سامية بن يحي
يقول المؤرخ رونالد سوني “إن أول ضحية للحرب ليست الحقيقة فقط” حيث تتضمن الحرب الروسية المعلنة اليوم على أوكرانيا مجموعة متنوعة من الروايات التاريخية والسياسية المتنافسة، فأي شيء آخر غير الحقيقة التي تراها روسيا تجاه أوكرانيا سوف يُنظر إليها على أنها حقيقة معادية للروس، لذا فإن حرب روسيا على أوكرانيا هي أكثر من مجرد صراع عسكري بل يتعداه إلى كون أوكرانيا ليست فقط جزءًا مهمًا من مجال نفوذ روسيا الأوراسي ولكن باعتبارها الفرع الروسي الصغير من “الأمة الروسية” في أوروبا الشرقية.
تستند هذه الحجة إلى مجموعة المعتقدات التي ينطوي عليها النهج الروسي بالحق الروسي في ضمان الأمن القومي الروسي وتعزيز مجالات النفوذ “على ما يبدو المصالح الجيوسياسية لروسيا على حساب أوكرانيا” على حد تعبير سوني، بالمقابل يعرب سفير الولايات المتحدة الأمريكية وليام تيلور قائلاً إن “المد الدولي ينقلب بشكل واضح ضد روسيا” حيث تطبق المزيد من الدول العقوبات وأن “روسيا الآن دولة منبوذة ” بينما بالنسبة للرئيس الروسي، فإن وجوده العسكري في سوريا، التي هي في النهاية دولة مجاورة لتركيا العضو في الناتو، والحرب في أوكرانيا هما جزء من صراع بوتين الأكبر ضد الغرب.
فانطلاقا من معادلة توازن القوى يرى بوتين أن أوكرانيا تشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا، لذا من الممكن تفسير تصريحات بوتين حول التكوين التاريخي للدولة الأوكرانية على أنها تاريخ يخدم الذات وطريقة للقول، “لقد أنشأناها، يمكننا استعادتها”. لكن سوني يعتقد أنه ربما كان بدلاً من ذلك يوجه نداءً قوياً إلى أوكرانيا والغرب للاعتراف بالمصالح الأمنية لروسيا وتقديم ضمانات بأنه لن يكون هناك المزيد من التحركات من قبل الناتو تجاه روسيا وأوكرانيا، ومن المفارقات أن أفعاله الأخيرة دفعت الأوكرانيين بقوة أكبر إلى أحضان الغرب.
فالطرح الأهم في تحليلنا لا ينطوي على تفسير أسباب الحرب إنما الأكثر عمقا هو التأكد مما إذا كان بوتين كان صادقًا عندما قال إن تفكك الاتحاد السوفيتي كان “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وهل فعلا أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا وتفتقر إلى هوية عرقية وثقافة ودين ولغة مميزة وفق الرواية الروسية؟.
الهوية وموقع الغرب في الصراع الروسي الأوكراني
تعمل القوى الناشئة اليوم على تطوير أشكال خبيثة جديدة من الدبلوماسية العامة -غالبًا مع التصريفات الدينية- التي لها آثار كبيرة على بناء السلام العالمي، ومع ذلك، يمكن أن يكون لحشد الهويات الدينية أو القائمة على القيم، وإبرازها تأثير واضح على ديناميكيات السلام والصراع لا سيما في المجتمعات ذات التوترات الاجتماعية أو بين الطوائف الكامنة، في هذا الصدد بدأ بعض ما نراه اليوم يشبه متغيرًا دينيًا لما أطلق عليه محللا الشؤون الخارجية كريستوفر والكر وجيسيكا لودفيج “القوة الحادة” في مقال لهما، “حيث تشير القوة الحادة -التي تختلف عن الجاذبية الإيجابية للقوة الناعمة أو استخدام القوة العسكرية التي غالبًا ما ترتبط بالقوة الصلبة- إلى استخدام أدوات المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا لنشر الأفكار والرسائل التي من المحتمل أن تزرع الفتنة والتوتر في المجتمعات المستهدفة”.
فإذا كان مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية كان مرتبطًا تقليديًا بقدرة القوى العظمى مثل الولايات المتحدة على التأثير على الجهات الفاعلة الدولية الأخرى من خلال جذب ثقافتها وقيمها –انطلاقا من مراجعة لعدد من الأدبيات- فإننا نشهد اليوم حسب تحليل بيتر ماندافيل تحولًا أساسيًا في طبيعة القوة الناعمة العالمية، حيث تعمل القوى العظمى الناشئة مثل الصين واللاعبين العالميين على غرار روسيا على دمج أشكال جديدة من التواصل الثقافي والديني في علاقاتهم الخارجية أثناء سعيهم لتشكيل والتأثير على الأوضاع حول العالم التي تعتبر ذات أهمية استراتيجية.
فبمجرد أن أصبح واضحًا أن أوكرانيا كانت تتجه بلا هوادة نحو أوروبا الغربية تحاول روسيا تأكيد فكرة أنها وصي للحضارة المسيحية والقيم العائلية التقليدية في مواجهة التوجه العلماني نسبيًا للعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وما تصوره على أنه جهود غربية تقوم بتصدير الثقافة الغربية، ورغم أن أزمة أوكرانيا لم تتخذ طابعًا طائفيًا صريحًا، فقد أصبح التوتر المستمر بين الجماعات الأرثوذكسية المختلفة عاملاً معقدًا في الصراع، مما زاد من حدة الولاءات الموالية لموسكو أو كييف في بعض الحالات، وخلق وضعًا صعبًا للأقلية الأوكرانية” الجماعات الدينية – من بينهم الروم الكاثوليك واليهود والمسلمون” وبذلك يعتبر احتضان الكرملين للكنيسة الأرثوذكسية الروسية واستخدامه كأداة، كما لوحظ، مثالًا رئيسيًا على كيف أن التضاريس سريعة التطور للجغرافيا السياسية العالمية تجبر مراقبي الشؤون الدولية على الانتباه إلى الأهمية المتجددة للدين والهوية كأداة لفن الحكم، فحين استند بوتين إلى الديانة المسيحية الأرثوذكسية لكلا البلدين وظفها كعنصر واحد من عناصر السرد الهوياتي حول ضرورة التوافق الجيوسياسي لأوكرانيا مع موسكو، في ما كان في الأصل عبارة عن قصة تضامن ثنائي القومية لبناء فكرة أن البلدين يمتلكان تاريخًا مشتركًا قائمًا على الثقافة والهوية الدينية.
محل القول يوضح بيتر ماندافيل في مقاله “الهوية والقوة الناعمة” أن حالة أوكرانيا تعبر عن أهمية استكشاف وإشراك أبعاد متعددة للقوة الدينية الناعمة والحادة في السياسة العالمية المعاصرة وتأثيرها على السلام والاستقرار العالميين من خلال الاعتماد على العمل الحالي وتوسيعه حول الجغرافيا السياسية للقوة الدينية الناعمة، لذا توجد اليوم فرصة ثمينة لفهم الآثار المترتبة على الصراع والسلام بشكل أفضل في هذا الاتجاه الجديد في القوى العظمى والصاعدة التي تستخدم الدين والهوية بشكل استراتيجي وتحديد المناهج والإجراءات لتقليل تأثيرها المزعزع للاستقرار في سياق بناء السلام، وهو التأكيد -وفق بيتر ماندافيل- على أن أوكرانيا لن يُسمح لها أبدًا بالانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، هذا المنطلق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاعتقاد بأن أوكرانيا تستخدم ببساطة من قبل واشنطن في حملتها الصليبية ضد روسيا.
بينما يؤكد صاني Suny الأستاذ في جامعة ميشيغان أن بوتين يعتبر الأوكرانيين والبيلاروسيين والروس هم شعب واحد، مرتبطون بتاريخ وثقافة مشتركة، لكنه يدرك أيضًا أنهما أصبحتا دولتين منفصلتين معترف بهما في القانون الدولي ومن قبل الحكومات الروسية أيضًا، في الوقت نفسه يشكك في التكوين التاريخي للدولة الأوكرانية الحديثة، والتي يقول إنها كانت النتيجة المأساوية لقرارات القادة الروس السابقين فلاديمير لينين، وجوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف، كما أنه يشكك في سيادة دولة أوكرانيا، أي التعامل بازدواجية المعايير عندما يروج للهوية الوطنية في روسيا، ثم يشوه سمعة الشعور المتنامي بالقومية في أوكرانيا.
العرب في مسرح اللعبة الجيوسياسية بين الفعل ورد الفعل
ليس جديدا على المنطقة العربية أن تكون مسرحًا لمنافسة القوى العظمى، فهي جزء لا ينفك عن اللعبة الجيوسياسية العالمية وطرفا في أي صراع أو استقطاب سياسي، لا سيما في كل صدام قد ينشأ بين روسيا والولايات المتحدة، والغرب عموما، فالتنافس على المصالح الاقتصادية ونزاعات السيطرة على مصادر الطاقة العالمية -ما يسمى بثالوث البقاء “الطاقة والاقتصاد، والأمن الغذائي”- تفرض مزيدا من الضغط والتأثير على المنطقة العربية التي تعد من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم.
وكيف يمكن لأمريكا والاتحاد الإتحاد الأوروبي استثمار دبلوماسية الطاقة للضغط على روسيا لاسيما أنها أكثر حاجة للنفط والغاز الطبيعي لدول الخليج العربي في أزمة أوكرانيا، في حين يكشف ارتفاع أسعار النفط و المواد الاستهلاكية مزيدا من الأزمات الداخلية الخانقة التي ستلقي بظلالها على تحديات الأمن الغذائي لدى الدول التي تستورد الطاقة والحبوب طالما أن روسيا وأوكرانيا من بين أهم مصادر واردات الحبوب خاصة القمح في العالم.
وبعيدا عن هذا كله يطفو الانقسام في الموقف العربي تجاه الحرب على أوكرانيا، حيث نجد أن معظم العرب ينظرون إلى روسيا من منظور التحالفات القديمة التي أقامها الاتحاد السوفيتي سابقا، لذا نجد من الدول العربية التي التزمت الحياد وأخرى اكتفت بالتنديد ونادت بضرورة ضبط النفس وتغليب الحوار والسلام العالمي، بطبيعة الحال ووفق هذا المنطلق يستند مقال كريستوف إيرهاردت في توضيح ردة الفعل العربية على أنه رد فعل قد يضغط على الحكومات العربية لاختيار جانب بين أمريكا وحلفائها الغربيين، وروسيا، في حين قد يفسره البعض أنه مجرد ازدراء لأمريكا في المنطقة والعالم الغربي، حيث تقف روسيا بحزم في تحدي وضعها كقوة عظمى في أوروبا.
أما في تقديرنا تبقى روابط الطاقة وعلاقات التوازن الأكثر تأثيرا على مواقف الدول العربية سيما أهمية علاقات التعاون العسكري وصفقات بيع الأسلحة الروسية، حيث تحاول أغلب الدول العربية الوقوف موقف الحياد والمراقبة من أجل الحفاظ على علاقاتها مع أطراف هذا الصراع “روسيا والغرب” وبالتالي فإن مشاريع الطاقة كانت نقطة التحول التي أثارت الانقسام في موقف أوروبا خاصة بعد تزايد اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا وموقف الدول العربية.
بينما وبالعودة إلى لغة الخطاب نفهم أكثر موقف الولايات المتحدة الأمريكية، منذ خطاب بايدن حول جعل روسيا تدفع ثمن الأفعال السيئة مما زاد في توسيع الهوة وتدهور العلاقات الأمريكية الروسية، في انتظار ما ستؤول إليه مكاسب وخسائر كل طرف في هذه الحرب، وهل سنشهد فعلا فرض معادلة الهيمنة الروسية، أم أنها مجرد تجاذب للمصالح بين القوى الكبرى في لعبة تختبر بها المقاربة الروسية فرضية تراجع الهيمنة الأمريكية في ظل تحول القوة؟
* كاتبة جزائرية تخصص إدارة دولية
[email protected]
.
رابط المصدر: