مها علام
أعاد مشهد العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، في 24 فبراير الماضي، للأذهان ملامح من الحرب الباردة بين روسيا من جانب والغرب من جانب آخر، بل وتوقعات باعتبار المشهد مقدمة لـــــ”حرب عالمية ثالثة” تطال عواقبها الجميع. ومثّل العدوان الروسي تحديًا واضحًا للولايات المتحدة وحلفائها، ومحاولة روسية للتأكيد على مكانتها كقوة عظمى تستطيع أن توجه مجريات الأمور لصالحها. فيما سعت الولايات المتحدة للرد على ذلك من خلال تضييق الخناق على روسيا عبر حزمة ضخمة من العقوبات الاقتصادية، مع تقديم تأكيدات متكررة على عدم انخراط واشنطن في القتال الدائر في أوكرانيا. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن تأثير هذا المشهد المعقد على واشنطن؛ وعن إمكانية استغلال واشنطن للمشهد لتحقيق مصالحها.
مصالح قائمة وأرباح ممكنة
اتجهت بعض التحليلات –في بداية الأزمة- إلى استبعاد مسألة التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، معتبرين أن غاية ما يمكن أن تقوم به روسيا هو العمل على تحقيق أقصى درجة من ابتزاز الغرب وليس الانزلاق نحو الحرب، مما يعني أن مشهد التصعيد مثّل صدمة لعدد من المحللين والمراقبين؛ بل ودفع البعض إلى اعتباره اختبارًا حقيقيًا لاستمرار قيادة واشنطن للعالم، وكذا امتحانًا لقدرة النظام الدولي القائم على القواعد.
بعبارة أخرى، ساهم التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا في النيل من صورة واشنطن، والتشكيك في مكانتها على رأس هيكل النظام الدولي، سيما وأن مشهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان لم يتلاشَ من الأذهان. الأمر الذي يعني أن هناك تداعيات سلبية على الولايات المتحدة وحلفائها لا يمكن إغفالها، ولكن يبدو أن هناك جانبًا آخر يحمل فرصًا لواشنطن تستطيع من خلالها أن تحقق مصالح كبرى.
فمع إلقاء نظرة تحليلية على التاريخ يتضح أنه على الرغم من فداحة وهول الحربين العالميتين الأولى والثانية، استطاعت واشنطن أن تحقق مكاسب جمة، بل وتؤكد على أهمية ومكانة واشنطن العالمية. فخلال الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من حيادها السياسي، اتجهت واشنطن إلى دعم محور الحلفاء اقتصاديًا، ولعب المصرفي الكبير “جي بي مورجان” دورًا كبيرًا في توفير قروض الحرب لبريطانيا وفرنسا وروسيا، ثم أعاد الحلفاء توجيه هذه الأموال إلى الولايات المتحدة من أجل شراء الأسلحة والذخائر والمنتجات، أي تحقيق واشنطن لمكاسب اقتصادية.
كانت جيوش الحلفاء محطمة ومنهكة جراء أكثر من ثلاث سنوات من الحرب، وقد لعب الأمريكيون دورًا مهمًا في السنة الأخيرة من الحرب. وبهذا مهدت الحرب الظروف لظهور الولايات المتحدة، التي عانت من خسائر قليلة نسبيًا، بوصفها قوة رأسمالية مهيمنة. فقد أكد الرئيس “وودرو ويلسون” عند إعلان الحرب على ألمانيا عام 1917 أن الولايات المتحدة تشن حربًا “لإنهاء كل الحروب”. ومن ثم، ظهرت الولايات المتحدة كلاعب دولي رئيسي يمكنه التحكم في قواعد اللعبة، واتجهت إلى معارضة الهيمنة الأوروبية على الشئون العالمية، مما يعني وجود إدراك أمريكي مبكر مفاده أن استمرار هيمنتها على الساحة الدولية يتطلب انحسار الهيمنة الأوروبية. وعلى الصعيد الداخلي، فقد شهدت الساحة السياسية زخمًا مماثلًا، إذ جرى تأمين حق التصويت للنساء بعد انضمام الآلاف منهن إلى الجيش والعمل في المصانع، وبهذا بدأ نطاق الحديث يتسع ضد التفرقة العنصرية.
تمامًا كما في الحرب العالمية الأولى، لم تكن واشنطن طرفًا في الحرب العالمية الثانية حينما اندلعت في سبتمبر 1939، إذ كانت لا تزال ملتزمة بقانون الحياد الصادر عن الكونجرس في عام 1935 الذي نص على حظر إعطاء القروض والتسهيلات الائتمانية بغرض التسلح للدول المتحاربة. لكن مع تطور الحرب أدركت أن حيادها ربما يعرقل مصالحها السياسية والعسكرية. وفي أكتوبر عام 1941، أي قبل أسابيع من هجوم “بيرل هاربور”، أقر الكونجرس “قانون الإعارة والاستئجار” الذي أعطى الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” سلطة غير محدودة لتوجيه الموارد مثل الذخيرة والطائرات المقاتلة والدبابات لدعم الحلفاء في حربهم ضد ألمانيا. تحت مظلة القانون، أرسلت واشنطن إلى الحلفاء إمدادات بقيمة اقتربت من 50 مليار دولار، استحوذت بريطانيا منها على نصيب الأسد، لكن في مقابل شروط قاسية تتعلق بالتخلي عن النمط الإمبراطوري.
وفي خضم ذلك، وجدت واشنطن نفسها مضطرة للدخول في الحرب بعد هجوم المقاتلات اليابانية على “بيرل هاربور” في ديسمبر 1941. هذا وقد عملت واشنطن على استعراض أقصى درجات القوة من خلال استخدام القنابل النووية؛ من أجل تأكيد قوتها على الساحة الدولية بالتوازي مع سياسة تحجيم النفوذ الأوروبي التي انعكست في التباين في تعامل واشنطن مع الدول الأوروبية المختلفة، سواء من الحلفاء أو المحور. ومع اتساع نطاق الحرب، سارعت واشنطن إلى وضع خطة طارئة لتوسيع القاعدة الصناعية وزيادة الإنتاج العسكري، وهو ما ساهم في دعم وازدهار الاقتصاد الأمريكي الذي كان لا يزال يحاول التعافي من آثار الكساد العظيم. ثم ساهمت خطة “مارشال” التي نُفذت في أعقاب الحرب لمساعدة أوروبا اقتصاديًا في فتح أسواق جديدة أمام السلع الأمريكية وتعزيز نمو الاقتصاد الأمريكي. ويعد اتفاق “بريتون وودز” عام 1944، الذي ساهم في إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هو الخطوة الأهم في تعزيز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم.
واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن الولايات المتحدة استطاعت أن تستغل الحربين العالميتين لتحقيق مجموعة من المصالح؛ أبرزها: تعزيز مكانة واشنطن على رأس النظام الدولي، ودعم المصالح الاقتصادية بطريقة سمحت بإقالة الاقتصاد الأمريكي من عثرته جراء الكساد العظيم، إضافة إلى تقوية القطاع العسكري الأمريكي بطريقة جعلتها دولة الإنتاج والتصدير الأولى في هذا المجال. وقياسًا على التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، يتضح أنها حرب جديدة على الساحة الأوروبية، تستهدف أصدقاء واشنطن، وتهدد أمن حلفائها في “الناتو”، وتسعى لضرب القيم والثوابت الأمريكية، وترغب في زعزعة مكانة واشنطن. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن إغفال وجود جملة من المصالح التي يمكن لواشنطن أن تحققها جراء هذا التصعيد. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أبرزها:
- شغل الداخل الأمريكي:
يمكن القول بشكل عام إن الشارع الأمريكي يعد الهدف الأساسي لأي إدارة أمريكية، سيما في السنوات التي تشهد انتخابات سواء رئاسية أو برلمانية؛ علمًا بأن العام الحالي سيشهد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس مما يعني أن الإدارة الأمريكية بحاجة إلى قضية يمكن توظيفها لكسب ود الناخبين الأمريكيين. وارتباطًا بذلك، تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئيس “جو بايدن” سعت منذ الأيام الأولى داخل المكتب البيضاوي إلى التأكيد على رغبتها في الانقضاض على ميراث الرئيس “دونالد ترامب” الذي ساهم في تراجع مكانة واشنطن، وعمل على تقويض البعد القيمي للقيادة الأمريكية. لذا، أكد الرئيس “بايدن” في أكثر من مناسبة على استعادة واشنطن لمكانتها العالمية، وعلى أهمية تعزيز القيم الأمريكية، مع التأكيد على دعم الحلفاء والشركاء في إطار سياسة تسعى لتقسيم العالم بين محورين (الديمقراطي مقابل الاستبدادي). وعلى الرغم من كون القضايا الداخلية أكثر التصاقًا بالشارع الأمريكي إلا أنه لا يمكن استبعاد التهديدات الخارجية تمامًا من دائرة اهتمام الشارع الأمريكي، سيما التهديدات التي تستهدف مكانة واشنطن وحلفاءها وشركاءها، وهو ما يمكن استنتاجه من خطاب (حالة الاتحاد) الذي ألقاه “بايدن” في مستهل مارس الجاري، والذي كان من المفترض أن يركز بشكل أساسي على الأجندة الداخلية للرئيس، لكن الحرب على أوكرانيا قد فرضت نفسها. فقد غلفت الأجواء المحيطة بإلقاء الخطاب حالة من الإيجابية والدعم والتأييد؛ إذ تخلل الحدث –عدة مرات– وقوف من الحاضرين وتصفيق حاد من قبل الديمقراطيين والجمهوريين على السواء.
وأظهر استطلاع أجرته شبكة “سي.بي.اس”، في مستهل مارس، أن 73% من الأمريكيين يريدون أن يتطرق “بايدن” إلى العدوان الروسي ضد أوكرانيا، قبل أن يتحدث عن الاقتصاد أو عن جائحة كورونا. كما أشارت بعض استطلاعات الرأي مثل (Marist College / NPR / PBS NewsHour)، التي تمت خلال مارس الجاري، إلى تزايد شعبية “بايدن” في أعقاب الغزو الروسي بما يقرب من خمس نقاط، ولكن لا يزال معدل شعبيته بشكل عام متواضع، مما يعني أن معدل شعبيته خاضع لتأثير أي تغيرات جديدة قد تحدث. فقد كشف استطلاع صادر عن شبكة “سي. بي. إس”، في 13 مارس الجاري، أن نسبة المواقفة وصلت إلى 63% على فرض عقوبات على البترول والغاز الروسي، حتى وإن ساهم ذلك في ارتفاع الأسعار في الداخل. الأمر الذي يعني أن الشارع الأمريكي بات ينظر إلى التصعيد الروسي على أوكرانيا في إطار كونه تهديدًا حيويًا يستلزم رد فعل قوي وحاسم من جانب واشنطن حتى لو تسبب في تكلفة كبرى. ومن ناحية أخرى، شهدت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة تزايدًا في معدل العنف الداخلي، من قبل الأفراد والجماعات المسلحة. ومن ثم، فإن اتجاه هؤلاء صوب الساحة الأوكرانية، في إطار الدعوة لحشد المقاتلين الأجانب، قد يساهم في تقليل العنف على الساحة الأمريكية. فبحسب تقارير صحفية، فإن السفارة الأوكرانية في العاصمة واشنطن، قد شهدت إقبالًا ملحوظًا للمتطوعين الراغبين في القتال في أوكرانيا؛ وذلك على الرغم من التحذيرات المتعددة التي أطلقتها الخارجية الأمريكية بشأن المشاركة في القتال في أوكرانيا.
- دَفعة للاقتصاد الأمريكي:
على الرغم من المكاسب الاقتصادية التي استطاع الرئيس “ترامب” تحقيقها خلال السنوات الثلاث الأولى من حكمه، إلا أن اندلاع جائحة كورونا قد ساهم في التهام هذه المكاسب، بل وأدى أيضًا إلى وصول إدارة ديمقراطية جديدة على أمل إعادة توجيه دفة الاقتصاد. ومع وصول الإدارة الديمقراطية، توالت موجات جديدة من الجائحة التي أحدثت قدرًا من التعثر ولو بمعدلات مختلفة. وهو ما انعكس بوضوح في خطاب (حالة الاتحاد) الذي ذكر خلاله “بايدن” أن الاقتصاد الأمريكي “استطاع أن يضيف أكثر من 6.5 مليون وظيفة جديدة العام الماضي فقط”، كما حقق الاقتصاد “نموًا بمعدل 5.7٪ العام الماضي، وهو أقوى نمو منذ ما يقرب من 40 عامًا”. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن حالة التعافي الاقتصادي لم تتم بالشكل الكافي، لا سيما وأن معدل التضخم يبدو الأعلى منذ أكثر من 40 عامًا. وعليه، يبدو أن الاقتصاد الأمريكي بحاجة إلى دفعة قوية جديدة.
ردًا على التصعيد الروسي ضد أوكرانيا، شنت واشنطن حربًا اقتصادية شرسة ضد موسكو سعت من خلالها إلى عزلها عن العالم، مما ألقى بظلاله على الساحة الاقتصادية الدولية من خلال وقوع ارتباك في سلاسل التوريد، والارتفاعات الكبرى في أسعار السلع والمنتجات والخدمات؛ الأمر الذي قد يعزز فرص المنتجات الأمريكية. على مدى سنوات، كانت الولايات المتحدة ثاني أكبر مصدر للقمح والدقيق ومنتجات القمح من حيث حجم الصادرات، بعد روسيا. في عام 2020، بلغت قيمة صادرات القمح الأمريكية 6.3 مليار دولار، بسبب زيادة الطلب من الصين. كما ارتفعت صادرات الذرة الأمريكية في العام ذاته (20 في المائة) لتصل إلى 9.2 مليارات دولار. وقد بلغ إجمالي الصادرات إلى الصين 1.2 مليار دولار، وهو الأكبر منذ عام 2012؛ إذ تعد كل من الولايات المتحدة وأوكرانيا مصدرين رئيسيين للصين. وفي هذا السياق، قال وزير الزراعة الأمريكي “توم فيلساك”، خلال جولته بالإمارات في 19 فبراير الماضي، إن “مزارعي القمح الأمريكيين سيعززون الإنتاج ويمنعون مشاكل سلسلة التوريد في حال تسبب الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا في خنق الصادرات الزراعية من الحبوب”. مضيفًا أن النزاع في أوكرانيا سيوفر “فرصة لنا للتدخل ومساعدة شركائنا خلال الأوقات الصعبة”.
ومن جانب آخر، تبدو مسألة التضييق على البترول والغاز الروسي فرصة لدعم قطاع الطاقة الأمريكي على الساحة الدولية. فوفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، خلال عام 2021، صدرت الولايات المتحدة حوالي 8.63 مليون برميل في اليوم من البترول إلى ما يقرب من 176 دولة. وشكلت صادرات النفط الخام حوالي 2.98 مليون برميل في اليوم 35٪ من إجمالي الصادرات البترولية الأمريكية في عام 2021. وبلغ إجمالي صافي الواردات البترولية (الواردات ناقص الصادرات) حوالي -0.16 مليون برميل في اليوم في عام 2021، مما يعني أن الولايات المتحدة كانت مُصدِّرة صافية للبترول بقيمة 0.16 مليون برميل في اليوم في عام 2021. وفي مستهل العام الجاري، تمكنت الولايات المتحدة من الاستحواذ عن لقب أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، عقب ارتفاع عمليات التسليم إلى أوروبا. ومن المتوقع أن تمتلك الولايات المتحدة أكبر قدرة تصديرية في العالم بحلول نهاية عام 2022 بمجرد بدء تشغيل محطة “كالكاسيو باس” التابعة لشركة “فينتشر جلوبال”. واستنادًا إلى ذلك، تبدو هناك رغبة لتعزيز دور الولايات المتحدة كمورد للطاقة، فقد اعتبر النائب الأمريكي “كينيث روبرت باك” أن زيادة إنتاج الغاز الطبيعي في كولورادو يمكن أن يساعد المرافق الأوروبية على تعويض اعتمادها الكبير على الغاز الروسي. وأثناء خطاب )حالة الاتحاد(، ارتدت النائبة الأمريكية “لورين بويبرت” شالًا أسود عليه رسالة بسيطة على ظهره: “Drill Baby Drill” دعمًا لزيادة عمليات التنقيب عن البترول والغاز مستقبلًا.
- دعم صناعة السلاح الأمريكية:
يبدو أن صناعة السلاح قد هيمنت على السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد أثبتت في أكثر من مناسبة أنها طوق النجاة للاقتصاد الأمريكي. إن توسع صناعة السلاح وتطورها يؤدي إلى نمو ما يسمى “المجمع العسكري – الصناعي Military–industrial complex”، الذي يضم الشبكة الكاملة للعقود وتدفقات الأموال والموارد بين الأفراد والشركات والمؤسسات لمقاولي الدفاع والمتعاقدين العسكريين الخاصين و”البنتاجون” و”الكونجرس” والإدارة. وقد سمحت سياسة الباب الدوار “Revolving Door”، أي الانتقال في المناصب بين شركات الأسلحة والمناصب الحكومية بزيادة تأثير هذا اللوبي على السياسة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، كان وزير الدفاع الحالي “لويد أوستن” عضوًا في مجلس إدارة شركة Raytheon (التي تعد واحدة من خمس شركات تصنيع أسلحة أمريكية تهيمن على صفقات الأسلحة الرئيسية في العالم) قبل انضمامه إلى الإدارة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي “دوايت أيزنهاور” قد تنبه إلى خطورة هذا اللوبي، إذ قال في خطاب له عام 1958: “علينا ألا نسمح لهذا للتجمع الصناعي العسكري بأن يهدد حياتنا وديمقراطيتنا”. ويُطلق على التوجه القائم على زيادة الإنفاق العسكري لتحفيز النمو الاقتصادي، مصطلح “الكينزية العسكرية”.
بعد أيام من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ومع اتجاه المسئولين الأمريكيين إلى التأكيد على إنهاء الحروب التي استمرت لعقود، صوتت لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب –على غير المتوقع- على تحديد ميزانية الدفاع لعام 2022 بزيادة وصلت إلى 24 مليار دولار. تلك الزيادة التي يمكن استغلالها في خضم التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، سيما مع اتجاه واشنطن لزيادة الدعم العسكري المقدم إلى أوكرانيا من جانب، وتعزيز قوة حلفاء “الناتو” بشكل عام، وفي أوروبا الشرقية بشكل خاص. بعبارة أخرى، فإن التهديدات الكبيرة التي تواجهها أوروبا حاليًا جراء التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، قد أدت إلى هواجس أمنية دفعت الدول الأوروبية إلى تعزيز دفاعاتها، الأمر الذي يعني في مضمونه فرص تزايد مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى أوروبا. فعلى سبيل المثال، ووفقًا لمصادر حكومية أمريكية تحدثت لوكالة “رويترز”، قررت ألمانيا شراء طائرات من طراز “إف-35” من صنع شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية لتحل محل طائرة “تورنادو” القديمة. هذا وتعمل النزاعات -بشكل عام- كمختبرات لتسهيل استخدام تقنيات الأسلحة الناشئة، التي تحمل قدرًا أكبر من الدعاية نتيجة التغطية الإعلامية الكثيفة للبؤر الساخنة. بعبارة أوضح، سيصبح لدى شركات الأسلحة الأمريكية مساحة أكبر لاستغلال الساحة الأوكرانية المشتعلة للترويج والدعاية لبعض التقنيات والأسلحة الجديدة، الأمر الذي سيساهم في زيادة مبيعاتها حول العالم وليس في أوروبا فقط.
- تعزيز التحالف عبر الأطلسي:
شهدت فترة حكم “ترامب” ارتدادًا وتراجعًا للتحالف عبر الأطلسي، بطريقة ساهمت في تحقيق قدر من التقارب بين أوروبا وروسيا من جانب، وأوروبا والصين من جانب آخر. وهي المعضلة التي أدركتها إدارة “بايدن” مبكرًا، وسعت إلى التعاطي الفعال معها. فقد انعقد مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2020 تحت عنوان “أفول الغرب”؛ إذ لم يقتصر الأمر على اتخاذ الولايات المتحدة وأوروبا مواقف منفصلة ومتضاربة بشأن كل شيء من الاتصالات إلى الطاقة، ولكن وصل الأمر إلى خلافات حادة حول اللبنات الأساسية لعمل النظام الدولي. ولم تقف المسألة عند هذا الحد، وإنما وصل هذا الإحساس إلى الشعوب الأوروبية؛ ففي استطلاعات الرأي التي جرت خلال 2020، ومنها الاستطلاع الذي أصدره Pew Research أظهر أن 57 في المائة من الألمان لديهم وجهة نظر غير مواتية تمامًا للولايات المتحدة. وهي نتيجة مشابهة لما أفاد به (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)، أن 70 في المائة من الألمان يريدون أن تظل بلادهم محايدة في أي صراع بين موسكو وواشنطن.
واستنادًا إلى ذلك، اتجهت بعض التحليلات إلى أن العلاقات عبر الأطلسي باتت في طريقها للانفصام بين مسارين: (الأنجلو – أمريكي) و(الأوروبي). الأمر الذي بات يحمل في طياته تأكيدات على اختلاف الأولويات بين واشنطن من جانب وحلفائها الأوروبيين من جانب آخر؛ سيما مع دعوات بناء الجيش الأوروبي الموحد. وعليه، يبدو أن التصعيد الروسي ضد أوكرانيا يحمل فرصًا كبيرة لإعادة تبني أجندة موحدة للعلاقات عبر الأطلسي؛ إذ إن الدعم الأمريكي الكبير الذي قدمته واشنطن لحلفائها الأوروبيين أعاد التأكيد على أهمية دور ومكانة واشنطن. إذ أكد “بايدن” في أكثر من مناسبة على أن التنسيق بين حلفاء وشركاء واشنطن بلغ أعلى مستوياته. فضلًا عن كونها دليلًا عمليًا على أهمية “الناتو”، ودوره الحيوي في حماية أمن أوروبا. علاوة على ذلك، فقد دفعت هذه الأزمة إلى أزمة ثقة بين الأوروبيين وروسيا، انعكست في الرغبة في البحث عن بدائل للطاقة الروسية، وهو ما سعت إليه واشنطن لسنوات دون تأثير حقيقي. ناهيك عن اتجاه الدول الغربية لزيادة إنفاقها الدفاعي، وهي النقطة الخلافية التي استمرت لعقود، إذ إن معظم الرؤساء الأمريكيين منذ “دوايت أيزنهاور” قد علقوا على عدم وفاء حلفائهم الأوروبيين بنصيبهم العادل في الدفاع. عطفًا على ما سبق، يبدو أن هذه الأزمة ستؤثر بلا شك على قوة أوروبا واستقرارها، مع تزايد فرص تحول الساحة الأوكرانية لبؤرة استنزاف، بطريقة قد تنهي أحلام الاستقلال الأوروبي، بل وتدفع القارة العجوز نحو مزيد من الاعتماد على الحليف الأمريكي، واعتباره الضامن الأساسي لأمن أوروبا.
- التأكيد على قوة النظام الدولي:
على الرغم من أن التصعيد الروسي ضد أوكرانيا قد حمل رسالة واضحة لدحض النظام الدولي القائم على القواعد، والتأكيد على الدخول في منعطف جديد يحمل قواعد مختلفة للعبة، سيما في أعقاب الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان؛ إلا أنه فيما يبدو أن الولايات المتحدة قد أدركت هذه التهديدات مبكرًا وسعت إلى صدها، وذلك من خلال التأكيد بداية على القيادة الأمريكية التي تزعمت كافة جهود عقاب روسيا وعزلها عن العالم على كافة الأصعدة (السياسية والاقتصادية والعسكرية). الأمر الذي يعني أن الحرب الأوكرانية وفرت لواشنطن فرصة لإعادة تأكيد قيادتها للعالم، وتعزيز دورها في توجيه قواعد اللعبة السياسية على الساحة الدولية. عطفًا على ذلك، أكدت واشنطن، في أكثر من مناسبة، أن خطوة التصعيد الروسي لم تستهدف أوكرانيا فحسب، وإنما استهدفت النظام الدولي القائم على القواعد. لذا، اتجهت واشنطن إلى المنظمات الدولية من أجل إرسال رسالة مفادها أن هذه المؤسسات لا يزال بيدها منح الشرعية. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات لم تنجح في ثني روسيا عن تصعيدها، إلا أنها وجهت رسالة ضمنية لروسيا مفادها أن أغلب دول العالم تصطف خلف واشنطن.
وعلى الجانب الآخر، يبدو أن ما يجري من عقاب ضد روسيا يحمل درسًا لكافة دول العالم، وفي مقدمتهم الصين، مفاده أن واشنطن هي التي تملك “المنح والمنع”. إذ سمحت واشنطن لموسكو بالاندماج في النظام الدولي المعولم على مدار سنوات، وفي لحظة العقاب قررت عزلها عن العالم. الأمر الذي قد يدفع الصين إلى التريث قبل الاتجاه لتحدي الولايات المتحدة، لأن من شأن هذا التحدي أن يؤدي إلى آلام اقتصادية قاسية. علاوة على ذلك، فإن عودة واشنطن للعب دور كبير في أوروبا وتقديم الدعم لقضايا القارة الأوروبية، يتطلب من حلفائها الأوروبيين اتخاذ موقف مماثل تجاه القضايا التي تهم واشنطن، وبالأخص الموقف من الصين، والتوجه صوب منطقة المحيطين (الهندي- الهادئ).
مجمل القول، إن التصعيد الروسي ضد أوكرانيا يحمل عددًا من المكاسب التي يمكن أن تحصدها واشنطن؛ إلا أنه في المقابل لا يمكن إغفال أن هذا التصعيد قد يفرض في الوقت ذاته تكاليف مرتفعة، بل ويحمل قدرًا عاليًا من المخاطرة التي قد تؤدي إلى سلسلة متصلة من المخاطر.
.
رابط المصدر: