اللواء محمد إبراهيم الدويري
من المؤكد أنه عندما تقوم الحرب وتشتد حدة المعارك العسكرية فلا يمكن الحديث عن إحترام مبادئ القانون الدولي كما تتلاشى كافة الخطوط الحمراء ويصبح قتل المدنيين – للأسف – دفاعاً عن النفس ويصبح تدمير البنية التحتية للدولة المعتدى عليها أمراً ضرورياً لتحقيق الإنتصار، ويزداد الحديث عن عمليات الإغاثة والتركيز على الجوانب الإنسانية والممرات الآمنة وتقديم المساعدات، وتتزايد أيضاً بيانات الشجب والإدانة والدعوة إلى إحكام العقل ووقف العمليات العسكرية واللجوء إلى المنظمات الدولية .
وإذا كانت هذه هي أعراف الحروب الغاشمة كما عهدناها فما بالنا ونحن نتحدث عن الأزمة الحالية وطرفيها الرئيسيين هما روسيا تلك الدولة النووية وثاني أقوى القوى العسكرية في العالم وأحد القوتين العظميين مهما حاول البعض أن يقول غير ذلك، أما الطرف الثانى فهى أوكرانيا تلك الدولة التي كانت إحدى الجمهوريات السوفيتية حتى بداية تسعينات القرن الماضى وترتبط بحدود برية وبحرية طويلة للغاية مع روسيا كما ترتبط بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة والغرب دون أن تتمتع بعضوية حلف الناتو أو الإتحاد الأوروبي، وتخلت عن سلاحها النووي عام 1994 ( معاهدة بودابست ) وهي في النهاية دولة لا يمكن مقارنتها عسكرياً بالقوة التي تمتلكها روسيا .
يبدو من الضروري أن نذكر أنفسنا بأن الحرب الروسية الأوكرانية الجارية حالياً والتي دخلت أسبوعها الثاني لم تندلع فجأة أو تبدأ من فراغ ، حيث أن المتابع لتطورات هذه الأزمة منذ بدايتها سوف يصل إلى نتيجة واحدة مفادها أن سيناريو الحرب ونتائجها كان معروفاً ومحدداً ومعلناً مسبقاً ولم يكن يتبقى سوى تحديد ساعة الصفر التى حددتها أو توقعتها واشنطن أكثر من مرة .
وهنا أشير إلى أن السيناريو المعلن الذى تحقق والذى تابعناه جميعاً قبل الحرب وفى الفترة التى أعقبتها كان على النحو التالى:
إعلان روسيا رفض إنضمام أوكرانيا لحلف الناتو مع معارضة تمدد الحلف شرقاُ وإعتبار أن ذلك يعد تهديداً حقيقياً للأمن القومي الروسي .
قيام روسيا بحشد عسكري تدريجي غير مسبوق على حدودها مع أوكرانيا وإجراء مناورات عسكرية متقدمة مع بيلاروسيا وفي منطقة البحر الأسود .
فشل المباحثات التي أجراها المسئولون الأمريكيون والأوربيون مع المسئولين الروس – على أعلى المستويات – بشأن التوافق على مسألة الضمانات الأمنية التى يمكن أن تكون مرضية وتحقق مطالب الطرفين .
إعلان الرئيس الأمريكي بايدن على الملأ أن المعلومات المتوافرة لدى الولايات المتحدة تؤكد أن روسيا عازمة على القيام بغزو أوكرانيا وأنها ماضية في تنفيذ هذا المخطط رغم الجهود المبذولة لإحتواء الموقف في هذا التوقيت .
تأكيد الولايات المتحدة والدول الأوربية أنه في حالة تنفيذ روسيا عملية الغزو فإنهم سوف يفرضون عليها عقوبات خطيرة فى كافة المجالات الممكنة وأن حزمة العقوبات سوف تؤثر بالسب على وضعية روسيا .
وتماشياً مع هذا السيناريو المعلن قامت القوات العسكرية الروسية بالفعل بعملية الغزو تدريجياً بدأته بالحشد العسكرى الضخم ثم الإعتراف بإستقلال جمهوريتى لوغانسك ودونيتسك الإنفصاليين وإتجهت بعذ ذلك إلى الدخول في الأراضى الأوكرانية وتدمير العديد من المواقع العسكرية والسيطرة على بعض المدن والمؤسسات الأوكرانية الهامة حتى أضحت العاصمة الأوكرانية “كييف” تحت مرمى النيران والقصف الروسى العنيف وأصبحت عملية سقوطها مسألة وقت فى حال إستمرار الوضع الحالى على ماهو عليه، وفي الجانب المقابل بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية في فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا وخاصة فى المجال الإقتصادى أملاً فى أن تأتى هذه العقوبات بثمارها فى أقل وقت ممكن .
وهنا لابد أن يثور التساؤل التالى ماهى الجوانب الجديدة التى يمكن أن نقف عندها خلال هذه الحرب، وفى هذا المجال أشير إلى الجوانب السبعة التالية:
الجانب الأول : أن روسيا لم تكتف فقط بعملية الغزو ولكنها بدأت تلوح بشكل علنى بالسلاح النووى وهو تصعيد غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية رغم تأكيدها أنها لن تستخدم هذا السلاح وهو ما أدى فى المقابل إلى رد فعل مماثل من قبل القوى الغربية .
الجانب الثانى : أنه بالرغم من تصاعد العمليات العسكرية إلا أن الطرفين كانا حريصين على عدم إغلاق المجال أمام الحلول السياسية لأسباب خاصة بكل منهما ، وبالفعل تم عقد إجتماعات بين الجانبين فى منطقة على الحدود الأوكرانية البيلاروسيه لم تحقق أية نتيجة حتى الآن .
الجانب الثالث : أن كافة العقوبات التى تم إعلانها حتى الآن ودخلت حيز التنفيذ لم تثنى روسيا عن الإستمرار فى عملية الغزو وكأن روسيا كانت على بينة من طبيعة هذه العقوبات وقادرة على إحتواء تأثيراتها حتى الآن خاصة وأن هناك بعض العقوبات التى إذا تم تنفيذها سوف تؤثر أيضاً على الدول الأوروبية .
الجانب الرابع : أن أوكرانيا وجهت إنتقادات إلى موقف الغرب من عملية الغزو عندما أعلنت بشكل مباشر وغير مباشر وأكثر من مرة أنها تقف وحدها فى هذه المعركة ولكنها فى كل الأحوال تأمل فى مزيد من المساعدات وتكثيف الضغوط على روسيا كما أنها سوف تواصل التصدى للقوات الروسية سواء من خلال قواتها العسكرية أو المقاومة الشعبية .
الجانب الخامس : نجاح القوى الغربية فى إيصال المساعدات الإقتصادية والعسكرية إلى أوكرانيا بطرق مختلفة بهدف إطالة أمد الصمود الأوكرانى إلى أطول فترة ممكنة بالإضافة إلى مساعدة الجيش الأوكرانى فى التصدى لتقدم القوات الروسية وإستنزافها وتكبيدها أكبر قدر من الخسائر ، وهو أمر لن يدوم طويلاً فى ظل توازن القوى المختل بين الطرفين.
الجانب السادس : وجود حركة نزوح كبيرة من السكان الأوكرانيين وصلت حتى الآن إلى حوالى مليون مواطن بل أن هذا العدد قابل للزيادة يومياً ( التقديرات أن يصل إلى خمسة ملايين ) وهو ما يعيد قضية اللاجئين وتبعاتها الإجتماعية والأمنية على السطح مرة أخرى .
الجانب السابع : أن الصين أثبتت أن لديها حساباتها الخاصة بها حيث كانت حريصة على ألا تحسب نفسها على الموقف الروسى فى هذه الأزمة رغم خلافاتها الواضحة مع الولايات المتحدة وتصاعد الصراع بينهما فى مجالات ومناطق مختلفة .
ولاشك أن الحرب الروسية / الأوكرانية كانت ظاهرة كاشفة لخمس حقائق رئيسية كما يلى:
الحقيقة الأولى : أن روسيا غير مستعدة لتقديم أية تنازلات فيما يتعلق برؤيتها لكيفية حماية أمنها القومى مهما كانت النتائج ، وهى تهدف فى النهاية إلى أن يتوقف الغرب عن ضم مزيد من دول الإتحاد السوفيتى السابق إلى حلف الناتو وخاصة أوكرانيا وألا ينشر صواريخه على هذه الأراضى ، وأن الغرب أصبح مطالباً بصفة عامة بأن يعيد حساباته بشأن طبيعة تعامله مع روسيا كقوة عظمى وضرورة تفهمه لمتطلبات أمنها القومى .
الحقيقة الثانية : أن غياب التوافق على ضمانات أمنية فيما يسمى بالنظام العالمى وتكون هذه الضمانات مرضية لروسيا قدر المستطاع – وبالطبع بالتوافق مع الغرب – سوف تكون أحد عوامل تفجير مثل هذه الأزمات فى المستقبل .
الحقيقة الثالثة : أن الصراع الأمريكى الروسى سوف يظل فى رأيى هو الصراع الوحيد حتى الآن الذى يمكن أن يهدد السلام والأمن العالمى ، إلا أن هناك خطاً أحمر متفقاً عليه – حتى من خلال إتفاق نوايا – ومفاده ألا تصل أية أزمة مهما بلغت حدتها إلى حد المواجهة المباشرة بين الجانبين ، وهو الأمر الذى حرصت القوى الغربية على تأكيده بأن الناتو لن يحارب روسيا على الأرض الأوكرانية .
الحقيقة الرابعة : أن الدول الغربية مهما كانت رغبتها فى عدم تدهور الموقف مع روسيا حفاظاً على مصالحها الإقتصادية ، إلا أنه فى لحظة معينة لن تجد هذه الدول مفراً من الإصطفاف مع الولايات المتحدة وإتخاذ موقفاً موحداً عندما تستشعر أن هناك إمكانية لتهديد أمنها أو إستخفاف روسى بوضعيتها وقوتها .
الحقيقة الخامسة : أن الأمم المتحدة ومؤسساتها خاصة مجلس الأمن سوف يظل عاجزاً للأبد وفى ظل إستمرار نظامه الحالى عن إتخاذ أى قرار ضد القوى الكبرى وبالتالى لن ينجح هذا المجلس مطلقاً فى تأدية المهام المنوط بها ، كما سيظل هذه المجلس قوياً ومتوائماً مع نفسه فقط فى مواجهة الدول الضعيفة ولاسيما عندما تتوافق القوى العظمى والتى تملك حق الفيتو على أن تتواجد فى هذه الدول بأى شكل من الأشكال ( إحتلال أو إرسال قوات ) تحقيقاً لمصالحها فقط ، كما أن القرارت التى يصدرها المجلس سوف تظل حبراً على ورق إلا إذا كانت تتعلق بمعاقبة الدول التى ليس لها حول ولا قوة .
ومن ناحية أخرى يثور تساؤلاً آخر حول مدى تأثير هذه الحرب على النظام العالمى خلال المرحلة المقبلة ، وهنا لابد أن أسجل إعتراضى على كلمة ” النظام ” فأى نظام أمنى هذا الذى يسمح بمثل هذه الحرب إلا إذا كان نظاماً مختلاً ، حيث أنه فى السنوات الأخيرة وخاصة منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وما تبعها من عملية غزو جورجيا عام 2018 لا يوجد حديث إلا عن صراع أمريكى روسى محتدم وهو صراع قديم وسوف يتواصل مهما حاولت قيادات الدولتين تهدئته ، وفى نفس الوقت هناك صراعاً آخر شديد الأهمية والخطورة سوف نراه فى المستقبل القريب وهو الصراع الأمريكى الصينى وإن كان هذا الصراع سوف يأخذ البعد الإقتصادى بصورة أعمق ولكنه قابل أن يتطور إلى محاولات صينية لتدعيم مزيد من قدراتها العسكرية وإثبات أنها أصبحت عملياً من كبار القوى الدولية التى تمتلك قوة عسكرية لا يستهان بها وقادرة على حماية مصالحها المتشعبة على مستوى العالم .
وفى ضوء ما سبق فإنه من الواضح أن الأزمة الروسية الأوكرانية لم تكن الأزمة الأولى ولن تكون الأزمة الأخيرة ، وهى أزمة مرشحة للتكرار فى ظل عدم إتفاق القوى الكبرى على نظام حقيقى يلبى المتطلبات الأمنية لكافة الأطراف دون إستثناء ولا يترك أية ثغرات لأية دولة للنفاذ منها لإنتهاك هذا التوافق وإلا تتعرض لعقوبات تمنعها من أية مغامرات سواء كانت محسوبة أو غير ذلك ، وللأسف الشديد فإن الجميع حالياً يتألم نظرياً وهو يشاهد تطورات الحرب ومعاول الهدم والتدمير ومعاناة السكان المدنيين كما تنقلها وسائل الإعلام دون أن تكون هناك خطوة واحدة جادة قادرة على وقف هذه الحرب حتى الآن .
وإذا كانت هناك العديد من الدروس المستفادة التى يمكن إستخلاصها من هذه الحرب ، إلا أننى أقف كثيراً عند موقف الدول النامية أو تلك الدول التى تحاول أن تجد لها مكاناً فى ظل عالم إزدواجية المعايير لا يعترف إلا بالقوة ولا تحركه سوى مصالحه فقط ، حيث أن المطلوب من هذه الدول أن تحرص على ترتيب مواقفها وأوضاعها الداخلية والخارجية بالشكل الذى يحافظ على أمنها القومى وهو أولوية أولى بالنسبة لها وعليها ألا تلقى بنفسها فى خضم صراعات أو تحالفات أو علاقات غير محسوبة لن تخرج منها إلا وهى خاسرة بينما المجتمع الدولى والقوى الكبرى تراقب وتشجب وتقدم المساعدات الإنسانية وتحقق مصالحها فقط على حساب شعوب كل ما ترنو إليه أن تحيا فى مستوى معيشة جيد .
.
رابط المصدر: