محمد علي جواد تقي
مفاجأة صادمة يتعرض لها ابناء الجالية العراقية في البلاد الغربية، الى جانب سائر الجاليات الاخرى لما كشف من حقائق خلال الحرب في اوكرانيا، بعد أن بنى الكثير آمالهم وتطلعاتهم على حياة أفضل في هذه البلاد منذ حوالي اربعين، أو خمسين عاماً، من أبسط انسان –من حيث الفهم والادراك- عندما التقيته قبل حوالي 35 سنة وهو يتغنّى بأوروبا معبراً عن همّه ومكنوناته بانها “تحترم الانسان ولا يُهان فيها أحد”!، الى أكبر عالم وباحث التقيته منشغلاً بالكتابة والدراسة والعمل والنشر، متنعماً بالحرية في هذا المجال، وهو ما لم يجدوه في بلدانهم المسكونة بالديكتاتورية والفوضى والعنف.
القضية لم تعد تتعلق بأحداث في الشرق الاوسط او شمال افريقيا، وعموم البلدان الاسلامية –المتخلّفة- وإنما بأحداث ملتهبة قريبة من اوربا الغربية ذات آثار خطيرة وسريعة على هذه الدول، وبلاد عديدة في العالم، عندما تحول الشعب الاوكراني بين ليلة وضحاها الى درع بشري عظيم لمواجهة التغوّل الروسي، فقد بان الصدع في الخطاب الاميركي العتيد على لسان اكثر من رئيس طيلة السنوات الماضية بأن الولايات المتحدة “لها مسؤوليات في العالم للحفاظ على قيم الديمقراطية والحرية”.
بعيداً عن ملابسات المواجهة العسكرية الدائرة بين نظام الحكم القائم في كييف والقوات الروسية ومن خلفها قرارات الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، فالقضية لها خلفية تاريخية، ومشاكل عرقية، الى جانب نزاع نفوذ قديم بين الشرق والغرب منذ الحرب العالمية الثانية في اوربا الشرقية عموماً، وفي هذه الجمهورية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي السابق تحديداً، إنما المهم عندنا هو موقف الجاليات الاسلامية والعراقية تحديداً في اوربا والغرب التي حملت معها الى هذه البلاد القيم الاجتماعية والانتماء، وحاولت جهدها التوفيق بين ما لديها وما لدى البلدان المضيفة من قيم وقوانين.
أثبت العراقيون دون سائر الجاليات في الغرب على نجاحهم الباهر في اختبار التوفيق ذاك، فهم في مقدمة المتضامنين مع الشعوب في اوربا واميركا الشمالية واستراليا في مواجهة كوارث طبيعية كما حصل في حرائق وسيول استراليا، وفي جائحة كورونا الرهيبة، فقد فتحت المساجد والحسينيات ابوابها لتقديم مختلف اشكال الدعم والمساعدة للناس، من مسلمين وغير مسلمين، منها ما ذكره لنا السيد علي الرضوي، أحد علماء الدين المقيمين في استراليا بان احدى الحسينيات في مدينة ملبورن كانت تعمل على مدى ست ساعات يومياً لأعداد الطعام للمحتاجين والمتضررين من الحجر الصحي، و شواهد لا تُعد من اوربا واميركا وكندا عن أيام الشدّة و ذروة انتشار الفايروس خلال عام 2020.
وبشكل عام فان السنوات الماضية شهدت فعاليات ونشاطات ومواقف تعبر عن الأخلاق والآداب والتعاليم الانسانية، كما تؤكد في الوقت نفسه عن التزام تام بالقوانين السائدة في البلاد الغربية، الى جانب الآثار الطيبة التي تركته هذه الفعاليات في نفوس المجتمع الغربي بشكل عام.
أما اليوم فان الغرب ليس أمام كوارث طبيعية او أزمة صحية، إنما كارثة جهنمية غير طبيعية، بل من صنع الانسان، وهي تبدو كإعصار مرعب قادم من بعيد، فالقضية لا تتوقف عند إعداد وجبات الطعام وتوزيعها على المحتاجين، وإنما تتطلب موقفاً محدداً إزاء طرفي النزاع العسكري الدائر في اوكرانيا، و رغم عدم دخول اوربا بمؤسستها الاقتصادية (الاتحاد الاوربي)، والعسكرية (الناتو) الى جانب حكومة كييف، بيد ان الاصطفاف السياسي جاء سريعاً منذ اول رصاصة اطلقلها الجيش الروسي على اوكرانيا، بمعنى إننا أمام جبهتان: الجبهة الروسية، والجبهة الغربية، ولا حياد في الساحة.
معظم من اتصلت بهم من العراقيين المقيمين في اوربا واميركا الشمالية يؤكدون ميولهم الى بوتين وقراراته اكثر من زعماء البلدان الغربية الذين مارسوا نفاقاً وسياسة مزدوجة بحثاً عن مصالحهم في اوربا و درءاً للتمدد والتغوّل الروسي، رغم ما خلقته هذه السياسة المزدوجة من مشاهد انسانية مؤلمة حيث تشريد عشرات الآلاف من النساء والاطفال هرباً من نيران المعارك صوب المناطق الحدودية، ومن هم قابعون في الملاجئ في المدن المستهدفة بالقصف الروسي، ولا أدلّ على هذا من التنديد المستمر لرئيس اوكرانيا الحالي بالغرب برمته، و بمواقفه المتخاذلة التي وعدت بالدعم والمساندة ثم تركتهم وحيدين أمام الزحف العسكري الروسي.
فيما مضى من الزمن كان الحديث عن التجاهل الغربي لمصائر الشعوب المسلمة طيلة عقود من الزمن، من خلال الوقوف وراء صعود أنظمة حكم ديكتاتورية وخلق حروب وأزمات، ثم ظهر فيما بعد مصطلح “نظرية المؤامرة” محاولاً إظهار هذه الحقائق على أنها أشبه بروايات لأحلام مرعبة! فلا وجود لمثل هذه الامور في الواقع، واليوم الواقع يتكلم بأعلى صوته أن الغرب ليس فقط يتجاهل مصائر الشعوب المسلمة، وإنما الشعوب القريبة عليه، وربما الشعوب الغربية نفسها اذا انزلقت المعارك الراهنة في اوكرانيا الى حرب إبادة، او تطبيق سياسة الارض المحروقة، كما حصل في سوريا، من خلال دخول المقاتلين المرتزقة مسرح الاحداث، او وصول شرار المعارك الى دول مجاورة في اوربا الشرقية.
ان ارتفاع اسعار وقود الشاحنات والسيارات، وارتفاع اسعار المواد الاساسية في اوربا واميركا ربما يكون السطر الاول من سيناريو الحرب الطويلة بآثار وانعكاسات على حياة المواطنين، ومنهم الجاليات المسلمة، فمن غير المتوقع ان يكون المسلمون والعراقيون تحديداً بعيدين عن هذه الآثار، يكفي الاشارة الى أني سمعت من أحد المقيمين في اوربا يتحدث بثقة وايمان قبل سنوات طوال بأن الروس هم أعداء المسلمين وليس الاوربيين! ويبدو ان هذا ما تلقاه من المحاضرات التثقيفية، إذن؛ فالقضية ليست بجديدة، إنما صراع نفوذ وهيمنة وعلى الجالية العراقية تحديداً صياغة خطاب وموقف موحد وثابت إزاء هذا الصراع المرير، او تكون طرفاً في هذه المعركة.
.
رابط المصدر: