معاملةُ الإنسان برفق ولطف ودبلوماسية قدر الإمكان، وغضُّ النظر عن مواطن القصور والهشاشة في شخصيته، لا تعني الخداعَ أو النفاقَ في معاملته، ولا تعني الكذبَ عليه، بل تعني الصمتَ في مقام يتطلبُ الصمت، وعدمَ إعلان كلّ ما نعرفه عن شخصيته، وما تتكشّف من هِنات أقواله ووهن أفعاله…
أعرفُ تلميذَ ماجستير ذكيًا مهذبًا، فنانًا صاحبَ ذوق رفيع، شكا لي بمرارةٍ عن معاناته وزملائه من أحد الأساتذة، يصفُ التلميذُ هذا الأستاذَ بقوله: إنه يبخلُ بأية كلمة يعربُ فيها عن الرضا بجهد التلميذ الذكي. يغار من تلامذته، ويقلقه تفوّقُ الأذكياء، فيوبّخهم باستمرار بلا سبب، ويسخرُ من إجاباتهم، وأحيانًا يتعسّفُ في معاملتهم، ويزدري ما ينجزونه بشكل موجع، ما يضطرُ بعضهم لترك الدراسة والتضحية بمستقبله.
يشكو تلامذةٌ من أستاذ تورطوا بالحضور لديه مدة من الزمن، قبل أن يتعرفوا على أخلاقه والبنية السيكولوجية المعقدة لشخصيته. قالوا بأنه كان يذمُ بقسوة مَنْ تربطنا بهم علاقات، ويتظلّمُ بمرارة من إهمالِ الناس له، وعدمِ الانشغال بموهبته وذكائه وعلمه ومنجزه. هذا الأستاذ شخصيتُه سامّة، مصابٌ بعاهات نفسية وأخلاقية مزمنة، كان لا يطيقُ أن يتعاملَ معه الناسُ إلا بالتبجيل والتعظيم. إذا لمح نظرةً أو موقفًا من أيّ شخص وظنّ أنه لم يُظهر الاحتفاءَ به يشكوه بتوجع.
يذمُّ الناسَ ويهجوهم لا لشيء إلا لنفورٍ عنيف لديه منهم، يتلذّذ بهجاء غيره، لا تسمع منه تبجيلًا ولا ترى منه احتفاءً بإنسان، ولا ثناء على منجزه، خاصة مَنْ كانوا من ذوي المنجز اللافت، يشعر كأن اللهَ خلق الناسَ ليكونوا خدمًا له. بعد تقدّم عمرُه وجد نفسَه غريبًا بين الكلّ، تواصل فرارُ تلامذته واحدًا بعد الآخر، أكثرُهم لم يمكث معه إلا سنةً أو أقل، كذلك تفرّق كلُّ أصدقائه عندما أدركوا عجزَه عن مداوة نفسه، وعجزَهم عن تخليص أنفسهم من هجائه لهم، ويأسَهم من تخليص الناس من شتيمته.
بعضُ الناس عندما يفعلون أيَّ شيء يترقبون من الكلِّ أن يبدي إعجابَه واحتفاءَه بفعلهم، لكن لا تسمع أو ترى منهم تثمينًا لمنجز أي إنسانٍ آخر، مهما كانت قيمةُ منجزه وأثره. يظنون أن مهمةَ الناس التصفيقُ لهم، من دون أن يبادروا بتقديم أيّ شيء لغيرهم.
بعضُ الناسِ يتهرب من أية مسؤولية أخلاقية تجاه الغير، يترقب تضحيةَ الكلّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهربُ من المسؤولية ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي. تحمّلُ المسؤولية ضربٌ من التضحية، كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنى جديدًا لحياته لا يتذوقه خارجَها. التضحيةُ بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحّي، سواء أكانت التضحيةُ بإنفاق المال أو الجهدِ أو الراحةِ أو الوقتِ أو الشفقةِ على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًا وعاطفيًا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير.
تحمّلُ المسؤولية ينتقل بالإنسانِ إلى طورٍ أخلاقي أنبل، لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسان آخر، ويسهم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمّلُ المسؤولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يواجه الإنسانَ من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغير لا يرهقُه بل يشعرُه بالرضا والغبطة.
الذكاءُ العاطفي مهارةُ الاعتراف بالآخر وتثمين منجزه مهما كان صغيرًا، الذكاءُ العاطفي وعيٌ بكيفية التحكم إيجابيًا بلطف لا بتسلط وقهر لمشاعر الآخرين. الذكاءُ العاطفي براعةٌ في اكتشافِ بواعث التفاعل والرغبة الكامنة لدى الإنسان، وإتقانِ وسائل التأثير العاطفي عليه وما يدعوه للانجذاب للآخر، ومعرفةِ مواطن انفعاله وتحسّسه وغضبه، وتجنّبِ ما يتسبّب في امتعاضه ونفوره.
الذكاءُ العاطفي مضافًا إلى أنه موهبة، هو خبرةٌ عملية تتراكم وتتكرّس بالممارسة، وتسقيها المراجعةُ النقدية لأسلوب التحدّث والسلوك والمواقف المتنوعة عند معاشرة الإنسان، والندمُ على ما يرتكبه الإنسانُ من أخطاء في العلاقات الاجتماعية، وتدريبُ الذات على الخلاص منها، عبر الأساليب التربوية والنفسية والأخلاقية.
معاملةُ الإنسان برفق ولطف ودبلوماسية قدر الإمكان، وغضُّ النظر عن مواطن القصور والهشاشة في شخصيته، لا تعني الخداعَ أو النفاقَ في معاملته، ولا تعني الكذبَ عليه، بل تعني الصمتَ في مقام يتطلبُ الصمت، وعدمَ إعلان كلّ ما نعرفه عن شخصيته، وما تتكشّف من هِنات أقواله ووهن أفعاله. الإنسانُ بطبيعته ينفرُ بشدّة من فضح أخطائه، لأن ذلك يشي بتوبيخه، وشعوره المرير بأنه تشهيرٌ بنقصه. الإنسان ينزعج من كشف ضعفه ونقصه، كلُّ إنسان يطلب الكمالَ ويبحثُ عمن يتحدثُ له عن مواطن الجمال والقوة والتفوق في شخصيته.
لا يعني الذكاءُ العاطفي التواطؤَ مع الظلم والجريمة وخيانةَ الضمير الأخلاقي، بل يعني الخلاصَ من الشعور بالوصاية على الغير، والشفاءَ من مراقبة خصوصيات الناس واقتحام حياتهم الخاصة، والكفَّ عن العبث بسلامهم الداخلي، وإثارة مشاعرهم، وعدمَ التفتيش عن ثغرات شخصياتهم وأخطائهم، واستفزازهم بفضحها أمامهم أو إشاعتها في غيابهم.
الذكاءُ العاطفي يتطلب الوعيَ بأن الإنسانَ كائنٌ انفعالي حسّاس جدًا، شخصيته مركبة من طبقات عميقة مهما كانت تظهر لنا مسطحةً وساذجة. في شخصية كلِّ إنسان ثوابت تشكّلت في مرحلة طفولته، هذه الثوابت تظل تعيش معه إلى آخر يوم في حياته، وإن كان أكثرُها خفيًا لا يعلن عن حضوره إلّا في بعض الهفوات والمواقف الحرجة. لا يتغير الإنسانُ بموعظة أو مقترح أو توصية، ما يمكن أن يغيّر الإنسانَ تغيّرُ نمطِ وعيه، وظروفِ عيشه، وتبدّلُ قناعاتِه، وكيفيةِ تعريفه لذاته، ورؤيتِه للعالَم. ما يغيّره هو الصدماتُ الموجِعة التي تزلزلُ أمنَه وتهدّد عيشَه، إن كان قادرًا على وعيِها والإفادةِ من دروسها القاسية. المحبةُ والإيمانُ والعواطفُ الصادقة والتضامنُ الإنساني يمكن أن تغيّر الإنسان.
الذكاءُ العاطفي ليس كلمات مجاملة بلا مضمون عملي، لا ينجح الذكي عاطفيًا إلّا أن يرى الناسُ سلوكَه صدىً لأقواله. الذكاءُ العاطفي ضربٌ من تحمل المسؤولية تجاه الغير، ومواقفُ صادقة في الرخاء والشدّة. أعرف أشخاصًا يمتلكون ذكاء عاطفيًا، ويجيدون تسويقَ أنفسهم في العلاقات العامة، إلا أنهم يعجزون عن تجسيد كلماتهم في سلوكهم، أحيانًا ينهشون غيرَهم في غيابهم بشراسة، فيفرّ الناسُ من بين أيديهم، وإن ظفروا بعلاقة مميزة بهم. الكذّابُ والمحتال والمراوغ والماكر، حتى لو كان يمتلك ذكاءً عاطفيًا، يفشلُ في بناء علاقات راسخة بالناس لافتقاره للمصداقية. أعرفُ بعضَ الناس يُظهرون اهتمامًا بغيرهم في تواصلهم وعباراتهم المنتقاة بعناية، غير أن مواقفَهم تكذّب كلماتِهم.
الحُبّ غيرُ الذكاء العاطفي. الذكاءُ العاطفي يتطلب عقلًا ذكيًا في إدارة العلاقات بما لا يزعج الآخر، وإرادةً حازمة في الخلاص من العاهات والمواقف المنفّرة له، وإتقانَ الكلمات الدافئة، والمواقفَ الأخلاقية في التعامل مع الناس. ليس بالضرورة أن يكون الذكي عاطفيًا غزيرَ العاطفة، وإن كان من الضروري أن يكون صادقًا. الذكي عاطفيًا محترِفٌ لإظهار الاعتراف بالناس والاهتمام بهم ورعايتهم وتشجيعهم، وحريصٌ على عدم إزعاجهم بأية كلمة قاسية أو موقف جارح. الذكي عاطفيًا خبيرٌ بإدارةِ عواطف الناس بلغة مهذبة ومواقف صادقة، والتأثيرِ عليهم بأساليب محبّبة للأنفس.
ليس بالضرورة أن يكون الإنسانُ العاطفي ذكيًا عاطفيًا، ربما يفتقر الإنسانُ العاطفي للذكاء العاطفي، وقد يكون سلوكُه منفّرًا، لا يتعطّش الناسُ للتواصلِ معه والارتباطِ به، ولا يتلمسون لديه ما يشجّعهم على صداقته. ربما يكون الإنسانُ عاطفيًا لكنه متمركزٌ حولَ ذاته، بنحو لا يتنبهُ لما ينجزُه غيرُه وإن كان ثمينًا ولافتًا للنظر، أو يتعمّدُ تجاهلَه ولا يهتمُّ به. وكأنه لا يعلمُ بأن التجاهلَ والإهمالَ وعدمَ الاكتراث بما يراه جميلًا في أقوال من يتعامل معه وأفعاله صورةٌ للبلادة العاطفية. التجاهلُ أحيانًا والإهمال أسوأ أشكال عدم الاحترام، وقد يصلُ الشعورُ بالتجاهل عند الأشخاص الحسّاسين حدَّ الإهانة.
أعذبُ شخصيةٍ يلتقي فيها الذكاءُ العاطفي بالمشاعر الصادقة المتدفّقة. ربما يكون الإنسانُ عاطفيًا حميميًا، غزيرَ المشاعر، يحتاجُ المحبّةَ أكثر من غيره من ذوي المشاعر الباردة، لكنه يعجزُ عن محبّة الناس، لشعوره الدائم بالتفوق على غيره، ولغيرته المرضية تجاه كلّ ناجح، وللعقد التربوية المترسّبة في أعماقه، فيحبس نفسَه في محيط عدائي يصنعُه هو، ويظلُّ يكابدُ كلَّ حياته للخلاص منه من
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ethics/38123