مقدمة
يأتي التعليم النظامي بين أهم أسس تكوين الدول القومية الحديثة في العصر الحالي، لا سيما موقعه من مراحل بناء الشعوب والدول الحديثة، والتي عبرت عنها أطروحة ستين روكان (1921-1979)[1] في منتصف القرن الماضي.
تشير أطروحة روكان إلى أن تطور بناء الدول القومية إنما يتم عبر مراحل وفقرات متصلة بالنزاعات الداخلية الكبرى Cleavages والتي تتمثل في نزاعات عميقة ودائمة تظهر عندما تتزامن الانقسامات الاجتماعية (بحسب الطبقات، أو الأعراق، أو الدين، أو اللغة) مع الوعي الذاتي بهذه الاختلافات (الذي يتم تشكيله من خلال الثقافة والأيدولوجيا والتوجه السياسي)، هذا الوعي الذي تشكله منظومة التعليم النظامي لتأسيس وضمان استمرار المشروعية السياسية وسريان الأنظمة القانونية والعرفية في المجتمع بالرغم من- وبالتزامن مع- تلك النزاعات الداخلية الكبرى.
فبينما يتلخص تكوين الدولة في عملية خلق المؤسسات، والحكومة والبيروقراطية، يتلخص بناء الشعب في عملية نسج الأفراد ودمجهم في “شعب” واحد بخلق إحساس بالانتماء المشترك، والتراث التاريخي، واللغة المشتركة، والثقافة، والدين، والرموز والسرديات الوطنية الجامعة.
وعلى هذا، يقع التعليم النظامي في مركز عمليات المرحلة الثانية من بناء الدول القومية، بحسب أطروحة روكان، وهي عملية بناء الشعب وتطبيع الانقسامات الداخلية، وفي هذه المرحلة، يتم توحيد الاختلافات اللغوية والدينية، والمصادر والطباع الثقافية وتوحيد التعليم الأساسي الابتدائي، الذي به تنشأ هوية مجتمعية واحدة، وشعور بالانتماء والولاء للنظام السياسي بين مختلف طوائف المواطنين في الدول الجديدة.
وتكون المهمة الأساسية للحكومات والإدارات السياسية هنا هو أن يتم تطبيع الهوية القومية لمختلف الأفراد، وتقبلهم لفكرة وجود ثقافة واحدة، وتاريخ مشترك، ومصير واحد، بصرف النظر عن الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية. وإذا لم تقدم الجذور التاريخية أسساً لخلق هذه القومية، تقوم الحكومات بخلق الأساطير القومية عن الخبرات المشتركة والمصائر التاريخية، وتنشرها من خلال نظام التعليم كسبيل لإعلاء حس الانتماء والهوية، ونشر الرموز التي تشير وتذكر بتلك الهوية مثل العلم القومي، والنشيد، وملاحم الحرب، والاستقلال…إلخ.
على هذا المنطلق، أُنشئت نظم التعليم النظامي ومؤسساته وبرامجه ومحتواه، وترسخت نظم الإدارة وسبل تدريب الكوادر- المعلمين والمهنيين والإداريين والفنيين- وفحوى مناهج التربية والتعليم التي تعمل على توحيد الرموز والهويات القومية عبر مختلف طوائف وفئات المجتمع. ولا شك أن انتشار الفقر والجهل من ناحية، وقصور النظم التعليمية في الدول النامية عن شمول كافة أبناء الوطن تحت مظلة التعليم النظامي، قد دفع المنظمات الدولية المعنية بالتعليم والاستقرار الاجتماعي والسياسي لدعم تعليم الأطفال ووقف عمالتهم في المراحل الأحدث من العمر.
وقد سعت الحكومات عبر عقود لتطوير مناهج وسبل التعليم لمواجهة التحديات العاصفة بأمن النظم السياسية- سيما النظام العالمي وقواه العظمى- كانتشار العنف والإرهاب والانقسامات الفئوية والمجتمعية الحادة، كما عملت على تنويع نظم التعليم ما بعد الأساسي لتفي بحاجات المجتمع وسوق العمل، كل هذا لا سيما في منتصف عقود القرن العشرين، ووقت انتشار نموذج دولة الرفاه والدولة الخادمة، قبل أن تكتسح أفكار “النيوليبرالية” والدولة-السوق مختلف توجهات الحكم والإدارة في النظم السياسية الحديثة.
وفي الوقت الذي تطورت فيه نظم التعليم الخاصة والأجنبية والتعليم المنزلي تزامناً مع انتشار النظم الحكومية للتعليم الجماعي، تطوراً كبيراً بعد انتشار مبادئ العولمة والتنوع والتعددية في مختلف سياسات الإدارات التعليمية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، جاءت جائحة وباء كورونا المستجد لتفرض تحولات وتحديات هامة على أنماط التعليم الجماعي الحكومية والأجنبية والخاصة على وجه السواء، لا سيما في مفهوم التعليم الجماعي- ابتدءاً- والتعلم الذاتي، وتحديات الفقر والتهميش، ومن ثم الاستقرار المجتمعي والسياسي.
تحديات منظومة التعليم ما بعد كورونا
أجبرت الجائحة 192 دولة حول العالم على غلق كافة دور التعليم الجماعي بها- المدارس والجامعات والمعاهد ودور الدراسة- ما أدى لقطع تعليم قرابة 1.58 مليار مواطن (أو ما يعادل 91.4% من كافة المدرجين للتعليم الجماعي حول العالم) بحسب بمنظمة العمل الدولية، كما أثر الانقطاع وغلق المؤسسات على أعمال 63 مليون مدرساً بالمراحل الابتدائية والإعدادية وعدد لا يحصى من الفنيين والمهنيين وطواقم الخدمات في المؤسسات التعليمية، ولم تقتصر التداعيات على هؤلاء فقط، بل امتدت للعاملين في دور الحضانات والرعاية والفنيين والمدرسين في المؤسسات التعليمية الجامعية.
أيضاً، دأت المؤسسات التعليمية في توفير التعليم عن بعد عبر الوسائط الإلكترونية، وهو التطور الذي بلغ من الاتساع والانتشار حول العالم حداً أصبحت معه معطيات وأهداف التعليم الجماعي (النظامي) محل إعادة النظر، فحتى في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية، وحتي في المناطق الريفية الأفقر، لم يكن نقصان أو انقطاع الخدمات التعليمية النظامية بالانتشار والاتساع الذي يفرض تحولاً جذرياً على مناهج ووسائل التعليم النظامية، بل ظلت المدارس- كمؤسسات ومنشآت- هي المنوطة بتشكيل الوعي السياسي والهوية القومية لدى المواطنين.
وفي محاولة لحصر أهم أوجه التحولات الواقعة على النظام التعليمي، تجدر الإشارة للتحولات الواقعة على قطاع المعلمين والموجهين التربويين من ناحية، والطلاب (المستفيدين) من ناحية أخرى، وللتداعيات التي انعكست- ولم تزل- على المجتمع. بوجه عام.
فمن ناحية، أدى الانتقال لوسائط التعليم الإلكترونية/السيبرانية لوضع المعلمين أمام تحول جوهري في عمليات التعليم والتوجيه وتشكيل الوعي وحل مشكلات وتحديات التعلم لدى الطلاب، كما اضطرهم إلى انتهاج وسائل مبتكرة كالاجتماعات والمنصات الإلكترونية لمشاركة مواد التعليم والتقييم والمتابعة، ولم يكن التحول الكبير في وسائط التعليم متاحاً للقطاع الأوسع من المعلمين خاصة في الدول النامية، فتشير منظمة العمل الدولية إلى أنه في كثير من دول جنوب غرب آسيا وأفريقيا، تتوفر شبكات الإنترنت لنحو 20% فقط من المنازل، وقليل من المعلمين لديهم أجهزة حواسب إلكترونية.
ولا يعتبر الوضع أفضل كثيرا في دول أمريكا اللاتينية، ففي بيرو على سبيل المثال، تتوفر شبكات الإنترنت لنحو 35% فقط من المنازل بينما 20-25 في المئة فقط من المعلمين لديهم شبكات إنترنت بالمنازل في الكاميرون، ما اضطر بعض المدارس لخلق شبكات إلكترونية خاصة للعاملين والطلاب، والاستثمار في نقاط الإنترنت المتحركة لتوفير خدمات الاتصال والتواصل بين أفراد المنظومة التعليمية، بينما سعت بعض الحكومات لتخصيص أوقات من عرض القنوات التلفزيونية والإذاعية لإذاعة الدروس والمواد التعليمية لتغطية الفئات والمناطق الأفقر من المجتمع التي لا يتسنى للطلاب والمعلمين فيها توفير آليات ووسائط التواصل الإلكتروني، أو المناطق التي تفتقر للبنى التحتية للتكنولوجيا.
وتزامن هذا مع توفير مواد التعليم وبرامجه في شكل حلقات مسجلة مسبقة الإعداد وجاهزة للعرض والتحميل من قبل أولياء الأمور، ما أدى – في الوقت نفسه- لعرض محتوى المواد التعليمية الحكومية/النظامية على فئة أوسع من المواطنين بعدما كان يقتصر عرضها على فئة الطلاب قبل الجائحة، وهو ما انعكس على النقاش المجتمعي حول مضمون تلك المواد خاصة الأخلاقي والديني في دول تنتشر بها اتجاهات التعصب الديني في مجال التعليم كالولايات المتحدة الأمريكية، ودول تنتشر بها الاتجاهات المحافظة والعولمية في مجال التعليم- مع فارق المستوى الاجتماعي/الاقتصادي للفئات الداعمة لأيٍ من التوجهين- كما في مصر.
أيضاً، من الضروري الإشارة للتداعيات النفسية الاجتماعية لانقطاع منظومة التعليم، خاصة ما تزامن معها من انتشار مشاعر التوتر والضغوط وعدم الأمان، ما أثر على جانب الأمان الوظيفي- في ظل مكوث الأطفال بالمنزل- والنفقات الإضافية المترتبة على مزاولة التعليم من المنازل، وكذلك ما يتوقع أن يترتب على عودة المدارس النظامية للعمل من انتشار الخوف من العدوى والوصم الاجتماعي لفئات بعينها كونها أكثر قابلية لنقل الوباء أو الإصابة به.
ويتعاظم هذا الجانب مع فكرة وجود نسبة ملموسة من الأطفال/الطلاب الأجانب في المؤسسات التعليمية خاصة في الدول المستقبِلة أو الناقلة للعمالة واللاجئين كالمملكة المتحدة وتركيا ومصر، والتي يُتوقع أن تعود فيها المدارس للعمل مع كثير من الحمولات النفسية الاجتماعية ضد الطلاب الأجانب، ما ينعكس على معدلات العنف والعنصرية ضد بعض الطلاب الذين يمثلون أقليات مختلفة في تلك المؤسسات.
من جانب آخر، وفي الوقت الذي تعمل فيه المنظومة التعليمية على ترسيخ مشروعية النظم السياسية والقانونية والأعراف المجتمعية العامة من خلال مناهج قومية تستهدف غرس القيم والرموز والسرديات الوطنية لدى أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، تأتي إشكالية الفقر والتهميش من جهة وعمالة الأطفال من جهة أخرى لتعصف بمكتسبات عقود من محاربة عمالة الأطفال وترسيخ أولوية التعليم الأساسي في الدول النامية والمناطق الأفقر منها – تحديداً المتسمة بفقر البنى التحتية للتكنولوجيا – وكذلك من الدول الأكثر نمواً/تقدماً.
وقد لاحظت تقارير منظمات دولية خطورة تراجع مؤسسات التعليم الأساسي عن أداء دورها في منظومة التعليم والاستعاضة عنه بالتعليم عبر الوسائط الإلكترونية على عمالة الأطفال وتسربهم من التعليم الأساسي خاصة في المناطق التي تفتقر للبنى التحتية للتكنولوجيا أو لا تتوفر لها الوسائط الإلكترونية المتاحة لتلقي التعليم عن بعد، أو التي لا توفر للطلاب البيئات التعليمية المناسبة داخل المنازل، حيث انخرط قرابة 152 مليون طفلاً في سوق العمل مجدداً إثر انقطاع المؤسسات التعليمية عن العمل خاصة في الشهور الأولى من الجائحة، وهو الرقم الذي يتوقع أن يتعاظم في إحصاءات العام المقبل خاصة مع تسرب نحو 49% من الطلاب – 67 مليوناً- من التعليم في شرق وجنوب أفريقيا، و 48% غرب ووسط القارة الأفريقية، تليهما بنسبة مرتفعة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تسرب 40% من الطلاب من التعليم كونهم لا يستطيعون الاستفادة من وسائط وآليات التعليم عن بعد.
ويتزامن هذا التحول مع عاملين آخرين، وهما (1) الإضرار بمكتسبات أبناء الأسر الفقيرة من التعليم النظامي الأساسي- حيث يعتمد أبناء المجتمعات الأفقر على خدمات الرعاية والوجبات المقدمة يومياً من إدارات المدارس الحكومية-، و(2) الإضرار بقدرة أرباب المنازل في تلك المجتمعات من مواصلة العمل نظراً لبقاء الأطفال بالمنازل، ما يؤثر بوجه خاص على الأسر التي تعولها النساء في البلدان التي ينتشر بها هذا النمط من الأسر[2].
وأخيراً، يضاف على التحديات التي فرضتها جائحة كورونا ضرورة تطوير مهارات التعلم الذاتي لدى القطاع الأوسع من الطلاب وضرورة تعميم المهارات والخبرات الفردية في إدارة الوقت والمهام التعليمية داخل المنازل نظراً لغياب الدور المحوري الذي كان يلعبه المدرسون في تنظيم أوقات التعليم وتحقيق مخرجات التعليم داخل المؤسسات النظامية.
وتتناول المحاور التالية تفصيلاً أكبر لأبرز التحديات والتحولات الجارية في منظومات التعليم الحكومي/النظامي، والخاص، والأجنبي، وما ينعكس من هذا جميعاً على منظومة التعليم المنزلي والأهلي، وتبعات ذلك على الأطر القيمية السياسية في الوقت الجاري.
نظم التعليم العام في ظل جائحة كورونا
تٌمثل منظومة التعليم النظامي مصدراً للأمان والاستقرار في أوقات الكوارث، خاصة لملايين الطلاب الذين خاضوا/يخوضون صدمات نفسية بفعل الفقر، الجريمة، العنف الأهلي، العنصرية، الاستغلال الجنسي، وسياسات التوزيع الغير عادلة، وغيرها، ولهذا اعتمدت كثير من البلدان تقديم خدمات التعليم للطلاب ذوي الصدمات وصعوبات التعليم، كما المادة 504 من قانون إعادة التأهيل لعام 1973 في الولايات المتحدة الذي يدعم الصعوبات النفسية والجسدية للتعليم وكذلك قانون التعليم لذوي الاحتياجات الخاصة IDEA الذي ينص على 13 شرطاً للإعاقة التي تتطلب دعماً خاصاً من منظومة التعليم الحكومية.
كما يعتبر التعليم النظامي “كمؤسسة” وبعدٍ مكاني مساحة أكثر انفتاحاً للنظم والقوانين والأعراف العامة المنظمة للقيم والتصرفات والسلوكيات المجتمعية تجاه الأطفال/الطلاب، وأكثر تنوعاً من حيث العناصر المؤثرة على البيئة التعليمية، ومن ثم- نظرياً على الأقل- أقل خطورة على الأطفال – في ما يخص ممارسات العنف والجريمة والاستغلال وغيرها من الجرائم- من المساحات الأهلية المغلقة. لهذا، ركزت المنظمات الدولية الإغاثية – ولم تزل- جهودها لدعم التعليم النظامي خاصة في المناطق التي تتعرض للحروب الأهلية والنزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية، والتي صارت اليوم تشمل العالم بأجمعه بعد انتشار الوباء في 192 دولة حول العالم.
فضلاُ عن هذا، تمثل منظومة التعليم الحكومي الركن الأساس في ترسيخ مشروعية القيم والنظم السياسية والمجتمعية عبر تشكيل “الانتماء” إلى السرديات والرموز والقيم الوطنية الجامعة، وحيث يتعسر تحقيق المهام والأدوار المنوطة بمنظومة التعليم الحكومي في ظل الجائحة، تأتي عديد من المساعي الحكومية والدولية لمفاداة تبعات هذا النقص، بتوفير بيئة الأمان، والاستدامة، وتقدير الأفراد عبر ساحات التعليم عن بعد، والتركيز على التعليم الاجتماعي والتوجيه النفسي للطلاب من خلال ساعات أو أيام حضور إلزامية في أبنية المدارس، كما الحال في نموذج المدارس الحكومية بكندا، التي اعتمدت نهجاً “مختلطاً” بين التعليم عن بعد والحضور الإلزامي إلى المدارس، وكذلك الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكثير من الولايات الأمريكية التي اعتمدت نهجاً وسطاً بين دعاوى الإغلاق التام والفتح التام من جهة أخرى.
لكن الواقع أن عديداً من التحديات لم تزل تواجه منظومة التعليم الحكومي في ظل هذه التحولات، ليس أقلها غياب المعايير الأساسية لتشكيل الوعي السياسي لدى النشء، وهي معايير المساواة والجودة، فمن ناحية، ينحسر معيار المساواة في الفرص التعليمية بين الفئات الأفقر والأغنى من المجتمع من ناحية، ومن ثم بين الأطفال المضطرين للانخراط في سوق العمل وهؤلاء الذين تتاح لهم إمكانية مزاولة التعليم عن بعد من داخل منازلهم، وكذلك بين أبناء العاملين في قطاع الصحة والقطاعات الأساسية – الذين يتعين عليهم الذهاب للعمل- وأبناء هؤلاء الذين يمكنهم العمل من المنازل، وكذلك بين الأطفال الذين تتاح لهم فرص وبيئة التعلم الذاتي وتنظيم الوقت وتحقيق مخرجات التعليم، وهؤلاء الذين لا تتوفر لهم تلك البيئة في منازلهم بسبب أوضاع خاصة أو لإعاقات نفسية/بدنية تمنع الأطفال عن مزاولة التعليم بدون دعم كاف من أفراد مؤهلين.
وتنعكس جميع تلك العوامل وغيرها على معيار الجودة كذلك، حيث تتباين جودة مخرجات التعليم النظامي عبر الأنماط المشار إليها، ما يسفر- على المدى الطويل- وفي حالة لم تتم معالجة أوجه القصور هذه، في تباين درجات الانتماء للمجتمع الأوسع، واعتناق للقيم السياسية الجذرية كالمساواة والعدالة بين جميع الأفراد دون النظر لتباين بيئاتهم الاجتماعية/السياسية.
من جهة أخرى، يؤدي تعريض فئات أوسع من المجتمع لمحتوى المواد التعليمية من خلال عرضها على شاشات التلفزيون والقنوات الإذاعية والوسائط الإلكترونية لتحفيز الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية تجاه ما “ينبغي” أن تتناوله مناهج التعليم الأساسية/ الحكومية، خاصة وسط تقاطع تلك التوجهات مع إلخريطة القيمية والاقتصادية والسياسية للتيارات المختلفة، الأمر الذي يسفر عن تصاعد مطالبات “الإصلاح” و”الدمج” بناء على تباين التوقعات والأهداف من مخرجات التعليم النظامي، أو “الانفصال” لإتاحة مجال أوسع لغرس المفاهيم القيمية/ الدينية للفئات المختلفة من المجتمع.
وبينما يقدم النموذج الأمريكي أمثلة لتخفيف التحكم المركزي في مناهج وإدارات التعليم النظامي لضمان مسؤولية أكبر للأفراد والمجتمع عن مخرجاته، أو فرض التنسيق المكثف والوثيق بين نماذج التعليم النظامي الحكومي والتعليم الأهلي/الخاص/المنزلي. فإن الواقع أن عديد من الدول قد سعت لحلول وسطى بين الطرفين، منها مصر على سبيل المثال، حيث تفرض وزارة التعليم مناهج التعليم الأساسي – الابتدائي- على المدارس النظامية والخاصة – الإسلامية وغيرها- على السواء بما في ذلك المحتوى القيمي والديني والاجتماعي/التاريخي بينما لا تلزم المدارس الخاصة به في المراحل الدراسية التالية، كما لا تلزم المدارس والجامعات الأجنبية به على الإطلاق.
وتسفر محاولات التوسط هذه عن تنوع- وربما تضارب- القيم السياسية لدى النشء، خاصة ما يتعلق منها بما “ينبغي ان يكون شأنا سياسياً وكيف” حيث تختلف الأطر القيمية الناتجة عن كل توجه للتعليم النظامي وتبرز أوجه التباين في أوقات التحول السياسي أو الأزمات كما هو الآن في ظل جائحة كورونا، حتى وأن تتابعت آثارها على المجال السياسي لفترات طويلة بعد مرور الأزمات، ومن ثم من المتوقع أن يسفر اضطراب التعليم النظامي في ظل الجائحة عن تصاعد موجات المطالبة بإعادة النظر في محتوى المناهج الأساسية وكيفية ترسيخ الأطر القيمية والدينية لدى القطاعات الأوسع من المواطنين.
نظم التعليم الخاصة والأجنبية في ظل جائحة كورونا
بالرغم من مركزية التعليم النظامي في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط بعد موجات التحرر في خمسينيات القرن الماضي، فقد لعبت الأطر القيمية والدينية – حضوراً وغياباً- دوراً هاماً في تكوين المجال السياسي من خلال منظومة التعليم الخاص والأجنبية سيما في الدول التي شهدت تقلبات عارمة للأيديولوجيا الموجهة للدولة والمجتمع كمصر التي تأرجحت بين الأفكار الاشتراكية والليبرالية على مدار عقود من القرن الماضي.
فبعد أن انتقلت وزارة التعليم في مصر من قيادة المستشار فتحي سرور في الثمانينيات إلى قيادة الدكتور حسين كامل بهاء الدين، بدأ المحتوى الديني والقيمي والتاريخي/الديني في إلخفوت واتسع المجال للمدارس الخاصة في تغطية تلك الجوانب من خلال مناهج ومؤسسات التعليم “الإسلامية” التي ازدهرت منذ حقبة التسعينيات حتى الوقت الحالي خاصة مع اشتداد النزعة العلمانية/الوطنية/الأمنية على مناهج التعليم النظامي – تحديداً مناهج التاريخ والتربية الوطنية والدراسات الاجتماعية- للخلفية التاريخية والسياسية التي صاغت أدوار الدكتور بهاء الدين في وزارة التعليم تلك الفترة، كونه مسؤول منظمات الشباب في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر. ومن ثم، تراجع دور منظومة التعليم الحكومي في تغطية الجوانب الأخلاقية والدينية وصارت سياسات التعليم الخاص تقوم بالأساس على تغذية هذا الجانب بالتوازي مع تقديم المناهج الرسمية في المراحل الأولى من التعليم[3].
ورغم انحسار دور المدارس الإسلامية الخاصة في مصر بنهاية التسعينيات وبداية عصر “محاربة الإرهاب” وسياسة “تجفيف منابع الإرهاب” ومشروع “الشرق الأوسط الكبير” وغيرها من المبادرات والتوجهات التي تشكلت وغيرت محتوى المناهج الدراسية في منظومتي التعليم الحكومي والخاص عقب أحداث تفجير برجي التجارة الأمريكية 11 سبتمبر 2001، فقد برز دور المدارس الخاصة والأجنبية على السواء في تقديم خدمات تعليمية عالية الجودة في ظل تراجع جودة التعليم في المدارس الحكومية وتكدس الطلاب وتداعي المناهج، وفقر الموارد والمخصصات من الموازنة العامة للدولة مقارنة بمخصصات الأمن والدفاع.
وحيث تعتمد عمليات التربية وتشكيل الوعي على آليات التواصل المباشر – إلخطاب- والتوجيه الفعلي من طرف المدرسين والتربويين، وحضور الطلاب داخل أبنية المؤسسات كشرط أساسي لتحقيق أهدافه من ناحية ولضمان استمرارية أعمال أولياء الأمور من ناحية أخرى، فإن عديد من مؤسسات التعليم الخاصة تواجه أزمة مصيرية بعد انتشار الوباء، حيث أدى فرض الإغلاق العام في العام الدراسي الماضي ثم الفتح المشروط/التدريجي/الكامل لمدارس التعليم الحكومي، واتجاه مؤسسات التعليم – عامة- لمزاولة التدريس عن بعد إلى ضياع المزية الأهم في التعليم الخاص – البيئة المؤهلة للتعلم والتطور الجماعي- لصالح توفر البنى التحتية التكنولوجية لدى الأبناء/الطلاب.
ومن ثم، صار الفارق بين التعليم الخاص والعام ليس البيئة التعليمية – الأبنية ونظام توزيع أوقات التعلم وخلفية/مستوى الرفاق ومستوى الاستثمار والإنفاق في مواد التعلم وبناه التحتية وأدواته المساعدة والثقافة المشتركة الجامعة لأبناء المدارس الخاصة بصفتهم طلاباً مميزين عن سواهم وشخصية المعلمين ومؤهلاتهم وطرق التواصل والتعامل مع الطلاب، إلخ – لينحسر الفارق بين أنظمة التعليم الخاص والعام في المناهج التعليمية من حيث محتواها وجودتها، وهي المناهج التي تتمسك بعض الدول – مثل مصر- بتوحيدها في مستوى التعليم الأساسي.
ونظراً لتوجه الأسر المصرية للاستثمار في التعليم الخاص تحديداً لمزايا البيئة التعليمية، فمن الملاحظ أنها لم تعد مميزة كما في السابق في ظل اعتماد نظم التعليم عن بعد، وتوفر المناهج الحكومية إذاعياً، ومخاطر تكرر أزمة الإغلاق العام، وخوف الأولياء من إرسال أبنائهم للمدارس الخاصة حتى حال أن فتحت أبوابها تجنباً للعدوى، وضعف احتمالات انتشار مصل مكافحة الوباء، والخوف من تكرر انتشار الجائحة، إلى آخره من الأسباب والمخاطر التي لم تزل تحيط بالمنظومة التعليمية. وحيث لم تعد المخرجات الذاتية والتعليمية المستهدفة من التعليم الخاص قابلة للتحقق كما في السابق، لا يتوقع أن تستمر المفاضلة قائمة بين نظم التعليم الخاص والعام في الفترات المقبلة.
من جهة أخرى، واجهت قطاع التعليم الخاص أزمة كبرى خلال ذروة الجائحة، تلخصت في تقديم مؤسسات التعليم الخاص للمكسب المالي/الربحي على حساب الدور التربوي والتوجيهي الذي تقدمه للطلاب، ما تسبب في فجوة ثقة بين تلك المؤسسات وبين قطاع أولياء الأمور لعدم تنازل المدارس الخاصة في مصر عن استحقاقاتها المالية – كلياً أو جزئياً – حتى حال عدم حصول الطلاب وأولياء الأمور على الخدمات التعليمية المنوطة بها في ظل الجائحة.
تخصص الأسر المصرية نحو 42% من إنفاقها في التعليم على التدريس الخاص (ما بعد المدرسة)، أو التعليم الذي يقدمه المعلمون بالتوازي مع التدريس في المدارس الحكومية، بينما يتراوح الإنفاق الشهري في المدارس الخاصة بين 2000-7000 جنيه مصري، ما يمثل نسبة كبيرة من دخول الأسر المصرية، هذا بينما يزداد الأنفاق على التعليم الأجنبي بأضعاف مضاعفة، في ظل وجود 142 مدرسة في مصر تقدم التعليم الأجنبي بالتوازي مع المناهج الحكومية المصرية، ضمن 7,500 مؤسسة تعليمية خاصة وأجنبية– بحسب إحصاءات وزارة التعليم في عام 2019.
ويعتمد تسعير الخدمات التعليمية في القطاع الخاص والأجنبي على خدمات المدرسة –البنى التحتية- والمرافق الترفيهية التي تحدد تفاوت مستويات المدارس، ففي المستوى الأول تأتي المدارس التي توفر الملاعب وحمامات السباحة والمعلمين الأجانب، حيث متوسط الإنفاق للطالب الواحد يتراوح حول 55 ألف جنيه مصري وصولاً إلى 224 ألف جنيهاً للعام الواحد من المراحل التأهيلية ( قبل التعليم الأساسي)، قابلة للزيادة مع ازدياد السنوات الدراسية، ويتم سداد معادلها بالعملة الأجنبية، بينما يأتي التصنيف الثاني من المدارس الخاصة والأجنبية لتلك التي لا توفر الخدمات الترفيهية والمعلمين الأجانب ليتراوح إنفاق الأسرة المصرية للطالب الواحد بها حول 3,000 جنيه مصري، بحسب تقرير لمنصة العدالة الاجتماعية عام 2018.
وحيث تتعامل الدولة المصرية مع مؤسسات التعليم الخاصة والأجنبية باعتبارها شركات استثمارية/ربحية، لم تقم الحكومة بإلزامها بإعادة النفقات الدراسية للفترة التي زامنت ذروة انتشار الوباء في مصر، خلافاً لنماذج إقليمية قريبة سعت فيها الحكومات لإلزام المدارس الخاصة والأجنبية بإعادة النفقات جزئياً أو تقديم خدمات تعليمية في فترة الصيف تعويضاً عن الانقطاع في منتصف الفترة الدراسية السابقة.
في الوقت نفسه، كانت تلكم المؤسسات قد اقتطعت النفقات الدراسية من بداية الترم الدراسي، ولكونها استثماراً- بالأساس- في المرافق والبنى التحتية وجودة “التجربة” التعليمية، لم يكن “إعادة النفقات الدراسية”- كلياً أو جزئياً- حلاً مطروحاً لتلك المؤسسات، كما لم يكن مواصلة التعليم عن بعد عبر الوسائط الإلكترونية عوضاً مناسباً لنحو 2 مليون طالباً تعتمد أسرهم على تلقي الأبناء لخدمات التعليم في بيئة مؤهلة حال ذهابهم إلى العمل، وحيث بقيت الحكومة خارج الصراع بين أولياء الأمور وإدارات تلك المدارس، وقعت فجوة كبيرة في الثقة وأصبحت البدائل المطروحة – جذرياً- تشمل مزاولة التعليم المنزلي والاشتراك في فعاليات التعليم الأهلي كبديل للاستدانة ولإنفاق ثروات لأجل خدمات لم يتم تحصيلها أو تعويضها أو يتم تحصيلها في بيئة مهددة بخطر عودة انتشار الجائحة في أي وقت.
ويعتبر التوجه للتعليم المنزلي حلاً مطروحاً بقوة في الدول التي لا يتسنى فيها لأبناء الطبقة الوسطى الذهاب للمدارس الحكومية بأية حال- نظراً للاعتبارات سالفة الذكر- أو التي لا يتمتع فيها أولياء الأمور بدعم الأنظمة الإدارية والوزارية إزاء مؤسسات التعليم الخاص/الأجنبي في ظل احتمال تكرر الأزمة في السنوات المقبلة.
التعليم المنزلي في ظل جائحة كورونا
بلغت جاذبية التعليم المنزلي ذروتها في ظل الجائحة بعد سنوات من تراجع شعبيتها بين أولياء الأمور وأسر الطبقة الوسطى التي توفر لها إيداع أبناءهم في بدايل التعليم الحكومي/النظامي لتوفير الجودة/التعليم الديني والقيمي/التعليم الأجنبي. وحيث ازدادت أهمية البنى التكنولوجية والمهارات الذاتية في التعلم في ظل الإغلاق العام – والتهديد بتكرره – برزت أهمية تخصيص أولياء الأمور وقتاً أطول لرفع مهارات التعلم، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة داخل المنازل، وتحفيز الأبناء لمواصلة تعليمهم ذاتياً، خاصة في ظل انتهاج عدد كبير من المدارس الحكومية والخاصة منهجاً وسطاً بين الحضور الفعلي ومزاولة التعليم من المنزل.
ففي مقاطعة أونتاريو بكندا- على سبيل المثال- يتوقع أن تفتتح المدارس أبوابها بالخلط بين نظام الحضور الفعلي إلى المدرسة وبين التعليم عن بعد بعدما حددت الحكومة الكندية حداً أقصى لعدد الطلاب بالصف الواحد ب -15 فرداً- وأتاحت لإدارات المدارس المختلفة انتهاج واحداً من ثلاثة مسارات: الفتح التام للحضور الفعلي داخل مؤسسات التعليم مع الالتزام بكافة توصيات الصحة العامة، الاستمرار في توفير التعليم عن بعد والتوجيه الشخصي للطلاب، أو الخلط بين المسارين بالحضور الفعلي في ساعات/أيام محددة واستكمال التعليم عن بعد.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يترك القرار للولايات، فإن المتوقع أن كثيراً من أولياء الأمور سيتخذ قرار إدراج الأبناء في التعليم النظامي الحكومي أو الخاص بحسب خطط “إعادة الفتح“، والتي في حال لم تكن موافقة للمخرجات التعليمية التي يستهدفونها من إرسال أبنائهم إلى المدارس أو لم تكن بالكثافة/عدد الساعات المطلوبة لإتاحة أوقات عمل الفئات الدنيا، سيكون بدائلها هي التعليم المنزلي أو الأهلي (الجماعي) المعتمد على الأنشطة والجمعيات الخيرية في المحليات.
وفي الأشهر الماضية، وبينما يبلغ عدد المتعلمين منزلياً في الولايات المتحدة من 1.7 مليون طالباً ( نحو 3% من إجمالي الطلاب المدرجين بالتعليم) بحسيب إحصاء عام 2011-2012، أبرزت نتائج استطلاع للرأي في مايو لنحو 2100 من أولياء الأمور أن نسبة 40% منهم على استعداد لتحويل أبناءهم للتعليم المنزلي أو التعليم عن بعد، بينما اشتد عدد الأولياء الذين يرغبون بتسجيل أبنائهم ضمن التعليم المنزلي في إحدى الولايات بفارق 21% من العام الماضي، وهو الضغط الذي أدى لانهيار الموقع الحكومي لتسجيل الطلاب منزليا.
ولا يتوقع أن يختلف الحال كثيراً في مصر حيث اعتادت الأسر المصرية المعتمدة على التعليم النظامي/الحكومي على الدروس الخاصة من ناحية، بينما اعتادت الأسر التي تودع أبنائها في المدارس الخاصة على مساعدة الأبناء يومياً في إنهاء المهام الدراسية، ما يعني “جاهزية” نمط التعليم المنزلي للتطبيق من خلال توفير الدروس الخاصة أو التعليم عن بعد، من خلال المدارس، وهو المنحى الذي أشارت إليه إحدى تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، حيث أدى نظام التعليم المنزلي والتعليم عن بعد– سواء كانت مناهجه من تشكيل/اختيار أولياء الأمور أو كانت مناهج تابعة للتعليم الخاص أو الحكومي- في فترة انتشار الوباء لتغيير جذري في النظرة العامة لمؤسسات التعليم.
ومع هذا، يبقي الدافع الأهم لحضور الطلاب في التعليم الحكومي/النظامي هو مزاولة أبناء أسر الطبقة العاملة/الدنيا تعليمهم حال ذهاب أولياء الأمور إلى العمل، وهي نسبة لم تزل مؤثرة في السياق المحلي في مصر كما الدول النامية وذات المعدلات العالية للفقر والتهميش، ما يعني تغيراً مرتقباً وجذرياً في مفاهيم الثقافة السياسية التي تغرسها نظم التعليم المؤسسي بمختلف أنواعها.
الثقافة السياسية بين تحولات نظم التعليم وجائحة كورونا
في الوقت الذي يتوقع أن تسفر تحولات أنظمة التعليم في تغيير معطيات وقيم الثقافة السياسية التي هي قيد التشكل خلال الأعوام الجارية، فإنه بوجه عام تجري تلك التحولات على أرض متحركة من القيم السياسية فجرتها جائحة كورونا في وقت كان النموذج الديمقراطي الليبرالي قد بدأ في الانهيار في ظل توحش قطاعات رؤوس الأموال وتحول أنظمة الحكم الديمقراطية نحو خدمة أهداف الفئات الأغنى من المجتمع على حساب خدمات الرعاية والرفاه وتوزيع القيم الاقتصادية بالعدل والمساواة التي تمكن مختلف فئات المجتمع من الانتماء للكيان السياسي الأعم، وهنا تبرز مجموعة من التداعيات:
1ـ إن الجائحة – بوجه عام – قد أسفرت عن انقسام واضح في مجال القيم الثقافية بين توجهي العولمة اليميني والمحافظ الوطني، وفي القيم الاقتصادية بين تياري اليمين واليسار. فعلي الجانب الاقتصادي، برزت أهمية الخدمات الحكومية مثل خدمات الصحة العامة والرعاية الاجتماعية وغيرها من المهام التي لم تكن تحت الأضواء في التوجه اليميني، ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال اتضح الضغط المتزايد على العاملين في قطاع الصحة وكذلك ضرورة دعم أصحاب الدخول المرتفعة للقطاعات الأكثر هشاشة في مواجهة الوباء حفاظاً على الصحة “العامة” والصالح “العام”.
2ـ أدت التوجهات الشعبوية اليمينية في عديد من الدول- كالولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا والبرازيل لمعارضة إجراءات الغلق العام للحفاظ على الصحة العامة ومكافحة الوباء، بينما سعت بعض القيادات السياسية للتهوين والتخفيف من مخاطر الوباء ما أدى- في بريطانيا مثالا- لتطابق اتجاهات تأييد ورفض الإغلاق العام مع اتجاهات البقاء وإلخروج من الاتحاد الأوروبي.
ويلاحظ انتشار موجات الرفض الجماهيري لإجراءات الإغلاق العام في مصر ليس لسبب شيوع المد الشعبوي الوطني وإنما لارتفاع نسب الفقر المدقع بأعلى من 30% في العاصمة و 66% في مجمل أنحاء الجمهورية، ولثقة المواطنين أن النظام السياسي ورجال الأعمال لن يساندوهم وإن ماتوا جوعاً في منازلهم، ما أدى بالمواطنين للمفاضلة بين “احتمال” الموت بالوباء و”تحقق” الموت بالجوع.
ويبقي الانقسام العام بين عودة تشغيل الاقتصاد بالسرعة المعتادة أو عودة التشغيل في ضوء كارثة انتشار الوباء وأثرها على العلاقة بين المواطنين وبينهم وبين المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، محل نزاع بين أصحاب التوجه اليميني واليساري، وهو النزاع الذي انتصرت فيه قوى اليمين – ممثلة في كبار رجال الأعمال- في مصر من الجولة الأولى، فلم تستمر إجراءات الغلق العام لأكثر من أسبوعين بعدما ضغط أصحاب رؤوس الأموال على الحكومة المصرية لعودة تشغيل الاقتصاد رغم مخاطر انتشار الوباء خوفاً من ضياع مزيد من “الأرباح”.
3ـ جائحة الوباء قد تسببت في تداعيات كبيرة على سياسات الجندر والعلاقة بين المرأة وسائر أطراف المجتمع، فمن ناحية أدى إغلاق المدارس و “تأنيث” مهام رعاية الأطفال وتعليمهم ومزاولة خدمات المنزل الأساسية، بالتوازي مع ضغوط الحفاظ على العمل والسعي لتأمين الدخول بالنسبة للأسر التي تساهم النساء فيها بنسبة معتبرة من الدخول أو الأسر التي تعولها النساء ابتدءاً، من ناحية أخرى، لتزايد الضغوط على المرأة، سيما أولئك اللاتي فقدن أعمالهن أو اضطررن لأخذ إجازات غير مدفوعة الأجر أثناء الجائحة.
كذلك، من المهم اعتبار التداعيات الجمة التي وقعت على النساء العاملات في مجال التعليم- خصوصاً المراحل التعليمية الأولية- والعاملات في مجال الصحة العامة والعلاج والتمريض، وتسليط الضوء والضغط على أدوارهن في ذروة الجائحة، ما أثر على علاقات الأمهات بالأبناء من ناحية، والعلاقات بين طرفي الأسرة من ناحية أخرى، ما أدى لملاحظة قيمة الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربات المنازل من ناحية كما رفع معدلات العنف ضد المرأة سواء في مجال العمل أو في المجال الأهلي.
4ـ تسليط الضوء على العمل الأهلي والمحلي وإبراز مكانته وموقعه من خريطة التفاعلات اليومية في السياسة والاجتماع، في مقابل الإدارة المركزية غير الفاعلة أو المثقلة بسياسات الصحة العامة وإدارة الكارثة، كما ظهرت مركزية الإدارات المحلية في الدول اللامركزية كنموذج إسكتلندا داخل المملكة المتحدة ونماذج الولايات الأمريكية والكندية، باعتبارها أكثر فاعلية واتصالا بالواقع المحلي وتحدياته، ففي استطلاع للرأي في إسكتلندا، ارتفع معدل التأييد لحزب إسكتلندا الوطني SNP ولمبدأ الاستقلال من المملكة المتحدة ليصل قرب الـ 50%، بينما ازدادت ثقة المواطنين بالحكومة الإسكتلندية في مواجهة أزمة الوباء ونقص ثقتهم – في المقابل- بالحكومة المركزية غير الفعالة في ويست منستر.
5ـ يتوقع أن تسفر الجائحة وتبعاتها في الأعوام المقبلة عن تحولات كبرى في الثقافة السياسية التي تفرزها منظومات التعليم الحكومي والأجنبي والخاص في ظل التحولات السابق بحثها ومع ازدياد التوجه للتعليم المنزلي والأهلي بين قطاعات واسعة من أولياء الأمور، وهي التوجهات التي يحفزها النقص العام في الدخول وارتفاع نسب البطالة، وتراجع جاذبية التعليم الأجنبي الدولي القائم على أفكار العولمة وسرعة الانتقال والتنقل بين الدول، تزامناً مع ازدياد التوجه العالمي نحو سياسات حمائية تنعكس على قيود السفر والتنقل واستقبال الوافدين وغلق خطوط الطيران واحتمال تكرر هذذا – كله- في الأعوام المقبلة.
6ـ بين أهم المتغيرات الهامة في الفترة المقبلة هي ازدياد معدلات الفقر والجوع حول العالم، حيث تحذر منظمة الصحة العالمية أن أزمة الوباء ستدفع 130 مليون شخصاً إلى حافة الجوع و 265 مليوناً إلى الفقر المدقع، ما يعني ازدياد الصراع بين مفهومي العدالة والمساواة من ناحية ومفهوم تمكين الحقوق الفردية، من ناحية أخرى، في ظل إطاحة الجائحة بمكتسبات تحصلت عليها الفئات الوسطى والدنيا من المجتمع على مدار عقود، لصالح الفئات الأغنى ذات التوجه الليبرالي.
7ـ ينعكس ازدياد أهمية العمل الأهلي في مجالات التعليم والصحة والتربية والرعاية على تأريث الانقسام بين التوجهات اليسارية محلياً والتعاون والتنسيق الدولي من ناحية، والتوجهات الشعبوية اليمينية والحمائية من جهة أخرى.
من المهم ملاحظة اختلاف السياق الحالي عن ظروف أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي تم فيها تشكيل عصبة الأمم، وأعقاب الحرب العالمية الثانية التي تشكلت فيها منظمة الأمم المتحدة، وخطة مارشال لدعم التعاون وإعادة بناء القارة الأوروبية التي أعقبها ظهور منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي OECD، وذلك لانتشار التوجهات الشعبوية اليمينية بوجه خاص خلال الأعوام السابقة، وما ارتبط بها- في ظل الجائحة- من انتشار سياسة “الدولة أولاً” و”سيادة الدولة”، وكذلك ما يرتبط بها – وبغيرها من المؤثرات- في منظومات التعليم من الانزواء للمناهج المحلية والوطنية والتعليم الأهلي والمنزلي على حساب التعليم الأجنبي والخاص والمؤسسي، وأخيراً – بوجه عام- ما يرتبط بها من ضعف التنسيق الدولي لمواجهة الوباء كما حدث في مواجهة أوبئة أخرى– كإنفلوانز الخنازير وسارس والإيبولا والإيدز وغيرها.
8ـ يتوقع من ازدياد التوجه إلى التعليم الأهلي والمنزلي ازدياد أهمية القيم المجتمعية ومركزيتها للفرد والمجتمع على حساب القيم الفردية، خاصة وأن هذين المسارين هما الأقرب للتحقق في الدول- والفئات المجتمعية- الأفقر والأكثر عرضة للتهميش ونقص الموارد وضعف/انعدام الاستفادة من آليات التعليم عن بعد، وخاصة أن الموجة الأولى من الجائحة (مارس- يونيو 2020) قد أبرزت أن أكثر الدول اعتناقاً للقيم المجتمعية هي أنجح الدول في مواجهة أزمة الوباء دون الإضرار بالاقتصاد الوطني وتهديد سلامة الإنسان، فحيث تنتشر قيم “المسؤولية” و”التعاون” في الفلسفة الاجتماعية والواقع العملي، كانت آليات مواجهة الوباء قائمة على “الالتزام” الفردي وضغوط الأقران وثقافة “الخجل shame” بدلاً عن الإكراه السياسي والإلزام بقوة القانون والضبط القضائي.
ولا يخفى أن أهم مثال في هذا الصدد هي تجربة اليابان، فرغم انتشار قيم الفردانية individualism في المجتمع الياباني عبر كافة مناهجه ومؤسساته وأطره القيمية والعملية من منتصف القرن الماضي، إلا أن قيم “المجاملة والالتزام والخجل” قد نجحت في الاستدامة لعقود بهدف الحفاظ على مصالح الآخرين في إطار حماية الصالح العام، ويأتي هذا في مقابل انتشار الاعتقاد الشائه بالقيم الليبرالية الذي أفضى بمئات المتظاهرين في الولايات المتحدة للاحتشاد بالطرقات دون ارتداء الأقنعة الطبية اعتقاداً بأن إلزام الحكومات الأفراد بارتدائها مخالف لقيم الحرية والفردية- بحسب تعبيرات الرئيس الأمريكي ترامب شخصيُا.
في نموذج اليابان، أدت قيم الخجل والالتزام لتقليل التفاعلات الاجتماعية بنسبة وصلت إلى 70-80%، وبنسبة أعلى في “الأسبوع الذهبي” الذي كان تشغيل قطار اليابان السريع فيه بنسبة 5% من الإشغال، مقارنة بنسبة 105% في الأسبوع ذاته من العام السابق، كما قلت نسب الاحتشاد في طوكيو بنسبة 60%، ومن ثم وقعت 18 ألف إصابة فقط في عموم اليابان، ولم تثقل بهم المنظومة الصحية، بينما بقيت أعداد الوفيات تحت الألف، وحققت اليابان أقل نسبة وفيات لكل 100,000 مواطن في العالم (0,78).
وتكرر النموذج – التركيز على قيم الالتزام المجتمعي والمسؤولية وضغوط الأقران- بنجاح في أوروجواي، ما يعني بشكل أوضح، بروز فكرة التنظيم الذاتي للأفراد والمجتمع – سيما في مجال التعليم- بعيداً عن سطوة الدولة، وتراجع الاعتقاد بقيم وقواعد الديمقراطية لصالح أولويات وقيم التنظيم الذاتي والإدارة المحلية/الوطنية، حيث صارت الفجوة بين دلالة “الديمقراطية” ودلالة “الحقوق المدنية الكاملة وسيادة القانون” آخذه في الاتساع لصالح الإدارة الذاتية والقيادة الفاعلة خصوصاً في أشد المجتمعات والفئات تضرراً من الجائحة، ومن ثم لا يتوقع أن تسفر مخرجات التعليم – بتوجهاته الحالية- في السنوات المقبلة عن نفس أنماط القيم والسلوك التي أفرزتها قبل انتشار الوباء، في ظل تقلبات دائمة في منظومة الديمقراطية الليبرالية قيماً ونظماً وممارسة.
الهامش
[1] ستين روكان، 1999، تكوين الدولة، بناء الشعب، والسياسة العامة في أوروبا: نظرية ستين روكان بناء على مجموعة من أعماله، (بالانجليزية state formation, Nation-building, and Mass Politics in Europe: The Theory of Stein Rokkan: Based on his Collected Works) مطبعة جامعة أكسفورد، المملكة المتحدة.
[2] تجدر الإشاة أن تقرير للأمم المتحدة عن أنماط وتكوين الأسر في 2017 يشير إلى أن نسبة الأسر التي تعيلها الأمهات بلغت 47% في شمال الولايات المتحدة و37 بالمئة في أوروبا، 34 بالمئة في أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، مقارنة ب 27 بالمئة في أفريقيا و19 بالمئة في آسيا.
[3] راجع كتاب “الثقافات في التعليم العربي: دراسات أثنوجرافية نقدية من مصر” تحرير ليندا هريرا وكارلوس ألبرتو توريس،2006، نيويورك. وكتاب “تحديث الإسلام: الإسلام في المجال العام في الشرق الأوسط وأوروبا”، تحرير جون اسبوزيتو وفرانسوا بورجات، 2003، مطبعة جامعة روتجرز، نيوجيرسي.
رابط المصدر: