د. عبد الحسين شعبان
حين تندرج مسألة الحوار العربي- الكردي في برنامج عمل جامعتي بغداد وكويسنجق، فهذا يعني وجود ضرورة وحاجة لبحث هذا الموضوع في إطار أكاديمي، خصوصاً حين يتصدّره عنوان آخر يتسم بفكرة أكثر عمومية هي”المثقف ومسألة التعايش”.
وكان سمو الأمير الحسن بن طلال مؤسس “منتدى الفكر العربي” وراعيه أطلق دعوة لحوار عربي – كردي ضم مثقفين وأكاديميين وناشطين من المجتمع المدني من العرب والكرد في حلقة نقاشية في عمان العام الماضي (1 آذار /مارس/2018)، وأعقبها بمبادرة لحوار أعمدة الأمة الأربعة، وقصد بذلك العرب والكرد والفرس والترك، تلك التي التأمت في عمان 22/7/2018.
وعلى هامش ذلك كان هناك مبادرات عديدة منها في تونس حيث انعقدت دورة لحوار مثقفي الأمم الأربعة 23 – 25 كانون الأول (ديسمبر) 2016 (بدعوة من المعهد العربي للديمقراطية) وفي بيروت لتأسيس منتدى التكامل الإقليمي بعد لقاءات ومشاورات.
وكان هدف جميع تلك المبادرات والأنشطة تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء لتكوين تصوّر عام بما يساعد التقارب والتفاهم والتعاون وصولاً إلى ” تعظيم الجوامع” وتعزيزها و”تقليص الفوارق” واحترامها، وخصوصاً لتجسير الفجوة بين أصحاب القرار والسياسيين والمعنيين بالشأن العام بمختلف مواقعهم من جهة، والمثقفين والأكاديميين والمفكرين من جهة أخرى.
إن الحاجة للتغيير والتنمية الحقيقة الشاملة تكمن في الحوار الجاد والمسؤول وتذليل المصاعب والعقبات التي تعترض طريقه، فالحوار ليس اختياراً فحسب بل هو ضرورة لا غنى عنها للتفاهم وصولاً إلى التعاون لما فيه مصلحة جميع الأطراف، خصوصاً حين يتم حلّ الإشكالات والمشكلات بروح إيجابية وسلمية، لأن بقاءها واستمرارها سيؤدي إلى التباعد والاحتراب، بما يمكن أن يؤثر سلباً أو إيجاباً على دول الإقليم وعلى العلاقة التاريخية التي تربط شعوبه.
لم نجتمع هنا كفريقين يعرض كل منهما رأيه، لكي يتشبث به في إطار منافسة أو مناكفة، وإنما نجتمع كمثقفين تجمعنا هموم مشتركة، وهذا ما افترضه، دون أن يعني ذلك عدم وجود اختلاف بيننا حول التاريخ والحاضر وحول المستقبل، وهذا أمر طبيعي لا بدّ من الإقرار به، لأننا من مناشئ مختلفة ونحمل أفكاراً متنوّعة ولدينا تقديرات متباينة للمشاكل والحلول المطروحة أيضاً، وهو ما ينبغي الإقرار به واحترامه، مع تأكيد المشتركات الإنسانية الجامعة، وهي الأساس في العلاقات العربية – الكردية، وينبغي أن تكون كذلك في علاقات دول الإقليم مع بعضها.
إن شعوب المنطقة جميعها تتطلّع إلى تحقيق مصيرها في تنمية مستدامة قوامها التحرّر والحرّية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، ولن يتحقق ذلك دون علاقات سليمة أساسها الأخوة وحسن الجوار والمنافع المتبادلة والمصالح المشتركة، وقد كان شعار اليسار العراقي منذ الثلاثينات ” على صخرة الأخوة العربية- الكردية تتحطم مؤامرات الاستعمار والرجعية”.
وإذا كانت الأمة العربية قد عانت من التقسيم الذي استهدف تفتيتها وتوزيعها على دول، بل وضع حواجز أمام اتحادها ووحدتها، فإن الأمة الكردية، هي الأخرى تعرّضت للتجزئة، حيث يتوزع الكرد على أربعة بلدان هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا. وكلا الأمّتين العربية والكردية، تعرضتا إلى مؤامرة سرّية نفذتها الدول الإمبريالية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تم توقيع اتفاقية سايكس – بيكو من وراء ظهر الأمتّين، العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وكانت في البداية قد انضمت إليها روسيا، لكنها أعلنت خروجها منها، معلنة رفضها الاتفاقيات السرّية بعد الثورة البلشفية العام 1917. وكانت تلك الاتفاقية التفافاً على الوعود التي أطلقها الحلفاء حين اندلعت ثورة الشريف حسين العام 1916، بمنح العرب الاستقلال وتأسيس دولة عربية موحّدة، مثلما كانت اتفاقية لوزان العام 1923 قد سوّفت اتفاقية سيفر العام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد.
وإذا كان حق تقرير المصير كمبدأ قانوني وسياسي معترفاً به من جانب ميثاق الأمم المتحدة وتقرّه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يبقى هدفاً للأمتين العريقتين، ويعتمد تطبيقه في كل بلد على علاقة الأطراف والقوى السياسية ودرجة التفاهم والتعاون فيما بينها وصولاً لتحقيق الأهداف المشتركة، بل والمصائر المشتركة، مع الأخذ بنظر الاعتبار التحدّيات والمخاطر التي تواجه المنطقة من جانب أعدائها والمتربصين بها وفي مقدمتهم “إسرائيل”، التي تستغل الخلافات والمواقف المتعارضة أحياناً بين العرب والكرد لتزيد من تأجيج الصراع وبث روح الكراهية والاحتراب، خصوصاً في ظروف ضعف الثقة والتقاطعات الحاصلة في المواقف، وهو ما ينبغي أن يوضع في أية استراتيجية خاصة للوصول إلى الأهداف المشتركة.
وأستطيع القول أن اللجوء إلى العنف والوسائل العسكرية والحربية والمسلحة لإيجاد حلول للمشكلة الكردية فشلت جميعها، سواء من جانب الحكومات التي حاولت هضم حقوق الكرد العادلة والمشروعة والقضاء على الحركة الكردية، أم من جانب الحركة الكردية التي هي الأخرى لجأت إلى السلاح والعنف، حتى وإن كان الأمر اضطراراً، وهو ما تحاول بعض الأطراف الإقليمية والدولية دفعها إليه بزعم أنه الطريق الأقصر لنيل حقوقها، لكن العنف والوسائل العسكرية لم توصل جميع الأطراف لنيل غاياتها بقدر ما ساهمت في تعقيد المواقف، خصوصاً وأن تداخلات القوى الخارجية كانت لها بالمرصاد، وقد وجد أعداء الأمتين العربية والكردية فرصاً مناسبة لإضعافها واستغلال الصراع بما يحرفه عن وجهته الأساسية.
ولهذا السبب ولأسباب أخرى موضوعية، ولاسيّما ما يربط العرب والكرد من ديانة وتاريخ وجغرافيا وتواصل حضاري واجتماعي وثقافي وأسري، ناهيك عن المصالح المشتركة والجامعة بينهما منذ مئات السنين، والتي لم تشهد حروباً أو تطاحنات حادة منذ الفتح الإسلامي وحتى قيام الدولة العراقية الحديثة العام 1921، لا بدّ من اعتماد الحوار وسيلة أساسية لحلول دائمة وراسخة وعادلة على أساس ” حق تقرير المصير” والبحث عن صيغ مناسبة لتطبيقه على صعيد قانوني ودستوري وانسجاماً مع التطور الدولي.
جدير بالذكر أن مثل هذه الدعوة التي كانت الريادة فيها للحركة الشيوعية منذ العام 1935 وفي الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العام 1956 تبلورت فكرة ” الاستقلال الذاتي” في إطار بحث مشروع عن الهويّة والوحدة القومية وصولاً إلى ” الحكم الذاتي” في مطلع الستينات، بحيث أصبح شعار ” الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان” شعاراً واسعاً، فالفيدرالية في مطلع التسعينات، حيث بدأت تقتنع بها أطرافاً عديدة من الحركة السياسية العراقية، ومنذ العام 1992 تبنّت المعارضة في الخارج فكرة الفيدرالية تطويراً لفكرة “الحكم الذاتي” وهو ما تم إقراره في الدستور الدائم العام 2005 (بعد الاحتلال).
وكان أول دستور عراقي يعترف بشراكة العرب والأكراد هو دستور العام 1958. أما دستور العام 1970 فقد كان أكثر تطوّراً منه حين اعترف بوجود قوميتين رئيسيتين في العراق، وذلك بعد بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 وعلى أساسه صيغ قانون الحكم الذاتي العام 1974، ولكن للأسف فقد اندلع القتال واستمر لنحو عام ولم يتوقف حتى توقيع اتفاقية الجزائر في 6 آذار (مارس) العام 1975 بين نائب الرئيس العراقي صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي، حيث استمر بعدها مسلسل القمع والاضطهاد وارتفعت وتيرته خلال الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980- 1988، كما شهدت حملات تهجير واسعة شملت عشرات الألوف من الكرد الفيلية ومما يسمى “بالتبعية الإيرانية”.
وكان قصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيمياوي وغاز الخردل 16-17 /آذار /مارس 1988، حيث أصيب نحو 5 آلاف مواطن كردي فقد الكثير منهم حياته في الحال، قد استدعى من الحركة الحقوقية الدولية الإدانة رغم ضبابية الموقف، الأمر الذي انعقد على إثره مؤتمر باريس العام 1989 الذي طالب بوضع حدٍّ لاستخدام الأسلحة الكيمياوية المحرّمة دولياً، ثم أصبح “نزع أسلحة العراق” للدمار الشامل مادة مكررة في القرارات الدولية لمجلس الأمن ونظام العقوبات الذي اتُبع منذ غزو الكويت في 2 آب/أغسطس العام 1992 ولغاية احتلال العراق العام 2003.
ولعلّ من تداعيات مغامرة غزو الكويت صدور قرار مجلس الدولي رقم 688 في 5 /نيسان/ أبريل 1991، الذي أكّد احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرّض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، وذلك بالترافق مع مشاهد الهجرة الجماعية للكرد إلى الحدود باتجاه تركيا وإيران بعد هزيمة القوات العراقية وانسحابها من الكويت، حيث توجّهت بعض هذه القوات، ولاسيّما بعد اجتماع خيمة صفوان لقمع الهبّة الشعبية التي اندلعت في كردستان والتي أشعل شرارتها الأولى محافظات الجنوب والفرات الأوسط.
ويشكّل هذا التاريخ عودة القضية الكردية ثانية إلى الأروقة الدولية منذ الالتفاف على معاهدة سيفر الصادرة في العام 1920، والتي اعترفت بجزء من حقوق الشعب الكردي، بإبرام معاهدة لوزان العام 1923، وهكذا بدأ مسلسل جديد للقضية الكردية ولعلاقة العرب بالأكراد.
وأتذكّر أننا نظّمنا حواراً بذات الصفة التي نجتمع فيها اليوم ” الحوار العربي- الكردي” في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن العام 1992 وبكل تواضع كان “العبد الفقير” يتولى رئاستها وهو من دعا إلى ذلك، وعلى ما أعتقد كان ذلك أول حوار عربي – كردي قد حصل على صعيد النخب الفكرية والثقافية حين اجتمع 50 مثقفاً عربياً وكردياً ليناقشوا بعض إشكاليات العلاقة بعقل منفتح وأجواء حرّة: المواطنة، الحكم الذاتي، الفيدرالية، الكونفدرالية، حق تقرير المصير، مستقبل قيام دولة أو أكثر، ما هي الالتزامات المتبادلة والحلول المطروحة والعقبات والكوابح؟
وكان من المفترض عقد دورة ثانية، لكن اندلاع القتال الكردي – الكردي الذي استمر نحو 4 سنوات (1994-1998) حال دون ذلك، وما إن توقف القتال حتى استضافت القاهرة مثل هذا الحوار العام 1998، حضره شخصيات مصرية مرموقة مثل أحمد حمروش ومحمد فايق وسعد الدين ابراهيم وحلمي شعراوي ومحمد السيد سعيد، وكذلك شخصيات كردية وازنة مثل جلال الطالباني وفؤاد معصوم وسامي عبد الرحمن وهوشيار زيباري ومحسن دزئي ومحمود عثمان ولطيف رشيد وعدنان المفتي وعادل مراد وعمر بوتاني وعزيز محمد وبهاء الدين نوري وعبد الخالق زنكنة ويوسف حنا القس لكن الحضور العربي العراقي كان ضعيفاً، وهو أقرب إلى الحضور البروتوكولي، ولم يشارك كرد سوريا وإيران وتركيا، كما لم تكن هناك مشاركة عربية أخرى، وهي الملاحظة التي أعيدها الآن أيضاً.
وكان من المفترض انعقاد دورة ثالثة موسّعة للحوار العربي – الكردي في العام 2001 بحضور نحو 150 شخصية عربية وكردية تمثل فاعليات وأنشطة فكرية وثقافية وحقوقية وسياسية متنوّعة، لكنّ بعض الخلافات والملابسات حالت دون ذلك، ثم جرت محاولات لاحقة لعقد بعض اللقاءات ذات الطابع السياسي في كل من السليمانية وإربيل ومن بينها انعقاد مؤتمر في النجف العام 2013، لكنها جميعها لم ترتقي إلى مأسسة الحوار ووضع مرجعيات له.
وقد نشأت لاحقاً جمعيات للصداقة العربية – الكردية ونظمت لقاءات وفعاليات عامة، ولكن إشكالية العلاقة والتباساتها ظلّت قائمة وتحتاج إلى ديناميكية وحيوية يمكن للمثقفين أن يسهموا فيها لاجتراح حلول ومعالجات أساسها بناء جسور الثقة والتفاهم.
أعتقد أننا بحاجة إلى حوار معرفي وثقافي وفكري على جميع المستويات بحيث يمكن أن يبلور رؤية جديدة تنطلق من الصراحة والكاشفة والنقد والنقد الذاتي، خصوصاً بقبول الآخر والاعتراف بحقوقه بما فيها الحق في الاختلاف. ويحتاج مثل هذا الحوار إلى توسيع ليضم فاعلين سياسيين من العرب والكرد وشخصيات وازنة من المثقفين العرب، كما يمكن أن يأخذ صيغة مؤسسية وفقاً لآلية يعتمدها وينفّذها في إطار برنامج للتعاون مع مؤسسات أخرى شقيقة وصديقة، يمكن الاستفادة منها من جانب جميع الأطراف، للقناعة بأهمية المشتركات الإنسانية، لاسيّما بعد أن أصاب التصدّع بعض جوانب العلاقات العربية- الكردية، بعد الاستفتاء الكردي في 25 أيلول /سبتمبر الماضي 2017، وللرغبة في إدامة التواصل والتفاعل والتفاهم والتعاون لتجاوز بعض العقبات والعثرات التي واجهت التجربة الفتية، والتي تحتاج إلى تنازلات متقابلة وحلول وطنية مدعومة عربية، وحوار دائم ومستمر لنزع الفتيل والبحث عن سبل للحلول السلمية بما يعزز وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبما يلبي في الوقت نفسه حقوق الكرد وطموحهم المشروع في تقرير المصير، بما يتناسب مع المصالح المشتركة والظروف الملموسة والأوضاع السائدة في دول الإقليم.
إن الهدف هو فتح قناة مستديمة للتواصل بحيث يكون مثل هذا الحوار مجساً من مجسّات العلاقة يمكن توسيعه وتطويره للتعرف الفعلي والمباشر: ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ الأمر الذي قد يذهب لوضع تفاصيل تتعلق بالثقافة والأدب والفن والتراث والتاريخ واللغة بما يقوي لحمة العلاقة ويعزز التفاعل، ويسهم في إيجاد الحلول السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للمشكلات القائمة، بل إيجاد فرص جديدة لبحث مستجدّات في هذه العلاقة التي لا يمكن إلّا أن تكون متكافئة وعلى أساس الاحترام المتبادل للخصوصيات في إطار الهوّية العامة الجامعة لعراق موحد وذو سيادة ويتّجه صوب التنمية.
ولعلّ من واجب الدولة، أي دولة تريد سلوك سبيل التطوّر الديمقراطي الحر والحقيقي، أن ترعى الهوّيات الفرعية وتمنحها القدر الكافي من التعبير عن نفسها بما تمثّله من طاقة وحيوية وحق مشروع وعادل في التعبير عن نفسها بالشكل الذي تريده وينسجم مع المصالح المشتركة.
إن العلاقة العربية – الكردية التاريخية لكي تنمو وتتطور لا بدّ لها من تجاوز بعض الإشكالات القائمة ولكي تستمر العلاقة وتأخذ مساراً صحيحاً ينبغي أن تقوم على أساس التكامل والتفاعل والتواصل والترابط، وليس الترابح والهيمنة والانفكاك والتفلّت، لأن ذلك سيلحق ضرراً بالعرب والكرد، خصوصاً وأن المشتركات الجامعة تمثل المحتوى الأساسي لمضمون العلاقة ومستقبلها. ولا بدّ من إدراك حقيقة إن أي احتراب بينهما ينعكس على الوضع الإقليمي كما دلّت التجربة التاريخية، ولاسيّما إن المستفيد هو أعداء الأمتّين الصديقتين.
وإذا كان الحوار “فرض عين وليس فرض كفاية” كما يُقال بين الجهات والجماعات السياسية المشاركة في الحكم وخارجه وبين الحكومة الاتحادية بشكل خاص وبين حكومة إقليم كردستان، فإنه اليوم وبعد تجارب عديدة يصبح أكثر راهنية ويمكن للمجتمع المدني أن يكون شريكاً فاعلاً فيه ومكمّلاً في اتخاذ القرار.
وقد يحتاج الأمر إلى وجود مؤسسة بحثية رصينة ودراسات اختصاصية معمّقة أو تأسيس معهد عربي – كردي متخصص ويمكن توسيعه إلى معهد للدراسات الشرقية، لاسيّما للشعوب المجاورة بحيث يدرس علاقاتها مع بعضها، حاجة ملحة هدفها تنشيط حركة التواصل والنشر والترجمة والاطلاع على آداب وفنون وثقافات كل طرف بما لدى الطرف الآخر، إضافة إلى التحدّيات والمخاوف التي تواجه الهوّية المشتركة لهم والهويّة الخاصة لكل منهم على انفراد
وبخصوص العرب والكرد فإن وقفة مراجعة ضرورية لتنقية الأجواء وهو ما يحتاجه الطرفان، خصوصاً في ظلّ محاولات تستهدف كليهما وقد سبق لي أن طرحت ذلك من خلال :
• محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي، وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي.
• اعتبار العرب والعروبة مسؤولين عمّا حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني، وتحميل العرب والعروبة ارتكابات النظام السابق وآثامه.
• اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير وإقامة كيانية خاصة مستقلة، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال. ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكّام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمّله المثقفون الكرد.
• تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى.
• عدم اكتراث بعض عرب العراق بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة.
• عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بحساسية العلاقة مع “إسرائيل” المنتهِكة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير.
ولكي تتعزّز الثقة بين الطرفين فلا بدّ للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد وذلك من خلال تعزيز وتوطيد العلاقة والتفاهم والمشترك الإنساني، والاعتراف بحقوقهم لا باعتبارها منّة أو هبة أو هديّة، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم، فضلاً عن مبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمواطنة المتكافئة التي هي الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الدولة، مثلما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الشركاء.
كما لا بدّ للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءًا من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي، علماً بأن لا سعادة للعرب من دون الكرد، ولا سعادة للكرد من دون العرب في العراق، لأن مصيرهما مشترك وذلك قدر الجغرافيا، سواء أكان نقمة أم نعمة.
رابط المصدر: