الحرب على غزة وهندسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية (2023-2024)

تستقصي الدراسة الحالة الاستثنائية التي تعيشها الجماعة الصحفية الفلسطينية، والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها كيانها الاجتماعي والمهني، في سياق الحرب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتبحث سؤالًا إشكاليًّا مركبًا عن الخلفية أو القصد الذي تتجه إليه هذه الانتهاكات: لماذا لجأت إسرائيل إلى التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية؟ وما الأهداف التي تسعى إليها؟ وما الإستراتيجية التي اعتمدتها في عملية تدمير الجسم الصحفي الفلسطيني؟ وتفترض الدراسة أن “الموت الاجتماعي” الذي مارسه الجيش الإسرائيلي من خلال القتل الواسع للصحفيين وأسرهم وأقربائهم، وأيضًا الاستهداف أو الموت المهني عبر تدمير المؤسسات الإعلامية والصحفية، لم يكن من “الأضرار الجانبية” للحرب وآثارها المدمرة، بل هو نتاج خطة منظمة ومنهجية بقصد تدمير الجماعة الصحفية الفلسطينية وكيانها الاجتماعي والمهني.

مقدمة

أصبح قطاع غزة المكان الأكثر تهديدًا لحياة الصحفيين في العالم خلال العقد الماضي، لاسيما أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية، إثر الحروب التي شنَّتها إسرائيل بين عامي 2008 و2023 على هذا الشريط الضيق الذي لا تتجاوز مساحته 362 كلم2. وبات هذا التهديد يمس الكيان المهني والاجتماعي للجسم الصحفي الفلسطيني كما حدث في الحرب السابعة على القطاع (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)؛ إذ لا يستطيع الصحفيون ممارسة عملهم المهني والتنقل (الحق في التنقل) بحرية في ميادين الأحداث من دون التعرض لاستهداف الجيش الإسرائيلي، سواء عبر القصف بالطائرات المسيرة وقذائف المدفعية ورصاص القناصة، أو تدمير مكاتب المؤسسات الإعلامية، أو “إبادة منازل” الصحفيين وأسرهم وأقربائهم. وقد أدى هذا الوضع إلى فقدان أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية للحماية القانونية مرتين، أولًا: بصفتهم المهنية؛ إذ لا يتمتَّع هؤلاء الصحفيون بالحصانة التي كَفَلتها مبادئ القانون الدولي الإنساني لأداء دورهم الوظيفي في إخبار وإعلام الرأي العام المحلي والعالمي بمجريات الحرب وظروفها وآثارها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وثانيًا: يفقدون الحماية القانونية بصفتهم المدنية بموجب اتفاقية جنيف الرابعة؛ إذ يتعرض الصحفيون، مثل باقي الفئات الاجتماعية الأخرى (الأطباء، الأكاديميون…)، للقتل وسياسة الجوع والحرمان من الغذاء والماء والدواء وجميع مقومات الحياة، بل يواجهون التهجير القسري، والتطهير العرقي الذي يهدف إلى اجتثاث الجماعة الصحفية وتدمير كيانها.

لقد أنتجت هذه الحرب غير المسبوقة، التي حصدت أرواح 38 ألف فلسطيني، حالة استثنائية لاستهداف الصحفيين الفلسطينيين ليس لها أي نظير، سواء في سياق الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ أول حرب في 2008-2009، أو في الحروب والنزاعات الدولية التي عرفها التاريخ الحديث والمعاصر. فقد بلغ عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم، في حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، خلال فترة لا تتجاوز سبعة أشهر (210 أيام)**، 153 صحفيًّا، أي بمعدل مقتل صحفي كل 33 ساعة تقريبًا، ويمثِّل هؤلاء الضحايا 12.75% من مجموع الصحفيين بغزة (1200 صحفي) الذين ينتسبون لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، و4.78% من أصل 3200 صحفي في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم خلال الحرب الثانية التي شنَّتها إسرائيل على غزة، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، قد بلغ 3 صحفيين وأصيب 17 آخرون بجروح متفاوتة الخطورة(1). وفي الحرب الثالثة على غزة (الجرف الصامد/العصف المأكول)، في 7 يوليو/تموز 2014، ارتفع عدد القتلى من الصحفيين والعاملين في المؤسسات الإعلامية ليصل إلى 17 صحفيًّا، بينما أصيب 28 آخرون بإصابات مختلفة(2).

وتبدو الحالة الاستثنائية في استهداف الصحفيين الفلسطينيين من خلال مقارنة سماتها بما تعرض له الجسم الصحفي الدولي في بعض مناطق الصراع والنزاع، وبما جرى في أحداث عالمية كبرى لم تشهد حجم الانتهاكات التي عاشها الصحفيون الفلسطينيون في حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول. فقد بلغ عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) 69 صحفيًّا، وقُتِل في ذروة الحرب الأميركية على فيتنام 66 صحفيًّا. وفي الجزائر، دخلت الصحافة دوامة الاغتيالات في مرحلة عُرِفت إعلاميًّا بـ”العشرية السوداء” (1992-2002)، وبلغ عدد القتلى 120 صحفيًّا(3). أما في العراق فقد لقي أكثر من 70 صحفيًّا مصرعهم خلال العام 2003(4)، وفي العام 2006 قُتِل 168 صحفيًّا؛ فَقَد عدد منهم حياته خلال أداء عمله الصحفي في العراق. وشكَّل 2007 عامًا داميًا للجسم الصحفي الدولي؛ إذ قُتِل 172 شخصًا من العاملين في مجال الإعلام. وفي العام 2015، لقي 111 صحفيًّا مصرعهم(5). وبلغ عدد الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام الذين قُتلوا عام 2023 في جميع أنحاء العالم 99 فردًا(6)، وفَقَد أيضًا 11 صحفيًّا حياتهم في أوكرانيا بعد عامين من الحرب، التي بدأت في 24 فبراير/شباط 2022.

إذن، يكشف هذا الوضع سمات ومتغيرات مختلفة تحدد خصوصية الحالة الاستثنائية في استهداف الصحفيين الفلسطينيين، قد يكون أبرزها متغير المجال الزمني؛ إذ كانت الفترة الزمنية التي اغتال فيها الجيش الإسرائيلي أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية محدودة جدًّا (حوالي 7 أشهر)، حيث يظل عددهم (153 صحفيًّا) استثنائيًّا قياسًا إلى عدد الصحفيين الذين قُتلوا في الأعوام الستة للحرب العالمية الثانية، أو في الحرب الأميركية على فيتنام التي استمرت حولي 20 عامًا (1955-1975)، أو في الحرب الكورية التي دامت ثلاثة أعوام (1950-1953) وأودت بحياة عشرين صحفيًّا.

هناك سمة أو متغير آخر للحالة الاستثنائية في استهداف الصحفيين الفلسطينيين، ويتمثَّل في تدمير المؤسسات الصحفية والإعلامية ومراكز الخدمات والإنتاج الإعلامي. ولا يعني ذلك تدميرًا للمكان ووسائل العمل والرأسمال الاقتصادي للمؤسسة فقط، وإنما أيضًا تدميرًا رمزيًّا للتجربة المهنية لتلك المؤسسات التي تفقد إرثها الإعلامي كما يُؤَسِّس له تاريخ ونشاط المؤسسة ورصيدها المهني وأرشيفها الإعلامي، ودورها الاجتماعي والثقافي والسياسي في المجتمع الفلسطيني. وهو الأمر الذي لم يحدث قط من قبل في تاريخ العمل الإعلامي بهذا النمط غير المسبوق الذي تستخدم فيه إسرائيل ترسانتها العسكرية الحديثة لتدمير المكاتب الإعلامية لوكالات الأنباء والشبكات الدولية.

ويبدو المتغير الأكثر بروزًا في هذه الحالة الاستثنائية هو القتل الواسع الذي يستهدف أفراد أسر الصحفيين الفلسطينيين وأقربائهم، وتدمير المنازل فوق رؤوسهم، ثم سياسة التهجير القسري لمن نجا من القصف بالطائرات الحربية والمسيرات والصواريخ والقذائف المدفعية. ويمثِّل هذا المتغير بعدًا تدميريًّا اجتماعيًّا للجسم الصحفي الفلسطيني؛ إذ يفقد الصحفي روابطه الأسرية والاجتماعية بعد اجتثاث أفراد العائلة من النسيج الاجتماعي للجماعة الصحافية، وقطع أواصر علاقاتها وتعاقبها الجيلي. ويُكرِّس هذا النمط التدميري للعلاقات الأسرية والاجتماعية للذات الصحافية ما أسماه عالم الاجتماع أورلاندو باترسون (Orlando Patterson) “الموت الاجتماعي” للفرد الذي يُقْتَلَع من بيئته ولا يملك امتدادًا اجتماعيًّا(7). وهنا، يبدو التدمير والاجتثاث الجسدي لأسر الصحفيين، والموت الاجتماعي للذات الصحافية، واسعًا بل يُواجه الجسم الصحفي الدولي هذا الأمر لأول مرة في تاريخه. فلم يشهد العالم من قبل إفناء أسر الصحفيين وتدمير المنازل فوق رؤوس أقربائهم، حتى في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.

في هذا السياق الاستثنائي للحرب غير المسبوقة على غزة، والحالة الاستثنائية من التدمير التي يواجهها الجسم الصحفي الفلسطيني، تبحث الدراسة سؤالًا إشكاليًّا مركبًا عن الخلفية أو القصد الذي تتجه إليه هذه الانتهاكات: لماذا لجأت إسرائيل إلى التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية؟ وما الأهداف التي تسعى إليها؟ وما الإستراتيجية التي اعتمدتها في عملية التدمير الممنهج للكيان الصحفي الفلسطيني؟ وتفترض الدراسة أن التدمير المُمَأْسَس للجماعة الصحفية الفلسطينية والموت الاجتماعي لأفرادها عبر الاجتثاث الأسري لهذه المجموعة البشرية، وتدمير المؤسسات الصحفية والإعلامية، يُعرِّض الكيان المهني والاجتماعي للجماعة الصحفية والرواية الفلسطينية إلى الإبادة الإعلامية التي تمثِّل وجهًا من وجوه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. ويقتضي ذلك وجود خطة منظمة وواسعة النطاق بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة الصحفية وكيانها المهني والاجتماعي.

وتهدف الدراسة إلى استكشاف مظاهر وأبعاد الإبادة الإعلامية للجسم الصحفي الفلسطيني من المنظور المهني، الذي يتقصَّى نسق السياسة الإسرائيلية في طمس وإبادة الرواية الفلسطينية من خلال قتل/اغتيال أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية، وكذلك التهجير القسري والتطهير العرقي للصحفيين، وتدمير المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية. وتسعى الدراسة أيضًا إلى التحقق من دوافع السياسة الإسرائيلية لاجتثاث أسر وأقرباء الجسم الصحفي الفلسطيني، واستقصاء دور البعد الاجتماعي وموقعه في هندسة الفعل الإبادي للجماعة الصحفية من قبل المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية. وتكشف هذه الأهداف جزءًا من أهمية الدراسة التي تناقش حالة إعلامية استثنائية تنبثق من سياق حالة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. وسيسمح ذلك ببلورة مفهوم الإبادة الإعلامية الذي تحاول الدراسة تأصيله وتحديد مرتكزاته وأبعاده، وهو ما يساعد في فهم وتحليل خصوصية الحالة الاستثنائية للجسم الصحفي الفلسطيني، وأيضًا الحالات المشابهة التي قد تعرفها النزاعات والأزمات الطارئة، وتأطير مظاهر جريمة الإبادة الإعلامية التي تستهدف تدمير الكيان الاجتماعي للجماعة الصحافية ضمن الإبادة الجماعية كما حددتها اتفاقية الأمم المتحدة، في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948. ومن هذا المنظور، تُؤسِّس الدراسة لمبحث إعلامي جديد يُقارب أثر التدمير الممنهج للجماعة الصحفية، واجتثاث كيانها الاجتماعي والمهني وطمس الرواية الصحفية، في نشوء حالة الإبادة الإعلامية. ويُسهِم ذلك في وضع أسس نموذج تفسيري لحالة إعلامية استثنائية غير مسبوقة لاستهدف الجسم الصحفي الفلسطيني في تاريخ العمل الإعلامي.

1. مدخل منهجي ونظري

الإستراتيجية المنهجية

يتميز فعل التدمير الذي يتعرض له الجسم الصحفي الفلسطيني بالتعقيد؛ إذ تتداخل عوامل مختلفة في تشكيل أبعاده المهنية والاجتماعية والإنسانية التي تتفاعل في سياق ديناميكي يُنتِج حالة استثنائية لاجتثاث الكيان المهني والاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية. ويُضفي هذا التعقيد بعدًا نسقيًّا على الفعل الإبادي للجسم الصحفي الفلسطيني؛ إذ ترتكز الإبادة الإعلامية على خطة منظمة وواسعة النطاق وكذلك موقف (هدف) محدد له معنى، ثم ممارسة -في مسرح الجريمة- تتسلح بأدوات ووسائل لتحقيق أهدافها. وهنا، يسمح المنهج النسقي (أو المقاربة النسقية) بفهم وتحليل هذه الخطة والموقف والممارسة في هندسة الفعل الإبادي ضد الجماعة الصحفية الفلسطينية. ويستعين الباحث بالجهود الفكرية والنظرية والمنهجية لبعض العلماء والأكاديميين الذين أثروا حقل التفكير النسقي بنماذج إرشادية متعددة للفعل الاجتماعي والسياسي والظواهر الإنسانية، وتحليل العلاقات الارتباطية بين متغيراتها وتفاعلاتها الدينامية وأشكال اتساقها كما نطالع في أعمال عالم الاجتماع، تالكوت بارسونز (Talcott Parsons)، والأكاديمي، جيرارد دوناديو (Gérard Donnadieu)، وعالم الاجتماع، نيكلاس لومان (Niklas Luhmann).

تنبني المقاربة النسقية على تحليل الشبكة العلائقية بين أجزاء الفعل/النسق، ودراسة دينامية التفاعلات بين مكوناته التي تؤدي دورًا مخصوصًا في النسق، ولها سمات تميزها عن غيرها، أي البحث في أشكال علاقات هذا الفعل في بيئته الداخلية والخارجية. ولذلك يقوم التحليل النسقي على “الفهم الملموس لعدد من المفاهيم، مثل النسق، والتفاعل، والتغذية الراجعة، والتنظيم، والترتيب، والقصدية، والمنظور الشامل، والتطور. ومن ثم تتشكَّل المقاربة النسقية عبر عملية النمذجة التي تستخدم لغة الرسوم على نطاق واسع، وتنطلق من بلورة نماذج كمية، في شكل خرائط، إلى بناء نماذج دينامية وكيفية… وتجمع بين الإجراءات النظرية والتطبيقية والمنهجية لدراسة ما يُعتبر معقدًا للغاية ويتم تناوله بطريقة اختزالية، والذي يطرح مشكلات الحدود، والعلاقات الداخلية والخارجية، والبنية، والقوانين، أو الخصائص الناشئة التي تميز النسق على هذا النحو، أو مشكلات نمط الملاحظة والتمثل والنمذجة، أو محاكاة كل معقد”(8).

انطلاقًا من هذا التعريف تركز المقاربة النسقية على بناء نموذج إرشادي يسمح بدراسة التفاعلات الدينامية للفعل/النسق. ويعتمد الباحث في تحليل فعل الإبادة الإعلامية النموذجَ الإرشادي لعالم الاجتماع، تالكوت بارسونز، في دراسته لنسق الفعل الاجتماعي، الذي ينبني على أربعة عناصر: 1) الذات-الفاعل، ويمكن أن يكون فردًا أو مجموعة أو مجتمعًا، 2) الموقف، ويشمل الأهداف المادية والاجتماعية التي تتصل بالذات، 3) الرموز، التي يرتبط من خلالها الفاعل بالعناصر المختلفة للموقف وينسب لها المعنى، 4) القواعد والمعايير والقيم التي تحدد اتجاه الفعل، أي علاقات الفاعل بالأهداف الاجتماعية وغير الاجتماعية في بيئته(9).

ويرى بارسونز أن هناك أربعة مكونات (منجز/أداتي، داخلي/خارجي) يجب أن تتفاعل مع بعضها كي ينتج الفعل. ويَبْنِي هذه المكونات عبر تصنيف متقاطع، أي عبر وضع متغيرين اثنين مقابل بعضهما(10). وتتحقق من خلال ذلك وظائف النسق (التكيف، تحقيق الأهداف، الاندماج، صيانة الأنماط الكامنة)، كما يظهر في الشكل رقم (1).

شكل (1): النموذج الوظيفي لنسق الفعل

                                               المنجز                        أداتي                     

تحقيق الأهداف

التكيف

خارجي

الاندماج

صيانة الأنماط الكامنة

داخلي

ويستعين الباحث في فهم وتحليل فعل الإبادة الإعلامية ضد الجماعة الصحفية الفلسطينية بأداة المقابلة/المعمقة التي تساعد في استكشاف المكونات والأبعاد المختلفة لهذا النسق (الفاعل، الموقف، القواعد، المنجز/الأهداف، الأداتي/الوسائل…). وقد أجرى الباحث 15 مقابلة مع عينة قصدية*** من الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية الذين كانوا جزءًا من فعل الإبادة الإعلامية وتأثروا بظروفها، وكذلك صحفيين من لبنان، وفاعلين حقوقيين من المجتمع المحلي الفلسطيني والدولي ممن يتابعون أوضاع وحقوق الصحفيين وحرية الصحافة في العالم.

تصور نظري للإبادة الإعلامية

في الواقع، ليس هناك تراث نظري يُعالج ما يُسمِّيه الباحث بـ”الإبادة الإعلامية” ويُقدِّم جهازًا مفاهيميًّا يساعد في الإجابة عن السؤال الإشكالي للدراسة وفرضيتها، لكن نجد دراسات تهتم بـ”إعلام الإبادة الجماعية” كما أسماه المؤرخ الفرنسي، جون بيير كريتيان (Jean-Pierre Chrétien)(11). وقد برز هذا المفهوم في سياق الحرب الأهلية الرواندية بين قبائل الهوتو والتوتسي (1990-1994)؛ حيث كان الإعلام يقوم بدور التحريض على القتل والدعوة إلى الإبادة. ويُعد العمل البحثي الذي أشرف عليه الأكاديمي، آلان تومبسون (Allan Thompson)، جهدًا علميًّا مهمًّا في تأصيل مفهوم إعلام الإبادة؛ إذ تُستخدم وسائل الإعلام في نشر الكراهية، وتجريد الأفراد من إنسانيتهم، والتحريض على الإبادة الجماعية(12). بينما لم يحظ مفهوم الإبادة الإعلامية من قبل بالدراسة والبحث.

لذلك يُؤَسِّس هذا التصور لبناء معرفي عن الحالة الاستثنائية لفعل/نسق التدمير الممنهج الذي تعرض له الكيان المهني والاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية، في ظل الحرب التي شنَّتها إسرائيل على غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولن يكون معنيًّا كثيرًا بالتأطير القانوني لهذه الحالة -وهو غير موجود في الأصل- إلا بما يُعضِّد منظور الدراسة عن الإبادة الإعلامية. ويُبرِز هذا البناء المعرفي محددات وعناصر الفعل الإبادي، ونسقية التدمير الواسع للجماعة الصحفية خلال التغطية الإخبارية لمسارات الحرب وتطوراتها، وفي الحياة الاجتماعية. وهو ينبني على سلوك الفاعل الإسرائيلي وسياسته وأهدافه ومرجعيته في التعامل مع وسائل الإعلام خلال الحرب ورؤيته لدور الصحفيين الفلسطينيين وموقعهم في هذا الصراع، كما ينبني على آراء ومواقف وخبرات الذات الصحفية الفلسطينية.

ستركز الدراسة على ثلاثة مداخل في بلورة هذا البناء المعرفي، ويتتبَّع أولها رؤى بعض المنظمات والهيئات الحقوقية الدولية، التي تهتم بالمؤشر العالمي لحرية الصحافة وأوضاع الصحفيين، بشأن التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني، وتحديد الخريطة الإدراكية لهذه المنظمات بشأن الانتهاكات التي تعرض لها الكيان الاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية. ويتناول المدخل الثاني مفهوم الإبادة الجماعية، وكذلك الفروع والأشكال المختلفة التي تعكس فعل التدمير الممنهج لجميع مصادر الحياة المادية والرمزية في قطاع غزة. أما المدخل الثالث فيُقدِّم تعريفًا لمفهوم الإبادة الإعلامية وأبعادها المهنية والاجتماعية والإنسانية.

المدخل الأول: المنظور الحقوقي

يُقدِّم الخطاب الحقوقي، خصوصًا الدولي، تصورًا مركبًا عن الحالة الاستثنائية للجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ تتنازعه محمولات متعددة ومختلفة في النظر إلى فعل التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني. فهناك حقل دلالي يُنشِئ منظورًا للفاعل الإسرائيلي (المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية) في قتل الصحفيين الفلسطينيين وتدمير المؤسسات الإعلامية في غزة، وهو ينبني على اجتثاث الصحفيين مهنيًّا واجتماعيًّا، وإفناء الصحافة في القطاع. وهنا، يستخدم الحقل الدلالي تركيبًا معجميًّا متشاكلًا كما يظهر في نموذج الخطاب الحقوقي لمنظمة “مراسلون بلا حدود”؛ إذ يتعرض الصحفيون، وكذلك قطاع الصحافة، لـ”المذبحة”(13) في الحرب التي تشنُّها إسرائيل على غزة، وأن “هذه المذبحة لم تتوقف”، وأن “الحرب تفتك بحياة الفاعلين الإعلاميين”. ويتضمن هذا اللفظ/المصطلح (المذبحة) إيحاءات رمزية وتاريخية تُشير إلى مستوى العنف والتدمير الممنهج الذي أدى إلى إبادة بعض المجموعات البشرية والإثنيات في سياق الصراع الذي كان يستهدف وجودها وكيانها الاجتماعي. ولذلك حوَّلت هذه “المذبحة” مدن غزة شمالًا وجنوبًا إلى “مقبرة للصحفيين” الذين قُتلوا مع عائلاتهم بعد القصف الذي استهدف بيوتهم(14). وتعكس السياسة الإسرائيلية في قتل الصحفيين داخل مكاتب عملهم، وفي الميدان، وفي منازلهم، وفي مخيمات ومراكز اللاجئين، وأمام المستشفيات، وحتى داخل سياراتهم، “رغبة مبيتة في الإجهاز على الصحافة الفلسطينية” دون هوادة(15). وكان ذات الخطاب يرى في أفعال الجيش الإسرائيلي واستهدافه للصحفيين الفلسطينيين عمدًا بسبب عملهم الإعلامي “جرائم حرب”، ويصف ذلك بـ”القتل المتعمد للمدنيين”(16).

يُكثِّف الخطاب الحقوقي مفردات ومعاني الحقل الدلالي لفعل التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني، فيَسِم عمليات القتل الواسع لأفراد الجماعة الصحفية بـ”المجزرة غير المسبوقة وغير المقبولة”(17). ولا يرى في حالات القتل بين الصحفيين “مجرد صدفة”، ولا أعمالًا من آثار القصف العشوائي، بل “إن كل الأدلة تشير إلى القتل المتعمد للصحفيين والمصورين الفلسطينيين”. وهذا ما يجعل الحرب في غزة “الأكثر دموية وفتكًا بالصحفيين من أي صراع آخر”(18). ويتجاوز هذا الحقل المعجمي عملية الوصف لما يتعرض له الكيان المهني والاجتماعي للصحفيين الفلسطينيين، ويركز على قصدية التدمير المتعمد للجسم الصحفي والنية المسبقة لهذا الفعل/المجزرة؛ ما يعني التخطيط للقتل الواسع للصحفيين، أي وجود خطة منظمة ومنهجية لاستباحة الجسد الصحفي الفلسطيني ومحاولة تدمير الصحافة، وانتهاك القوانين الدولية والالتزامات الأخلاقية في حماية الصحفيين/المدنيين الفلسطينيين، والإفلات من العقاب.

ويُقدِّم صنف من الخطاب الحقوقي الدولي تشخيصًا ملتبسًا لفعل التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ لا يزال من منظوره “يشعر بالانشغال إزاء ما يبدو نمط استهداف ضد الصحفيين وعائلاتهم من قِبَل الجيش الإسرائيلي”(19)؛ إذ يبدو وكأنه لم يتحقق بعد من الفعل النسقي لتدمير الكيان المهني والاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية. ولهذا السبب ربما يحاول السجل اللغوي لهذا الخطاب أن يجعل كلمة “القتلى” مرادفة لـ”الوفيات” (العدد المرتفع للوفيات). ويتذرع هذا الخطاب بصعوبة التحقيق في ظروف القتل الذي يستهدف الصحفيين لأسباب مختلفة. ويختزل نمط آخر من الخطاب الحقوقي فعل التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية في “جرائم الحرب”(20)، ويتوسَّل أيضًا بضرورة التحقيق في الوقائع على الرغم من أهمية هذه الخطوة المنهجية في عمله الحقوقي.

المدخل الثاني: الإبادة الجماعية: أبعادها وأشكالها  

تُعد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948، أول معاهدة لحقوق الإنسان تُجرِّم فعل الإبادة الجماعية بمقتضى القانون الدولي. وقد صاغ المصطلح لأول مرة الفقيه القانوني، رافائيل لمكين (Raphael Lemkin)، وحدَّد مفهومه وأبعاده في عدد من الأعمال البحثية(21)، ويعني خطة منظمة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات قومية من أجل إبادتها عبر تفكيك مؤسساتها السياسية والاجتماعية والثقافية ولغتها وشعورها الوطني ودينها وحياتها الاقتصادية، وتدمير الأمن الشخصي، والحرية، والصحة، والكرامة. وتكون الإبادة مُوجَّهة ضد المجموعة الوطنية بصفتها كيانًا، كما أن أفعال الإبادة لا تستهدف الأفراد بصفتهم الفردية بل كأعضاء في مجموعة وطنية.

وتعني الإبادة الجماعية، وفقًا للمادة الثانية من الاتفاقية الدولية التي بدأ تاريخ نفاذها في 12 يناير/كانون الثاني 1952، “أيًّا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

(ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.

(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(ه) نقل الأطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى”(22).

وتنحصر أركان الإبادة بحسب هذا التعريف في الركن المادي الذي يتكوَّن من مجموعة أفعال يكفي تحقق أحدها لإقرار جريمة الجرائم، ثم هناك الركن المعنوي الذي يتحقق بالقصد الخاص. ويرى بعض الفقهاء القانونيين أن هناك ركنًا ثالثًا وهو الجهة التي يُوجَّه إليها الفعل، أو ما يُعرف بالمجموعة المستهدفة بفعل الإبادة(23). وقد دفع تَحقُّق بعض عناصر الركن المادي للإبادة في غزة، مُقَرِّرة الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، إلى الإقرار بوجود أسباب معقولة للحكم بارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، في تقرير يحمل عنوانًا دالًّا “تشريح الإبادة الجماعية”(24) قدَّمته ألبانيز إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، في 26 فبراير/شباط 2024، بعد مرور خمسة أشهر على الحرب التي شنَّتها إسرائيل على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبيَّن التقرير أن إسرائيل ارتكبت على الأقل ثلاثة أفعال تُجرِّمها اتفاقية الإبادة الجماعية، وهي: 1) قتل أعضاء من الجماعة باستخدام الأسلحة الفتاكة، 2) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، 3) إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.

وقبل ذلك كانت محكمة العدل الدولية(25) أمرت إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها ضمن نطاق المادة الثانية من الاتفاقية الدولية. وأقرت بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، وطالبت إسرائيل بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان القطاع، وأن تضمن إسرائيل توفير الاحتياجات الإنسانية الملحَّة واتخاذ تدابير طارئة وفورية لأجل ذلك.

وأفسح النقاش حول الإبادة الجماعية، التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، المجال واسعًا أمام الخبراء والأكاديميين والباحثين لرصد طبيعة الأفعال التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي خلال الحرب غير المسبوقة على قطاع غزة، حيث برزت أشكال متعددة للأعمال المكونة للإبادة الجماعية، مثل “إبادة المنازل”(26)، وهو المصطلح الذي أصَّله لأول مرة عالم الجغرافيا، دوغلاس بورتيوس (Douglas Porteous)، والأكاديمية، ساندرا سميث (Sandra Smith)، في كتابهما: “التدمير الشامل للمنازل”. كما استخدمه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاجوبال، للدلالة على “التدمير واسع النطاق أو المنهجي لمساكن المدنيين أثناء النزاعات”. وقد كشفت الحرب الإسرائيلية السابعة على القطاع حجم التدمير الممنهج لمنازل السكان من خلال إستراتيجية “القصف السجادي” للأحياء والأبراج والتخريب والإحراق؛ حيث أصبح معظم منازل القطاع غير صالح للسكن من أجل إجبار المواطنين على النزوح في سياق التهجير القسري والتطهير العرقي للفلسطينيين. ويُسمِّي بعض الباحثين هذا النمط أيضًا من التدمير بـ”الإبادة المكانية”(27) التي تستهدف الأرض من أجل تنفيذ “الترانسفير الطوعي” المحتوم للسكان الفلسطينيين عن طريق تدمير المكان الذي يعيش عليه الشعب الفلسطيني.

وبرز أيضًا مصطلح “الإبادة الثقافية”(28)؛ إذ دمَّر الجيش الإسرائيلي مجموعة كبيرة من المواقع الأثرية والمباني التاريخية، والمساجد والكنائس، والمتاحف والمكتبات، ومراكز المخطوطات، والمراكز الثقافية، والجامعات والمؤسسات الأكاديمية. وقد حظي هذا المصطلح مبكرًا باهتمام الفقيه القانوني، رفائيل ليمكن(29)، في سياق دراسته للاحتلال الألماني للكسمبورغ خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ رصد السياسة التي اتبعتها السلطة الألمانية في منع السكان المحليين من التعبير عن روحهم الوطنية من خلال الفن والإعلام والمسرح والسينما والآداب، ومحاولة التحكم في جميع الأنشطة المرتبطة بهذه المجالات، بل لم تسمح هذه السلطة للسكان باستخدام اللغة الفرنسية في بعض المستويات التعليمية. وقد توسَّع المؤرخ والأكاديمي، لورنس دافيدسون (Lawrence Davidson)، في تفصيل أبعاد هذا المفهوم في دراسة رائدة تحمل نفس العنوان: “الإبادة الثقافية”(30)؛ إذ تتبَّع جذوره التاريخية انطلاقًا من “سياسة المستعمرين الأوروبيين الذين ارتكبوا ودعموا الاعتداء على ثقافات الهنود الأميركيين”، كما درس أشكال الإبادة الثقافية التي تعرض لها الفلسطينيون “ومحاولة عَبْرَنَة الأرض وإبادة تراث الثقافة العربية”.

أظهرت الحرب على غزة أشكالًا أخرى من الإبادة، لاسيما “الإبادة السياسية”(31) التي تستهدف تدمير مؤسسات الحكم المحلي والمرافق الإدارية؛ إذ كان الجيش الإسرائيلي يسعى إلى تعطيل قوة حركة حماس وحكمها لقطاع غزة من خلال التدمير الممنهج لكل الأجهزة والمؤسسات السياسية والأمنية والتنفيذية والقضائية. وربما كانت “الإبادة الاجتماعية”(32) أكثر الأشكال بروزًا في الحرب على غزة؛ إذ حاول الجيش الإسرائيلي تدمير البنية الاجتماعية لقطاع غزة وإضعاف مواردها الوطنية والروحية من خلال اجتثاث النخب والمثقفين والرموز الاجتماعية في قطاعات مختلفة (الصحة، العمل الإغاثي، الأكاديميا…) عبر عمليات القتل الواسع أو التهجير القسري والتطهير العرقي. ولا يمكن أيضًا تجاهل “الإبادة الاقتصادية”(33) التي مارسها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة؛ حيث سعى الجيش الإسرائيلي إلى تدمير أسس الوجود الاقتصادي للسكان، من خلال الإجهاز على المصانع والمؤسسات التجارية والاقتصادية والبنوك ونهب مدخراتها وتدمير ممتلكات الأفراد ودورة الإنتاج الاقتصادي في القطاع، والقضاء على بعض المرافق الاقتصادية، مثل الميناء وشبكة الطرق والمواصلات والبنية التحتية المرتبطة بدورة الإنتاج الاقتصادي؛ مما تسبب في القضاء على مصادر الحياة الفلسطينية. وتبدو أيضًا “الإبادة البيولوجية”(34) شكلًا لافتًا في الحرب على غزة، وهو نمط آخر من الإبادة الذي رصده ليمكن، ويتحقق من خلال “سياسة التهجير والتقليل من معدل الولادات للمجموعات الوطنية”، ويبرز ذلك في سياسة الجيش الإسرائيلي الذي يستخدم آلته الحربية في القتل الممنهج للأطفال والنساء. وهو ما يهدد الوجود المستقبلي للمجموعة الوطنية ويحول دون حدوث ولادات جديدة داخلها، أي منع التكاثر لخلخلة المعادلة السكانية في المجموعة(35).

في هذا السياق العام لأفعال الإبادة الجماعية وأشكالها المختلفة التي تعرض لها السكان في قطاع غزة -وفقًا للنموذج التحليلي الثماني الذي صاغه الفقيه القانوني، رافائيل ليمكن: الإبادة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيولوجية والمادية والدينية والأخلاقية- يرى الباحث أن الجماعة الصحفية الفلسطينية تعرضت أيضًا لحالة استثنائية من التدمير المنظم والممنهج بقصد اجتثاث وإفناء كيانها المهني والاجتماعي كليًّا أو جزئيًّا. ويمكن تسمية هذا النمط من الإبادة الجماعية بـ”الإبادة الإعلامية” لتكون جزءًا من النموذج الثماني، فما المقصود بهذا المفهوم؟

المدخل الثالث: الإبادة الإعلامية

تُفكِّر الدراسة في مفهوم الإبادة الإعلامية انطلاقًا من الأفعال التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الجماعة الصحفية الفلسطينية، وكذلك سياسة الحكومة الإسرائيلية في التعامل مع قطاع الصحافة في غزة. وهنا، لا تحاول الدراسة أن تُقدِّم تعريفًا قانونيًّا للإبادة الإعلامية أو تكييفيها مع نصوص القانون الدولي وقوانين العقوبات الوطنية بشأن جرائم الإبادة الجماعية، لأن ذلك يحتاج إلى جهد قانوني متخصص. فالتعريف الذي تقترحه الدراسة يُحدِّده نمط الفعل الإبادي نفسه ضد الجماعة الصحفية الفلسطينية، وأركانه وأهدافه ووسائله. وهذا لا يمنع الباحث من الاسترشاد بمضمون الاتفاقيات والقوانين الدولية التي حدَّدت معايير وأركان واضحة للإبادة الجماعية. لذلك تقترح الدراسة هذا التعريف للإبادة الإعلامية في سياق الحالة الاستثنائية التي عاشتها الجماعة الصحفية الفلسطينية خلال الحرب على غزة، ويقصد بها: كل فعل يندرج في تنفيذ خطة منظمة ومنسقة ومنهجية بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة الصحفية وكيانها المهني والاجتماعي، من خلال:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة الصحفية واستهداف أفراد أسرهم وأقربائهم وتصفيتهم جسديًّا.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة الصحفية وأفراد أسرهم وأقاربهم.

(ج) الامتناع عن حماية الجماعة الصحفية، والإحجام عن تقديم العون للصحفيين الذين يوجدون في حالة خطر.

(د) إخضاع الجماعة الصحفية وأفراد أسرهم وأقربائهم عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.

(ه) فرض تدابير وإجراءات تستهدف الموت الاجتماعي والبيولوجي للجماعة الصحفية.

(و) تدمير المؤسسات والمكاتب الإعلامية ووسائل العمل المهني للجماعة الصحفية.

(ز) فرض تدابير وإجراءات لإعاقة النشاط الإعلامي المهني للجماعة الصحفية ومصادرة الحرية الصحافية لأفرادها، ومنع الجماعة الصحفية من ممارسة حقها في العمل الإعلامي المهني لكشف الحقائق في إقليم النزاع/الحرب.

(ح) طمس رواية/ات أفراد الجماعة الصحفية عن مجريات الأحداث والوقائع في إقليم النزاع/الحرب، وتزييف الحقائق عبر أساليب الدعاية المختلفة، واصطناع الأخبار والوقائع.

قد تبدو إشكالية هذا التعريف في متطلبات البعد القانوني الذي يربط الركن المادي للإبادة الجماعية بسمة تميز الجماعة ومعيار ذاتي يجعلها كيانًا مختلفًا، أي “جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”، باعتبار أن فعل الإبادة الإعلامية يستهدف “فئة مهنية” و”اجتماعية” -قد يكون عددها محدودًا- وليس “جماعة قومية أو إثنية…”. وقد انتبه إلى هذا الإشكال عالم الاجتماع وأحد منظري الإبادة الجماعية، مارتن شو (Martin Shaw)، واعتبر أن المجموعة تمثِّل صنفًا من تجمع سكاني تُنسب إليه سمة ما، وتكون اجتماعية مشتركة، أي مجموعة من الأشخاص الذين يحتلون المكانة الاجتماعية نفسها، وأيضًا تجمعًا من الأفراد الذين يتمتعون ضمن مجموعة أكبر بمستوى ونوع معينين من الاعتبار بفضل منصبهم. ومن ناحية اجتماعية تنشأ الإبادة الجماعية من ارتكاب أعمال عنف ضد أشخاص معينين، مصحوبة بأهداف سياسية تظهر العداء تجاه مجموعة ما(36). وعلى هذا الأساس ربط الأكاديمي، شو، فعل الإبادة بـ”تدمير وجود مجموعة اجتماعية وقوتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جزئيًّا إن لم يكن كليًّا ضمن إقليم معين”(37).

لذلك فالتعليل الذي ينبني عليه هذا الإشكال (الفئة المهنية) يفقد حجيته؛ إذ إن سياسة التدمير الممنهج للجماعة الصحفية تستهدف الكيان الاجتماعي للصحفيين، وهو ما يُسمِّيه البعض بـ”الإبادة ذات القاعدة الاجتماعية”، أي إبادة الطبقات، كما حصل خلال إبادة البلاشفة لبعض الطبقات الاجتماعية، مثل طبقة النبلاء والطبقة الوسطى(38). ومن هذا المنظور، تتميز الجماعة الصحفية بخصائص وسمات متعددة تمثِّل معيارًا ذاتيًّا لهويتها، فهي ليست معزولة عن الجماعة الوطنية بل يشترك أعضاؤها في هذا الانتماء، ثم إن الفاعل ومرتكب الإبادة الإعلامية لا يستهدف الصحفيين كأفراد أو بسبب هويتهم الشخصية، وإنما بصفتهم المهنية (الهوية المهنية)، وانتمائهم الاجتماعي (القاعدة الاجتماعية).

أما الإشكال الثاني الذي يثيره هذا التعريف، والمصطلح أيضًا، هو لماذا الإبادة الإعلامية وليس “الإبادة الصحفية”؟ يرى الباحث أن المصطلح الأول (الإبادة الإعلامية) يتميز بوظيفته المعيارية التي تُحدِّد ما ينبغي أن يكون عليه الاستعمال؛ إذ يشمل جميع الفاعلين والعاملين في الصناعة الإعلامية بما في ذلك الإعلام الرقمي والإعلام الاجتماعي، خلافًا للمصطلح الثاني (الإبادة الصحفية) الذي يبدو إيحائيًّا متعدد الدلالات، فقد يكون دالًّا على الفاعلين الصحفيين وحدهم، أو المؤسسات الصحفية، أو حقل الصحافة، وربما لا يشمل فاعلين آخرين يعملون في هذا القطاع، لذلك لا يخلو مصطلح “الإبادة الصحفية” من لبس. كما أن مصطلح الإبادة الإعلامية يجعل قاعدة الجماعة التي يستهدفها فعل الإبادة أكثر اتساعًا، بينما المصطلح الثاني قد يحصر الفئة الاجتماعية المستهدفة في “فئة” الصحفيين.

مصطلحات مفتاحية

هندسة الإبادة الإعلامية

يُسْتخدَم مصطلح هندسة في حقول معرفية كثيرة، خاصة في العلوم السياسية والاجتماعية والقانونية، فضلًا عن الدراسات الإعلامية، ولذلك يكتسب دلالته انطلاقًا من الحقل والسياق المعرفي التداولي. وقد اهتمت العلوم السياسية أكثر من غيرها بهذا المصطلح، فَبَرَز مصطلح الهندسة السياسية، والهندسة الديمقراطية، والهندسة الانتخابية، والهندسة القانونية، والهندسة التشريعية، والهندسة الدستورية، والهندسة المؤسساتية. وفي حقل الإعلام والاتصال، نجد تخصصات وبرامج علمية تحمل هذا المصطلح، مثل: الهندسة المعلوماتية، والهندسة الاجتماعية، ومصطلحات أخرى حديثة، أبرزها هندسة الموافقة، وهندسة الجمهور، وهندسة الرأي العام. ويشترك معظم هذه المصطلحات في معنى وضع التصاميم والأطر وتحديد الوسائل والأدوات لتحقيق الأهداف المرجوة، مثلما يشير مصطلح “الهندسة السياسية الذي يعمل -كما الهندسة في العلوم الطبيعية- من أجل تحويل وترجمة الأفكار والنظريات إلى واقع عملي ملموس وفقًا لأهداف محددة سلفًا. بمعنى أن الهندسة السياسية فرع من فروع المعرفة الذي يستخدم المصادر الطبيعية والأدوات العلمية والفنية لتصميم وإنتاج هياكل وعمليات وأنظمة ومؤسسات وفقًا لمعايير محددة وأهداف متفق عليها”(39).

إجرائيًّا، تستخدم الدراسة مصطلح الهندسة بمعنى “تحديد مكونات النسق والتواصل بينها، وضمان خصائص سلوكية معينة ملائمة للنسق”(40). ولأن الدراسة ترى الإبادة الإعلامية فعلًا نسقيًّا، فهي تسترشد في فهم عناصره والعلاقة بينها بما تُسمِّيه “هندسة الإبادة الإعلامية”، وتقصد بهذا المصطلح بناء وتحديد مجموع الخطط والوسائل والآليات والقواعد والموارد المتاحة لتنفيذ فعل الإبادة الإعلامية، وتعيين الفاعل/الجهة المسؤولة عنه، أي الإطار المنظم لسيرورة عملية الإبادة بعد دراسة متطلباتها وظروفها وسياقاتها والقدرات الضرورية لإنجاز الفعل الإبادي وتحقيق أهدافه.

قصدية الفعل الإبادي

إذا كان الفعل لا يتحقق إلا بوصفه نسقًا، وهو مظهر تعبير إرادة الفاعل(41)؛ فهذا يعني أن “القصد يتحقق إذا نويت القيام بفعل معين ونجحت في إنجازه… لذلك فإنجاز الشيء والنجاح في تحقيقه يشير إلى وجود القصد”. فلا توجد أفعال دون مقاصد تتجه إليها، ولا توجد أفعال بدون مقاصد مناظرة لها(42). ويحتاج كل فعل إلى خلفية القصد، “والخلفية ليست مجموعة من الأشياء أو العلاقات الغامضة بيننا وبين الأشياء، وإنما مجموعة من المهارات والمواقف والفروض القصدية والفروض المسبقة والممارسات والعادات، أي إن الخلفية تمدنا بمجموعة من الشروط التي تمكِّن الصور القصدية من العمل، وتمكننا الخلفية أيضًا من تكوين صورة معينة من القصدية”(43).

وتُعد الأفعال المجرَّمة أفعالًا قصدية بطبيعتها؛ إذ لا يمكن ارتكابها دون علم مسبق بنتائجها، ولا تُرتكب أيضًا بصفة عرضية ولا حتى نتيجة الإهمال. لذلك فالركن الخاص الذي يميز جريمة الإبادة هو القصد المحدد أو القصد الخاص بتدمير جماعة وطنية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كليًّا أو جزئيًّا، وبصفتها كيانًا مميزًا، أي إن الفاعل يرتكب فعل الإبادة عن إدراك وبإرادة تستهدف إبادة الجماعة؛ إذ يختار ضحاياه بسبب انتمائهم إلى جماعة معينة(44). وتتمثَّل القرينة الدالة على القصد الخاص بارتكاب فعل الإبادة الإعلامية في جسامة واتساع الفعل الإبادي الممنهج الذي يستهدف أفراد الجماعة الصحفية وكيانها المهني والاجتماعي.

2. التدمير المادي للجماعة الصحفية الفلسطينية

تمتلك إسرائيل سجلًّا مثقلًا بما تُسمِّيه المنظمات الحقوقية والنقابية/المهنية “الجرائم والانتهاكات”(45) التي ارتكبتها منظومة الاحتلال -ممثلة في المؤسسة العسكرية والسياسية والقضائية وكذلك المستوطنين- في حق الجسم الصحفي الفلسطيني قبل عملية “طوفان الأقصى”. وتشمل هذه الانتهاكات القتل (نموذج شيرين أبو عاقلة، وغفران الوراسنة…) والاعتقال، وقمع الصحفيين بمنعهم من العمل وممارسة نشاطهم المهني، واحتجاز الطواقم الصحفية وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بهم عبر التنكيل والضرب المبرح والإهانة، ومصادرة معدات العمل المهني، فضلًا عن اقتحام المؤسسات الإعلامية ومنازل الصحفيين أو تدميرها. وكان عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال 56 عامًا الماضية بين 1967 و2023، قبل عملية “طوفان الأقصى”، قد بلغ 104 صحفيين(46)، وهو ما يعني مقتل صحفيين اثنين تقريبًا كل عام على أيدي قوات الجيش والأمن الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وظل المنجز (الهدف)، الذي يحكم سياسة استهداف الجماعة الصحفية الفلسطينية طوال الفترة المذكورة، يتمثَّل في محاولة إخفاء “الجرائم والانتهاكات” التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني، والقضاء على أي حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية. ويتحقق جزء من هذا المنجز عبر طمس الرواية الفلسطينية والحقائق التي تكشفها التغطية الإخبارية الميدانية عن هوية الفاعل الإسرائيلي؛ إذ تخشى إسرائيل من تأثير هذه الرواية في الرأي العام الدولي، وهو ما يجد صداه اليوم في المظاهرات الاحتجاجية للطلاب بالجامعات الأميركية والأوروبية.

وتُشير مسارات وتطورات الحرب على غزة إلى نهج وإستراتيجية مغايرين في تعامل الفاعل الإسرائيلي مع الجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ بيَّنت عمليات القتل للصحفيين، الذين بلغ عددهم 153 صحفيًّا خلال سبعة أشهر، أن استهداف هذه الفئة الاجتماعية كان فعلًا نسقيًّا تحكمه خطة منظمة ومنهجية تجعل من الكيان الصحفي الفلسطيني منجزًا للتدمير والاجتثاث الاجتماعي. وهو ما تدل عليه عملية التكرار (نهج) لحالات القتل بأساليب متعددة، والاستهداف الواسع للصحفيين الذين لقوا حتفهم أثناء أداء عملهم المهني في مناطق مختلفة بغزة. وهنا، تبدو النماذج كثيرة لعل أبرزها عملية اغتيال مراسل الجزيرة، حمزة الدحدوح (نجل مدير مكتب الجزيرة في غزة، وائل الدحدوح)، والمصور الصحفي، مصطفى ثريا، بصاروخ أُطلِق من طائرة مسيرة استهدف السيارة التي كانا يستقلانها بالقرب من منطقة المواصي جنوب غربي قطاع غزة. وقبل ذلك، قتل الجيش الإسرائيلي الصحفي المصور في قناة الجزيرة، سامر أبو دقة، إثر إصابته أيضًا بصاروخ من طائرة مسيرة، وظل ينزف مدة ست ساعات حتى لفظ أنفاسه. وكانت قناة الجزيرة تبث على الهواء مباشرة، خلال الحادث، مناشدات إلى الجهات الدولية المعنية لإنقاذ حياته بعد أن منع الجيش الإسرائيلي سيارة الإسعاف من الوصول إليه وتقديم الرعاية الطبية له، وأصيب في هذا الحادث أيضًا وائل الدحدوح بإصابة بالغة في ذراعه خلال تغطيتهما قصفًا على مدرسة بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. ويُعد هذا الامتناع عن تقديم المساعدة لصحفي يواجه خطر الموت جريمة تُصنَّف في إطار “الجرائم بالامتناع” أو “الجريمة السلبية ذات النتيجة”، أي الجريمة التي يرتكبها الجاني عن طريق التصرف السلبي الذي يمتنع فيه عن مساعدة شخص في حالة خطر تهدد حياته. ويرى الباحث أن هذا النمط من الجرائم بالامتناع يمثِّل أحد العناصر المكوِّنة للإبادة الإعلامية، بحسب التعريف الذي صاغه للمفهوم أعلاه؛ لأن الإهمال المتعمد/القصدي أدى إلى مقتل الصحفي سامر أبو دقة (المنجز)، بينما كانت هناك فرصة لإنقاذ حياته.

شكل (2): توزيع نسبة الصحفيين الذين اغتالهم الجيش الإسرائيلي خلال الحرب على غزة (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023– 29 أبريل/نيسان 2024)

 

2
المصدر: مرصد شيرين ووكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا).

 

هنا، نلاحظ أن عملية القتل/الاغتيال لأفراد الجسم الصحفي الفلسطيني لا تستند إلى الهوية الشخصية للصحفي، وإنما إلى انتمائه للجماعة الصحفية الفلسطينية، وإلى وظيفته المهنية التي تجعله يمثِّل -في منظور الفاعل الإسرائيلي- تهديدًا وخطرًا على الرواية الإسرائيلية التي مَأْسَسَتْها الهاسبارا (البروباغندا الإسرائيلية) لبناء صورة “الضحية” التي تواجه محيطًا معاديًا لكيانها ووجودها المستقبلي وتحارب خطر “الإرهاب”، وتمثِّل أيضًا “الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”. لذلك فإن قتل حمزة الدحدوح، ومصطفى ثريا، وكذلك سامر أبو دقة، وغيرهم من الصحفيين، يندرج في سياق خطة منظمة (بقرار سياسي وعسكري) ومنهجية (عبر آليات وحلقات متكاملة) لإفناء الصحفيين الذين تحسبهم إسرائيل تهديدًا لأهدافها العسكرية في القطاع. فقد كان ثريا من أبرز المصورين في غزة، الذين يُشغِّلون طائرة بدون طيار لمسح المناطق المنكوبة في القطاع والتصوير البانورامي الذي يكشف حجم الدمار والخراب الذي تعرضت له المدن وإبادة المنازل وتدمير البنية التحتية. ومنذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، “أمضى مئة يوم في التصوير، وكان الاحتلال يعرف مصطفى ثريا ويرصد تحركاته، وكان يحاول السيطرة على الطائرة التي بحوزته، ولما فشل في ذلك استهدفه وقتله؛ لأن الجيش الإسرائيلي يعتبر الصحفي تهديدًا يجب التخلص منه بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تخويفه والضغط عليه ومهاجمته على شبكات التواصل الاجتماعي، أو استهداف عائلته وإخراجه عن طور الحياة الطبيعية وحتى عن التغطية الإخبارية”(47). أما المصور سامر أبو دقة، فقد كان العين والشاهد الذي يُوثِّق بكاميرا الجزيرة على الهواء مباشرة جرائم وانتهاكات الجيش الإسرائيلي في المناطق التي يقصفها أو يحاصرها أو يقتحمها، ولم تكن درع الصحافة التي يلبسها أو الخوذة الخاصة به، أو حتى إجراءات التنسيق لتضمن حمايته من القصف: “نحن استُهدفنا مباشرة بصاروخ -يقول وائل الدحدوح- في مكان لا يوجد فيه غيرنا رغم أن هناك تنسيقًا وموافقة إسرائيلية لهذه المهمة، واستشهد ثلاثة من مسعفي الدفاع المدني الذين كانوا برفقتنا، وقد أُصِبت ونجوت بأعجوبة بالغة جدًّا أعجوبة عجيبة إذا صح التعبير”(48).

شكل (3): توزيع نسبة أنماط استهداف الصحفيين في غزة خلال الحرب (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023– 29 أبريل/نيسان 2024)

3

وفي هذا السياق، تكررت عمليات استهداف الصحفيين عبر الطائرات المسيرة كما حصل لمراسل الجزيرة، إسماعيل أبو عمر، والمصور أحمد مطر، في رفح جنوبي قطاع غزة. وقد أدى الاستهداف إلى إلحاق أذى جسدي بالمراسل أبو عمر الذي بُتِرَت ساقه اليمنى جرَّاء القصف. وتتواتر هذه الحالات، لاسيما خلال التغطية الميدانية التي يقوم بها الصحفيون لمسارات الحرب، فقد استهدف الجيش الإسرائيلي مجموعة من الصحفيين في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وأدى القصف المدفعي إلى إصابة المصور الصحفي سامي شحادة وبَتْر قدمه اليمنى. ويترتب عن هذا الأذى الجسدي تعطيل الجسم الصحفي، كليًّا أو جزئيًّا، عن أداء الدور المنوط به بصورة طبيعية، وربما يتسبب في خروج الصحفي من المشهد الإعلامي بصورة مؤقتة (إسماعيل أبو عمر) أو نهائية. ويُعد ذلك المنجز الأساسي لخطة استهداف الصحفيين الفلسطينيين، سواء بالقتل المباشر أو إلحاق أذى جسيم يمسُّ بسلامتهم الجسدية والذهنية والنفسية من خلال الاضطهاد النفسي للصحفيين وإرهابهم وإهانتهم خلال الاعتقال، مثلما حصل لمجموعة من الصحفيين أثناء اقتحام الجيش الإسرائيلي لمجمع الشفاء بمدينة غزة، في منتصف مارس/آذار 2024، حيث اعتدت عليهم بالضرب المبرح وسحلتهم وأجبرتهم على خلع ملابسهم بشكل كامل بعد أن جرَّفت الخيمة التي تُعد مقرًّا لعملهم المهني، ودمَّرت سياراتهم وصادرت هواتفهم وحواسيبهم ومعدات التصوير(49). ويُشكِّل ذلك (الإهانة والاعتداء النفسي) حلقة أخرى من حلقات التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني.

شكل (4): توزيع عدد حالات قتل الصحفيين خلال شهور الحرب على غزة  (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 – 29 أبريل/نيسان 2024)

4

3. الموت الاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية

يتجاوز الفعل الإبادي أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية؛ إذ لا يقتصر على عمليات القتل الواسع للصحفيين والمصورين ومختلف العاملين في المجال الإعلامي بغزة أو إلحاق الأذى الجسيم بأعضاء هذه الجماعة جسديًّا ونفسيًّا، وإنما يشمل هذا الفعل الكيانَ الاجتماعي للجسم الصحفي. فقد صمَّم الجيش الإسرائيلي خطته لتدمير النسيج الاجتماعي للجماعة الصحفية عبر عمليات القتل الواسع لأسر الصحفيين وأقربائهم بمختلف درجاتهم. لذلك كان ضباط الجيش الإسرائيلي يتصلون بأبناء وأهالي الصحفيين ويطالبونهم بمغادرة منازلهم والنزوح إلى جنوب قطاع غزة، كما ذكر وائل الدحدوح: “قام الاحتلال الإسرائيلي بالاتصال على هاتف إحدى بناتي، وقال لها: يا سندس عودوا إلى الجنوب”(50). وكان الجيش الإسرائيلي يتحاشى الاتصال بمدير مكتب الجزيرة في غزة ليبلغه بمضمون الرسالة نفسها حتى لا يكشف الدحدوح ذلك على شاشة الجزيرة “لهذا كان يتصل بالمصورين المرافقين للدحدوح ويخبرهم بأماكن وجود أبنائهم وموقعهم في خريطة المنطقة التي يقطنون بها، وهو تهديد مباشر لهؤلاء المصورين بأن ينفضوا من حوله حتى يتمكن الجيش من الاستفراد به. وكان ضباط الجيش والمخابرات الإسرائيلية يتصلون أيضًا بالصحفيين ويهددونهم بالخروج من المناطق التي ينفذ فيها الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية، وأيضًا بمنعهم من الوصول إلى الأماكن التي يقوم فيها بعمليات إبادة وقتل جماعي للسكان الموجودين بمناطقهم”(51).

وتُعد هذه السياسة التي يتبعها ضباط الجيش الإسرائيلي في التعامل مع الصحفيين والمصورين في القطاع محددًا أساسيًّا في خلق حالة نفسية يفرض فيها الاحتلال على الصحفيين إما اختيار “الاستسلام” للواقع الذي فرضه ومن ثم الخروج من المشهد الإعلامي بالإكراه والتهديد، أو الاستمرار في التغطية الإخبارية وتحمل تبعاتها النفسية والاجتماعية والإنسانية ومخاطرها الأمنية التي قد تؤدي إلى اغتيال الصحفي، وتدمير المنزل فوق رؤوس أفراد أسرته وأقربائه. وقد عاش هذه الحالة النفسية معظم الصحفيين في القطاع، وأصبح بعضهم يخشى من ارتداء درع الصحافة الذي لا يكفل له أية حماية قانونية، مثلما حصل للصحفي سلمان البشير الذي خلع درعه وخوذته على الهواء مباشرة بعد مقتل مراسل تليفزيون فلسطين، محمد أبو حطب، و11 من أفراد عائلته جراء قصف الطيران الإسرائيلي منزله في خان يونس(52). وبات بعض الصحفيين والصحفيات يخشى أيضًا من التعريف بهويته المهنية وارتداء درع الصحافة أثناء ممارسة عمله الميداني حتى لا يستهدف الجيش الإسرائيلي أفراد عائلته وأقربائه، “وهذا يمثِّل هاجسًا كبيرًا للصحفي؛ إذ كيف يستطيع القيام بعمله في ظل هذه الظروف؟!”(53). “لقد كانت التهديدات مباشرة -تقول مراسلة الجزيرة الإنجليزية في قطاع غزة، يمنى السيد- عندما اتصل ضابط بالجيش الإسرائيلي بزوجي، وأخبره: أنا أعرف من أنت. خذ عائلتك واخرج حالًا”(54).

ويُشير هذا المعطى، أي التهديد الأسري ونتائجه، إلى نسقية الفعل الإبادي الذي يركز أيضًا على البعد الاجتماعي في تدمير كيان الجماعة الصحفية الفلسطينية بعدما استهدف أعضاء الكيان المهني بصور مختلفة. ويُبيِّن ذلك مرة أخرى أن الإبادة الإعلامية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الصحفيين الفلسطينيين تستهدف اجتثاث الجماعة (اجتماعيًّا) وتدميرها كليًّا أو جزئيًّا. ويبدو مصطلح “الموت الاجتماعي” الذي استخدمه عالم الاجتماع، أورلاندو باترسون، دالًّا في هذا السياق عن حالة الاجتثاث التي يتعرض لها الجسم الصحفي، وستُقدِّم الفيلسوفة، كلوديا كارد (Claudia Card)، مقاربة أكثر عمقًا لهذا المصطلح من خلال ربطه بالإبادة الجماعية التي تنطوي على شر خاص؛ إذ يتجاوز الفعل الإبادي الموت الجسدي إلى الموت الاجتماعي الذي يؤدي إلى فقدان المعنى لحياة الفرد وحتى نهايتها(55). فعندما يتم تدمير مجموعة لها هويتها الثقافية الخاصة، يفقد الناجون تراثهم الثقافي بل ربما يفقدون روابطهم بين الأجيال ويصبح الأحفاد مغتربين بالولادة، ولا يعودون قادرين على الاستمرار والبناء على التقاليد والتطورات الثقافية ومشاريع الأجيال السابقة. لذلك فإن ضرر الموت الاجتماعي ليس أقل خطورة من الموت الجسدي، بل يمكن أن يؤدي إلى تفاقمه من خلال جعله غير لائق، وإزالة جميع الروابط والسياقات الاجتماعية القادرة على جعل الموت محتملًا وحتى جعل موت المرء ذا معنى(56).

إذن، يمثِّل الموت الاجتماعي المنجز الذي تنبني عليه خطة إسرائيل لتدمير الكيان الاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية، ويتخذ ذلك مظاهر وأبعادًا مختلفة تكشف نسقية الفعل الإبادي. فقد ركز الجيش الإسرائيلي على عمليات القتل الواسع لأفراد أسر الصحفيين وأقربائهم وتدمير المنازل فوق رؤوسهم، ووثَّقت هذا الفعل الإبادي تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والنقابات المهنية، مثل “الاتحاد الدولي للصحفيين” و”مراسلون بلا حدود” و”لجنة حماية الصحفيين”(57) و”نقابة الصحفيين الفلسطينيين”(58) وغيرها من الهيئات الدولية. وهنا، تَبرُز حالات عشرات الصحفيين الفلسطينيين الذين فَقَدوا أسرهم وأقرباءهم، ولَقِي بعضهم حتفه مع أفراد عائلته، مثل: دعاء شرف، وشيماء الجزار، وسلمى مخيمر، ودعاء الجبور، وحنان عياد، وحنين القشطان، وعلاء أبو معمر، وهاني المدهون، وجبر أبو هدروس، ومحمد أبو حطب، وزيد أبو زايد، وغيرهم كثير بحسب تقرير مفصل أعدته وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية(59). وكان مظهر الموت الاجتماعي في بعض الحالات استثنائيًّا -وغير مسبوق- كما في حالة الصحفي علاء أبو معمر الذي قُتِل مع 27 فردًا من عائلته، كما أن معظم هؤلاء الصحفيين لقوا حتفهم رفقة أبنائهم وأزواجهم وآبائهم.

وشكَّل الصحفيون العاملون في مكتب الجزيرة بقطاع غزة، والمراسلون المتعاونون مع القناة، جزءًا أساسيًّا من منجز هذه الخطة الإسرائيلية التي تستهدف الكيان الاجتماعي للجماعة الصحفية من خلال عمليات القتل الواسع لأفراد أسرهم. وكان على رأس القائمة وائل الدحدوح الذي قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلًا نزحت إليه أسرته في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة؛ مما أدى إلى مقتل زوجته واثنين من أبنائه وحفيدته(60). وفَقَد مراسل الجزيرة، مؤمن الشرافي، 21 فردًا من عائلته بينهم والده ووالدته بعد أن ألقت قوات الجيش الإسرائيلي برميلًا متفجرًا على المنزل الذي نزحوا إليه في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة. ولقي أيضًا 19 شخصًا من عائلة محمد أبو القمصان، مهندس البث في مكتب الجزيرة بقطاع غزة، حتفهم بينهم والده واثنتان من أخواته في مخيم جباليا(61). وكانت مقاتلات إسرائيلية قصفت منزل مراسل قناة الجزيرة، أنس الشريف، في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي القطاع، مما أدى إلى مقتل والده. كما استهدف الجيش الإسرائيلي عائلات بعض المراسلين المتعاونين مع الجزيرة، مثل رمزي أبو القمصان، وعماد زقوت.

يُظهِر هذا النمط من الموت الاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية، أي القتل الجماعي لأسر الصحفيين ومحوها من السجل المدني، وتكراره بأساليب تكاد تكون مشابهة في الحالات المختلفة التي استهدفها الجيش الإسرائيلي في مدن القطاع، أن عمليات القتل الواسع للعائلات ليست فعلًا عشوائيًّا، ولا اعتباطيًّا، ولا من آثار الحرب وما يجري فيها، ولا من الأضرار الجانبية التي تحدث في سياق ضرب أهداف عسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، بل تُعد فعلًا قصديًّا/متعمدًا تحكمه أطر وإجراءات عملية ترتبط بهندسة منجز الموت الاجتماعي للقضاء على التعاقب الجيلي للكيان المهني والاجتماعي الصحفي الفلسطيني، أي تدمير الجماعة الصحفية كليًّا أو جزئيًّا. والسؤال، هنا، كيف تجري هذه الهندسة/هندسة الموت الاجتماعي؟

أولًا: يُلاحظ أن ضباط الجيش الإسرائيلي يقومون بتهديد أسر وعائلات الصحفيين وأبنائهم، وكذلك المصورين المرافقين للصحفيين، ويطلبون منهم مغادرة منازلهم إلى ما يُسمِّيها الجيش بـ”المناطق الآمنة”، ثم لا يلبث أن يستهدفهم بالصواريخ والطائرات المسيرة التي تُدمِّر المنازل التي نزح إليها أهالي الصحفيين فوق رؤوسهم، كما ذُكِر آنفًا. وقد يقصفهم وهم في طريق النزوح.

ثانيًا: يملك الجيش الإسرائيلي إحداثيات جميع المنازل والمنشآت والبنايات في قطاع غزة، كما أن الهواتف المحمولة وغيرها مرتبطة بالطائرات المسيرة (الزَّنَّانات كما يُسمِّيها أهالي غزة) التي تنتشر في سماء القطاع. ولذلك فإن عمليات استهداف أسر وعائلات الصحفيين ليست بمحض الصدفة، ولا يمكن أن تكون عن طريق الخطأ، ولا هي بسبب عدم معرفة من يوجد في تلك المنازل، بل “إن إسرائيل تعرف جيدًا هذا الأمر؛ إذ إن أي استهداف لعائلة صحفي معين في غزة يكون استهدافًا واضحًا جدًّا، وصريحًا جدًّا، ومتعمدًا ومدروسًا قد يسبقه تهديد وقد لا يسبقه أي تهديد”(62).

ثالثًا: وردت هذه الخلاصة في أطروحات معظم المبحوثين؛ إذ نفى هؤلاء أن يكون استهداف الصحفيين وأسرهم وأقربائهم فعلًا عشوائيًّا، بل كان “القصف انتقائيًّا وبقرار واضح جدًّا، وحتى تضرب شقة في برج معين فهناك قرار وتعليمات باستهدافه الذي يجب أن يكون دقيقًا”. ولا يستبعد الدحدوح استخدام الجيش الإسرائيلي للذكاء الاصطناعي في اعتداءاته بقطاع غزة، سواء عبر المسيرات أو الدبابات، في استهداف الأشخاص أو البنايات أو البنى التحتية أو الأهداف المتحركة والثابتة على نطاق واسع. ولذلك “هناك قرار واضح ومسبق خلف هذه الاستهدافات، ومن يتم استهدافه فهو معروف بالصوت والصورة وكل شيء”(63).

رابعًا: يُفكر جيش الاحتلال الإسرائيلي من خلال القرار الذي يتخذه باستهداف الأسر في أن يُؤْلِم الصحفي أكثر من قتله، ربما يريد أن يتخفَّف من تبعات القتل، خصوصًا عندما يحظى الصحفي برمزية ومكانة معينة. لذلك يهدف الاحتلال إلى إبعاده وإخراجه من التغطية(64). ويمثِّل أيضًا قتل أسر الصحفيين وعائلاتهم وأقربائهم نوعًا من العقاب للجسم الصحفي الفلسطيني إزاء دوره في نقل الحقيقة(65)، وهو ما يتسبب في التدمير النفسي للصحفي حتى لا يقوى على ممارسة عمله المهني ولا يكون قادرًا على القيام بدوره في التغطية(66).

إذن، تُشير هذه المعطيات -في السياق العام لما يشهده قطاع غزة- إلى هندسة الإبادة الإعلامية في بعدها الاجتماعي من خلال إستراتيجية واضحة المعالم والأبعاد في تدمير الطبقة الاجتماعية التي يمثِّلها الجسم الصحفي الفلسطيني. وهو ما يعني أن الفعل الإبادي ليس مرتبطًا بالضرورة بجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بل قد تكون جماعة مهنية لها امتدادات وروابط ثقافية واجتماعية واسعة. وهنا، يُسهِم الموت الاجتماعي للجماعة الصحفية في الانقطاع الجيلي وسط كيانها من خلال الإفناء البيولوجي لأسر وعائلات الصحفيين، وهو ما لاحظه أيضًا نقيب الصحفيين الفلسطينيين، ناصر أبو بكر؛ فقد “خلَّف استهداف الصحفيين 500 طفل يتيم، وأسرًا بدون منازل (حتى فبراير/شباط 2024)، ومقتل ألف شخص من أبناء الصحفيين”(67). ويؤثر هذا الانقطاع الجيلي بقوة في الوجود المستقبلي للكيان الاجتماعي للصحفيين؛ إذ يحرم المجتمع الفلسطيني من أحد مصادره وروافعه الثقافية والرمزية والدور الذي تقوم به هذه الجماعة في التنوير المجتمعي والعمل المدني الفلسطيني.

وهناك مظهر آخر لهذا الانقطاع الجيلي في الجماعة الصحفية الفلسطينية، والذي يمثِّل منجزًا إستراتيجيًّا للمؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهو اقتلاع أو اجتثاث العمل المهني من قطاع غزة من خلال إجبار الصحفيين ودفعهم قسرًا إلى الخروج من المشهد الإعلامي الفلسطيني بصور مختلفة، سواء عبر عمليات القتل/الاغتيال، أو الاعتقال، أو إلحاق ضرر مادي ونفسي جسيم بالصحفيين (بتر الأعضاء، إصابة بليغة تمنع الصحفي من ممارسة عمله المهني…)، أو التهجير القسري والنزوح، أو دفع الصحفي لمغادرة قطاع غزة لأسباب متعددة. ويُكرِّس هذا المظهر انقطاعًا جيليًّا بين الصحفيين الذين راكموا خبرات مهنية صحفية خلال عقود طويلة ثم اضطروا للابتعاد عن المجال الصحفي، وبين الصحفيين المتدربين أو الصحفيين المبتدئين؛ الأمر الذي يؤثر سلبًا في صيرورة وتطور العمل الصحفي المهني في القطاع. وهنا نلاحظ أن 71% من الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي تتراوح أعمارهم بين 20 وأقل من 40 عامًا، كما يُبيِّن الشكل رقم (5).

شكل (5): توزيع نسبة الفئات العمرية للجماعة الصحفية الفلسطينية المستهدفة بالموت الاجتماعي

5

ويُعد التهجير القسري للصحفيين وأسرهم من أكثر الوسائل تأثيرًا في عملية الموت الاجتماعي التي يتعرض لها الجسم الصحفي الفلسطيني، وأشدها إيلامًا في نفسية أفراده؛ إذ “ليس هناك شيء يؤثر في الصحفي أكثر من أن يرى عائلته تعيش حالة النزوح، وأيضًا انعدام الوسائل والموارد الأساسية التي تساعده على مستوى العمل وعلى صعيد الأسرة. وهو ما ينعكس سلبًا على نفسية الصحفي وجودة عمله المهني”(68). وتُسهِم عملية النزوح والتهجير القسري في تشتيت الكيان العضوي الأسري وروابطه وعلاقاته الاجتماعية بسبب الانفصال القسري بين أفراد الأسرة، ويزداد الوضع سوءًا باستخدام الجيش الإسرائيلي سلاح الجوع أداةً للقتل البطيء لعموم الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكذلك انعدام الرعاية الصحية… وهو ما يؤدي إلى الموت الجسدي والاجتماعي في الآن ذاته.

وما يُثير الانتباه في سياق الموت الاجتماعي للجماعة الصحفية الفلسطينية أن الجيش الإسرائيلي يستدعي تاريخ الهاغانا -الميليشيا الصهيونية التي شكَّلت نواة الجيش الإسرائيلي- في ارتكاب الإبادة الإعلامية بحق الجماعة الصحفية الفلسطينية. فقد وضعت هذه الميليشيا خطة “دالت”، في مارس/آذار 1948، لتطهير فلسطين عرقيًّا والقيام بطرد منهجي للفلسطينيين، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد السكان بالقوة، منها إثارة رعب واسع النطاق في المناطق التي تستهدفها، ومحاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، وحرق منازل وأملاك وبضائع، وطرد السكان وهدم البيوت، وأخيرًا زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم(69). وكان ذلك جزءًا من التدمير الممنهج للكيان الاجتماعي الفلسطيني، وهو ما يجري اليوم بطريقة أكثر توحشًا.

4. تدمير البنية التحتية للعمل الصحفي (الموت المهني)

منذ اليوم الأول للحرب على غزة، ركزت تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على ما أسمته “حصار قطاع غزة، وقطع الكهرباء والغاز ومنع الغذاء”، ونَزْع الصفة الإنسانية عن سكان القطاع الذين نعتهم وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بالحيوانات البشرية “نحن نقاتل حيوانية بشرية ونتصرف على هذا الأساس”(70). وهو ما كان يُؤْذِن بحالة تدمير غير مسبوقة سيتعرض لها قطاع غزة بكامله على المستوى الإنساني والمادي والثقافي والرمزي. وفي ضوء ذلك، كانت الجماعة الصحفية الفلسطينية تدرك أن الحرب السابعة على القطاع (2023-2024) ستكون حدثًا مختلفًا عن جميع الحروب السابقة، وأن آثارها ستخلق حالة استثنائية للجسم الصحفي، وستكون أيضًا مدمرة لحقل الصحافة والإعلام. ولذلك لاحظ بعض الصحفيين المبحوثين أن تدمير المؤسسات الإعلامية والبنية التحتية لقطاع الإعلام بدأ من حيث انتهت إليه الحروب السابقة. “فقد كانت إسرائيل تُدرك أن الحدث الذي ستُقدِم عليه كبير جدًّا جدًّا جدًّا، ولذلك ينبغي لوسائل الإعلام ألا تكون حاضرة وبقوة. ولهذا منعت الطواقم الصحفية الأجنبية من الدخول إلى غزة لتغطية الحرب، وحاربت الطواقم الصحفية المحلية من خلال قطع الاتصالات والإنترنت وإتلاف الشرائح الهاتفية والتشويش على الاتصالات والبث… واستهدفت أيضًا المقرات والمكاتب الإعلامية والسيارات والمقدرات، فضلًا عن الأشخاص بشكل مباشر الذين يقومون بأعمالهم بجرأة واضحة”(71).

ويرى بعض الصحفيين الآخرين أن “هذه الحرب التي تُعد الأكثر شراسة على قطاع غزة” كانت تتطلب من المنظور الإسرائيلي تقويضَ عَمَلِ الصحفي، وإسكاتَ صوته وإخفاء الصورة، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا باستهداف وسائل العمل المهني والمعدات الصحفية والمقار الإعلامية(72). وكان الصحفيون يجدون صعوبة حتى في شحن هواتفهم وأجهزة الحاسوب المحمولة والكاميرات…إلخ، و”تسعى إسرائيل من خلال ذلك إلى القضاء على الصحافة والمعلومة المستقلة، والتضييق على الصحفيين إما للقضاء عليهم، أو إسكاتهم، ومن ثم خلق ظروف شبه مستحيلة للعمل الصحفي. نحن نتحدث عن قتل الصحفيين وتهجيرهم… إذ ينامون في الخيام والمستشفيات، ويفقدون أسرهم وأقرباءهم وتُدمَّر بيوتهم… ويشتغلون من دون إنترنت ولا كهرباء ويواجهون مخاطر شخصية حتى يستطيعون القيام بعملهم… يستحيل أن يعيش الصحفي ذلك على مدى أربعة شهور ويقوم بعمله”(73).

ويعني ذلك عمليًّا على مستوى الإبادة الإعلامية أن تدمير الجماعة الصحفية والقضاء على كيانها المهني، كليًّا أو جزئيًّا، يحتاج إلى تجريدها -باستخدام جميع وسائل العنف المادي والنفسي- من مقدراتها المادية ووسائل إنتاج المادة الإعلامية لمنعها من نشر جرائم وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في مدن القطاع. وهذا ما يُفسِّر التدمير الواسع لمقرات المؤسسات والمكاتب الإعلامية مقارنة بالحروب السابقة. فقد وثَّقت المنظمات الحقوقية الدولية والنقابات المهنية حجم هذا الدمار؛ إذ رصد التقرير السنوي للحريات العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، في نهاية العام 2023، وبعد ثلاثة أشهر فقط من الحرب، أن “80 مؤسسة صحفية وإعلامية تعرضت للاستهداف بالقصف والتدمير الكلي والجزئي. كما تعرضت 9 من المطابع الفلسطينية في الضفة الغربية للاقتحام والاستيلاء على محتوياتها، فيما تم اقتحام 91 من منازل الصحفيين من قبل جيش الاحتلال”(74)، واعتقالهم. وكان الاستهداف يشمل جميع الوسائل والمؤسسات الإعلامية في القطاع (إذاعة، تليفزيون، صحيفة، وكالة الأنباء، مكتب خدمات إعلامية وصحفية، برج البث…). كما استهدف المباني التي كانت توجد بها أهم المؤسسات الإعلامية الدولية مثل برج الطباع، الذي كان يضم مكتب شبكة الجزيرة ومكتب وكالة الأسوشيتد بريس (AP)، وكان الاستهداف الأكبر لمكتب الجزيرة بحسب ما ذكر وائل الدحدوح، ثم برج الغفري وبرج حجة الذي يضم وكالة الأنباء الفرنسية الذي استُهدف بقذائف الدبابات، بالإضافة إلى برج فلسطين، ووطن، ومشتهى، والرؤيا والكرمل، وغيرها من الأبراج والمؤسسات الجامعية التي تضم بدورها مكاتب لمؤسسات إعلامية.

وقد دفع هذا الوضع غير المسبوق من التدمير لمقرات المؤسسات الإعلامية في قطاع غزة، أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية إلى العمل في ردهات المستشفيات وساحاتها، ثم الخيام وفي الشوارع لإنجاز المهام الصحفية المطلوبة والقصص الإخبارية عن الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني. “كنا نشتغل في الخيم وعلى الرصيف ولا تتوفر لديك الأدوات الكافية للعمل بعد قصف المكتب؛ فقد احتفظنا بجزء بسيط مما يساعدنا على أداء عملنا المهني. كنا نكتب التقارير على الهواتف المحمولة، ونستعين بالأقلام والأوراق فرجعنا إلى المرحلة البدائية في ظل نقص إمكانيات شحن الجوالات وغياب ظروف الراحة في الأماكن التي نقيم فيها؛ ما يتسبب لنا في الإرهاق والتعب الشديد. كنا في هذه الخيمة نقيم ونشتغل ونأكل ونشرب. كل شيء في هذه الخيمة على الرصيف”(75).

لقد حاول الجيش الإسرائيلي عبر سياسة تدمير المؤسسات الإعلامية والبنية التحتية للقطاع الإعلامي (قطع الكهرباء والاتصالات والإنترنت، وإتلاف شرائح الهاتف، والتشويش وتخريب الأجهزة…) أن يفرض موتًا مهنيًّا، بالموازاة مع الموت الاجتماعي، لإفناء الجماعة الصحفية الفلسطينية “فقد كان العمل صعبًا كنا ننتقل بين المستشفيات حتى نؤمِّن الكهرباء والإنترنت، وإذا أردتُ إعداد تقرير فلابد أن أذهب إلى المستشفى، وهذا يشكل إزعاجًا للصحفيين ويُعطِّل أعمالهم”(76). وربما هذا ما يُفسِّر جزئيًّا الحرب التي كان يشنُّها الجيش الإسرائيلي على المستشفيات بقطاع غزة لحرمان الصحفيين من الخدمات الاتصالية التي يمكن أن تُقدِّمها لهم، ومنعهم أيضًا من تغطية جرائم الحرب التي كان يرتكبها في هذه المستشفيات، فضلًا عن هدفه الإستراتيجي في إخراجها عن الخدمة وتقديم الرعاية الصحية لأهالي القطاع.

وقد رصد هذا الوضع وائل الدحدوح مُبيِّنًا أثر تدمير المؤسسة الإعلامية التي ينتسب إليها الصحفي في نشاطه المهني، والقدرة التي يحتاج إليها من أجل استمرار التغطية الإخبارية ومواجهة الموت المهني؛ إذ “ليس هيِّنًا أن تعمل من الشارع، ومن داخل الخيمة، ومن التشرد والنزوح؛ فهذا يضيف إليك عقبات وعراقيل جديدة، وتحتاج أن تتغلب على هذا الواقع وتداعياته، فأنت توجد في مكتب معروف وبعنوان واضح لسنوات طويلة…وتقتني الأجهزة اللازمة لتقوم بهذه الرسالة، والآن تصبح في الشارع، فهذا الأمر ليس سهلًا”(77).

جدول (1): التدمير الممنهج للمؤسسات الإعلامية في الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة (1967-2023)

الحرب

عدد الصحفيين الذين قتلهم/اغتالهم الجيش الإسرائيلي

عدد الجرحى من الصحفيين

تدمير المؤسسات الإعلامية

1967- سبتمبر/أيلول 2023 (قبل طوفان الأقصى)

104

14-21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 (عامود السحاب)

3

17 جريحًا أحدهم بُترت قدمه.

– ثلاثة مكاتب لمؤسسات إعلامية: مكتب قناة القدس الفضائية، قناة الأقصى، مكتب الجيل للصحافة.

– أضرار غير مباشرة أصابت 24 مؤسسة إعلامية مختلفة نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي لأبراج تضم مؤسسات إعلامية عربية ودولية ومحلية، منها مكتب الجزيرة، ووكالة رويترز، وروسيا اليوم.

7 يوليو/تموز- 26 أغسطس/آب 2014 (الجرف الصامد)

17

إصابة 28 صحفيًّا خلال قيامهم بعملهم أو في استهدافات مجاورة رغم ارتدائهم ما يشير إلى هويتهم.

– تدمير 9 مؤسسات إعلامية تدميرًا كليًّا، منها فضائية الأقصى، إذاعة صوت الأقصى، إذاعة الشعب.

– تدمير 8 مؤسسات إعلامية تدميرًا جزئيًّا، منها مكتب قناة الجزيرة، ومكتب وكالة شينخوا الصينية.

– تدمير وأضرار بـ49 منزلًا وسيارة تعود لعدد من الصحفيين، منها 29 تدميرًا كليًّا.

10-21 مايو/أيار 2021 (حارس الأسوار)

صحفي (في إذاعة صوت الأقصى)

– إصابة أكثر من 12 صحفيًّا بجراح مختلفة.

– تدمير الأبراج التي تشمل عددًا كبيرًا من مكاتب المؤسسات الإعلامية الدولية والمحلية، مثل برج الجلاء الذي يضم وكالة الأسوشيتد بريس (AP)، ومكتب قناة الجزيرة، وبرج الجوهرة (صحيفة فلسطين، قناة العربي…)، وبرج الشروق (صحيفة الحياة، شبكة الأقصى…).

– تدمير 45 مؤسسة إعلامية بين تدمير كلي وجزئي.

– تدمير 11 مقرًّا لشركات دعاية وإنتاج فني ومطابع ودور نشر.

– تدمير 22 منزلًا لصحفيين أصبحت غير صالحة للسكن.

7 أكتوبر/تشرين الأول 2023-29 أبريل/نيسان 2024 (السيوف الحديدية)

153

– إصابة 23 صحفيًّا بجروح قاتلة وبعضها يخلِّف إعاقات دائمة.

– 80 مؤسسة إعلامية تعرضت للاستهداف بالقصف والتدمير الكلي والجزئي.

– اعتقال نحو 100 صحفي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (نقابة الصحفيين الفلسطينيين).

المصدر: تقارير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم) ونقابة الصحفيين الفلسطينيين.

إذن، يُظهِر هذا الواقع البعد المنهجي للفعل الإبادي للجماعة الصحفية الفلسطينية، في سياق الخطة الإسرائيلية للإبادة الإعلامية التي تتكامل حلقاتها وتتعالق دوائرها الاجتماعية والإنسانية والمهنية؛ ما يُشير أيضًا إلى القصدية في تدمير الجماعة الصحفية كليًّا أو جزئيًّا، وهندسة الموت المهني عبر حرمان أفرادها من جميع الوسائل المادية التي تُساعدهم في ممارسة عملهم المهني. كما تعتمد خطة الفعل الإبادي على توازن الحلقات والدوائر؛ إذ يحظى جميعها (القتل الواسع للصحفيين، قتل الأسر/الموت الاجتماعي، الموت المهني، الأبعاد الرمزية) بالأهمية نفسها.

5. الأبعاد الرمزية لتدمير الجماعة الصحفية الفلسطينية

تركز عمليات التدمير الممنهج للجماعة الصحفية على الموت الاجتماعي والمهني للكيان الصحفي الفلسطيني كليًّا أو جزئيًّا بوسائل مختلفة، كما ذُكِر آنفًا. وتظل هذه الأهداف الإستراتيجية محور الخطة الإسرائيلية في التعامل مع الصحفيين، لكنَّ هناك أبعادًا رمزية تُحدِّد علاقة الفاعل (المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية) بالمنجز/الهدف، وتعطي لأفعاله أيضًا معنى معينًا. فما جوهر تلك الأبعاد الرمزية؟ لا تتمثَّل غاية الفاعل الإسرائيلي من الإبادة الإعلامية في القتل الواسع لأفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية فقط، أو القتل من أجل القتل، وإلا فَقَدَ هذا المنجز معناه ورمزيته، وإنما يحتاج الفاعل الإسرائيلي أيضًا إلى ما يُعظِّم هيمنته ونفوذه في المشهد السياسي المحلي والدولي، ويتحقق هذا الأمر من خلال إستراتيجيات مختلفة كامنة في القتل الواسع للجماعة الصحفية الفلسطينية. كيف ذلك؟

أولًا: إبادة الرواية وطمس الحقيقة

كانت المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية تُدرك منذ اليوم الأول للحرب على غزة أن الانتصار في أرض المعركة، وإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في القطاع، يحتاجان إلى جهد إعلامي حربي لتسويق روايتها عن أهداف الحرب التي تخوضها ضد ما تُسمِّيه “الإرهاب”، واستمالة الرأي العام الدولي إزاء ما تراه “خطرًا وجوديًّا يهدد كيانها”، ويعني ذلك رمزيًّا “إبادة الرواية الفلسطينية، وأيضًا إبادة رواية الضحايا؛ إذ لا يمثِّل الجسم الصحفي الهدف النهائي في عملية الاستهداف، وإنما الكلمة والصورة والحقيقة. فقد شكَّلت الصورة مشهدًا كبيرًا يؤثر على الاحتلال الإسرائيلي وتحركاته بسبب وجوه الإبادة المختلفة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، منها القتل الجماعي الممنهج وتدمير مقومات وأسس الحياة، وتدمير المستشفيات والمدارس والمراكز الثقافية وعمليات التهجير القسري. لذلك فإن إسرائيل تريد إبادة الذاكرة والرواية الفلسطينية”(78). وتحاول من خلال هذه الإبادة “طمس الحقيقة حول الحرب وما تتسبب فيه من قتل ودمار يستهدف البشر والشجر والحجر -يقول وليد العمري- ومنعها عن الرأي العام الدولي، واحتكار الرواية الصحفية لما يجري في إطار الصراع على الرواية في حقول أخرى”(79). وهذا يعني أيضًا قتل الحقيقة وفرض الرواية الإسرائيلية التي تُغيِّب الحقائق كما حصل في مجمع الشفاء الذي حاول الاحتلال أن يجعله مقرًّا للقيادة العسكرية لحركة حماس، لكن تبيَّن زيف هذه الرواية. لذلك فهو يريد قتل الشهود حتى لا تصل هذه الحقيقة(80).

ثانيًا: تدمير أدلة توثيق الإبادة  

كشفت الحرب على غزة سجلًّا واسعًا من جرائم الحروب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مدن القطاع، وفي ظل هذا الوضع “لا يريد الاحتلال أن يكون هناك أحد يُوثِّق جرائمه، أو شاهد على ما يرتكبه، ولا يريد أن يكتشف العالم الوجه الحقيقي لهذا الكيان”(81). وهو الأمر الذي لاحظه أيضًا وائل الدحدوح؛ إذ “يخشى الاحتلال أن يكون الصحفي شاهدًا على جرائمه ومُوثِّقًا لها؛ لأن ذلك سيُسْتَخْدَم ضده في المحافل الدولية، ويتم الضغط عليه من قِبَل الرأي العام العالمي. وهذا ما يدفع جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى استهداف الصحفي وإبعاده عن مسرح الأحداث على الأقل خلال وقوعها حتى لا يتكرر التوثيق والفضيحة”(82). ولذلك “دأبت إسرائيل على تحطيم المرآة التي تعكس للعالم سوء أفعال جرائمها. وتحاول عبر استهداف الصحفيين، الذين يؤدون دورهم الوظيفي في نقل الأخبار وما يجري على الأرض، إخفاء تلك الجرائم”(83).

ثالثًا: التحكم في الرواية واستمالة الرأي العام الدولي

ظلت إسرائيل تحاول بشتى الوسائل التحكم في رواية الأحداث وتطوراتها خلال الحرب للفوز بالمعركة الرمزية قبل معركة الأرض لاستمالة الرأي العام المحلي والدولي، فـ”الكلمة تساوي السلاح في الأزمات والحروب، وإسرائيل تريد أن تفوز بالحرب -كما ترى مراسلة الجزيرة في لبنان، كارمن جوخدار- وأول فوز يمكن أن تحققه هو كسب الرأي العام… لكن إسرائيل تخسر في كسب هذا الرأي العام كما تخسر في إثبات روايتها… وكل الانتهاكات التي تقوم بها ضد الصحفيين بمختلف أشكالها تهدف إلى كسب الرواية؛ لأن الحرب لا يمكن الفوز بها إلا عبر الرواية”(84).

رابعًا: احتواء تأثير الجزيرة

أسهمت قناة الجزيرة، من خلال تغطيتها الواسعة والمستمرة للحرب على غزة، في تركيز اهتمام الرأي العام الدولي تجاه جرائم الحرب والانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وأثارت أيضًا اهتمام مؤسسات المجتمع الدولي إزاء سياسة التدمير الممنهج لجميع مقومات الحياة الفلسطينية في القطاع. وكانت “عين العالم” الساهرة في شريط ضيق محاصر لا تتجاوز مساحته 362 كلم2، تبث على الهواء مباشرة تفاصيل الجرائم الإسرائيلية، “وكان صحفيو الجزيرة يكشفون بعض الأشياء التي لا يرغب الاحتلال في نقلها للرأي العام الدولي، مثل الإبادة التي حدثت في غزة والحرب على المستشفيات كما جرى في مستشفى الشفاء. وهذا كان يخلق أزمة للجيش الإسرائيلي خلافًا للقنوات الأخرى، وفي الوقت ذاته كانت تغطية الجزيرة تؤثر في السياسة الدولية، خاصة سياسة الولايات المتحدة؛ الأمر الذي كان يدفعها إلى إصدار بيانات تطلب من الجيش الإسرائيلي أن يتجنب قصف المدنيين…”(85).

من جانب آخر، كان تأثير الجزيرة واضحًا من خلال تغطيتها الواسعة لجرائم الاحتلال (المقابر الجماعية، استهداف المرضى والمدنيين في المستشفيات، استهداف المدنيين الذين يتلقون المساعدات، تدمير المنازل فوق رؤوس السكان وإحراقها…) في الرواية الإسرائيلية التي تركز على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” باعتبارها “ضحية” “إرهاب حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية”. “لقد ساعدت الجزيرة عبر النقل المباشر لهذه الوقائع والحقائق في تغيير لغة العالم تجاه ما يجري في قطاع غزة، كما غيَّرت شكل الرواية ولغة التصريحات الصحفية للمسؤولين في العالم. وشكَّل ذلك تهديدًا لإسرائيل التي كانت تُفكِّر في استمرار الحرب من دون أي رادع أو انتقاد”(86). وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم التحوُّل الذي حدث في الرأي العام الدولي، خاصة في المؤسسات الجامعية الأميركية والأوروبية، والمجتمع الأكاديمي والحقوقي، تجاه دعم حقوق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولته الفلسطينية، وفي المقابل، تصاعد خطاب الإدانة للاحتلال الإسرائيلي وانحسار الدعم للرواية الإسرائيلية. وقد أسهم في ذلك أيضًا قدرة هذا الرأي العام على التحرر من هيمنة الإعلام الغربي التقليدي وإنتاج خطاب عام بديل عبر وسائل الإعلام الرقمي.

وفي خضم ذلك ركز الجيش الإسرائيلي على الحد من تأثير الجزيرة عبر استهداف صحفيي القناة وأسرهم وعائلاتهم بشتى الطرق الممكنة ضمن خطته الإستراتيجية لتدمير الجماعة الصحفية الفلسطينية، فلجأ إلى القتل وتدمير المنازل، ثم التهجير والنزوح، ثم إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بالصحفيين. وفي مرحلة معينة كان الجيش الإسرائيلي يحاول قتل النماذج المُلْهِمَة للصحفيين، وهو “أخطر ما كان يخشاه، فلا يريد أن يكون هناك نموذج مُلْهِم للصحفيين وعموم المواطنين. وهذا الأمر يحتاج إلى قتل النموذج بشتى الطرق -يقول وائل الدحدوح- وقد بدأ ذلك بالطرق الأكثر إيلامًا في حالتي الشخصية؛ فاستهدف الأسرة ثم استهدفني ثم استهدف ابني ثم البيت ثم المكتب، وكان يهدف من خلال ذلك إلى وقف هذا النموذج وقتله في مهده حتى لا يكون مُلْهِمًا، وأعتقد أن هذا الأمر لم يتسن له”(87).

شكل (6): العلاقة بين الفاعل الإسرائيلي ومنجز الإبادة الإعلامية (الأبعاد الرمزية لتدمير الجماعة الصحفية الفلسطينية)

6

6. الإبادة الإعلامية وبنيتها الداخلية والخارجية

تشير جميع المعطيات والمتغيرات، التي درسها الباحث في الحالة الاستثنائية للجماعة الصحفية الفلسطينية خلال الحرب على غزة، إلى واقع (وحقيقة) الإبادة الإعلامية التي تعرض لها الكيان الاجتماعي والمهني للجماعة الصحفية الفلسطينية. فقد كانت إسرائيل معنية بإسكات صوت الصحفيين والقضاء عليهم أكثر من أي فئة أخرى، وهو ما يُفسِّر خطتها الإستراتيجية لتحقيق هذا المنجز. وعلى الرغم من الإشكال القانوني في استعمال المصطلح من قِبَل بعض المبحوثين، باعتباره غير مألوف قانونيًّا وليست له أي مرجعية قانونية دولية، فإن معظمهم يصف الوضع الذي يعيشه الصحفيون في غزة بالإبادة الإعلامية، وقد يستخدم بعضهم مصطلحًا خاصًّا، لكن لا يختلف مضمونه ودلالته عن المعنى الذي يحمله مفهوم الإبادة الإعلامية كما تقترحه الدراسة؛ فهما يختلفان في البناء المعجمي ويتشاكلان في الدلالة، كما سنرى لاحقًا، متأثرين بالسياق العام للأحداث في غزة؛ حيث يعمل الجيش الإسرائيلي على تدمير جميع مقومات الحياة الفلسطينية التي تجعل القطاع فضاء غير صالح للعيش وممارسة أي عمل مهني.

يرى بعض المبحوثين أن الحالة الاستثنائية للجماعة الصحفية الفلسطينية تُعد جزءًا من الحالة الاستثنائية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الإبادة الجماعية التي تستهدفه “نحن لا نتعرض لشكل واحد من الإبادة، بل هناك إبادة على صعيد آخر، فعندما لا تجد الدواء والغذاء والماء الصالح للشرب، ويمنع الجيش الإسرائيلي وصول أدنى مقومات الحياة الطبيعية للناس، فتلك حرب تُشَنُّ على الصحفيين وعلى سكان قطاع غزة. كما تمنع إسرائيل وصول المعدات المهنية للصحفيين. وهذا الفعل الممنهج لا يمكن أن يكون سوى إبادة للصحفي الفلسطيني كما يمثِّل إبادة للطبيب. نحن نرصد جميع الوقائع، وما يميز الصحفي هو قدرته على رصد الإبادة التي تُرتكب في حق الطبيب، والمجتمع الفلسطيني عمومًا، لكن يتناسى نفسه، ولا يرصد الإبادة التي يتعرض لها”(88).

هذا الرأي الذي يعتبر الإبادة الإعلامية جزءًا من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان قطاع غزة، ينطلق في تحليله من وقائع السياسة الإسرائيلية وتداعياتها على المشهد الفلسطيني، والتي لا تميز بين هوية وانتماء الفلسطينيين الذين تنظر إليهم بوصفهم “أعداء”؛ إذ يمثِّلون جميعًا “أهدافًا مشروعة للإبادة الجماعية” من منظور هذه السياسة. فلا يميز الجيش الإسرائيلي بين مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية والمدنيين، ولا بين الأعيان والبنية التحتية للقطاع والإنسان الذي يستخدمها. وهنا، يرى مدير مكتب قناة الشرق للأخبار في رام الله والمراسل السابق لوكالة الأسوشيتد بريس (AP)، محمد دراغمة، أن “الفلسطينيين والمدنيين يُستهدفون في فلسطين، والإسرائيليون لا يعتبرون أن هناك صحافة. لذلك تُمارَس الإبادة على الشعب الفلسطيني وعلى والصحافة، وعلى كل شيء في غزة، نعم الإبادة، هذا صحيح”(89). وهنا يلاحظ مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عمار الدويك، أن نسق العمل في سياسة الاحتلال الإسرائيلي يتسم بالتدمير الكامل والإبادة، وقد تعرضت أيضًا البنية التحتية الإعلامية وجميع المقرات والمؤسسات الإعلامية تقريبًا للتدمير، وكذلك استُهدف الصحفيون، ويتم هذا الأمر بالمقاربة نفسها التي تجري في الإبادة(90).

وتتم هذه الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية “بقرار سياسي وبشكل ممنهج تديره أعلى هيئات قيادة الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية”، يقول ناصر أبو بكر. “يريدون إبادة الشعب الفلسطيني بعيدًا عن وسائل الإعلام، وكذلك إبادة وسائل الإعلام نفسها وتدميرها وقتل الصحفيين وعائلاتهم لكي يتوقفوا عن نقل الحقيقة. فهم يعرفون أن وسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على التأثير في العالم، وتستطيع تغيير اتجاهات الرأي العام الدولي”(91).

وإذا كان هذا المنظور، الذي يُمثِّله معظم المبحوثين، يصف التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية وكيانها الاجتماعي والمهني بالإبادة الإعلامية(92)، فإن هناك منظورًا آخر ينطلق من دلالة هذا المصطلح وحمولته المعرفية والخصائص والصفات التي تحدد موضوعه، لكنه يُسمِّي هذا التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية بـ”الإبادة الصحفية”، وهو المصطلح الذي يتبنَّاه وليد العمري. ويُعلِّل ذلك بالقتل الواسع لأفراد الجسم الصحفي وعائلاتهم، لذلك فإن “استهداف الجيش الإسرائيلي للصحفيين والعاملين في الحقل الصحفي، والذي سجل ذروة غير مسبوقة خلال الحرب على غزة (مقتل 119 صحفيًّا في اليوم 104 من مسار الحرب)، لا يُبقي مجالًا للشك في أن إسرائيل وسلطاتها حكمت بالإعدام على الصحافة والصحفيين الفلسطينيين… فهي تَشُنُّ حرب إبادة للصحفيين في إطار الحرب التي تخوضها ضد جميع الفلسطينيين منذ عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة”(93). وهنا، يبدو أن استخدام مصطلح “الإبادة الصحفية” لا تختلف دلالته والعناصر التي تُحدِّد موضوعه عن “الإبادة الإعلامية”، فهما لا يتمايزان في الدلالة، ولكن في المجال أو النطاق، فالأول يبدو مرتبطًا بالصحفيين بينما الثاني يشمل جميع العاملين في الحقل الصحفي والإعلامي، كما ذُكِر آنفًا.

واختار بعض المبحوثين تسمية الفعل الإبادي الذي يتعرض له الجسم الصحفي الفلسطيني بعلامة أخرى لا يختلف أيضًا مدلولها عن مصطلح الإبادة الإعلامية أو الإبادة الصحفية؛ إذ يرى وائل الدحدوح أن إسرائيل قامت بـ”مقتلة ضد الصحفيين”، التي تُعد في نظره “جزءًا من الإبادة الجماعية التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني”(94). وهذا يعني بلغة أهل المنطق واللغويين أن “المقتلة” تمثِّل الاسم المشمول، أي الجزء، من الاسم الشامل، وهو الإبادة الجماعية، أي الكل. ولذلك إذا كانت المقتلة (من قتَّل القوم: أكثر فيهم القتل) تدل على معنى القتل الواسع والممنهج للصحفيين، فإنها جزء من المعنى الكلي للقتل الواسع والممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في الحرب التي يشنُّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة. ويقترب من هذا المعنى (المقتلة) ما يشير إليه أيضًا مصطلح “المجزرة” الذي تستخدمه كارمن جوخدار في وصف ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي في حق الصحفيين الفلسطينيين، وترى أن استهداف الصحفيين وعائلاتهم يُعد “وحشية مطلقة”، وجرائم حرب وفق توصيف القانون الدولي الإنساني. وقد أثبتت غزة أن اغتيال الصحفيين وأسرهم والانتهاكات التي مارسها الجيش الإسرائيلي تجاوزت كل الحروب السابقة بما في ذلك الحرب العالمية الثانية “وما يخيفني اليوم أن هذه الانتهاكات تعيدنا إلى ما قبل هذه الحقبة، وإلى ما قبل الأمم المتحدة وكل النظم التي تُؤطِّر عملنا كصحفيين… لذلك بات القانون الدولي يحتاج إلى تعديل ضروري وأطر فعالة لمحاسبة إسرائيل، وربما كانت خطوة محكمة لاهاي مهمة، لكن يجب أن تكون هناك أطر لحماية الصحفيين ووقف هذه المجزرة المستمرة”(95).

إذن، على الرغم من التعدد الاصطلاحي في الدلالة على معنى التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية، فإن معظم المبحوثين يرون الاسم المشمول -سواء كان مصطلح الإبادة الإعلامية أو الإبادة الصحفية أو المقتلة أو المجزرة- جزءًا من الاسم الشامل (الإبادة الجماعية). ويُلاحظ هنا أن هذا الفعل الإبادي لم يتوقف خلال فترة الحرب، وهو ما يطرح سؤالًا مهمًّا يرتبط بالبنية الداخلية والخارجية لعملية الإبادة الإعلامية التي يتعرض لها الجسم الصحفي الفلسطيني: ما العامل الذي يُحفِّز أو يُثير فعل التدمير الممنهج للكيان الاجتماعي والمهني للجماعة الصحفية الفلسطينية، كليًّا أو جزئيًّا؟

يقصد بالبنية الداخلية والخارجية للإبادة الإعلامية السياقات المحلية والدولية التي شكَّلت البيئة المساعدة والداعمة لأفعال الإبادة بصورها المختلفة، وترتبط أساسًا بالسياق الداخلي الإسرائيلي والسياق الخارجي مُمثَّلًا في سياسات ومواقف بعض الدول المساندة لإسرائيل عسكريًّا وماليًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا.

السياق المحلي الإسرائيلي

تجد الإبادة الإعلامية ضد الجماعة الصحفية الفلسطينية صداها في السياق المجتمعي والأيديولوجي والسياسي والإعلامي اليميني المتطرف؛ إذ بدأت الحرب بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، فهم ليسوا سوى “حيوانات بشرية” -كما قال يوآف غالانت- يجب أن تُمنع عنها جميع مقومات الحياة، وهو ما يعني استمرار حصار قطاع غزة حتى الموت. وقد اتسم التحريض على الفلسطينيين بطابع ديني مقدس عندما استدعى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، نصًّا “كتابيًّا” يُعلن فيه المساواة بين الفلسطينيين والعماليق: “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا، الذين يقاتلون الآن في غزة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل”(96). ويمثِّل ذلك دعوة صريحة لقتل وإبادة الشعب الفلسطيني من خلال استحضار هذا السياق التاريخي والرمزي لتحفيز الجيش الإسرائيلي على التعامل مع أهالي قطاع غزة كما فعل الأسلاف من “بني إسرائيل” مع العماليق الذين يمثِّلون “ذروة الشر في التقاليد اليهودية”. وقد أصبحت صورة العماليق، المطلوب إبادتهم، نموذجًا كلاسيكيًّا للآخر “المغاير” الذي تُحلِّل فتاوى الحاخامات قتله في أثناء الحرب، مثل التعليمات التوجيهية لدوف ليئور عندما كان حاخامًا كبيرًا من حاخامات الجيش الإسرائيلي: لا يوجد شيء في الحرب يُسمَّى مدنيين… فإن حياة ألف من غير اليهود لا تساوي ظفر يهودي(97).

وتتكرَّر هذه التعليمات التوجيهية لإبادة الفلسطينيين اليوم مع الحاخام إلياهو مالي، الذي يرأس مدرسة “شيرات موشيه” الدينية في مدينة يافا، التي يدرس بها طلاب يخدمون في الجيش الإسرائيلي: “في حربنا المقدسة، وفي حالتنا هذه في غزة، فإنه وفق ما تقوله الشريعة (لا تُحيي كل نفس)، ومنطق هذا واضح جدًّا وهو: إذا لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك”. وينطلق هذا الفكر الإبادي للقادة الدينيين الإسرائيليين من ثنائية وجودية إما (نحن) أو (هم)، لذلك يجب من منظور الحاخام مالي قتل المعين المنشئ، أي النساء الفلسطينيات اللائي يُنجِبن جيل المستقبل: “إن الذي جاء لقتلك بهذا المفهوم لا يشمل فقط الشاب بعمر 16 أو 18 أو 20 أو 30 عامًا، والذي يُوجِّه إليك السلاح الآن، وإنما أيضًا جيل المستقبل (أطفال غزة)، وكذلك أولئك الذين يُنجبون جيل المستقبل؛ لأنه لا يوجد فرق حقًّا”(98).

ينتشر هذا الفكر الإبادي أيضًا في أوساط النخبة الفكرية والأكاديمية والإعلامية، مثل الكاتب عزرا ياشين، وهو جندي احتياط سابق في عصابة “شترين” التي نفذت مذابح ضد الفلسطينيين خلال العام 1948، فقد ظهر في مقطع مصور يحث الجنود الإسرائيليين على إبادة أهالي غزة: “هؤلاء الحيوانات لا ينبغي أن يعيشوا. اقطعوا دابرهم قدر ما تستطيعون حتى لا تُبقوا لهم ذِكرًا، لا ذِكر لهم ولا لأمهاتهم ولا بناتهم ولا أطفالهم. هؤلاء الحيوانات لا ينبغي أن يعيشوا… من لديه السلاح فليُطلق النار عليهم. إذا كان لديك جار عربي لا تنتظر أن يأتي إلى بيتك بل ادخل منزله وأطلق النار عليه… دمِّروا المنزل وتقدموا، دمِّروا منزلًا آخر واقتحموا غيره …كل ما تنبَّأ به الأنبياء عن يوم القيامة يحدث الآن”(99). وتتردَّد هذه الدعوة أيضًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة وعبر شاشات التليفزيون التي تُحرِّض على قتل الفلسطينيين، مثل محلِّل الشؤون العربية بالقناة 13 الإسرائيلية، تسفيكا يحزقيلي، الذي دعا الجيش إلى توجيه ضربة قاسية لغزة، تؤدي إلى قتل “100 ألف فلسطيني”. كما طالب وزير التراث بالحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، بـ”إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة الذي يجب ألا يبقى على وجه الأرض”(100).

السياق الدولي

يشكِّل السياق الدولي بنية خارجية مساعدة وحاضنة للفعل الإبادي الإسرائيلي؛ إذ ظلت إسرائيل تحظى بدعم معظم الدول الغربية عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا وإعلاميًّا، منذ اليوم الأول للحرب على غزة، خاصة من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا، ودول أخرى. وكانت الحجة التي تستخدمها هذه الدول في شَرْعَنَة دعمها للجيش الإسرائيلي تتمثَّل في “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” أمام حركات المقاومة الفلسطينية. وشارك بعضها في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي لتحديد إستراتيجية الرد على “طوفان الأقصى”، وكانت الجسور الجوية والبحرية للصواريخ التي تسقط على أهالي غزة تنطلق من هذه الدول. وهو ما يعني تبنِّي نموذج “الضحية” الذي يجعل إسرائيل تحارب “الإرهاب” وأيضًا “الشر” الذي تمثِّله المقاومة الفلسطينية، لذلك ظلت إسرائيل ترفض وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب.

وكانت مواقف بعض الدول، خصوصًا أميركا، توفر الغطاء القانوني والدبلوماسي لاستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة؛ إذ استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات ضد وقف إطلاق النار في مجلس الأمن. وكانت تُشكِّك في تقارير المنظمات الحقوقية والأممية الدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، وتنفي بشدة وجود أدلة على أفعال الإبادة، أو تدمير الجماعة الصحفية عبر القتل الواسع للصحفيين، كما في تصريحات مسؤولي الأمن القومي (جون كيربي) والخارجية الأميركية (أنتوني بلينكن)، ووزارة الدفاع (لويد أوستن)، فضلًا عن الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي أكد أن “ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية”(101). وقد أسهم ذلك في إطلاق العنان للآلة العسكرية الإسرائيلية التي كانت تُنفِّذ الدعوات السابقة لمرجعياتها السياسية والدينية والفكرية والإعلامية بشأن إفناء جميع مقومات الحياة الفلسطينية.

وقد أسهم إفلات إسرائيل من العقاب والمحاكمة الدولية لقادتها المتورطين في جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الصحفيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة (104 صحفيين قبل طوفان الأقصى) وخارجها في استمرار سياستها تجاه الجماعة الصحفية الفلسطينية. لقد “بات الإفلات من العقاب سمة ملاصقة لإسرائيل؛ إذ تعتقد أن بإمكانها قتل من تريد، والعدد الذي تريد بالشكل الذي تريد، وتستخدم الأسلحة المحرمة دوليًّا دون أية محاسبة، وتقوم بانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وهو ما تُوثِّقه المنظمات الحقوقية الدولية، والسؤال اليوم هو: إلى متى سيستمر الإفلات من العقاب؟”(102). ويجيب عن هذا السؤال، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في جنيف، رامي عبده، قائلًا: “ما دام الاحتلال الإسرائيلي يُمارس الجرائم التي يريد بحرية مطلقة، ويُوَاجَه بالصمت الدولي، بل تحاول بعض قوى المجتمع الدولي، مثل الولايات المتحدة الأميركية، تبرير هذه الجرائم، سيستمر في استهداف الصحفيين والمدنيين”(103). لذلك فهي تتصرف وكأن هناك قانونًا خاصًّا بها -يقول وليد العمري- وقانونًا آخر لبقية الدول الأخرى، ولا تُعير أي اهتمام لحقوق الإنسان والشرائع الدولية، بينما إسرائيل عضو في الأمم المتحدة يُفترض أن تلتزم بالقرارات والقوانين والأسس التي قامت عليها الأمم المتحدة(104).

خلاصة

بيَّنت الدراسة أن التدمير الممنهج للجماعة الصحفية الفلسطينية لم يكن من “الأضرار الجانبية” للحرب وآثارها المدمرة، أو ناتجًا عن “ظروف الحرب”؛ ما ينفي أي مسؤولية عن الفاعل الإسرائيلي في القتل الواسع للصحفيين، بل كان التدمير فعلًا نسقيًّا يشمل أبعادًا مختلفة مهنية واجتماعية وإنسانية في إطار خطة منظمة ومنهجية بقرار من المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية. وهو ما يعني أن الفعل الإبادي للجماعة الصحفية الفلسطينية يتطلب قصدًا خاصًّا يتمثَّل في الموت الاجتماعي لأفرادها، ويتحقق هذا المنجز عبر القتل الواسع للصحفيين ليس كأفراد أو بسبب هويتهم الشخصية، وإنما باعتبارهم جماعة مهنية يرى فيها الاحتلال الإسرائيلي “تهديدًا” لأهدافه الإستراتيجية في قطاع غزة وخطرًا على الرواية الإسرائيلية التي تُقدِّم الفاعل الإسرائيلي “ضحية لإرهاب حركات المقاومة الفلسطينية”.

ويشمل الموت الاجتماعي تدمير الروابط الاجتماعية والانقطاع الجيلي وسط الجماعة الصحفية الفلسطينية من خلال قتل أفراد أسرهم وأقربائهم وتدمير المنازل فوق رؤوسهم، ودفع الصحفيين إلى الخروج من المشهد الإعلامي بشتى الوسائل سواء عبر الإكراه والتهديد، أو إلحاق أذى جسيم بالصحفي يمنعه من الاستمرار في ممارسة عمله الصحفي، أو الاستمرار في التغطية الإخبارية وتحمل تبعاتها النفسية والاجتماعية والإنسانية ومخاطرها الأمنية. كما يشمل الموت الاجتماعي خطر الانقطاع الجيلي بين الصحفيين أنفسهم، وهو ما يُفسِّر استهداف الجيش الإسرائيلي للفئة العمرية الشابة للجماعة الصحفية الفلسطينية بين 20 وأقل من 40 عامًا.

أظهرت الدراسة أيضًا أن خطة الجيش الإسرائيلي للإبادة الإعلامية ركزت على الموت المهني للجماعة الصحفية الفلسطينية، وقطاع الإعلام في غزة، عبر التدمير الممنهج للمؤسسات الإعلامية والصحفية المحلية والدولية، وملاحقة الصحفيين داخل المستشفيات والخيام التي اتخذوها مراكز لعملهم المهني وتدميرها فوق رؤوسهم، وهو ما يُثبت القصد الخاص للفعل الإبادي وتكامل واندماج حلقاته. وتُراهن المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية في ذلك على إبادة الرواية الفلسطينية وطمس الحقائق التي تكشفها الجماعة الصحفية الفلسطينية، وتدمير أدلة توثيق الإبادة الجماعية، واحتواء تأثير بعض الشبكات الإعلامية الدولية، مثل قناة الجزيرة.

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5972

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M