في العراق مشوبا بكثير من الضبابية، ومن المرجح استمرار تطور ونمو الفصائل العسكرية المرتبطة بهذه التيارات، وقد تبلغ المنافسة بينها حدّ الدخول في اشتباكات مسلحة، سواء لضمان بقائها أو إدامة وزيادة استفادتها من حالة عدم الاستقرار في العراق.