مسلم عباس
لا يوجد تخطيط في العراق، لا في مجال السياسية ولا الاقتصاد ولا المجال الاجتماعي، فبمجرد ان تنزل للشارع تعرف حجم الفوضى، لا تحتاج الى دراسات وأرقام، الشارع يتحدث والاقتصاد يتحدث عنه نفسه، فمن غير المعقول ان دولة نفطية فاعلة لا تستطيع تأمين الرواتب لموظفيها الحكوميين فقط بعد ازمة وباء كورونا، بينما يعيش الاقتصاد عموما على الهبات التي يوفرها النفط، فيما يقبع القطاع الخاص في سجون الحكومات، لا هو يستطيع التحرك منفرداً ولا هو قادر على الفعل بالدعم الحكومي الغائب، اما في الجانب السياسي فالدستور والقوانين المنبثقة منه تمثل الخطة العامة، وهوية الدولة، لكن لا الدستور ولا القوانين يتم الالتزام بها، ترشيح رئيس الوزراء فيه انتهاك فاضح للدستور، والإجراءات اللاحقة تشبه سابقاتها وكل ذلك يعلق بحجة التوافق.
العملية السياسية التي انبثقت من مكرمات الاحتلال الأميركي عام 2003 كانت عرجاء منذ البداية فهي اقرب للفوضى منها الى القانون المنظم لعملها، منذ البداية انتهكت المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، قامت على المحاصصة بين المكونات العراقية الطائفية والقومية، ما جعلها تعيش حالة من التخبط والضياع، فالقوي هو الذي يحصل على المنصب، ويستحوذ على مقدرات الدولة، ويفعل ما يراه مناسبا حسب تقديره الذاتي، ولنتصور حجم تفكيره وهو شخصية اوصلها الحزب للمنصب بدون أي مقومات للقيادة، نعم يمكن لهذا النوع من الأشخاص ان يقودون البلد، وفي نفس الوقت يقودونه بحسب افكاهم العاجزة، بدون التزام بالقوانين التي يتفق عليها ممثلو الشعب وهذا الأخير يوافق عليها بالاستفتاء.
مرت السنوات على هذه الحال من وزير الى اخر، ومن رئيس وزراء الى اخر، يتم انتقاء المسؤولين للمناصب الحكومية حسب الولاء للحزب، بعيدا عن أفكاره تجاه الدولة ومتطلباتها، الأولويات للحزب، دخلت البلاد في انفاق الازمات المظلمة من حرب طائفية الى أزمات الانسداد السياسي، ثم اجتياح داعش لثلاث محافظات غربية وما اعقبها من انهيار للسياسة والاقتصاد، رغم التئام الجرح الطائفي، الا ان الواقع العراقي بات اكثر تعقيدا وفوضوية، لم يعد المواطن مطمئنا للغد، فبينما كان يخاف المفخخات، بات اليوم يخاف المستقبل الاقتصادي غير الواضح.
اكثر شريحة تاثرت بهذا الواقع الجديد هم الشباب، فمن المفترض ان تكون الأعوام السابقة فرصتهم لدخول عالم الوظائف، لكن الانهيار الاقتصادي تسبب في جلوسهم في البيوت وانتظار بعض الفرص الشحيحة جدا والتي لا تاتي الا من خلال الواسطة. لم يعجبهم الوضع فطالبوا اكثر من مناسبة بتوفير فرص العمل، والعناية بهم واعطائهم حقوقهم الطبيعية والدستورية، لكن ما من مجيب، فالسلطة لا تتعامل مع الشعب بل مع الفاعل الخارجي الذي يضمن لها القاء على قيد الحكم، لكن هذه المعادلة لا تستمر، فالشعب الذي يسحق لا بد ان يصرخ يوما، لا بد انه يريد حقوقه.
التظاهرات التي انطلقت في شهر تشرين الأول من العام الماضي مثلت الانفجار الذي هز اركان النظام السياسي، ودفعه لتغيير استراتيجية في التعامل مع المواطنين باعتبارهم الفاعلين الأساسيين في تشكيل الحكومة وإقرار القوانين، فاستقالت الحكومة ومفوضية الانتخابات المتهمة بالتزوير، واعيدت صياغة قانون الانتخابات، فالشباب الذين تظاهروا ضد الظلم والفساد كانوا يريدون معايير جديدة للوطن، تختلف عما هو موجود منذ زمن الاحتلال الأميركي وحتى الان.
التظاهرات الشبابية التي انطلقت ضد المنظومة السياسية الحاكمة انضوت تحت شعار واسع “نريد وطن”، وهو شعار مفيد دعائيا لكن غير عملي، أي يمكن من خلاله تحشيد الرأي العام، وكسب التعاطف في وسائل الاعلام، وهو ما حدث بالفعل، لكن الشعار بحاجة الى تفكيك وأدوات للتنفيذ، وهو ما افتقدت اليه التظاهرات، فهي في البداية وحتى النهاية لم تكن تملك اية قيادة، ولا لجنة مركزية، ولا مطالب محددة تمثل جميع المتظاهرين في المحافظات، انما هناك مطالب تتغير كل أسبوع، فمرة يطالبون بتغيير الحكومة ومرة باقتلاع الفساد، ومرة بإلغاء سلسلة إدارية معينة، لكن ذلك لم يسير بخطة محددة.
وحتى مطلب رفض إعادة استيزار الوزراء الذي خدموا في الحكومات السابقة لم يكن مطلبا عقلانيا، فبعض الوزراء كانوا أصحاب اختصاص ولهم خبرة في مجالهم، وما ينقصهم هو الاسناد الشعبي بدل رفضهم المطلق، والمشكلة التي خلقها هذا المطلب جعل بعض الأحزاب تتخلص من الوزراء ذوي الخبرة بحجة تنفيذ مطالب المتظاهرين بينما أبقت على وزراء مشهود بعدم كفاءتهم رغم انهم خدموا في الحكومات السابقة، وهذا ما اغفلته التظاهرات، وحتى أنشطتها على مواقع التواصل الاجتماعي التي كان من الممكن ان تكون وسيلة ضغط الكترونية في زمن وباء كورونا.
لا يمكن التقليل من حجم المنجز الذي قدمته التظاهرات، لكن يبقى عشوائيا لانها افتقدت منذ البداية الى القيادة المركزية والمطالب المخططة، والحركية والاستمرار في اهم اللحظات التاريخية وهي مسألة تشكيل الحكومة، بل ان الحراك الشعبي يجب ان يستمر بوتائر مختلفة وحسب المتغيرات وان يركز على المبادئ وليس المتغيرات، كان الأفضل التركيز على ضرورة تطبيق القوانين الحالية، والعمل على تعديد القوانين غير العادلة، أي بمعنى ان تكون المرجعية الأساسية للحراك هو القانون والالتزام به، لانه المبدأ الأساسي في بناء الدولة الحديثة العادلة، اما بدون ذلك فاي حراك سياسي يفتقد للأولويات او على الأقل تكون أولوياته بعيدة عن جوهر بناء الدولة الحديثة.
يومان فقط بعدها ستأتي مصيبة أخرى تنسينا سابقتها مسلسل يستمر والضحية المواطن البسيط، نضج بحدث بعد آخر متناسين خارطة الحل وما أنجز منها ١-قانون انتخابات منصف 2- مفوضية انتخابات مستقلة (مستقلة) ٣- انتخابات مبكرة، بدون برلمان حقيقي ممثل للشعب يَنتج عنه حكومة أغلبية خادمة للشعب لن تنتهي أزماتنا.
رابط المصدر: