د. عبد التواب بركات
أعلنت الحكومة الإثيوبية يوم الجمعة 12 أغسطس/ آب 2022 عن اكتمال الملء الثالث لبحيرة السد الذي تقيمه على النيل الأزرق، وتخزين 22 مليار متر مكعب من المياه، وتدشين ثاني توربينات توليد الكهرباء من سد النهضة. وقال رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد أن بلاده تقوم ببناء السد بهدف توليد الطاقة بحيث تتمكن من إخراج سكانها الكثيرين الذين لم يشهدوا الكهرباء من قبل من الظلام، وللتخفيف من حدة الفقر في إثيوبيا بتصدير كهرباء السد للدول المجاورة وأوروبا.
فهل سيحل سد النهضة أزمة الكهرباء في إثيوبيا ويخرج شعبها من الظلمات إلى النور، وهل سد النهضة هو الحل السحري والعلاج من الفقر في إثيوبيا كما يزعم أحمد؟! وهل هو مفتاح النهضة الإثيوبية كما أطلق عليه رئيس الوزراء الراحل والأب الروحي للسد، ميليس زيناوي، بعد أن كان يسمى السد إكس، أو المجهول؟! وهل لسد النهضة ثمار تنموية من حق اثيوبيا أن تنعم بها، وأن مصر، كدولة، تساند حق الشعب الإثيوبي في التنمية، كما صرح بذلك الجنرال عبد الفتاح السيسي؟!
هذا ما أفنده هنا، دون التعرض لتداعيات السد الوجودية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في مصر والسودان، كما وصفها في مجلس الأمن في مايو سنة 2020 وزير الخارجية المصري سامح شكري في مجلس الأمن، وهي كافية لو أرادت مصر أو السودان، رغم إنكار إثيوبيا، وقف بناء السد، أو تقليل حجم الخزان السد إلى 14 مليار متر مكعب بدلا من 74 مليار.
ونتناول في هذا المقال الجدوى الاقتصادية وكفاءة سد النهضة كمشروع قالت الحكومة الإثيوبية إنه يهدف إلى كهربة إثيوبيا وعلاج فقرها وإطلاق شرارة نهضتها. وأعني بهذا المقال المواطن الإثيوبي الذي تخفي عليه حكومته الأهداف والحقائق حول السد، وكذلك المحللين الإثيوبيين الذين يظهرون في الإعلام المصري ويروجون لفوائد السد الاقتصادية المغلوطة. وسنركز فقط على تقييم المنظمات الدولية المحايدة والخبراء الإثيوبيين المتخصصين في الطاقة الكهرومائية والجدوى الاقتصادية حتى يكون الشاهد من أهلها.
كفاءة توليد الكهرباء 33%
في دراسة للخبير الإثيوبي المتخصص في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية، ميهاري بيين، تحت عنوان: ما هي كفاءة سد النهضة الإثيوبي الكبير؟! نشرتها في وقت مبكر منذ الإعلان عن إنشاء السد مؤسسة الأنهار الدولية في 20 يوليو/تموز 2011، أثبت بيين أن كفاءة سد النهضة في توليد الكهرباء لن تزيد عن 33% فقط، وهي نسبة منخفضة مقارنة بكفاءة المشاريع الكهرومائية حول العالم وهي أكثر من 50%، وفق معايير وكالة الطاقة الدولية لسنة 2010.
وقال بيين إن الكهرباء التي سيتم توليدها من السد بكفاءة مقدارها 33% تعادل الطاقة المنتجة من سد طاقته 2872 ميجاوات ويعمل بكفاءة مقدارها 60%. وبالتالي يمكن تخفيض إجمالي نفقات السد بنسبة 40-45% على الأقل من خلال بناء سد أصغر وبكفاءة توليد أعلى للطاقة. وخلص إلى أن سد النهضة هو مشروع يفتقر إلى الكفاءة إلى حد كبير وحُدد له حجم مبالغ فيه، ومغالى في تكلفته، وبالتالي يصبح السد استثمارا فاشلا لبلد يعاني أساسا من الفقر وتكرار الجفاف الذي يقتل مشاريع الطاقة المائية.
وأشار بيين في دراسته إلى أن هايليماريام ديسالين، وزير الخارجية الإثيوبي في حينه ورئيس الوزراء لاحقا، قال في مقابلة تلفزيونية أن سد النهضة يستند إلى دراسة أجرتها وزارة الاستصلاح الأمريكية عام 1964، واقترحت سداً أصغر بكثير وبطاقة 1400 ميجاوات، وبارتفاع 85 متراً، وخزاناً يبلغ حجمه خُمس حجم سد النهضة الإثيوبي الكبير، تقريبا 14 مليار متر مكعب، وبتكلفة 1.5 مليار دولار أمريكي. واستنكر بيين تصنيف الحكومة الإثيوبية منتقدي المشروع فورا على أنهم مرتبطين بأحزاب المعارضة و”الجماعات الإرهابية” دون أدلة. (المرجع السابق)
دراسة أخرى للخبير الإثيوبي، أصفاو بيين، ويعمل أستاذا في الهندسة الميكانيكية ويدير مركز الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة في جامعة ولاية سان دييغو الأمريكية، نشرت في 14 يونيو سنة 2013، قال فيها إن الحكومة تفرض سرية حول الكفاءة الكهرومائية لسد النهضة، وأن القدرة التي تعلنها هي محل شك، حيث تم تصميم السد لإنتاج 6000 ميغاواط من الكهرباء، رفعت بعد ذلك إلى 6450 ميغاواط. وحسب معدل تدفق مياه النهر، يقول أصفاو إن معدل الإنتاج الأكثر منطقية سيكون 2800 ميغاواط في أحسن الأحوال، فلماذا يتم تصميم السد أكبر من حجمه بمعدل 3200 ميغاواط إضافية وبتكلفة أعلى؟!.
تقول منظمة الأنهار الدولية، في تقريرها المنشور في سنة 2017 تحت عنوان، 5 أساطير تحيط بسد النهضة الإثيوبي، إنه من المستحسن أن تقوم إثيوبيا بتنويع مصادر الطاقة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بدلاً من الاستمرار في تنمية الطاقة الكهرومائية. في يناير سنة 2019، أصدرت وزارة الطاقة الإثيوبية مناقصات لإنشاء ست محطات شمسية كبيرة الحجم بقدرة إجمالية تبلغ 800 ميجاوات. وفي عام 2018، تم تشغيل محطة تحويل النفايات إلى طاقة. هذه المشاريع هي اختيار ناجح من الناحية الاقتصادية، ولكن إقدام الحكومة الإثيوبية على إنشائها في ظل بناء سد النهضة دليل اضافي على عدم كفاءة السد في توليد كمية الكهرباء المبالغ فيها من جهة الحكومة، وبالتالي عدم كفايتها لسد احتياجات البلاد من الكهرباء.
تكلفة باهظة لمشروع هزيل
في بداية سنة 2011، قدرت الحكومة الإثيوبية تكلفة بناء سد النهضة الإجمالية بنحو 4.8 مليارات دولار أمريكي. وقالت إنه سيبدأ توليد 750 ميجاوات من الكهرباء بنهاية سنة 2014، وسينتهي البناء في السد بنهاية 2017. وفي 23 أبريل سنة 2014، نقلت وكالة رويترز عن صندوق النقد الدولي أن كلفة السد التي تتجاوز أربعة مليارات دولار، تمثل نحو 12 بالمئة من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد هو ثمن كبير لبلد مثل أثيوبيا.
وقالت الوكالة إن إثيوبيا أرغمت البنوك الممولة لقروض شركات القطاع الخاص على تخصيص ما تعادل نسبته 27 في المئة من أموالها كقروض للمشروعات الحكومية بعائد منخفض، ما يمثل ضريبة، أو إتاوة عليها، واستنزافا للموارد التمويلية من الاقتصاد، يعرض للخطر فرص الاقتراض المتاحة لمستثمري القطاع الخاص وحصيلة البلاد من النقد الأجنبي ويضر بنمو الناتج المحلي للدولة. وقالت رويترز إن الحكومة تعارض الرأي القائل بأن الإنفاق بسخاء على المشروعات العامة يضر بالأداء الاقتصاد العام.
وبسبب توقف التمويل الدولي حتى توقيع اتفاق مارس 2015، تعثر المشروع وتأخر البناء. وفي الثاني من فبراير سنة 2019، فجر رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مفاجأة كشف خلالها عن زيادة تكلفة بناء سد النهضة بنسبة 60% بسبب التأخير في تنفيذ المشروع. وفي أواخر سنة 2018، ألغى أحمد عقد التوربينات والأعمال الكهروميكانيكية التي مُنحت لشركة المعادن والهندسة العسكرية الإثيوبية. وتم القبض على أكثر من 27 ضابطا سابقا بالجيش بتهم تتعلق بالفساد.
في 3 فبراير سنة 2020، كشف أحمد عن مفاجأة أخرى قال فيها، أنفقنا 6 مليارات دولار في سد النهضة لتأخر أعمال البناء 3 سنوات إضافية. وكان ذلك ردا على تساؤلات النواب في البرلمان الإثيوبي بشأن الأوضاع في البلاد. وفي كلمته أمام جلسة استثنائية لمجلس نواب الشعب الإثيوبي في 8 يونيو سنة 2020، قال رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد إن التأخير في بناء سد النهضة الإثيوبي كلف مليار دولار سنوياً على مدى السنوات الست الماضية منذ سنة 2014. وحمّل أحمد مسؤولية التأخير في استكمال سد النهضة على الحكومة الإثيوبية السابقة. وهو إقرار رسمي بتضاعف تكلفة السد وإهدار للمال العام في مشروع مبالغ في جدواه الاقتصادية.
تمويل بالإكراه
في 23 أبريل سنة 2014، نقلت وكالة رويترز عن صندوق النقد الدولي أن كلفة السد التي تتجاوز أربعة مليارات دولار، تمثل نحو 12 بالمئة من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد هو ثمن كبير لبلد مثل أثيوبيا. وقالت الوكالة إن إثيوبيا أرغمت البنوك الممولة لقروض شركات القطاع الخاص على تخصيص ما تعادل نسبته 27 في المئة من أموالها كقروض للمشروعات الحكومية بعائد منخفض، ما يمثل ضريبة، أو إتاوة عليها.
وهو في نفس الوقت استنزاف للموارد التمويلية يعرض فرص الاقتراض المتاحة لمستثمري القطاع الخاص وحصيلة البلاد من النقد الأجنبي للخطر ويضر بالناتج المحلي للدولة. وقالت رويترز إن الحكومة تعارض الرأي القائل بأن الإنفاق بسخاء على المشروعات العامة يضر بالأداء الاقتصاد العام.
يقول أصفاو بيين، إن توقف التمويل الدولي لمشروع السد المحاط بالسرية دفع الحكومة الإثيوبية إلى البحث عن وسائل غير أخلاقية لجمع الأموال للسد، حيث أجبرت المواطنين على شراء السندات الحكومية بالإكراه لتمويل بناء السد، وهو ما سجلته شبكة سي إن إن الإخبارية في 2012. كما يتم خصم جزء من رواتب الموظفين المدنيين دون موافقتهم، وهو انتهاك واضح لحقوق العمال.
وقال إن الحكومة الإثيوبية تقوم بإغواء المواطنين بشراء لعبة اليانصيب من أجل سد النهضة وإيهام الفائزين بأنهم سوف يحصلون على أكثر من 450 ألف دولار أمريكي، ما يعادل 10 مليون بير إثيوبي. وحوكم صحفي بتهمة الإرهاب وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين بسبب كتابته تقريرا عن إجبار موظفي الحكومة على التبرع لبناء السد.
يقول أصفاو، إن النظام الإثيوبي يقمع مواطنيه وينتهك حقوق الإنسان في سعيه إلى بناء سد النهضة. فالحكومة تحجب معلومات التنمية عن الجمهور، وتحرمهم من حرية التعبير عن آرائهم فيما يتعلق بسد النهضة، واعتقلت صحفيا آخر يُدعى مولوكين تيسفاو في 4 مايو/ أيار 2013 لنشره تقارير عن المزارعين الذين أُجبروا على ترك أراضيهم في منطقة بني شنقول- غوموز، وهي المنطقة التي يُبني عليها السد.
السد سيزيد فقر الإثيوبيين
الخبير الإثيوبي إيزانا كيبيدي، وهو متخصص في السياسات المالية الإثيوبية، شكك في أن بلاده التي تستهلك 1800 ميغاواط من الكهرباء يمكن أن تبيع كهرباء سد النهضة إلى دول مثل إريتريا والسودان الجنوبي واليمن كما تزعم حكومة بلاده، لأن الثلاث دول لا تزال في حالة حرب أهلية ولن تشتري الكهرباء حالياً.
وقال في مقال نشره بتاريخ 30 مارس/آذار 2015 تحت عنوان، تمويل سد النهضة، إن الحكومة لم تبع سوى 400 ميغاواط لكينيا، و60 ميغاواط لجيبوتي الفقيرة. وتساءل كيبيدي، لمن ستبيع الباقي من 6000 ميغاواط غير مصر؟! وبالرغم من توقع الخبير الإثيوبي شراء مصر كهرباء سد النهضة، فلم يستبعد رفض مصر شراء كهرباء السد بسبب تضررها منه، وتوقع أن يفقد السد جدواه في هذه الحالة ويفشل المشروع في تغطية نفقات التشغيل والصيانة، فضلاً عن تحقيق أرباح للمساهمين.
في افتتاح أول توربين لتوليد الكهرباء من السد في 20 فبراير سنة 2022، قال آبي أحمد “توليد الكهرباء من السد نعمة لدول المصب أيضا. نريد تصدير طاقتنا الخالية من التلوث إلى أوروبا عبر السودان ومصر”. وفي مؤتمر أفريقيا 2017 الذي عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية خلال الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر/كانون الأول، صرح وزير الكهرباء المصري بأن مصر تعمل على تنفيذ الربط الكهربائي المشترك بين إثيوبيا والسودان وشمال وجنوب البحر المتوسط والمملكة العربية السعودية لتحقيق ما يعرف بالممر الأخضر لربط ونقل كهرباء إثيوبيا إلى آسيا وأوروبا عبر الأراضي المصرية.
ولكن مصر مكتفية حاليا من الكهرباء، ولديها فائض يزيد بمقدار 60 بالمئة عن احتياجاتها من الكهرباء، وبالتالي لن تشتري كهرباء سد النهضة في المدى القصير أو المتوسط على أقل تقدير. ويجب ألا نستبعد إفشال مصر مشروع الربط الكهربائي بين إثيوبيا وأوروبا إذا تغير النظام الحالي، لأسباب وجيهة، منها محاولة إفشال مشروع السد الذي يمثل خطرا وجوديا عليها. كما أن تعليق النظام في إثيوبيا نجاح مشروع سد النهضة على تصدير الكهرباء المنتجة منه إلى أوروبا، بالعلاقة مع مصر، مخاطرة سياسية وخطأ استراتيجي يمكن أن يُفشل مشروع السد بين عشية وضحاها.
يقول أصفاو بيين، الحكومة أعطت الأمل للمواطنين في الحصول على حصة عادلة من الكعكة، بما في ذلك الحصول على الكهرباء، والأرباح من بيع الكهرباء للخارج. ولكن في الواقع، فإن عددا قليلا جدا من الإثيوبيين سيحصل بالفعل على الكهرباء. أما تحقيق الأرباح فهذا محل شك، لأن احتمالات توليد السد أكثر من 2800 ميغاواط تبقى منخفضة وقد لا يكون هناك أرباح يمكن توزيعها.
تعتبر منظمة الأنهار الدولية في تقرير نشرته على موقعها في يناير سنة 2017، أن سد النهضة قد يجعل فقراء إثيوبيا أكثر فقراً. ذلك أن التمويل الذاتي للمشروع محفوف بالمخاطر في دولة فقيرة مثل أثيوبيا، لأنه يحبس الموارد المتاحة في مشروع مثير للجدل، ويقلل من قدرة الدولة على الاستثمار في مشاريع تنموية أخرى.
وبينت التقديرات المالية الأولية التي أجرتها المنظمة الدولية أن صافي القيمة الربحية للمشروع خلال 50 سنة لا تتجاوز 640 مليون دولار، يعني أقل من مليار واحد، في وقت تبلغ تكلفة المشروع 4 مليارات و800 مليون دولار. وتعقيبا على دراسة الخبير الإثيوبي، ميهاري بيين، تقول المنظمة، تكشف تجربتنا في دراسة السدود الضخمة في أفريقيا أن هذه المشاريع قد فشلت باستمرار في الحد من الفقر، وكانت حلاً مكلفاً وغير فعال لزيادة وصول ملايين الأشخاص في القارة للكهرباء، دون إمكانية الحصول على الكهرباء بشكل موثوق. ما يؤكد أن المشروع لن ينير ظلام إثيوبيا ولن يحقق نهضة وتنمية مزعومة، وأن للسد أهداف أخرى يمكن تناولها في دراسة منفصلة.
.
رابط المصدر: