بدأت حقبة ما بعد الحرب الباردة، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، برؤى عالية السقف للسلام العالمي. وها هي تنتهي، بعد مرور ثلاثة عقود، مع التزايد المتسارع في مخاطر نشوب حرب عالمية. واليوم تشهد أوروبا الصراع العسكري الأكثر تدميراً منذ أجيال. إن القتال الوحشي بين إسرائيل و”حماس” ينثر بذور العنف وعدم الاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ولحسن الحظ فإن منطقة شرق آسيا ليست في حالة حرب حالياً، ولكنها ليست في حالة سلم أيضاً، إذ تقوم الصين بفرض مشيئتها بالقوة على جيرانها وتحشيد قوتها العسكرية بوتيرة غير مسبوقة. إذا كان عديد من الأميركيين لا يدركون مدى اقتراب العالم من الخراب بسبب صراعات شرسة ومتشابكة، فربما يكون سبب ذلك أنهم نسوا كيف اندلعت الحرب العالمية الأخيرة.
عندما يفكر الأميركيون في حرب عالمية، فإنهم عادة ما يفكرون في الحرب العالمية الثانية، أو في ذلك الجزء من الحرب الذي بدأ بهجوم اليابان على بيرل هاربور في ديسمبر (كانون الأول) عام 1941. وبعد ذلك الهجوم، وإعلان أدولف هتلر لاحقاً الحرب على الولايات المتحدة، بدأ النزاع يتخذ شكل صراع واحد وشامل بين تحالفات متنافسة في ساحة معركة عالمية، لكن الحرب العالمية الثانية بدأت كثلاثية من المنافسات المترابطة بشكل ضعيف من أجل الصدارة في مناطق رئيسة ممتدة من أوروبا إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهي منافسات بلغت ذروتها في نهاية المطاف وتشابكت عالمياً. يكشف تاريخ هذه الفترة عن الجوانب الأشد ظلامية للاعتماد المتبادل الاستراتيجي في عالم مزقته الحرب، كما أنه يوضح أوجه التشابه غير المريحة مع الوضع الذي تجابهه واشنطن حالياً.
لا تواجه الولايات المتحدة تحالفاً رسمياً من الخصوم، كما فعلت يوماً خلال الحرب العالمية الثانية. وربما لن تشهد مرة أخرى السيناريو الذي تغزو فيه قوى استبدادية مساحات شاسعة من أوراسيا ومناطقها الساحلية. وعلى الرغم من ذلك، مع احتدام الحروب في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط سلفاً، واتضاح العلاقات بشكل أكبر بين الدول التعديلية (الدول التي تهدف إلى تغيير أو وضع حد للنظام الحالي)، فإن كل ما يتطلبه الأمر هو صدام في منطقة غرب المحيط الهادئ المتنازع عليها للتسبب في ظهور سيناريو مروع آخر وهو السيناريو الذي تطغى فيه الصراعات الإقليمية الحادة والمترابطة على النظام الدولي وتخلق أزمة للأمن العالمي لم يسبق لها مثيل منذ عام 1945. إن العالم المعرض للخطر يمكن أن يتحول إلى عالم في حالة حرب. والولايات المتحدة ليست مستعدة على الإطلاق لمواجهة هذا التحدي.
الحرب وإحياء الذكرى
إن الذكريات الأميركية عن الحرب العالمية الثانية تتميز بجانبين فريدين لا يمكن محوهما من تجربة الولايات المتحدة. أولاً، دخلت الولايات المتحدة الحرب في وقت متأخر جداً، أي بعد أكثر من عامين من قيام هتلر بزعزعة أركان أوروبا عن طريق غزو بولندا، وفي أعقاب ما يزيد على أربعة أعوام من بدء اليابان حربها في المحيط الهادئ من خلال غزو الصين. ثانياً، انضمت الولايات المتحدة إلى القتال في كل من المسرحين في وقت واحد. وهكذا أصبحت الحرب العالمية الثانية معولمة منذ اللحظة التي أخذت الولايات المتحدة تشارك فيها. واعتباراً من ديسمبر 1941 فصاعداً، تميز الصراع بوجود تحالف ممتد على قارات عدة، هو “التحالف الكبير” (الحلفاء)، الذي كان يقاتل على عدد من الجبهات تحالفاً آخر ممتداً هو الآخر على قارات عدة، وهو “دول المحور” (كان الاستثناء هو أن الاتحاد السوفياتي الذي بقي في حالة سلام مع اليابان من عام 1941 حتى عام 1945 ثم أعلن الحرب عليها صيف ذلك العام بعد انتهاء الحرب في أوروبا). وكانت تلك حرباً عالمية بمعناها الأوسع والأكثر شمولاً. ومع ذلك، فإن الصراع الأكثر فظاعة في التاريخ لم يبدأ بتلك الطريقة.
كانت الحرب العالمية الثانية عبارة عن مراكمة لثلاث أزمات إقليمية معاً، وهي هجوم اليابان العنيف في الصين ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، إضافة إلى سعي إيطاليا إلى إقامة إمبراطورية في أفريقيا والبحر المتوسط، وضغوط ألمانيا بغرض تحقيق الهيمنة في أوروبا وخارجها. وفي بعض النواحي، كانت هذه الأزمات مرتبطة بعضها مع بعض على الدوام. وكان كل منها نتاج نظام استبدادي يميل إلى الإكراه والعنف، كما أن كلاً منها انطوى على اندفاع للهيمنة في منطقة ذات أهمية عالمية. وقد أسهم كل منهم في ما وصفه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1937 بأنه “وباء الفوضى العالمية” الآخذ في الانتشار. ومع ذلك، لم يكن هذا صراعاً ضخماً متشابكاً منذ بدايته.
أساساً، لم يكن يجمع القوى الفاشية سوى الحكم غير الليبرالي والرغبة في تقويض الوضع الراهن فضلاً عن القليل من القواسم المشتركة. في الواقع كان من شأن العنصرية الوحشية التي تشربت بها الأيديولوجية الفاشية أن تضعف تماسك هذه المجموعة، فمثلاً ذات يوم سخر هتلر من اليابانيين ووصفهم بأنهم “إنصاف قرود مطلية بالورنيش”. وعلى الرغم من أن هذه الدول قد أبرمت سلسلة من الاتفاقيات الأمنية المتداخلة، بدءاً من عام 1936، فهي كانت حتى أواخر الثلاثينيات في كثير من الأحيان متنافسة بقدر ما كانت متحالفة مع بعضها البعض. لقد عملت ألمانيا في ظل هتلر وإيطاليا بزعامة رئيس وزرائها بينيتو موسوليني على تحقيق أهداف متناقضة في أزمات النمسا عام 1934 وإثيوبيا عام 1935. وفي أواخر عام 1938، كانت ألمانيا تدعم الصين في حرب البقاء ضد اليابان، ووقعت في العام التالي تحالفاً ضمنياً مع الاتحاد السوفياتي، ثم خاضت صراعاً غير معلن ضد طوكيو في آسيا (ووقعت موسكو وطوكيو في وقت لاحق معاهدة عدم اعتداء في أبريل (نيسان) 1941، التي بقيت نافذة حتى عام 1945). ولم تندمج الأزمات الإقليمية، وتصبح التحالفات المتنافسة متماسكة، إلا بالتدريج، بسبب عوامل قد تبدو مألوفة اليوم.
أولاً، مهما كانت الأهداف المحددة، والمتناقضة في بعض الأحيان، التي تبنتها القوى الفاشية فإن تشابهاً جوهرياً بشكل أكبر كان يجمعها ويتمثل في وحدة الهدف. وكان الجميع يسعون إلى نظام عالمي جرى قلبه رأساً على عقب، نجحت فيه القوى المتوسطة في تشكيل إمبراطوريات واسعة من خلال تكتيكات وحشية، كما تمكنت فيه أنظمة همجية من التفوق على الديمقراطيات المنحلة التي كانت تحتقرها. وأعلن وزير خارجية اليابان عام 1940 أنه “في المعركة بين الديمقراطية والشمولية… فإن الأخيرة… سوف تفوز من دون شك وستسيطر على العالم”. كان هناك تضامن جيوسياسي وأيديولوجي أساسي بين الأنظمة الاستبدادية في العالم، وهو، إلى جانب الصراعات التي زرعت بذورها، قد جعلها أقرب إلى بعضها بعضاً مع مرور الوقت.
،، بدأت الحرب العالمية الثانية كثلاثية من المنافسات المترابطة بشكل ضعيف من أجل الصدارة في مناطق رئيسة ،،
ثانياً، طور العالم شكلاً من الاعتماد المتبادل الشاذ، إذ أدى عدم الاستقرار في منطقة ما إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار في منطقة أخرى. ومن خلال إذلال عصبة الأمم وإظهار أن العدوان قد يكون مجدياً، مهد هجوم إيطاليا على إثيوبيا عام 1935 الطريق أمام هتلر لإعادة عسكرة منطقة الراين عام 1936، ثم دفعت بقواتها عام 1940 وسحقت فرنسا، ووضعت المملكة المتحدة على حافة الهاوية، وخلقت فرصة ذهبية للتوسع الياباني في جنوب شرقي آسيا، كما انتقلت أيضاً تكتيكات معينة من مسرح إلى آخر، فعلى سبيل المثال، هيأ استخدام القوات الإيطالية للإرهاب من الجو في إثيوبيا لاستعماله في وقت لاحق من قبل القوات الألمانية في إسبانيا والقوات اليابانية في الصين. وقد أدى العدد الهائل من التحديات التي يواجهها النظام القائم إلى إرباك المدافعين عنه وإضعافهم بشكل خاص. هكذا كان على المملكة المتحدة أن تتعامل بحذر مع هتلر بما يتعلق بالأزمات حول النمسا وتشيكوسلوفاكيا عام 1938، لأن اليابان هددت مناطق تابعة للإمبراطورية البريطانية في آسيا كما كانت شرايين حياة المملكة المتحدة في البحر المتوسط عرضة لهجوم من قبل إيطاليا.
وقد أسهم هذان العاملان في خلق عامل ثالث، كان يتمثل في أن حوادث العدوان المتطرف أدت إلى استقطاب العالم وتقسيمه إلى معسكرات متنافسة. في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، تعاونت ألمانيا وإيطاليا معاً من أجل الحماية المتبادلة ضد الديمقراطيات الغربية التي قد تحاول إحباط طموحات كل منهما. وفي عام 1940، انضمت اليابان إلى جانب هاتين الدولتين على أمل أن يردع ذلك الولايات المتحدة عن التدخل في مشاريعها التوسعية في آسيا. وأعلنت الدول الثلاث أنها ستخلق “نظاماً جديداً” في العالم من خلال تغييرات إقليمية مترابطة للأنظمة.
ولم يردع هذا الميثاق الثلاثي الجديد روزفلت في نهاية المطاف، ولكنه أقنعه، كما كتب في عام 1941، أن “الأعمال العدائية في أوروبا، وفي أفريقيا، وآسيا كلها أجزاء من صراع عالمي واحد”. وفي الواقع، فيما صار حلف المحور متماسكاً واشتد عدوانه، فإنه أجبر تدريجاً مجموعة واسعة من البلدان على الانضمام إلى تحالف منافس مكرس لإحباط تلك المخططات. وعندما هاجمت اليابان بيرل هاربور، وأعلن هتلر الحرب على واشنطن، فقد أدخلا الولايات المتحدة في نزاعات في أوروبا والمحيط الهادئ، وحولا تلك الاشتباكات الإقليمية إلى صراع عالمي.
الماضي حاضر
إن أوجه التشابه بين هذه الحقبة السابقة والحاضر مذهلة. وكما كانت الحال في ثلاثينيات القرن العشرين، يواجه النظام الدولي اليوم ثلاثة تحديات إقليمية حادة. تعمل الصين على حشد قوتها العسكرية بسرعة كجزء من حملتها الرامية إلى طرد الولايات المتحدة من غرب المحيط الهادئ، وربما ستصبح القوة المتفوقة في العالم. إن الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا هي خطوتها المركزية الإجرامية في جهودها الطويلة الأمد من أجل استعادة نفوذها في أوروبا الشرقية والفضاء السوفياتي السابق. وفي الشرق الأوسط، تخوض إيران وزمرتها من الوكلاء، أي “حماس” و”حزب الله” والحوثيين، وآخرون، صراعاً دموياً من أجل الهيمنة الإقليمية ضد إسرائيل ودول الخليج العربية والولايات المتحدة. ومرة أخرى، فإن القواسم المشتركة الأساسية التي تربط الدول التعديلية هي الحكم الاستبدادي والمظالم الجيوسياسية، إضافة، في هذه الحالة، إلى الرغبة في كسر النظام الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يحرمهم من العظمة التي يرغبون فيها. إن بكين، وموسكو، وطهران هي القوى الصاعدة والتي تكافح ضد واشنطن وحلفائها.
وقد ارتفعت سخونة اثنين من هذه التحديات سلفاً. وتعتبر الحرب في أوكرانيا أيضاً منافسة شرسة بالوكالة بين روسيا والغرب، إذ يخوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صراعاً طويلاً وطاحناً قد يستمر لسنوات. وكان الهجوم الذي شنته “حماس” على إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والذي مكنتها طهران من القيام به وإن لم تباركه صراحة، قد أشعل فتيل صراع حاد يؤدي إلى تداعيات عنيفة في أنحاء تلك المنطقة الحيوية. وفي الوقت نفسه، تمضي إيران ببطء نحو حيازة الأسلحة النووية، وهو ما قد يعطي نزعة التغيير الإقليمي التي تتبناها دفعة عظيمة وذلك من خلال تأمين نظامها وحمايته ضد أي رد إسرائيلي أو أميركي. وفي غرب المحيط الهادئ والبر الرئيس لآسيا، لا تزال الصين تعتمد في الغالب على فرض رغبتها بالقوة على نحو لا يرقى إلى مستوى الحرب، ولكن مع تغير التوازن العسكري في مناطق حساسة مثل مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي، سيكون لدى بكين خيارات أفضل، وربما شهية أكبر، لشن عدوان.
وكما كانت الحال في الثلاثينيات، فإن القوى التعديلية (الدول التي تهدف إلى تغيير أو وضع حد للنظام الدولي القائم) لا يتفقون دائماً بعضهم مع بعض في وجهات النظر. وتسعى كل من روسيا والصين إلى التفوق في آسيا الوسطى، كما أنهما تندفعان نحو الشرق الأوسط، بطرق تتعارض أحياناً مع مصالح إيران هناك. وإذا نجحوا في نهاية المطاف في إخراج عدوهم المشترك، وهو الولايات المتحدة، من أوراسيا، فقد ينتهي بهم الأمر إلى القتال في ما بينهم على الغنائم، تماماً كما كانت قوى المحور ستنقلب بعضها على بعض بالتأكيد، لو أنها هزمت منافسيها بطريقة أو بأخرى. ومع ذلك، تزدهر في الوقت الحالي، العلاقات بين القوى التعديلية، وتصبح الصراعات الإقليمية في أوراسيا أكثر ترابطاً وتداخلاً.
وتتقارب روسيا والصين من خلال شراكتهما الاستراتيجية “بلا حدود”، والتي تشمل مبيعات الأسلحة، وتعميق التعاون الدفاعي التكنولوجي، وإظهار التضامن الجيوسياسي مثل التدريبات العسكرية في النقاط الساخنة العالمية. وكما سمح اتفاق مولوتوف-ريبنتروب عام 1939 لألمانيا والاتحاد السوفياتي بغزو أوروبا الشرقية من دون المجازفة بصراع بين بعضهما بعضاً، فقد أدت الشراكة الصينية الروسية إلى تهدئة الحدود التي كانت في ذات يوم الأكثر عسكرة في العالم ومكنت كلاً من البلدين من التركيز على منافساتهما مع واشنطن وأصدقائها. وفي الآونة الأخيرة، عززت الحرب في أوكرانيا أيضاً العلاقات الأوراسية الأخرى، أي بين روسيا وإيران، وروسيا وكوريا الشمالية، في الوقت الذي كانت فيه تزيد من حدة التحديات التي يطرحها التعديليون وتجعلها متشابكة.
،، تصبح الصراعات الإقليمية في أوراسيا أكثر ترابطاً وتداخلاً ،،
وقد أسهمت الطائرات من دون طيار وذخائر المدفعية والصواريخ الباليستية التي قدمتها طهران وبيونغ يانغ، إلى جانب العون الاقتصادي الذي وفرته بكين، في دعم موسكو في صراعها ضد كييف ومن يساندها من الغربيين. وفي مقابل ذلك، يبدو أن موسكو تنقل تكنولوجيا ومعرفة عسكرية أكثر حساسية إلى هذه الدول، إذ تبيع إيران طائرات متقدمة، ويتردد أنها تقدم المساعدة لبرامج الأسلحة المتقدمة في كوريا الشمالية، وربما تساعد الصين في بناء غواصتها الهجومية من الجيل التالي. وتكشف صراعات إقليمية أخرى عن ديناميكيات مماثلة. وفي الشرق الأوسط، تحارب “حماس” إسرائيل بالأسلحة الصينية والروسية والإيرانية والكورية الشمالية التي ظلت تعمل على تجميعها لسنوات. ومنذ السابع من أكتوبر، أعلن بوتين أن الصراعين في أوكرانيا والشرق الأوسط يشكلان جزءاً من نضال واحد أكبر “سيقرر مصير روسيا، والعالم أجمع”. وفي تطور آخر يردد صدى الماضي، تستنزف التوترات عبر المسارح الرئيسة في أوراسيا موارد الولايات المتحدة بسبب اضطرار القوة العظمى إلى التصدي لمعضلات متعددة في وقت واحد. إن القوى المعنية بالتغيير بعضها يساعد بعضاً ببساطة عن طريق قيام كل منها بأشيائها الخاصة.
إن أحد الاختلافات الحاسمة بين الثلاثينيات واليوم هو حجم النزعة التعديلية. وعلى الرغم من من شر كل من بوتين والمرشد الإيراني علي خامنئي فإنهما لم يلتهما أجزاء كبيرة من المناطق ذات الأهمية الحيوية. وثمة فارق حاسم آخر وهو أن منطقة شرق آسيا لا تزال تتمتع بسلام هش، ولكن مع تحذير المسؤولين الأميركيين من أن الصين قد تصبح أكثر عدوانية مع نضوج قدراتها، وذلك ربما في النصف الثاني من هذا العقد، فإن الأمر يستحق النظر فيما قد يحدث إذا انفجرت تلك المنطقة.
إن صراعاً من هذا النوع سيكون كارثياً من جوانب متعددة. ومن الممكن أن يؤدي عدوان صيني على تايوان إلى اندلاع حرب أيضاً مع الولايات المتحدة، مما قد يؤلب أقوى جيشين في العالم مع ترسانتيهما النوويتين، ضد بعضهما بعضاً. ومن شأنه أيضاً أن يدمر التجارة العالمية بطرق ستجعل الاضطرابات الناجمة عن الحربين في أوكرانيا وغزة تبدو تافهة، كما أنه قد يزيد من الاستقطاب الذي تشهده السياسة العالمية إذ ستسعى الولايات المتحدة إلى حشد العالم الديمقراطي ضد العدوان الصيني، مما سيدفع بكين إلى احتضان روسيا والقوى الاستبدادية الأخرى بشكل أكبر.
والأمر الأشد أهمية هو أن اقتران الحرب في شرق آسيا بالصراعات الجارية في أماكن أخرى، قد يتمخض عن وضع لا يشبه أي شيء شهده العالم منذ أربعينيات القرن الماضي، إذ سيؤدي إلى اشتعال النيران في المناطق الرئيسة الثلاث في أوراسيا بأعمال عنف واسعة النطاق في وقت واحد. وقد لا يتحول هذا إلى حرب عالمية واحدة شاملة، لكنه قد يؤدي إلى عالم ابتُلي بالحرب بينما تواجه الولايات المتحدة والمدافعون الآخرون عن النظام الحالي صراعات متعددة ومتشابكة تتمدد في بعض أهم التضاريس الاستراتيجية على وجه الأرض.
الكوارث تتراكم
هناك كثير من الأسباب التي قد تمنع حدوث هذا السيناريو. ومن الممكن أن تظل منطقة شرق آسيا في سلام، لأن لدى الولايات المتحدة والصين حوافز هائلة لتجنب حرب مروعة. وقد يهدأ القتال في أوكرانيا والشرق الأوسط. فإن التفكير ملياً في السيناريو الكابوسي لا يزال يستحق العناء: أولاً، لأن العالم قد يكون لا يفصله عن اندلاع صراع أوراسي كبير سوى أزمة واحدة يجري إدارتها بشكل سيئ، وثانياً لأن الولايات المتحدة غير مستعدة تماماً لهذا الاحتمال.
وفي الوقت الحالي، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لدعم إسرائيل وأوكرانيا في وقت واحد. إن متطلبات هاتين الحربين، والمعارك التي لم تصبح واشنطن مقاتلاً رئيساً فيها حتى الآن، ماضية في استنزاف القدرات الأميركية في مجالات مثل المدفعية والدفاع الصاروخي. إن عمليات الانتشار في بحار الشرق الأوسط، والهادفة إلى ردع إيران وإبقاء الممرات البحرية الحيوية مفتوحة، تشكل ضغطاً مرهقاً على موارد البحرية الأميركية. إن الضربات ضد أهداف الحوثيين في اليمن تستهلك مخزوناً، مثل صواريخ توماهوك، التي ستكون ذا قيمة كبيرة في صراع أميركي صيني محتمل. وهذه كلها أعراض مشكلة أكبر هي قدرة الجيش الأميركي وطاقاته الآخذة بالتراجع عن المستوى الذي يسمح له بالتعامل مع التحديات عديدة والمترابطة التي يواجهها.
وابتعد البنتاغون تدريجاً خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عن الاستراتيجية العسكرية التي تهدف إلى هزيمة خصمين من الدول المارقة في الوقت ذاته، واختار بدلاً من ذلك استراتيجية الحرب الواحدة التي ترمي إلى هزيمة منافس واحد من القوى العظمى، هو الصين، في قتال شديد الحدة. ومن ناحية ما، كان هذا التحول بمثابة استجابة معقولة للمتطلبات القصوى التي قد يستلزمها مثل هذا الصراع، ولكنها أيضاً أدت إلى جعل البنتاغون غير جاهز بشكل جيد للتعامل مع عالم يضم مجموعة من القوى العظمى المعادية وتهديدات إقليمية خطيرة تهدد مسارح متعددة في وقت واحد، كما أنها ربما شجعت أيضاً خصوم الولايات المتحدة الأكثر عدوانية، مثل روسيا وإيران، الذين يدركون بالتأكيد أن القوة العظمى المنهكة، التي لديها جيش يستميت للتركيز على الصين، تتمتع بقدرة محدودة على الرد على عمليات هجوم أخرى.
وبطبيعة الحال، لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لحرب عالمية في عام 1941، ولكنها انتصرت في نهاية المطاف من خلال تعبئة القوة العسكرية والصناعية الأكبر على مستوى العالم. واستحضر الرئيس جو بايدن هذا الإنجاز أواخر العام الماضي، قائلاً إن الولايات المتحدة يجب أن تكون “ترسانة الديمقراطية” من جديد. واستثمرت إدارته في توسيع إنتاج ذخائر المدفعية والصواريخ بعيدة المدى وأسلحة مهمة أخرى، لكن الحقيقة القاسية هي أن القاعدة الصناعية الدفاعية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة لم تعد موجودة، وذلك بفعل التراجع المستمر في الاستثمار والتدهور الأوسع نطاقاً للتصنيع في الولايات المتحدة. وتنتشر حالات النقص والتأخيرات في الإنتاج والتصنيع، كما اعترف البنتاغون أخيراً بوجود “فجوات مادية” في قدرته على “توسيع نطاق الإنتاج بسرعة” في الأزمات. ولدى عديد من الحلفاء قواعد صناعية دفاعية أضعف.
،، قد لا يفصل العالم عن صراع أوراسي كبير سوى أزمة واحدة يجري إدارتها بشكل سيئ ،،
وبالتالي، ستواجه الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في التعبئة لحرب متعددة المسارح، أو حتى في التعبئة لصراع طويل الأمد في منطقة واحدة في الوقت الذي تواصل إمداد حلفائها في مناطق أخرى. وقد تكافح من أجل إنتاج عدد ضخم من مخازن الذخائر اللازمة لصراع القوى العظمى أو لاستبدال السفن والطائرات والغواصات بتلك التي تفقدها في القتال. ومن المؤكد أنها ستتعرض لضغوط شديدة لمواكبة أقوى منافس لها في حرب محتملة في غرب المحيط الهادئ. وكما يقول تقرير للبنتاغون، لقد أصبحت الصين الآن “القوة الصناعية العالمية في عديد من المجالات، من بناء السفن إلى المعادن الحيوية فالإلكترونيات الدقيقة”، وهو ما قد يمنحها ميزة تعبئة حاسمة في المنافسة مع الولايات المتحدة. وإذا اجتاحت الحرب مسارح متعددة في أوراسيا، فقد لا يكون الفوز من نصيب واشنطن وحلفائها.
ولا يفيد التظاهر بوجود حل واضح على المدى القريب لهذه المشكلات. تركيز القوة العسكرية الأميركية والاهتمام الاستراتيجي بشكل ساحق على آسيا، كما يدعو بعض المحللين، من شأنه أن يؤثر سلباً على الزعامة الأميركية العالمية تحت أي ظرف من الظروف. وفي وقت حيث يعاني الشرق الأوسط وأوروبا سلفاً من اضطرابات عميقة من هذا النوع، فقد يكون هذا بمثابة انتحار قوة عظمى، ولكن على الرغم من أن زيادة الإنفاق العسكري بشكل كبير لتقليل المخاطر العالمية تشكل ضرورة أساسية من الناحية الاستراتيجية، فإنها تبدو غير مناسبة من الناحية السياسية، في الأقل إلى أن تعاني الولايات المتحدة من صدمة جيوسياسية أكثر خطورة. على أي حال، سيستغرق الأمر وقتاً، وهو وقت قد لا تملكه واشنطن وأصدقاؤها، حتى يكون للزيادات الكبيرة في نفقات الدفاع تأثير عسكري ملموس. يبدو أن نهج إدارة بايدن ينطوي على التخبط في أوكرانيا والشرق الأوسط، وإجراء زيادات هامشية وانتقائية فقط في الإنفاق العسكري، والمراهنة على أن الصين لن تصبح أكثر عدوانية، وهي سياسة يمكن أن تنجح في ما فيه الكفاية، ولكنها يمكن أن تفشل أيضاً بشكل كارثي.
لقد أصبح المشهد الدولي غائماً بشكل كبير في السنوات الأخيرة. عام 2021، كانت إدارة بايدن قادرة على تصور وجود علاقة “مستقرة وخالية من المفاجآت” مع روسيا، حتى غزت تلك الدولة أوكرانيا عام 2022. وفي عام 2023، اعتبر المسؤولون الأميركيون أن الشرق الأوسط أكثر هدوءاً من أي وقت مضى في هذا القرن، قبل اندلاع حرب مدمرة ومزعزعة للاستقرار الإقليمي. التوترات بين الولايات المتحدة والصين لا تعاني التشنج والحمى بشكل خاص في الوقت الحالي، فإن التنافس المتزايد والتوازن العسكري المتغير يخلقان مزيجاً خطراً. وغالباً ما تبدو الكوارث الكبرى غير واردة إلى أن تحدث. ومع تدهور البيئة الاستراتيجية، حان الوقت لإدراك كم بات الصراع العالمي الوشيك أمراً يمكن التفكير بوقوعه فعلاً.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/37827