وليد عبد الحي
ثمة تعبير يرد في العديد من تصريحات المسئولين العراقيين ولو بصياغات مختلفة،لكنه يشي بما هو أبعد من مفرداته بخاصة اذا تم تناوله في اطار السياق السياسي والاستراتيجي للسياسة العراقية، التعبير يقول ان ” العراق لا يريد حربا او صراعا بل يريد سلاما مع ” جميع ” دول المنطقة “، فهل تقع اسرائيل ضمن مفهوم ” جميع” ؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بد من التوقف عند مظهرين:
أولا: علاقات العراق واسرائيل بعد 2003: ويمكن تلمس ملامح ذلك في الآتي:
1- الموقف الرسمي من الزيارات ” العلنية ” التي قام بها عراقيون من مختلف الشرائح لاسرائيل:
ولعل البداية كانت بزيارة قام بها زعيم حزب الامة العراقي مثال الألوسي، ويمكن من خلال متابعة كيفية تعاطي الادارة العراقية الرسمية مع هذه الواقعة ان نعزز الفرضية التي يقوم عليها تساؤلنا عن معنى كلمة السلام مع ” جميع” دول المنطقة، فقد قام الالوسي (زعيم حزب الامة) بزيارة اسرائيل عام 2004 وأدين بسبب ذلك من قبل المحكمة الجنائية العراقية وطرد من منصبه في لجنة اجتثاث البعث، لكن المحكمة الفيدرالية العليا العراقية برأته عام 2008 من هذه القضية على اساس” انه لم يعد السفر لاسرائيل جريمة وللعراقي الحق في السفر لاي مكان يريد” طبقا لمنطوق قرار المحكمة..
ويبدو ان قوى عراقية أخذت المسالة كقضية خطيرة، فتعرض الالوسي لمحاولة اغتيال عام 2005 وقتل ابنيه على اثرها وهو ما جعل اللجنة الامريكية اليهودية تمنحه نوط الشجاعة.
لكن الرجل- مسنودا بقرار المحكمة العراقية العليا- تمكن من الحصول على مقعد في البرلمان في انتخابات عام 2005، وعاد لزيارة اسرائيل عام 2008 وهو عضو برلماني ، ودعا في زيارته الثانية للتنسيق الامني مع اسرائيل وامريكا ..الخ، واتخذ البرلمان العراقي قرارا باسقاط الحصانة عنه ومنعه من السفر،لكن المحكمة العليا عادت وتدخلت واتخذت قرارا لصالحه على غرار المرة الاولى ، وهنا لعب المزاج الشعبي دوره في اسقاطه في انتخابات 2010 حيث لم يتمكن من الحصول على مقعد برلماني هذه المرة، فطالب الولايات المتحدة بالتدخل في اعادة النظر في النتائج ، وتم اعادة عد الاصوات بطلب من المحكمة التي اقرت عدم وجود أي تزوير، لكنه عاد وفاز بمفعد من جديد في انتخابات عام 2014…
شجعت زيارات الالوسي وفودا اخرى، فقد زار حامد الشريفي – وهو دبلوماسي عراقي سابق – اسرائيل عام 2016، وتبعته في عام 2017 ملكة جمال العراق ساره عيدان بزيارة قامت بتوثيقها بمجموعة صور لها مع ملكة جمال اسرائيل، وتواصلت الزيارات لاسرائيل بقيام العراقية نادية مراد الحائزة على جائزة نوبل للسلام في عام 2018 بالسفر الى اسرائيل…وهنا اتساءل: لماذا يجري تركيز بعض الفضائيات العربية على زيارات عرب لاسرائيل ويسدل الستار على زيارات العراقيين..؟
2- تطور العلاقات الاقتصادية بين العراق واسرائيل بخاصة عبر اقليم كردستان:
بعد الاطلاع على تقارير كثيرة ، يتبين ان اقليم كردستان يتعامل مع ميناء حيفا للاستيراد والتصدير، كما ان هناك شركات استثمار اسرائيلية تعمل بتفويض من الاتحاد الاوروبي والوكالة الاميركية للتنمية ، فاذا اضفنا لذلك شطب وزارة المالية الاسرائيلية اسم العراق من الدول المصنفة ” عدو” ، وقيام الخارجية الاسرائيلية وهيئات اخرى بانشاء ما يسمى” السفارة الرقمية” والتواصل مع الشباب العراقي بخاصة من خلال اليهود العراقيين عبر شبكات التواصل الاجتماعي وما يسمى صفحة ” اسرائيل باللهجة العراقية”، الى جانب مشروع النرويج لتنظيم اللقاءات العراقية الاسرائيلية، تبين لنا ان الزيارات جزء من حملة تقارب عراقي اسرائيلي صامت، واقتصار ردود الفعل العراقية على اجراءات شكلية تبطلها لاحقا محاكم بريمر.
وفي مجال الدبلوماسية الشعبية، يلاحظ ان المواقع الالكترونية التي اشرت لها تركز على مسالتين: الأولى هي التحريض ضد الفلسطينيين ” لأنهم وقفوا الى جانب صدام” وتوظيف ذلك لتأجيج المشاعر العراقية ضدهم، والثانية- بخاصة صفحة اسرائيل باللهجة العراقية – لتصيد الشباب العراقي أملا في استخدامهم لأغراض عديدة بدءا من التجسس وانتهاء بالتجارة .
ثانيا: العلاقات الامريكية العراقية: ويمكن الاشارة في هذا الموضوع لما يلي:
1- صعوبة القبول بامكانية الفصل بين السياسة الاسرائيلية والسياسة الامريكية تجاه العراق: ويبدو ان الهيئات والدستور والعسس الذي تركه في الجسد العراقي الحاكم الامريكي بول بريمر والذي حكم لعام وشهرين لا زال فاعلا وناجحا في تمويه نشاطاته بدءا من داعش وصولا الى الهجمات الاسرائيلية الاخيرة على قوات الحشد الشعبي.
2- الوجود العسكري الامريكي في العراق بعد 2003: تم في فترة حكم الرئيس بوش عقد اتفاقية عام 2008 لسحب القوات الامريكية ابتداء من عام 2009 على ان يكتمل انسحابها في عام 2011(31 ديسمبر)، وهناك اتفاقيات ” الاطار الاستراتيجي” والتعاون الامني – وهما يغطيان طيفا واسعا من الموضوعات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية بين الطرفين المتعاقدين، وقد تم اقرار اتفاقية 2008 في الوزارة ب 27 صوتا من اصل 37 وزيرا .تغيب 9 ورفض 1 بينما في البرلمان تم اقرارها بمعدل 149 من اصل 275(54%)،
وهو ما يعني ان نسبة المعارضة لاتفاقية الانسحاب ليست قليلة، مما يشير الى قوى تريد بقاء الامريكيين .
3- على الرغم من اكتمال الخروج الامريكي من العراق في 2011، إلا أنهم عادوا بطلب عراقي للمساعدة ضد داعش 2014، ولكن لم يتم الاتفاق او توقيع اتفاقية مع العراق على طبيعة ووظيفة ومدة بقاء هذه القوات الجديدة، وتتوزع هذه القوات التي قوامها خمسة آلاف و200 جندي على 12 قاعدة، ويبدو ان الحكومة العراقية لا تمتلك أي صلاحيات او مراقبة عليها بدليل ان ترامب زار احداها في عام 2018 دون علم او استشارة أي مسئول عراقي .
4- العلاقة بين المؤسسة العسكرية العراقية والأمريكية: تشير التقارير الامريكية الى انه بين 2003 و 2011 انفقت الولايات المتحدة على القوات العراقية حوالي 20 مليار دولار تسليحا وتدريبا، وهو امر يستحق التامل في دلالته ،فالبراغماتية الامريكية المعروفة وفي ظل رئيس كترامب تتوالد الهواجس حول المقابل العراقي لذلك الانفاق الذي ازداد خمس مليارات بعد ظهور داعش ليصبح المجموع 25 مليار دولار، ,وقال Michael P. Mulroy ان امريكا كانت تنفق 150 مليار دولار على قواتها عام 2008 وانخفضت الى 15 مليار عام 2019، فهل كل هذه المبالغ ليس لها ثمن سياسي او اقتصادي لا سيما ان خبراء الخارجبة الامريكية والبنتاغون يرون ضرورة ماسة لبقاء الامريكيين في العراق للجم النفوذ الايراني من ناحية ولضمان عدم انغماس العراق في تحالفات مضادة للمصالح الامريكية في المنطقة؟
5- التوافق بين شرائح سياسية عراقية والولايات المتحدة، وهنا تزداد الصورة إرباكا، فهناك من لا يريد ايران ولا الولايات المتحدة( مثل الصدر ، وعادل عبد المهدي وما يمثلانه كلاهما من تيارات فاعلة)، وهناك الاكراد الذين يرون في الولايات المتحدة سندا هاما لهم (الحزبان الكرديان الرئيسيان)، يضاف لذلك الرئيس العراقي برهم صالح ( وهو من اطول الشخصيات العراقية اقامة في الولايات المتحدة ) ، ورغم ان حدود صلاحياته ضيقة، لكنه يتصرف ويصرح بشكل اوسع كثيرا من حدود صلاحياته بخاصة في مجال العلاقات مع الجوار..ومقابل هذين التيارين هناك من يرى ضرورة تقليص الوجود الامريكي وليس انسحابه ، ويمثل العبادي (رئيس الوزراء السابق الاكثر تأييدا لذلك).
6- وتتعزز العلاقات الامريكية العراقية في المجال الاقتصادي، فالشركات الامريكية تعمل بشكل نشط في العراق بخاصة في مجالات حساسة مثل الطاقة والدفاع ناهيك عن القطاعات الاخرى مثل تكنولوجيا المعلومات والنقل ، وهو ما اوصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين الى حوالي 12 مليار دولار .
7- سياسة ابقاء الجيش العراقي في وضع مهلهل، فالانفاق الدفاعي العراقي هو 6 مليار دولار لهذا العام،ولا يظهر اثر ذلك في تسليح الجيش العراقي، فسلاحه الجوي يضم 327 طائرة اكثر من نصفها مروحيات، وكل ذلك لحماية حدود يزيد طولها عن ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسع كيلومترات، ناهيك عن حماية الوضع الداخلي، وعدم وضوح نهائي لموقع الحشد الشعبي(الذي ترى فيه امريكا واسرائيل قوة مناهضة لهما) في المؤسسة العسكرية رغم قرارات الدمج التي تنطوي على هواجس كثيرة من طرفي العلاقة.
ماذا يدل كل ذلك؟:
1- ان العراق سيبقى عاجز سياسيا ما لم يتم التخلص من الوجود الأمريكي فيه والذي يشكل الاساس في استراتيجية العراق للتحول من ملعب الى لاعب.
2- ان وجود الامريكيين في العراق ووجود قوى تقبل وبشكل واضح ومتزايد بالعلاقة مع اسرائيل ، هو ثغرة استراتيجية في ما يسمى محور المقاومة وتواصله الجيواستراتيجي.
3- ان موضوع العلاقة مع اسرائيل وايران وامريكا قد يرجح جولات الصراع مجددا بين القوى العراقية في فترة لاحقة، ولن يتوقف تضارب التناقض الدموي في مجتمع تمتد جذوره في ” نبوخذ نصر” فتطل فروعه في مثال الالوسي…ربما.