يتصاعد في الوقت الراهن الحديث عن اتجاه إسرائيل إلى تصعيد الجبهة الشمالية، خاصة في ظل العمليات الأخيرة التي أجرتها، حيث تتدفق تصريحات المسئولين الإسرائيليين على المستوى السياسي والعسكري بأن هذه المواجهة باتت وشيكة وضرورية، على نحو سيكون له انعكاساته على مسارات التصعيد الإقليمي، بيد أن الوقوف على أبعاد وحدود هذا التصعيد من ناحية ما إذا كنا نتحدث عن تصعيد محسوب في إطار مساحات الضغط بين الجانبين لتثبيت قواعد للردع يتم بموجبها تحييد أثر الجبهة الشمالية في الضغط على تل أبيب في إطار الحرب ضد قطاع غزة، أو الذهاب لمواجهة شاملة ستكون تداعياتها وخيمة على استقرار المنطقة بأكملها، على نحو يتطلب فهمًا لمتغيرات السياق الراهن على المستويات المختلفة لبيان حدود هذا التصعيد ومساراته المحتملة.
حسابات الموقف الإسرائيلي
تتقيد تل أبيب في اللحظة الراهنة بجملة من الحسابات المعقدة الخاصة بالتصعيد ضد الجبهة الشمالية، وذلك ارتباطًا بمجموعة من الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية التي تسعى إلى تحقيقها في ضوء المعطيات المتشكلة في الوقت الراهن، وهو ما يمكن إجماله على النحو التالي:
- إعادة ترميم معادلة الردع الإقليمي: تجد تل أبيب في بيئة التصعيد الحالية في المنطقة على وقع الحرب ضد قطاع غزة فرصة لإعادة تشكيل واقع حدودها المشتركة مع دول ما عُرفت بـ “محور المقاومة” أو “الهلال الشيعي”، وخاصة الحدود الشمالية مع لبنان، وذلك في محاولة لتقويض النفوذ الإيراني في المحيط الحيوي لها وتقليص هامش المناورة لطهران في مواجهة الضغوط الغربية ضد مصالحها خاصة فيما يتعلق بتعزيز قدراتها النووية والوصول إلى معادلة “الردع النووي”، عبر موطئ القدم الذي أسسته في المنطقة في أعقاب أحداث الربيع العربي في عام 2011 في عدد من الدول العربية، على النحو الذي ساعدها في تعزيز أدوات ردعها من خلال قدرتها على تهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. وفي هذا الإطار تسعى تل أبيب في الوقت الراهن لاتخاذ خطوات جذرية لتسوية هذا الأمر تحسبًا بأن تأتي إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض ستدعم المسار الدبلوماسي الذي قد تكون تل أبيب مضطرة معه لتقديم تنازلات.
- تحييد أثر مبدأ “وحدة الساحات” في المواجهات المستقبلية: تعمل تل أبيب في إطار استراتيجيتها العامة والدروس المستفادة من الحرب متعددة الجبهات التي تشهدها في الوقت الراهن إلى اتخاذ خطوات جذرية لتحييد آثار مبدأ “وحدة الساحات” في أي مواجهات مستقبلية، وهو ما ثبتت فاعليته بشكل أو بآخر خلال الحرب الجارية في فرض مزيد من الضغط والاستنزاف ضد القوة الإسرائيلية، ومن ورائها الحشد العسكري الغربي الذي استنفر قواه لدعم الموقف العسكري لتل أبيب، على نحو كان له تأثيره في استراتيجيات التموضع الغربي في المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية على غرار مناطق الإندوباسيفك، وليس أدل على ذلك من حديث بعض التقارير خلال الأيام الماضية عن أن هذه التحركات كانت من بين الأسباب التي أدت إلى خلو المحيط الهادئ للمرة الأولى منذ العام 2001، من أي حاملة طائرات أمريكية([1]).
وعلى المستوى المرحلي، عملت إسرائيل على تحقيق هذا الهدف خلال الفترة الماضية عبر تصعيدها الحاد على خلفية أحداث “مجدل شمس”، وذلك من خلال إجراء عمليات اغتيال استفزازية لقيادات الصف الأول لحركات المقاومة، والتي استهدفت منها تحييد أثر الضغط الإقليمي المتولد من الجبهة الشمالية، من أجل تثبيت قواعد جديدة للردع دون عتبة “الحرب الشاملة” مع حزب الله، وهو ما بدا حينها أنها نجحت في تحقيقه إلى حد ما، خاصة في أعقاب إعلان حزب الله في 25 أغسطس 2024، الانتهاء مما وصفه بـ”المرحلة الأولى” من الهجوم الجوي على إسرائيل ردًا على مقتل فؤاد شكر([2])، قبل أن تتصاعد وتيرة التوترات الحادثة في الوقت الراهن.
وعلى ما يبدو فإن تل أبيب عازمة النية على استكمال هذه الخطوات بخطوات تصعيدية أخرى، تستهدف أن يكون لها أثر مستقبلي مستدام يُعاد من خلالها تشكيل واقع جديد لحدودها مع جبهات المواجهة، وهو ما يتجلى في الوقت الراهن عبر تصعيدها غير المسبوق في جبهات الإسناد المحتملة في سوريا، والتي تستهدف الترسيخ لواقع جديد عبر التدخل العسكري المباشر لإفشال دور دولة “الجسر” أو “حلقة الوصل” في الهلال الشيعي الذي من الممكن أن تشنه سوريا في أي مواجهة قادمة لتل أبيب على الجبهة الشمالية. ومن ناحية أخرى، تساعد تلك الاستهدفات وفقًا للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي طورها رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي “الزخم” أو “تنوفا بالعبري”، على إلغاء قدرات الخصم القتالية، وفي المقام الأول قدراته النارية الدقيقة، التي تمكنه من الضرب من مسافة آمنة نسبيًا، تتجاوز المدى الذي تستطيع إسرائيل أن تستجيب عنده([3]). ولعل المثال الأبرز في هذا الصدد الضربة الصاروخية التي وجهتها جماعة الحوثي في 15 سبتمبر 2024، بصاروخ بالستي وصفته بـ”فرط صوتي” استهدف وسط تل أبيب وفشلت أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي في التعامل معه أو اعتراضه([4]).
- توحيد الجبهة الداخلية وتخفيف الضغوط: توفر هذه الأهداف السابقة مظلة لشرعية الفعل (فتح الجبهة الشمالية) على مستوى الداخل الإسرائيلي بالنسبة للأهداف التكتيكية الناشئة في الوقت الراهن الخاصة بحسابات المستوى السياسي، والمرتبطة بتخفيف الضغوط الداخلية التي يواجهها الائتلاف الحكومي للذهاب إلى صفقة تفاوض تقود إلى وقف كامل لإطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما سيكون له تأثيره في استقراره واحتمالات انهياره. ومن ثَمّ، تشكل هذه الأهداف الاستراتيجية الخاصة بالتصعيد ضد الجبهة الشمالية أرضية تلاقي يتقاطع معها كل الطيف السياسي الإسرائيلي؛ بحيث تتوحد الجبهة الداخلية من جديد في مواجهة “محور الشر الإيراني” بحسب الرواية الإسرائيلية، على نحو تتعزز معه شرعية الائتلاف الحكومي ويتقلص هامش مناورة المعارضة السياسية للضغط على الائتلاف، وليس أدل على ذلك من تصريحات زعيم حزب المعارضة “معسكر الدولة” بيني غانتس، في 8 سبتمبر 2024، التي أكد خلالها بأن “ساعة الشمال دقّت”([5])، والذي بدا عبر هذه التصريحات أنه يرغب في العودة من جديد للمشهد وتعزيز حظوظه الانتخابية خاصة في ظل حملة التنكيل والمزايدة التي قام بها نتنياهو وشركاؤه خلال الفترة الماضية ضده نتيجة انسحابه من حكومة الحرب، وهو ما كان له تأثيره في تراجع وزنه الانتخابي بحسب نتائج استطلاعات الرأي لصالح نتنياهو وحزب الليكود.
معوقات تطبيق الرؤية الإسرائيلية
رغم كون هذه الأهداف السابقة يتوفر لها بعض مُهيآت السياق التي تساعد تل أبيب على المضي قدمًا في تحقيقها على النحو المُشار إليه سلفًا، بيد أنها تضمر بين ثناياها بعض المعوقات التي تشكل قيدًا على تطبيقها بشكل آني، بحيث يتم العمل على تحقيقها بشكل مرحلي تدريجي، ومن أبرز هذه المعوقات التالي:
- القدرة التشغيلية المتراجعة للجيش الإسرائيلي: يعاني الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن من تراجع ملحوظ في قدراته التشغيلية نظرًا لانخراطه في عدة جبهات مواجهة (قطاع غزة – الضفة الغربية – سوريا – لبنان – اليمن)، وهو ما يجعله -بحسب ما يتدفق من تقارير إسرائيلية– يعاني من تراجع في أعداد القوات المطلوبة للإبقاء على حالة الجاهزية لتطوير المواجهة وفتح جبهة جديدة على الشمال، التي تختلف بشكل كبير عن الجبهات الأخرى من ناحية القدرات المتعززة لدى حزب الله (كمًا ونوعًا). حيث كان قد كشف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في 1 يوليو 2024، عن حاجة الجيش الإسرائيلي إلى 10 آلاف جندي إضافي([6])، وهو ما يفسر اتجاه الحكومة الإسرائيلية –بحسب عدد من التقارير المتداولة- لاجتذاب نحو 30 ألفًا من طالبي اللجوء الأفارقة للتجنيد في الجيش الإسرائيلي([7]).
أيضًا تشهد صفوف جنود الاحتياط حالة من الإنهاك الشديد نتيجة طول فترة الحرب التي تدخل شهرها الحادي عشر. فعلى سبيل المثال، رفض حوالي 20 جنديًا من أحد الألوية التابعة لسلاح المشاة بحسب تقرير لهيئة البث العام الإسرائيلية العودة للمشاركة في القتال في قطاع غزة، بزعم حاجتهم للراحة([8]). هذا فضلًا عن تحديات تشغيلية أخرى ترتبط بأزمة تجنيد الشباب الحريديم التي تؤثر بدورها في تصاعد حالة التذمر من جانب الجنود الاحتياط نظرًا لعدم المساواة في تحمل الأعباء، خاصة وأن هذه المسألة تخضع لدرجة من التسييس المرتبط بمصالح الائتلاف الحكومي وبقائه، وهو ما يتعارض مع المستوى المهني التشغيلي للمستوى العسكري.
- غياب شرعية الفعل للتصعيد الواسع:يواجه الموقف الإسرائيلي غياب أحد أهم عناصر تطوير المواجهة والانتقال من قواعد الاشتباك المحددة بنطاق إدارة الردع بين الجانبين، إلى المواجهة الشاملة التي تتطلب دعمًا غربيًا على المستوى السياسي في المؤسسات الدولية، وكذلك على مستوى الدعم العسكري اللوجستي، وهو ما يرتبط بالأساس الشرعي لتصعيد هذه المواجهة، الذي يتنافى حدوثه في الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال، إذا ما نظرنا إلى سياق أحداث “مجدل شمس” التي وقعت في 27 يوليو 2024، نجد أن محفزات التصعيد من خلال “شرعية الدعم الغربي” التي تزامنت مع الأحداث مهدت الطريق لرد فعل إسرائيلي يتجاوز قواعد الاشتباك باحتمالات مفتوحة للذهاب إلى مواجهة شاملة، من خلال قيامها بعمليات اغتيال استفزازية لقيادات الصف الأول في جبهات المقاومة. وفي هذا الصدد يبدو أن تل أبيب عولت بأن تندلع شرارة انطلاق الحرب الواسعة من جانب حزب الله في إطار الرد على هذه الاستهدافات، وهو ما لم يتحقق نظرًا للرد المنضبط من جانب التنظيم على عملية الاغتيال التي استهدفت المسئول العسكري الأول في التنظيم “فؤاد شكر”، واكتفى بالإعلان عن استهداف بعض القواعد العسكرية، والانتهاء مما وصفه بـ”المرحلة الأولى” من الهجوم الجوي على إسرائيل ردًا على مقتل فؤاد شكر.
بعد ذلك استأنف حزب الله المناوشات مع إسرائيل وفقًا لقواعد الاشتباك التي تراعي عدم إيقاع خسائر بشرية في صفوف المدنيين، وحتى لو انحرفت فتكون متمثلة في استهداف محدود لمبانٍ سكنية دون أن يرافقها خسائر بشرية، وذلك في حالات رد محددة على استهدافات إسرائيلية لأهداف ذات ثقل بالنسبة لحزب الله، بهدف تعزيز الردع المتبادل في إطار المناطق الرمادية (Gray Zones) للصراع دون عتبة الحرب الشاملة على غرار ما حدث في استهداف التنظيم خلال الفترة الماضية مبنى سكنيًا في بلدة نهاريا دون وقوع خسائر بشرية([9])، من أجل فرض مزيد من الضغط الداخلي في تل أبيب وتحديدًا من جانب النازحين الإسرائيليين من مناطق الشمال في ظل تأكيد رسالة هذا الاستهداف بفشل مخططات الحكومة الإسرائيلية لعودتهم وتحديدًا طلاب المدارس مع بداية العام الدراسي الجديد.
- تعقيدات السياق الإقليمي: تفرض البيئة الإقليمية في اللحظة الراهنة درجة من عدم اليقين لدى الوحدات الإقليمية الفاعلة بشأن نظام الأمن الإقليمي، وذلك نتيجة الحرب الإسرائيلية التي تقوم بها ضد قطاع غزة، والتي كانت لها ارتدادتها السلبية على الاستقرار الإقليمي، وتهديد مصالح العديد من الدول؛ حيث تمخض عنها توترات إقليمية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار بمنطقة البحر الأحمر، والتي أثرّت بدورها في حركة الملاحة هناك، وذلك تزامنًا مع احتدام التنافس الإقليمي والدولي بالعديد من مناطق الصراع بالمنطقة في إطار “حروب الوكالة”. وقد أدى انعدام الأمن المتزايد لوحدات النظام وتحول تصورات التهديد في حالة من عدم اليقين الشديد على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، إلى بروز التوجه لدى بعض الوحدات الإقليمية نحو “الأقلمة أو الإقليمية” (Regionalism) لموازنة التهديدات الناشئة نتيجة التصعيد الإسرائيلي في المنطقة –خاصة في ظل مؤشرات التصعيد الراهنة على الجبهة الشمالية– من خلال الحديث عن تشكيل أنماط من “التحالفات السائلة” (Liquid Alliances)، التي تأتي كاستجابة لتعدد التهديدات عبر مستويات مختلفة من التحليل، ووجود انقسامات متداخلة في بيئة إقليمية متقلبة كالتي تشهدها المنطقة في الوقت الحالي([10]). وهو ما برز في خطاب الرئيس التركي رجب أردوغان في 9 سبتمبر 2024، الذي دعا فيه إلى تشكيل تحالف إسلامي ضد ما وصفه “بالتهديد التوسعي المتزايد” من جانب إسرائيل([11])، هذا فضلًا عن تقدم أنقرة بطلب رسمي للانضمام لتكتل بريكس الذي يضم الصين والهند وروسيا([12]). وهو ما تقاطع أيضًا مع دعوة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خلال زيارته الخارجية الأولى للعراق في 11 سبتمبر 2024، إلى إلغاء قيود التنقّل بين الدول الإسلامية، في نظام أشبه بنظام الشنغن الأوروبي([13]). وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الدعوات تتزامن مع تحركات للتقارب بين الوحدات الإقليمية الرئيسية لتنسيق الجهود والتعاون لمواجهة التهديدات المشتركة الناشئة في الوقت الراهن.
وبالتالي، تأتي هذه التوجهات نتيجة تنامي الإدراك لدى صانعي القرار بالوحدات الإقليمية الفاعلة بخطورة التصعيد الإقليمي الذي يدفع المنطقة نحو حرب إقليمية واسعة، نتيجة التهديدات الناشئة بفعل الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة. وهي عوامل أسهمت جميعها في تصاعد درجة من عدم اليقين بشأن الدور المنظم الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوى الضامنة تقليديًا للأمن بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك في ضوء تزايد الإدراك بالانحياز الواضح والدعم المطلق الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل على حساب الاعتبارات المصلحية لدول المنطقة، وهو ما شكّل قيدًا تاريخيًا ومستقبليًا لأي مبادرات أمريكية تعمل على تطوير شكل جديد من التحالفات الإقليمية التي يراها الفاعلون بأنها ستهندس انطلاقًا من المصالح الإسرائيلية فقط([14]).
ومن ثَمّ، يتشكل في الوقت الحالي درجة من المقاومة المتوقعة من جانب الأطراف الإقليمية التي تسعى إلى التهدئة، لمواجهة أي نزعات لدى إسرائيل وحزب الله بالاتجاه لتصعيد الحرب على الجبهة الشمالية على نحو قد يجر المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.
- حسابات الموقف (الأمريكي – الأوروبي): تفرض معطيات السياق الراهن حسابات دقيقة للموقف الغربي بشقيه (الأمريكي – الأوروبي) فيما يتعلق بتصعيد الحرب على الجبهة الشمالية، فإذا نظرنا للموقف الأمريكي، نجد أن هناك بعض الاعتبارات الحاكمة في الوقت الراهن، من أبرزها: (1) سياق الانتخابات الرئاسية التي يفصلنا عنها أقل من شهرين، والتي تشكل بدورها قيدًا على الإدارة الحالية ما بين الحفاظ على مستويات الدعم الواسع لتل أبيب من ناحية. ومن ناحية أخرى، منع انزلاق التصعيد إلى حرب واسعة ستكون لها آثار سلبية في فرص وحظوظ المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، حيث من شأن هذا التصعيد أن يعزز من حظوظ المرشح الجمهوري دونالد ترامب. (2) تأثير تصاعد التوترات الإقليميةخلال الفترة الماضية والتي استوجبت شكلًا من التحشدات العسكرية الواسعة للولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الأوروبيين بالمنطقة، على عمليات انتشارها الجغرافي الواسع من الناحية الجيوسياسية في إطار استراتيجيتها الكبرى لموازنة الخصوم في مناطق الإندوباسيفيك، على نحو تسبب في إحداث فجوة حرجة في غرب المحيط الهادئ، وذلك وفقًا للتقارير المُشار إليها سلفًا([15]). (3) تزايد القلق لدى واشنطن بشأن اتساع الحركة المستقلة نسبيًا لبعض الحلفاء بالمنطقة لتأمين وحماية مصالحها بمعزل عن مظلة الحماية الأمريكية التقليدية نتيجة حالة عدم اليقين المتولدة في الوقت الراهن ارتباطًا باتساع رقعة الصراع واحتدام التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في مناطق الصراع بالمنطقة، وهو ما يجعل حسابات واشنطن مقيدة بفرض التهدئة، التي فشلت في تحقيقها حتى الآن عبر جهود الوساطة لإيقاف الحرب ضد قطاع غزة. ومن ثَمّ، ستحتاج إلى إعادة ترميم ثقة الحلفاء في دورها باعتبارها الضامن التقليدي لأمن واستقرار المنطقة، وهو ما يبدو أنها تسعى لتحقيقه في الوقت الحالي عبر نسج شراكات أمنية جديدة مع حلفائها على مستوى استراتيجي غير مسبوق لتوفير الضمانات الأمنية اللازمة، بالإضافة إلى تكثيف جهدها الدبلوماسي في الوقت الحالي عبر مبعوثها الدولي للبنان “آموس هوكشتاين” لمنع التصعيد وفتح جبهة جديدة من شأنها زيادة التوترات الإقليمية والإضرار بالمصالح الأمريكية.
على مستوى الموقف الأوروبي، تسعى الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا إلى نزع فتيل أي توترات من شأنها أن تقود إلى فتح الجبهة الشمالية على نطاق تصعيد واسع، ستكون تداعياته وخيمة على المصالح الأوروبية بالمنطقة من ناحية. ومن ناحية أخرى، على استقرار الوحدات الأوروبية خاصة تلك المشاطئة للبحر المتوسط نتيجة موجات النزوح المحتملة للبنانيين، إذا ما اندلعت مواجهة واسعة بين إسرائيل وحزب الله، هذا فضلًا عن الأضرار المحتملة بالمصالح الاقتصادية وحركة التدفقات النفطية، حيث من شأن اشتعال هذه الحرب أن تطلق شرارة التصعيد في شرق المتوسط واستهداف منصات النفط والغاز، على غرار ما حدث في البحر الأحمر من استهداف لحركة التجارة ومرور السفن، ولعل ذلك يفسر إعلان واشنطن في 20 سبتمبر 2024 إعادة نشر حاملة الطائرات “هاري إس ترومان” وفرقاطات عسكرية إلى المياه الإقليمية في شرق المتوسط، وذلك بعد أيام قليلة من سحبها لإحدى الحاملات من المنطقة. ولذلك لا تدعم الجماعة الأوروبية أي محاولات من جانب أطراف التصعيد لتوسيع رقعة الصراع إلى حرب واسعة النطاق، وتعمل على تكثيف جهودها الدبلوماسية لتسوية هذه التوترات عبر المسار السياسي التفاوضي تأسيسًا على قرار مجلس الأمن 1701([16]).
سيناريوهات ومسارات التصعيد المحتملة
عكست المعطيات السابقة للسياق الراهن، جملة من التعقيدات والمحددات التي ستكون حاكمة لمواقف أطراف الأزمة بشأن سيناريوهات ومسارات التصعيد المحتملة، التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
- إدارة التصعيد في إطار المناطق الرمادية (Gray Zones) دون الحرب الشاملة: ظل هذا السيناريو حاكمًا للتصعيد المتبادل بين الجانبين خلال الفترة الماضية؛ نظرًا للتكلفة المرتفعة بالتدمير والأضرار المتبادلة بين الطرفين في حال إذا ما تم الذهاب لسيناريوهات تصعيد أخرى. لذا عمل الطرفان على إدارة التصعيد في إطار المناطق الرمادية دون الحرب الشاملة، والتي يتخللها بعض الاستهدفات النوعية التي يتعمدها بدرجة أكبر الجانب الإسرائيلي سواء على مستوى الأصول العسكرية أو القيادات لإضعاف قدرات الردع لدى الحزب، ولعل المثال الأبرز في هذا الصدد عملية الاختراق السيبراني في 17 سبتمبر 2024، لأجهزة الاتصالات المحمولة (البيجر) الخاصة بأعضاء حزب الله، والتي انفجرت متسببة في وقوع مئات الإصابات في جنوب بيروت وسوريا، والتي شملت عددًا من القيادات بحزب الله، بالإضافة إلى إصابة السفير الإيراني في لبنان([17])، دون أن تعلن إسرائيل مسئوليتها عن هذا الهجوم، وذلك وفقًا لنمط “حروب الظل” السرية، التي ترتكز على قاعدة الإنكار المعقول للردع Plausible deniability، والتي تسمح بدورها بأن يكون الردع المتبادل بين الجانبين في نطاق معقول، إلى جانب توفير مساحة لمرونة رد فعل الخصم (حزب الله) وفق قواعد الاشتباك المحددة بينهما على نحو لا يقود لتصعيد الصراع لحرب شاملة، ويرفع في الوقت ذاته كلفة الإضرار بمصالح تل أبيب ويعزز قدراتها على الردع بشكل غير تقليدي عبر الاستهدافات النوعية، وليس الاستهدافات العسكرية المباشرة([18]).
ويبدو أن هذا السيناريو تعتمده تل أبيب في إطار تكتيكي يخدم الهدف الاستراتيجي الكبير المرتبط بإعادة ترميم معادلة الردع الإقليمي، وكذلك يخدم الأهداف التكتيكية للمستوى السياسي الذي يرغب في كسب مزيد من الوقت عبر تسخين الجبهة دون انزلاقها لحرب واسعة، تعويلًا على مجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 5 نوفمبر القادم، والذي سيتجدد معه شرعية الدعم للائتلاف الحكومي.
وفي هذه الأثناء تعمل الإدارة الأمريكية خلال تلك المرحلة الانتقالية على ما يبدو على تحييد أي محفزات تصعيد من شأنها أن تجرها لمواجهة مباشرة مع إيران في إطار حرب إقليمية واسعة، وهو ما يتجلى في الوقت الراهن عبر مسارين؛ الأول: تمثل في دعم المسار الدبلوماسي للتسوية كبديل للحل العسكري، من خلال دور الوساطة الذي يقوم به المبعوث الأمريكي الخاص “آموس هوشتاين”. المسار الثاني: تمثل في فتح قنوات اتصال غير مباشرة مع طهران لاختبار نيتها وجديتها بإبداء بعض المرونة التي يمكن التأسيس عليها لتدشين أي عملية تفاوض مقبلة حول البرنامج النووي الإيراني، قد تجريها الإدارة الديمقراطية في حال إذا ما وصلت كامالا هاريس للرئاسة، ولذلك نجد بعض التغيرات الحادثة في الوقت الحالي والخاصة بالتحشدات العسكرية للطرفين؛ حيث أعلنت واشنطن في 12 سبتمبر 2024، سحب حاملة الطائرات “تيودور روزفلت” من الشرق الأوسط وتوجيهها نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ([19]). وفي المقابل أعلنت طهران في 14 سبتمبر 2024 إنهاء مهمة “أسطول 98″، التابع للبحرية الإيرانية، بعد 126 يومًا في مياه البحر الأحمر، ليستقر في أحد أرصفة ميناء “بندر عباس”، جنوب إيران([20]).
يتزامن مع هذه التحركات دخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية على خط التهدئة وتحريك جمود المشهد التفاوضي بشأن الاتفاق النووي الإيراني؛ حيث صرح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافائيل جروسي”، في 9 سبتمبر 2024، أنه يرغب في التفاوض مع إيران بدون توجيه أي تهديدات فيما يتعلق بالنزاع النووي([21]). وبالتالي، يبدو أن واشنطن وبعض الأطراف الأوروبية تعوّل على الدور الإيراني في الضغط على حزب الله لعدم التصعيد إلى مواجهة شاملة، ويأتي في هذا السياق ما صرح به المرشد الإيراني علي خامنئي، في 8 سبتمبر 2024، في أثناء استقباله وفدًا من أهالي القتلى في إحدى المحافظات الإيرانية، والذي اعتبره البعض بمثابة فتوى لتهيئة الأجواء لدى الوكلاء الإيرانيين بما أسماه “الانسحاب التكتيكي” حيث أوضح قائلًا: “لا ضرر من «الانسحاب التكتيكي» ضد إسرائيل أحيانًا، فهذا الأمر يمكن تطبيقه لا فقط في المجال العسكري، ولكن أيضًا في المجال السياسي”([22]).
ومن ثَمّ يعزز من فرص استمرار هذا السيناريو متغير الردع المتبادل بين الجانبين، وكلفة الأضرار المتوقعة في حال توسع رقعة التصعيد بينهما، خاصة في ظل جبهة الإسناد التي تحاول جبهات المقاومة وفق مبدأ “وحدة الساحات” توفيرها في الوقت الراهن لدعم قدرات الردع لحزب الله من أجل رفع كلفة الأضرار لسيناريو التصعيد الإسرائيلي واسع النطاق ضد حزب الله، وينعكس ذلك بشكل واضح في الضربة الصاروخية لجماعة الحوثي اليمنية، التي أثرّت بدرجة أو بأخرى في حسابات معادلة الردع لصالح جبهات المواجهة، وشكلت قيدًا على تل أبيب لتوسيع رقعة التصعيد نحو مواجهة متعددة الجبهات بقدرات ردع لم تتمكن القوة العسكرية الإسرائيلية حتى الآن من تحييدها بشكل كامل.
- التصعيد الإسرائيلي بجولة حرب خاطفة: تعكس عدد من المؤشرات إلى توجه إسرائيل نحو مرحلة جديدة من التصعيد قد تدفعها نحو القيام بجولة تصعيد خاطفة ليست على المستوى المحدود النطاق في إطار المناوشات التي تقوم بها بشكل شبه يومي، وإنما على نطاق أكثر اتساعًا من ناحية الاستهداف النوعي لبنك من الأهداف ذات الطبيعة الاستراتيجية بالنسبة لقدرات حزب الله على مستوى الأصول العسكرية من خلال الهجمات الجوية على نحو يُضعف بشكل كبير من قدراته على الردع، والتي قد تتطور بناءً على الموقف العملياتي إلى القيام بعملية توغل بري محدود لإقرار الواقع الجديد لحدود تل أبيب المشتركة مع لبنان، بحيث يتم فرض منطقة عازلة في الجنوب اللبناني، وفقًا للتصور المُشار إليه سلفًا، والذي أوصى به قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، أوري جوردين، والذي رأى في الانخفاض الراهن للوجود المدني (نحو 20% فقط من سكان المنطقة قبل السابع من أكتوبر لا يزالون فيها) أن يسمح للقوات الإسرائيلية بتنفيذ المناورة المقترحة([23]). وهو ما تزامن أيضًا مع قيام قائد اللواء 769 “حيرام” الإقليمي، آفي مارسيانو، في 15 سبتمبر 2024، بإلقاء منشورات على قرية الوزاني الجنوبية تدعو السكان إلى المغادرة([24]). هذا فضلًا عن شن إسرائيل ضمن سلسلة هجماتها في 21 سبتمبر 2024 عددًا من الغارات على مجرى نهر الليطاني في زوطر الشرقية.
وبالتالي قد يحفز من هذا السيناريو، التغير الملحوظ في قواعد الاشتباك الجديدة التي أقرتها تل أبيب، والمرتبطة بمسار الضغط العسكري الذي تتبعه في الوقت الراهن، والذي تستهدف من خلاله تحقيق هدفها المرتبط بتحييد أثر ضغط الجبهة الشمالية وإعادة النازحين، وهو ما أكد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 15 سبتمبر 2024، حيث أشار إلى الحاجة إلى تغيير ميزان القوى على الحدود الشمالية، متعهدًا باستعادة الأمن في تلك المنطقة لعودة النازحين([25]). وفي 17 سبتمبر 2024، تم تضمين هدف السماح لسكان الشمال بالعودة إلى منازلهم بموجب قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر (الكابينت) ضمن أهداف الحرب الرسمية([26]). ليعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 20 سبتمبر 2024، في أعقاب الإعلان عن اغتيال قيادات كبيرة في حزب الله وخاصة في فرقة الرضوان، بأن تسلسل العمليات في المرحلة الجديدة سيستمر حتى نحقق هدفنا “إعادة سكان الشمال إلى منازلهم آمنين”([27]).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تأكيد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير ردًا على اختراقات أجهزة (بيجرز) أن تعطيل تحقيق الهدف الإسرائيلي يمثل إحدى الركائز الأساسية لاستراتيجية ضغط الحزب ضد تل أبيب، للذهاب إلى صفقة تفاوض مع حركة حماس، دفع تل أبيب لرفع مستوى الضغط العسكري وتغيير قواعد الاشتباك بحيث لم تعد فقط تستهدف تثبيت قدرات توازن الردع بين الجانبين، وإنما تعزيز معادلة الضعف لدى الحزب للإذعان للمطالب الإسرائيلية المرتبطة بتشكيل واقع جديد لحدودها الشمالية، والوصول إلى أقصى نقطة ضغط تعكس رسالة ردع باستعدادها فتح مواجهة واسعة مع حزب الله، وليس مجرد مناورة لفرض مستوى محدود من الضغط في إطار معادلات تثبيت الردع. وفي الوقت ذاته تعمل على تعزيز مشروعية تصعيدها تحسبًا لأي ضغوط دولية، خاصة في العمليات التي تعلن عن تبنيها، بحيث لا تكون هي من أطلقت الشرارة الأولى للحرب الواسعة، وذلك عبر الاستهداف الانتقائي لأهداف عسكرية، على غرار الاستهدافات التي قامت بها في 20 سبتمبر 2024 لقيادات وعناصر فرقة الرضوان المسئولة عن الحدود المشتركة بين الجانبين، ومنها قيادات عسكرية مطلوبة لدى واشنطن، على نحو يخفف من وطأة الضغط الأمريكي ضد هذه الاستهدافات التي تزيد من حدة التصعيد الراهن واحتمالية انزلاقه لحرب شاملة لا ترغبها واشنطن، وهو ما يمكن ملاحظته في تصريحات المسئولين الأمريكيين في التعقيب على العمليات.
ورغم كون فرص هذا السيناريو تظل قائمة في إطار التصعيد الحادث، والذي تطور ليصبح دون الحرب الواسعة ودون المناطق الرمادية للصراع، فإنه على ما يبدو هناك تعويل أمريكي على احتمالية أن يلجأ الطرفان لمسار التسوية السياسية عبر المسار الدبلوماسي الذي ترعاه، خاصة في ظل التكلفة المرتفعة من حجم الخسائر المتوقعة بين أطراف التصعيد، التي ينطوي عليها هذا السيناريو، والحادثة في الوقت الراهن عبر الضغط العسكري الإسرائيلي بالاستهدافات النوعية لقيادات حزب الله وبعض أصوله العسكرية، هذا فضلًا عن حسابات الحزب بشأن جبهات الدعم وخاصة إيران التي لا يبدو أنها ترغب في الانخراط في مواجهة واسعة مع واشنطن، بالإضافة إلى الموقف الأمريكي في حال وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي سيعزز موقف إسرائيل بتوسيع المواجهة، وهي حسابات جميعها تجعل حزب الله في إطار معادلة ضعف تهدد بقاءه، وهو ما تعوّل عليه تل أبيب.
وعلى الجانب الإسرائيلي، سيشكل الردع ذهابًا إلى هذا السيناريو الخسائر التي ستُمنى بها إذا وسع حزب الله نطاق استهدافاته، وبدأت جبهات الإسناد في توجيه الدعم، خاصة وإن تل أبيب أضعفت قدرات هذه الجبهات، ولكن لم تتمكن من تحييدها بالشكل الكامل، حيث لا يزال حزب الله لديه القدرة على فرض الضغط فيما يتعلق بعرقلة عودة النازحين الإسرائيليين للشمال، إلى جانب إرسال رسائل عبر هجماته الأخيرة بالقدرة على الوصول للعمق وإحداث الأضرار. وبالتالي، لا يزال هناك تكلفة ستتحملها تل أبيب على نحو قد يُعيد لأذهان العديد من الإسرائيليين ذكريات المحاولة الأخيرة التي قامت بها لإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان، والتي استمرت من عام 1985 حتى عام 2000، عندما سحبت الحكومة قواتها تحت ضغط شعبي مكثف.
- توسيع رقعة التصعيد إلى مواجهة شاملة: يعد هذا السيناريو الأكثر تشاؤمًا، إلا أنه يظل قائمًا في ظل سيولة المشهد الراهن بشأن مواقف أطراف الأزمة وضيق مساحات المسار السياسي لصالح العمل العسكري وفق السيناريو السابق الذي يدعمه الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، والذي يخل بدوره بمعادلة توازن الردع بين الجانبين، على نحو يدفع حزب الله لإعادة التوازن عبر تطوير تصعيده الراهن من خلال توسيع نطاقات استهدفاته، وهو ما انعكس في الهجمات المكثفة التي قام بها في صباح يوم 22 سبتمبر 2024، وذلك في إطار الرد على الاستهدافات الإسرائيلية؛ حيث استهدف عددًا من مناطق العمق الإسرائيلي، دون الإعلان عن وقوع خسائر بشرية ناتجة عن الاستهداف، حتى وقت كتابة هذا التقرير.
ورغم كون هذه الهجمات عكست حرصًا من جانب حزب الله على مراعاة قواعد الاشتباك التي جاءت متمثلة في استهداف المنشآت العسكرية وليست المدنية (رغم القدرة على الوصول) بالإضافة إلى عدم وقوع خسائر بشرية، وكذلك تأكيد مشروعية الضربة في إطار بيانه الذي أوضح أنها تأتي في إطار الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي استهدفت مختلف المناطق اللبنانية، والتي أدت إلى سقوط العديد من المدنيين. إلا أن هذه التطورات المتصاعدة قد تدفع الأمور نحو منزلق خطر في حال قامت تل أبيب بتوسيع استهدافاتها التي قد تسفر عن زيادة في أعداد الضحايا خاصة في صفوف المدنيين، وهو ما سيستوجب معه ردًا مضادًّا من جانب الحزب؛ نظرًا لصعوبة العودة للتهدئة إذا ما انطلقت الأعمال العسكرية بنطاقها الواسع، حيث سيكون مُطالبًا من كل طرف إبراز قدراته العسكرية على حسم المعركة لصالحه وفرض رؤيته للحل، في إطار جولة تصعيد صفرية.
وفي هذا الإطار قد تعتمد تل أبيب على مظلة “الردع الممتد” التي تؤمنها الولايات المتحدة الأمريكية لتخفيف حدة الهجمات المحتملة من جبهات الإسناد المتعددة في حال ذهابها إلى هذا السيناريو، إلا أن هذا التعويل الإسرائيلي على الدعم الأمريكي سيظل مقيدًا، خاصة في ضوء الرسائل التي كانت أرسلتها واشنطن بشكل غير مباشر لتل أبيب، في يونيو الماضي، بعدم قدرتها على التعامل مع كل هذه الجبهات المحتمل انخراطها في هذه المواجهة الشاملة إذا ما اندلعت، حيث كان قد صرح رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، سي كيو براون، أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على الأرجح على مساعدة إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حرب أوسع نطاقًا ضد “حزب الله”، مضيفًا أنه من الأصعب صد الصواريخ الأقصر مدى، التي يطلقها حزب الله بشكل روتيني عبر الحدود على الإسرائيليين([28]). هذا فضلًا عن قيام واشنطن بالتخفيف النسبي لوجودها العسكري بالمنطقة على النحو المُشار إليه سلفًا، رغم عودتها للإعلان عن نيتها إعادة نشر قطع حربية جديدة في شرق المتوسط خلال الأسبوع الجاري. وبالتالي قد تساعد هذه العوامل في كبح جماح تل أبيب للنزوع نحو هذا التصعيد الشامل الذي قد يجر واشنطن لمواجهة مباشرة مع إيران إذا ما تطورت الأحداث، وهو ما لا ترغب فيه الإدارة الأمريكية الراهنة لاعتبارات مُشار إليها سلفًا، ليس أهمها ظرف الانتخابات الرئاسية، ولكن اعتبارات ترتبط بشكل أساسي باستراتيجيتها العامة لإدارة أصولها العسكرية في مواجهة نفوذ الخصوم بالمناطق الجغرافية المختلفة.
ختامًا، يمكن القول إن حالة عدم اليقين التي تعتري مشهد التصعيد الراهن، خاصة فيما يتعلق بمواقف أطراف النزاع، تجعل مسارات التصعيد المحتملة مفتوحة على كافة السيناريوهات السابقة، إلا أن المؤكد واليقيني في مواقف هذه الأطراف هو الإدراك المتزايد لديها بفداحة الخسائر المتوقعة التي سيُمنى بها كل طرف؛ وهو ما تعوّل عليه الأطراف الدولية والإقليمية في الوقت الراهن بحيث يكون ذلك هو الرادع للذهاب إلى سيناريو التصعيد الشامل الصفري، وأن يُغلّب مبدأ الرشادة والعقلانية في اتخاذ قرارات مصيرية سيكون لها تداعياتها الكارثية، ليس فقط على أطراف النزاع ولكن على استقرار المنطقة بأكملها.