أصبح الحشد الشعبي علامة مميزة في تاريخ العراق وقد بيّن الصفات النبيلة التي يحملها الشعب العراقي كالنخوة والغيرة والشجاعة والتضحية فضلاً عن الإيمان والعقيدة الراسخة ، هذه الصفات التي طالما حاول أعداء العراق أن يثبت أنها غير متوفرة في أبناء الشعب العراقي ، وللأسف صدّق العراقيون هذا الافتراء قبل غيرهم بحيث أصبحوا لا يثقون بقدرة أنفسهم على القيام بأي عمل نافع ومفيد ، وأصبح الفرد العراقي ينظر الى نفسه بدونية مقارنة مع باقي الشعوب وكأنه من جنس آخر أو بمرتبة أدنى من الآخرين ، لا وفق الله كل من زرع هذه الثقافة بعقول أبناء هذا الشعب .
على كل حال فإن متطوعي الحشد الشعبي أثبتوا طاعة وولاء مطلقين لقياداتهم الدينية بحيث أن البعض لم يفكر حتى في كون هذا الجهاد جاء نتيجة دعوة أو فتوى من قبل المرجعية ، لأن ما حدث بسبب سقوط الموصل وتوغل الدواعش لم يعطِ مجالاً للتدقيق في ذلك أو حتى التفكير به ، وهذا الاندفاع والإيثار كشفا عن من يمسك بخيوط الإصلاح في العراق ، فتطوع عشرات الآلاف من المؤمنين لدعم الجيش العراقي وإيقاف الزحف الداعشي ضمن فصائل وأفواج وسرايا وكتائب لا يكون إلا بقيادة وطاعة من قبل أولئك المتطوعين الذين تركوا الأولاد والأزواج والأموال والذين لم يفكروا براتب أو منصب بل أصروا على يبقوا في الميدان لحماية مقدسات العراق وابنائه وحرائره ، هذا فضلاً عن الدعم الشعبي والدعم الإعلامي المنقطع النظير الذي لم ينله حتى الجيش العراقي والدعم المالي والتبرعات العينية والمعنوية .
هذه العلاقة بين القيادة والقاعدة لا بد من استثمارها في مجالات أخرى وعلى كل الأصعدة ، فداعش كفكر تخريبي إرهابي إفسادي لم يكن وجوده مقتصراً على الموصل والأنبار وبعض المناطق العراقية في تكريت وديالى ، بل هو موجود في الساحة السياسية (حكومة وبرلماناً وأحزاباً ومسؤولين محليين) وموجود على الساحة الاقتصادية والمالية والموازنة العامة ومن هو مسؤول عنها ، والقضاء الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويحكم وفق المحسوبية ، وموجود على الساحة الاجتماعية في العشائر وقوانينها الفاسدة والجامعات وما يتخللها من حالات غير لائقة وغير شرعية والشباب ما يمارسوه من عادات بذيئة وتقليد للغرب وانحرافات وشذوذ جنسية ، والجانب الديني ليس عن الفساد ببعيد فالانحراف الفكري أصبح من المسلمات وظهور حالات الإلحاد العلنية على مواقع التواصل الاجتماعي وإدعاءات مهدوية باطلة أضلت المؤمنين السفهاء الجهلة وشوهت عقيدتهم .
لذا فنحن بحاجة الى ثورة إصلاحية شاملة تقودها نفس القيادة التي حرّكت الحشد الشعبي وينفذها نفس الذين تحشدوا لمقاتلة داعش ومن وقف معهم ودعمهم مادياً ومعنوياً ، فداعش مهما كان خطرها عظيماً يمكن أن نسيطر عليها بتكاتف أبناء هذا البلد وقيادتهم قيادة صحيحة وصالحة ، أما الفساد الذي ذكرناه والذي أصبح متجذراً في ثقافة أبناء الشعب العراقي فمعالجته أمر في غاية الصعوبة خاصة مع وجود منافذ إفسادية مستمرة .
إن وجود جذور الفساد في مؤسسات الدولة الرسمية المدنية والعسكرية هو الذي فسح المجال لملئ الساحة بالسياسيين الفاسدين كما سمح لملئ المناصب العسكرية الحساسة بالقيادات الميدانية الفاسدة ، ونتيجة للفساد في كلتا المؤسستين (السياسية والعسكرية) سقطت الموصل بيد داعش التي كانت مسيطرة على الأنبار من قبل الموصل ، وراح ضحية هذا السقوط آلاف الشهداء والجرحى واليتامى والأرامل والنازحين ، وأزمة اقتصادية خانقة انعكست بشكل مباشر على المواطن ، وأصبح الفكر الداعشي يعيش بين أفراد أبناء المناطق السنية مما أدى الى مضاعفة أزمة الثقة بين مكونات الشعب العراقي ، وتسبب هذا السقوط بتلف آثار العراق التي تعكس حضارته ، وتوقف حركة الاقتصاد والعمل في المناطق المحتلة مما أدى الى ظهور كارثة إنسانية واقتصادية .
هذا يعني أن القضاء على داعش من قبل أبطال القوات الأمنية والحشد الشعبي سوف يقضي على ثمرة الفساد فقط ، وبالتالي فإن الفساد على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الديني سيولد داعشاً آخراً ولكن بإسم ثانٍ ، فالمتتبع يعلم جيداً أن تنظيم القاعدة كان هو المستحوذ على قيادة الإرهاب في العالم عموماً ومنه العراق ، فصار داعش الوريث الحقيقي لذلك التنظيم المجرم ، فإذا قضي على داعش سنجد الدول المتنفذة قد حضّرت لنا تنظيماً إرهابياً آخراً لأن الأرض مهيأة لاستقطاب ونمو مثل هذه التنظيمات بسبب الفساد المستشري والتي فشلت في التوغل في كثير من البلدان ، وعلى هذا الأساس فإن من الحكمة أن نقضي على رأس الأفعى ونقتلع جذور تلك الحركات وهي الفساد بكل فروعه حتى ننعم ببلد ومجتمع آمنين .
ومن هنا نعلم حجم التحدي الملقى على عاتقنا قيادات وأفراد مرجعيات وسياسيين ونخب ومثقفين وإعلام ومؤسسات مجتمع مدني ، فما قام به متطوعو الحشد الشعبي ومن يدعمهم ويساندهم يكاد يكون يسيراً بما هو مطلوب ، وهذا دور القيادات الدينية وعلى رأسها المرجعية الدينية في توضيح حجم المسؤولية المناطة بنا ، ونأمل أن نسمع بدعوة من المرجعية الدينية مشابهة لتلك التي أطلقتها لتحشيد المؤمنين لمحاربة داعش والقضاء عليها ، هذه المرة الدعوة لتحشيد المؤمنين لمقاتلة الداعشيين الفاسدين والمفسدين في دوائر الدولة وفي المجتمع وإصلاح كل ما هو فاسد ، وكما في الحديث ( صنفان من أمتي أن صلحا صلحت أمتي وإن فسدا فسدت أمتي ، الفقهاء والأمراء ) ، فالقيادة الصالحة نجد ثمارها في المجتمع الصالح .
أما من يعتقد أن المهمة صعبة جداً فهذا يشكك في إمكانية المرجعية من القيام بهذا العمل ، كما إنه يشكك في دورها في تحشيد الحشد الشعبي وإعطائه زخماً روحياً مكنه من صنع البطولات ابتداءً بـ(آمرلي) و (جرف النصر) و (تكريت) و (ديالى) وإن شاء الله القائمة تطول وتنتهي بتحرير الموصل والقضاء على داعش وإخراجه من العراق نهائياً .