“الحوثي” ومحاولة هندسة الدولة والمجتمع في اليمن

الموجة الأخيرة من الاعتقالات التي طالت عاملين في الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني داخل صنعاء أثارت حالة من الهلع والرعب بين المواطنين. وبعد الحملة الأوسع من الاعتقالات والتي تجاوزت الستين معتقلا في يومين، أعلنت جماعة “الحوثيين” أنها سوف تكشف عن “نصر أمني كبير”، اتضح أنه شريط اعترافات مطول لجماعة من السجناء ممن كانوا موظفين في السفارة الأميركية وغيرهم ممن تم اعتقالهم منذ أكثر من عامين.

الاعتقالات الأخيرة طالت حتى شخصيات كانت قريبة من “الحوثيين” تعمل في مجال العمل المدني، وغالبها كان محايدا لا ينخرط في العمل السياسي ولا حتى بإبداء الرأي.

 

إيه ب أي إيه ب أي

مركبة تابعة للأمم المتحدة تمر بجوار جندي حوثي يقف حارسا خارج مجمع مكاتب الأمم المتحدة، في صنعاء، 10 يونيو 

حاول البعض الربط بين هذه الاعتقالات والتصعيد الاقتصادي الأخير إثر قرار المصرف المركزي التابع للحكومة الشرعية في عدن بوقف التعامل مع كبرى المصارف في صنعاء، الأمر الذي اعتبر ضربة اقتصادية تعطل قدرات “الحوثيين” الاقتصادية، فيما هو محاولة من الحكومة اليمنية لتوحيد أو على الأقل التنسيق بين المصرفين المركزيين في صنعاء وعدن، وكذا السياسات المالية والعملة، إضافة إلى الدفع باتجاه رفع الفيتو “الحوثي” على تصديرها للنفط.

وقد قابل “الحوثيون” هذا القرار بتصعيد كلامي كشف عن عجز واضح. “الحوثي” ليس قادرا على الرد اقتصاديا أو سياسيا أو حتى عسكريا، فقد فشل في جبهة مأرب بعد عامين من المحاولة وسبق أن ضرب المنشآت النفطية للحكومة وعطل كليا قدراتها الاقتصادية. وشمل هذا التصعيد الكلامي اتهامات للرياض، حتى من قبل رأس الجماعة عبد الملك الحوثي، بالمسؤولية عن قرارات الحكومة، لكن مع عجز عن ترجمة التهديدات بسبب التفاهمات السعودية– الإيرانية الملزمة له.

 

الضغوط الاقتصادية المتصاعدة على “الحوثيين” مع بدء ظهور التداعيات الاقتصادية لهجمات البحر الأحمر قد تكون ضمن عوامل عديدة دفعت دفعتهم للهجمة القمعية الأخيرة

 

 

وكان “الحوثي” قد احتفل منذ شهر بقدرته على صك عملة جديدة، لمعالجة أزمة فعلية يعانيها جراء منع “الحوثيين” التداول بالعملة اليمنية التي تصدرها الحكومة اليمنية للمحافظة على استقلالية سياسته النقدية. حتى جاءت ضربة قرار المصرف المركزي بعدن لجماعة تشعر بنشوة فعلية متصورة بأنها صارت في موضع قوة على كل المستويات، بشكل لا يستدعي منها أي تنازل كان، وهي ماضية في طريقها نحو بناء “دولتها المستقلة”، وفق تصوراتها الأيديولوجية.

شروط على المساعدات

ترافق هذا مع تقليل حجم المساعدات لأسباب متعددة، ووضع شروط صارمة جديدة من بعض المانحين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وهي المانح الأكبر لمنظمة الغذاء العالمي، لكي تضمن توزيع المساعدات على قائمة المحتاجين وعدم استخدامها لأغراض التجنيد، مثلما كان يفعل “الحوثي” الذي كان يستخدم المساعدات كإحدى أدوات الجذب أو الضغط لتجنيد أطفال أو شباب من الأسر اليمنية.
الضغوط الاقتصادية المتصاعدة على الجماعة مع بدء ظهور التداعيات الاقتصادية لهجمات البحر الأحمر التي أدت لتضاعف الأسعار، قد تكون ضمن عوامل عديدة دفعت “الحوثيين” لهذه الهجمة القمعية الأخيرة. بل إن البعض اعتقد أنها سبب مباشر لهذا حتى يستطيع المساومة بهؤلاء المعتقلين، خاصة بوجود 13 موظفا أمميا. بالتالي يستطيع “الحوثي” الحصول على تنازلات من المجتمع الدولي بخصوص المساعدات أو الضغط على الحكومة لتقديم تنازلات ما في قراراتها الاقتصادية الأخيرة.

 

قدرة “الحوثيين” على تحريض المجتمع الدولي كي يضغط على الحكومة الشرعية وحلفائها تراجعت بشدة حاليا

 

 

وقد سبق وقام “الحوثيون” بصفقات مشابهة، أشهرها صفقة الإفراج عن البهائيين مقابل الحصول على معدات ومساعدات متعلقة بوباء “كوفيد-19” حينها، لكن قد يكون هذا معقولا لو تحدثنا عن عمليات اعتقال محدودة وليست واسعة من حيث العدد والتنوع في المجالات والمنظمات المستهدفة.
ومن المهم معرفة أن المعتقلين مؤخرا كان معظمهم ممن عملوا مع منظمات ذات ارتباط بالولايات المتحدة أو بريطانيا ويعملون ضمن مجالات المعلومات أو التقييم أو بناء السلام (المقصود فيه تنظيم برامج حوارية أو سياسية ما)، مما قد يرجح أنها اعتقالات تأتي ضمن سياق توجه الجماعة الأخير بأنها في حالة حرب ضد أميركا وبريطانيا التي استهدفتها مؤخرا بضربات جوية، والتقييم مرتبط بعملية المراجعة للمساعدات وكيفية تعامل “الحوثيين” معها، أما بناء السلام فهو خنق كلي لأي نشاط سياسي ولو محدود.

صفقة محتملة؟

فرضية الصفقة المحتملة تتجاهل بعض الأمور:
أولها: الطابع القمعي الأصيل في الأيديولوجيا “الحوثية” وميلها الواضح نحو الانعزال عن العالم، وقناعتها بأن هناك مؤامرة وراء كل حدث أو أمر، وبالتالي هي تتوجس من أي تعامل مع الغرب أو غيره.
ثانيها: تصاعد حدة القمع بشكل كبير منذ بدأت تهدأ وتيرة الحرب السابقة، لأن قدرة “الحوثيين” على تحريض المجتمع الدولي كي يضغط على الحكومة الشرعية وحلفائها تراجعت بشدة حاليا. وقد ترافق تصاعد القمع مع إجراءات “الحوثي” وسياساته لنشر أيديولوجيته بين أبناء المجتمع اليمني في محاولة لإعادة هندسة المجتمع حتى يصبح إما شبيها به أو خاضعا له بالقوة.

 

أ ب أ ب

طائرة مقاتلة تهبط على متن السفينة “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” في البحر الأحمر، 11 يونيو 

ثالثها: أدرك “الحوثيون” أثناء فترة الهدنة السابقة لحرب غزة أن المساحات المدنية المتبقية وبقايا الطبقة الوسطى في المدن اليمنية خاصة صنعاء قد يشكلون تهديدا فعليا وأنهم كانوا قلب الحراك الشعبي في عام 2011.
لهذا كان ينبغي القضاء عليها بشكل أو بآخر وجاءت حرب غزه كفرصة ذهبية، فمن ناحية انشغل العالم عن “الحوثي” وغيره بفظائع إسرائيل في غزة، إضافة إلى أن هجمات “الحوثي” على إسرائيل والبحر الأحمر، منحته بعض الشعبية خاصة خارج اليمن وخلقت زخما بين أفراد الجماعة وأنصارها وأدت لتعديل صورته لدى البعض في الشارع اليمني بل وأكسبته شعبية ضمن بعض الشرائح المجتمعية والمناطق. بالتالي، اتسعت دائرة الاضطهاد منذ بداية حرب غزه وبشكل واضح وحملة الاعتقالات تأتي في هذا السياق.

 

حملة الاعتقالات كانت معدة مسبقا ولم تكن مجرد رد فعل لقرارات ما، بدليل الاعترافات التي أعلنت بعد يومين من اعتقال العدد الأكبر في حملة ما زالت مستمرة حتى الآن

 

 

رابعها: لا يمكن تجاهل حقيقة التنافس الداخلي ضمن أفراد الجماعة لإثبات ولائها لرئيس الجماعة، عبد الملك الحوثي، وقمع المعارضين المزعومين ضمن عقلية الجماعة وقائدها المتوجسة من كل ارتباط بالخارج وخاصة الغرب ولا ترى في منظمات المجتمع المدني سوى كيانات غريبة ومشكوك في توجهاتها، وهي أفضل وسيلة لإثبات الولاء وإرضاء قيادة الجماعة. دليل هذا، الظهور السريع لعبد الملك الحوثي لمباركة ما حدث.
خامسها: تأتي هذه الاعتقالات بعد حملة تشهير واسعة بمنظمات المجتمع المدني وربطها بالأموال المشبوهة والأجندات الخارجية، وهي حملة لم يقم بها “الحوثي” فقط بل وانخرطت فيها فصائل مسلحة في اليمن وللأسف تبناها بعض الصحافيين والناشطين عن وعي أو عدم وعي بأبعاد هذه الحملة، هكذا بدأ التمهيد لتصديق ادعاءات التجسس والتخابر. وبالتالي، القضاء على آخر مساحات العمل المدني، وكان صحافيون ثم سياسيون وناشطون هم أول الضحايا في أول عام من سيطرة “الحوثي” على العاصمة صنعاء.

 

رويترز رويترز

الدخان يتصاعد من السفينة التجارية مارلين لواندا، بعد أن أصيبت بصاروخ مضاد للسفن في خليج عدن، 27 يناير 

ومما يؤكد أن حملة الاعتقالات كانت معدة مسبقا ولم تكن مجرد رد فعل لقرارات ما، الاعترافات التي أعلنت بعد يومين من اعتقال العدد الأكبر في حملة ما زالت مستمرة حتى الآن. هذا الشريط يتطلب وقتا طويلا لإعداده من عملية تعذيب وابتزاز وضغط أولية تلحقها عملية تعافٍ للسجين حتى يستطيع الحضور، ثم أخيرا تلقين وإعداد لمضمون الاعترافات حتى نصل لمرحلة الإنتاج والتسجيل، بالتالي تم الإعداد والتسجيل لها منذ فترة ليست قصيرة.
وجدير بالذكر أن الاعترافات المزعومة ذكرت أسماء بعض من اعتقلوا حديثا مما يعزز احتمالية أنها عملية مخطط لها منذ أمد طويل.
أخيرا، ما جرى ليس بمعزل عن تصورات “الحوثي” الأيديولوجية، وعملية منظمة لهندسة الدولة والمجتمع بشكل يتناسب مع “الحوثي” وتصوراته، بكل ما يعنيه هذا، من تقويض لكل تراكم سياسي ومجتمعي حققته اليمن في العقود الماضية كنتيجة مستحقة لنضالات وتضحيات اليمنيين.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/319101/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A-%D9%88%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M