محمد محفوظ
من الطبيعي القول: أن تاريخ العلاقة بين أهل الأديان، عبر حقب التاريخ المديدة، يشكل بشكل أو بآخر عبئا حقيقيا على راهن العلاقة وآفاقها المستقبلية.
بمعنى أن الذاكرة التاريخية لدى أهل هذه الأديان، لا زالت تتوجس وتحذر من مفهوم الحوار والتواصل بين أهل الأديان اليوم.
من هنا ومن أجل إزالة رواسب التاريخ وتجاوز حقب الإلغاء والإقصاء المتبادلين، نحن بحاجة على صعيد الحوار بين الأديان، الانتقال من سياق الحوارات ذات الطبيعة اللاهوتية، التي لا تضيف إلا تأكيد كل طرف على أن مضامينه الدينية والفلسفية والروحية تتسع وتحترم الآخر المختلف في العقيدة والدين.
بينما الحاجة ماسة اليوم إلى الحوارات الثقافية، التي تعمل في اتجاهين في وقت واحد. الاتجاه الأول: هو تنقية الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي، من كل رواسب الحروب وعمليات الإقصاء. وهذا لا يتأتى إلا بحوارات ثقافية عميقة وصريحة، بحيث أن كل طرف، يمارس نقدا صريحا وعميقا لبنيته الثقافية على هذا الصعيد. وإنه آن الأوان لردم الفجوة على الصعيد الفكري والثقافي، بالمزيد من الحوارات التي تستهدف صياغة الوعي الجديد في طبيعة العلاقة مع ظاهرة التعددية الدينية.
والاتجاه الآخر: هو العمل على بناء حقائق ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، تنقل الحوار من بعده اللاهوتي المغلق إلى آفاق الإنسان فردا وجماعة من أجل المساهمة في خلق نظام إنساني–عالمي أكثر عدالة وحرية ومساواة.
وهذا يتطلب وعيا تواصليا، وحوارا حرا وشفافا من أجل بلورة كيفية الانخراط في مشروع الحداثة واستيعاب عناصرها الأساسية. فالحضارة وهي أعقد ظاهرة سوسيو–تاريخية خلقها الإنسان، لا يمكن حصرها في قوم أو أمة أو ثقافة، فهي نتاج تراكم تاريخي اشتركت جميع الثقافات والأمم والأقوام بنسب متفاوتة في خلقها وبناءها. فاليوم لا توجد حضارات متعاصرة، بل حضارة إنسانية واحدة، وبمقدار تقدم الأمم والشعوب في مختلف المستويات، يكون نصيبها وموقعها في الحضارة المعاصرة.
وإننا نعتقد أن العمل على اكتشاف وتظهير الينابيع الإنسانية العميقة لكل الأديان السماوية، سيساهم بشكل كبير في بلورة خيارات إنسانية أكثر عدلا ومساواة وحرية للبشرية جمعاء.
وإن كل محاولات الإنحباس دون البعد والروح الإنسانية، سيكلف البشرية الكثير من العناء والشقاء.
فالمجتمعات الإنسانية اليوم، تحتاج إلى الدين في بعده الإنساني والأخلاقي والروحي، وإن الانكفاء دون تجلية وتظهير هذه الأبعاد من الأديان السماوية، يعني المزيد من الحروب والصراعات المفتوحة، والدمار الذي يهدد الإنسان فردا وجماعة في أمنه وكرامته وضرورات عيشه.
لذلك فإن المهمة الأساس في مشروع حوار الأديان، ليس الدخول في نفق السجالات اللاهوتية والأيدلوجية، وإنما العمل على تظهير كل القيم الإنسانية والحضارية التي تختزنها الأديان السماوية، وإعمال العقل وإطلاق حرية التفكير من أجل بناء نظام علاقات بين مختلف المجموعات الدينية، على قاعدة العدل والحرية وحقوق الإنسان. فالانتماء الديني ليس مدعاة للانتقاص من حقوق الإنسان أو فرصة للتقليل من حقائق ومتطلبات العدل والحرية. فالحقوق مصانة للجميع، والفرص متاحة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو القومية.
فالتواصل بين المختلفين والمتغايرين دينيا، لا يتم عبر العقائد واللاهوت، وإنما عبر الثقافة التي تدفع جميع المكونات إلى الحوار والتفاهم ونسج المشتركات وتنميتها. لذلك نجد القرآن الحكيم، حينما يحثنا إلى الحوار والتواصل مع أهل الكتاب، يؤكد على كلمة سواء، وهي عبارة عن المشتركات والجوامع التي تجمعنا مع الآخرين. فالحوار لا يعني مغادرة موقعك الديني أو الفكري، وإنما يعني اكتشاف المساحات المشتركة والانطلاق للعمل معا منها.
وإننا هنا لا ننفي أهمية الحوارات الأيدلوجية واللاهوتية في تظهير المشتركات، وإنما ما نود قوله وتوضيحه إن الحوارات الثقافية المستديمة بين المختلفين والمتغايرين، هي البوابة السليمة للانخراط في مشروع الحوارات الأيدلوجية. فالحوارات الثقافية وما تخلقها من مشتركات وبيئة حاضنة ومؤاتية، هي التي تهيئ الأرضية لنجاح أي حوار ديني وأيدلوجي.
فالحوارات الثقافية هي القادرة على صياغة راهن العلاقة بين كل الثقافات والوجودات الاجتماعية على أسس العدالة والاحترام المتبادل. أما الحوارات الأيدلوجية فهي تستهدف بالدرجة الأولى التعريف المتبادل للعقائد وتظهير الجوامع المشتركة على هذا الصعيد. وعلى هذا فإن كل الحوارات بكل مستوياتها مطلوبة، إلا أن المدخل الإيجابي لكي تؤتي هذه الحوارات ثمارها الإيجابية، هي أن تبدأ الحوارات في بعدها الثقافي، وذلك لتفكيك كل عقد الراهن، والانطلاق من خلو الراهن من عقد مستعصية إلى الحوارات في جوانبها وأبعادها الأخرى.
ولعل في الآية القرآنية التالية، إشارة إلى أن الجدل الأيدلوجي المجرد من طبيعته، أن يصر كل طرف على موقفه وقناعاته، دون التفكير في صناعة وتوسيع المساحات المشتركة. إذ يقول تبارك وتعالى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).
وبالتالي فإن نجاح الحوار في مختلف دوائره، ليست رغبة مجردة ومعطى مفصول عن التخطيط والإرادة والحكمة. بل هي عملية خلق متواصل لكل الحقائق والوقائع، التي تؤكد على التواصل والقبول بالتعددية وأسس العيش المشترك.
فالحوار هو من أجل إنقاذ الراهن من أمراض الظلم والاستبداد وسيطرة المادية المتوحشة، وبناء المستقبل بعيدا عن كل أسباب وموجبات الانحدار الأخلاقي والسياسي والروحي. و “ما يجب أن يكون مساهمة جوهرية في الوصول إلى الحوار بين الأديان إنما هو البحث في التاريخ الذي أدى في كل من التراثات إلى الموقف المعاصر من التعدد في الحقل الاجتماعي. إلى جانب التنبه المناسب للسؤال عن المقاييس التي نستخدمها بهذا الصدد في تحليل تاريخنا وتاريخ التراثات الأخرى، من المهم، للنجاح في هذا العمل، اتباع المراحل التالية:
في المرحلة الأولى يجب تعميق الاختبار في إيماننا وتفكيرنا، هذا الاختبار الذي نقوم به في الحوار مع تاريخنا الخاص وفي اللقاء مع الثقافات الأخرى. نستعمل لهذا مقاييس وشروطا معينة، يجدر التقيد بها عندما نعالج الأمور من الداخل، من تساؤلاتنا اللاهوتية. إنه إلى حد ما التوتر بين علم الأديان وربما أيضا الفلسفة من جهة، واللاهوت من جهة أخرى.
الناحية الثانية التي يجدر أن تستأثر باهتمامنا هي ناحية العلمنة. كل ما هو ممكن اليوم في عالمنا المتعدد بالنسبة إلى العيش معا بسلام، وحتى اجتماع من هذا النوع، لم يصر ممكنا إلا بفضل نظام حقوقي دولي نما مع ما ندعوه العلمانية، التي تحملنا، مع كل الاختلافات في المواقف، على الابتعاد عن محاربة أحدنا الآخر، بل ترغمنا على ذلك.
العنصر الثالث هو حرية الفكر، التي لا بد منها للتمكن من التفكير بالحقيقة في شروط محدودة. نملك في تراثنا الجامعات، التي يصح أن نصفها بأنها (أماكن حرية الفكر)، بما في ذلك اللاهوت كمادة جامعية “.
والعلمنة المطروحة في النص أعلاه، لا تعني الانحلال الأخلاقي واستغلال المرأة أو كل المظاهر المريبة اجتماعيا وأخلاقيا، وإنما تعني ضرورة وجود حيز حر من التفكير المتحرر من الخوف، وبناء علاقات اجتماعية وإنسانية على قاعدة المشترك الإنساني والوطني، وليس على قاعدة التمايز الديني أو العرقي أو ما أشبه ذلك. ولا يمكن تعميق أسس التفاهم المدني، إلا بشيوع وتعميق ثقافة الحرية وحقوق الإنسان والتسامح في الفضاء الاجتماعي والإنساني. فالثقافات المدنية تقتضي توسيع مساحة المشترك على قاعدة الحوار والحرية والأسئلة النقدية التي تساءل الواقع، وتعمل على فحصه وصولا إلى تظهير كل المضامين الحضارية والإنسانية للقيم والمبادئ والمثل العليا. لهذا يقول (أندراوس بشته) “إنه مهم جدا أن لا نعزل وضع جماعتنا الدينية والجماعات الدينية الأخرى لننظر إليها في ذاتها، بل يجب السعي إلى فهمها في الإطار الاجتماعي الثقافي الذي تحيا فيه، لمعرفة تطوراتها التاريخية. فهل نأخذ هذا الأمر بالاعتبار بشكل كافٍ أيضا في الحوار المسيحي–الإسلامي، وذلك بما نقوم به من جهود كبيرة للوصول إلى وصف تاريخي موضوعي، وتصحيحات مناسبة لتصور الآخر في كتب الدراسة وفي معطيات الثقافة العامة لشبيبة اليوم”.
فإعادة صوغ العلاقة بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى، على أسس العدالة ونبذ الظلم ومحاربة الاستئثار بكل صوره، سيساهم في إرساء معالم السلام في المشهد العالمي. وذلك لأنه (على حد تعبير عالم اللاهوت الألماني هانز كونج) “لن يكون هناك سلام بين الأمم ما لم يكن هناك سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان”.
إننا نعتقد بأهمية أن تتجه حوارات الأديان، إلى بيان وتعميق أسس التفاهم المدني بين البشر. فالقيم الدينية الكبرى في كل الأديان، تكون عامل إثراء وتعزيز لكل تفاهم وتعايش بين بني الإنسان. ولكي تكون الحوارات الدينية جسرا لتعميق أسس التفاهم المدني بين الأمم والمجتمعات الإنسانية، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1- ضرورة العمل على تفكيك كل الأنماط والتصورات النمطية التي يحملها كل طرف عن الآخر. فلا يمكن تطوير مستوى الحوار، وإيصاله إلى مستويات متقدمة من التفاهم المتبادل، إلا بخروج الجميع من كل التصورات الجامدة والنمطية، والتي تبلورت في عصور الصراع والجهل المتبادل. فالقوالب الذهنية والثقافية الجامدة والنمطية، هي أحد المعوقات الأساسية التي تحول دون تطور حوار الأديان في الحقبة الراهنة. والخروج من الرؤية النمطية، لا يعني نفي التاريخ أو تجاهل أحداثه وملابساته، وإنما خلق الوعي الذي يكفل للجميع عدم الخضوع لمقتضيات القول والرؤية النمطية، التي هي بشكل أو بآخر وليدة لحظة تاريخية ذات التباسات عديدة.
ولعلنا لسنا بحاجة إلى نبش التاريخ، لمعرفة المصادر التاريخية والدينية والاجتماعية، التي ساهمت في خلق الرؤية النمطية والجامدة تجاه الإسلام كدين والمسلمين كمجتمع وثقافة، وإنما الذي يهمنا في هذا الصدد هو: إن مقتضى الحوار بين الأديان، يتطلب الانعتاق من كل الصور والانطباعات والنماذج التاريخية، التي تشكلت بين أهل الأديان، وهي صور وانطباعات أقل ما يقال عنها أنها انتقائية ووليدة ظروف خاصة.
2- من الأهمية بمكان أن تخرج حوارات الأديان، من طابع السجالات الأيدلوجية واللاهوتية، وتتجه بتركيز صوب البحث عن أشكال وصيغ التعايش بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى. إذ أن الحاجة الإنسانية الملحة اليوم، هي الوصول إلى صيغ للتفاهم والتعايش بين مختلف المكونات والتعبيرات.
وإن المؤتمرات والحوارات ينبغي أن تلتفت إلى هذه الحاجة، وتعمل عبر برامجها وأطرها المختلفة، للبحث العميق والمتواصل في صيغ تتجاوز فيها البشرية، خطر التعصب والإرهاب، وتؤسس لحالة إنسانية جديدة، قوامها التعايش على قاعدة الاحترام المتبادل.
و”إن قوة الاتصالات بالعالم المعاصر، ستفتح آفاقا وإمكانات عريضة لإدراك التقاليد الدينية المغايرة، الأمر الذي يجعل حوار الإسلام الجدي مع الديانات الأخرى في منتهى الأهمية والضرورة. ولهذا فإن مفكري الشرق الدينيين الأكثر عمقا وإطلاعا يدركون بصورة أكبر فأكبر، أن بلوغ تدين أكثر ملاءمة واتساقا مع الظروف العصرية الراهنة، يمكن أن يحدث فقط في شروط تؤمن التحرر من الكراهية الطائفية والشعور بالتفوق والتميز”.
3- لكي تمارس الأديان دورها ووظيفتها في دعم قيم السلام والوئام والتنمية في المجتمعات الإنسانية، من الضروري الاهتمام بالبعد الروحي للأديان، والعمل على إبراز هذا الجانب، وكل التجارب الروحية للأفراد. وذلك لأن هذه التجارب، والقيم الروحية التي تقف وراءها، تساهم بشكل أساسي في تصحيح العديد من التصرفات والممارسات، وتضبط نزعات الاستئثار والميل نحو استخدام القوة الغاشمة ضد المختلف والمغاير.
إننا ومن أجل إثراء الواقع الإنساني، بحاجة إلى تجلية البعد الروحي للأديان السماوية. وذلك من أجل أن تمارس هذه القيم دورها ووظيفتها في الفضاء الإنساني بكل مستوياته ودوائره.
وجماع القول: إننا نعتقد وبشكل عميق أن الاهتمام بحوار الأديان وتطوير موضوعاته ونقلها، من حقل الأيدولوجيا واللاهوت إلى حقل الثقافة والإنسان، سيساهم في رفد الإنسانية جمعاء بالكثير من القيم والمبادئ والتجارب الروحية، التي تحد من غلواء وتوحش المادة، وصولا إلى بناء إنساني أكثر توازنا وبعدا عن نزعات الطغيان والاستبداد والهيمنة.
رابط المصدر: