الخروج عن المألوف: كيف عززت حربُ غزة فرص تشكُّل «تحالف الخاسرين» في المنطقة؟

محمد الزغول

 

تشهدُ منطقة الشرق الأوسط حراكاً دبلوماسيّاً نشطاً تدفع عجلته الولايات المتحدة الأمريكية التي تُحاول حشد الرأي العالمي والإقليمي خلف الموقف الإسرائيلي في المواجهة «التاريخية» الجارية مع حركة حماس في قطاع غزّة. ويُواجِه هذا التحرُّك -حتى الآن- تحفُّظاتٍ وممانعةً عربيّةً، نجحت في الحدّ من اندفاعته نحو معاقبة غزّة على هجمات «حماس»، يوم السابع من أكتوبر. وفي المقابل، تقودُ إيران حراكاً دبلوماسيّاً آخر، تحاول من خلاله تقديم نفسها بوابةً للتسوية المحتملة، وعرّاباً للتنظيمات المُنخرِطة في الصّراع مع إسرائيل.

 

لكنْ ثمّة حراكٌ دبلوماسيٌّ ثالثٌ، يجري ضمن جغرافيا مختلفة عن جغرافيا الصّراع، ومع ذلك، فهو حراكٌ مؤثرٌ، ولا يكتملُ المشهدُ من دونه، بل لا يمكنُ فهم الموقف الإيراني، وبعض المواقف الإقليمية الأخرى، إلّا في سياقه. هذا الحراك تقودُه قوىً دولية من خارج الكتلة الغربية، على رأسها روسيا، والصين، وتنضوي خلفهُ أطرافٌ أخرى من مختلف أنحاء العالم. وتُساند هذا الحراك قوىً إقليمية مهمة، مثل تركيا. ويطرح هذا الحراك الدبلوماسي الثالث، إن جاز التعبير، رؤى وتصورات مختلفة للأزمة، عن تلك التي تعرضها الكتلة الغربية، ويقترحُ حلولاً مُغايرة. وفيما يمتلكُ بعض الأطراف الإقليمية، مثل إيران، وتركيا، وقطر (بدرجة أقلّ) نفوذاً ذو أثرٍ ميدانيٍّ على مسار المواجهة، عبر علاقاتها مع التنظيمات المقاتِلة. يمتلكُ بعضُ دول الحراك الدبلوماسي الثالث (الصّين وروسيا تحديداً) نفوذاً في المؤسسات الدوليّة، يُكسِبُ مواقفها ثقلاً في المجتمع الدوليّ، ويضعُها خارج دائرة “مواقف الزّينة”، ويمنحُها قدرةً على التأثير الميدانيّ في مسار المواجهة. وبالنظر إلى العلاقات الخاصة التي تربط هذه القوى بأطراف الصراع (إسرائيل، وإيران، والتنظيمات المسلحة في محور “المقاومة”) يكتسِبُ حراكُها فاعليّةً مضاعفة.

 

وفي ظلّ تحولات المشهد الدولي، يمكن القول إن مواقف هذه القوى باتت ذات مكانة أكثر أهميّةً من الناحية العمليّة من المواقف الصادرة عن بعض البلدان الغربية، وبخاصة البلدان الأوروبية. وعلى الرغم من اختلاف الدوافع التي تُحرِّك تلك القوى، للانخراط في المشهد الدبلوماسي المُتكوِّن حول ما يجري في غزة، فإن ثمة قواسم مشتركة، تجعل من انخراط تلك القوى، أقرب إلى “تحالف ممانعة” في مواجهة الغرب؛ ما يُشكِّلُ عاملاً مُحفِّزاً على اتخاذ مواقف متناغمة، ومحاولة بلورة موقف موحد، أو على الأقل، مواقف أكثر انسجاماً وتنسيقاً.

 

روسيا الاتحادية: غزة باعتبارها “بوابة العودة”

تظهرُ روسيا الاتحادية في مقدمة الحراك “الدبلوماسي الثالث”، وهي المتورطة منذ ما يقارب عامين في حرب ضد جارتها أوكرانيا، عملت على عزلها، وتشويه صورتها في المجتمع الدولي، بما فيه المجتمعات الإسلامية. وقد أظهرت روسيا خلال الأيام الأولى من حرب غزة، استجابةً واضحةً، وتحركاً دبلوماسيّاً نشطاً، تمثّل في مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي شبَّه ما يجري في غزة بالحصار الذي فرضه الألمان على “لينينغراد”، كما ندّدَ بوتين بالتصعيد الإسرائيلي ضدّ قطاع غزة، داعياً إلى وقف التنكيل الإسرائيلي بالقطاع في أسرع وقت. وتُعدُّ هذه المواقف خروجاً على الموقف الروسي التقليدي الذي اتخذته موسكو حيال الملف الفلسطيني، وشهد على مرّ العقود الماضية تعاطفاً مع الموقف الإسرائيلي.

 

ولم يقتصر الموقف الروسي على تصريحات بوتين؛ إذ شهدت الفترة الماضية تحركاً روسيّاً في مجلس الأمن لإصدار قرارٍ يحث الأطراف على ضبط النفس والتوقف عن استهداف المدنيين. وفي سياق هذا الحراك الدبلوماسي الروسي، أعلن وزير الخارجية سيرجي لافروف أنّه سيزور خلال الأسبوع المقبل الدوحة لإجراء مشاورات بشأن الأزمة، مؤكداً أنّه “لا يستبعد أن يستفيد من علاقاته مع قيادات التنظيمات الفلسطينية لتحرير بعض الأسرى”، وتلك إشارةٌ إلى قدرة روسيا على التأثير الميداني عبر علاقاتها مع أطراف الصراع (إيران، وإسرائيل، وتنظيمات “المقاومة”).

 

ويُظهِرُ حجم التحرك الروسي في الأزمة الراهنة، رغبةً روسيّةً قويّةً بالعودة إلى المسرح الدبلوماسي الدولي. كما تظهر طبيعة مواقفها خلال الفترة نفسها، معالم توجه خاصّ، يجمعها ببعض الأطراف الإقليمية والدولية. ويمكنُ إحالة أسباب التحرك الروسي اللافت في أزمة غزة إلى عدة أسباب، من أهمها: محاولة كسر العزلة الدولية التي فرضها الغرب على روسيا عبر منظومة معقدة من العقوبات والحظر السياسي؛ وهي عُزلةٌ أعاقت تأثير روسيا في الملفات الدولية، وقلّصت من حضورها في الفضاء الدبلوماسي العالمي. ولم تنجح محاولات موسكو السابقة لكسر هذه العزلة، على الرغم من حضورها البارز في منظمات عالمية مثل “بريكس”، و”شنغهاي”. ومن المرجح أن موسكو رأت في حرب غزة فرصة أخرىً للعودة إلى المسرح الدبلوماسي العالمي، والخروج من حالة العزلة المفروضة عليها.

 

وربّما تنظر روسيا إلى ملف الصراع بين إسرائيل والتنظيمات الفلسطينية، باعتباره ورقة متاحة للتأثير على الأزمة الأوكرانية، خاصةً إذا استطاعت الإمساك بالمبادرة، من خلال التواصل المؤثر مع التنظيمات الفلسطينية، والأطراف الإقليمية المؤثرة فيه. وتؤكد هذا التوجه تصريحات أدلى بها بعض قادة “حماس”، الذين أكّدوا أن روسيا أجرت اتصالات مكثفة معهم في الساعات الأولى لهجوم السابع من أكتوبر. وقد تطمح روسيا إلى مقايضة خفض التصعيد في غزة، بتخفيف الموقف الغربي المتشدد إزاء الحرب في أوكرانيا، مع أن تحقيق هذا الهدف قد يكون صعباً.

 

وقد ترى روسيا أن وجودها الفاعل في أزمة غزة، والتواصل المباشر مع التنظيمات الفلسطينية وأوصيائها، وربما فتح قنوات تأثير على قرار تلك التنظيمات، قد ترى في كل ذلك، فرصة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. وربما تكون التجربة التي خاضتها إيران عبر السنوات الماضية، شكّلت مثالاً جيّداً لموسكو، حول فاعليّة استراتيجية التأثير على المشهد الإقليمي، عبر الإمساك بخيوط التنظيمات المسلحة، للتأثير في عملية صنع القرار، وإعادة تشكيل المشهد السياسي. لقد اطّلعت روسيا على أساليب الحرب، وصناعة النفوذ الإيرانية في سورية عن كثب، ومن المحتمل جدّاً أن تكون تلك الخبرات المكتسبة، قد أسهمت في هذا “الخروج عن المألوف” الروسي حيال ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

 

الصين: هواجس اقتصادية وسياسية تدفع نحو مغادرة “سياسة التحوُّط”

لا تزال الصين تمارسُ تحفظها المعهود حيال الصراعات الإقليمية. لكنّ ذلك لم يمنعها من التنديد بهجمات القوات الإسرائيلية على قطاع غزة، والدعوة إلى توقفها، واقتراح “هدنة إنسانية”، يمكن خلالها تقديم المساعدات إلى المنكوبين في القطاع. وكان من اللافت تأكيد وزارة الخارجية الصينية، أن الظلم التاريخي ضدّ فلسطين لا يمكن أن يستمر. وفي إشارةٍ لافتة إلى إقرار واشنطن بقدرة الصين على التأثير الميداني في مسار الصّراع، حثّ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بيجين على استخدام نفوذها في المنطقة، لمنع توسيع الصراع، و”منع أطراف فاعلة من استهداف إسرائيل”. وأعلنت الصين أنها ستوفد موفدها الخاص إلى المنطقة لدفع عجلة وقف إطلاق النار في غزة، كما أصدرت بياناً بالتعاون مع النرويج، وتونس (الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن) تُعرِب فيه عن قلقها من تصاعد العنف على قطاع غزة، وتحث على احترام الوضع التاريخي في المسجد الأقصى. وكل ذلك يشير إلى قدرة الصين على التأثير الميداني في اتجاهات الصراع، أو وجود اعتقاد لديها بحيازتها مثل هذه القدرة.

 

وبقليلٍ من التحوُّط، يمكنُ القول إن الوضع الراهن المتمثّل في اشتعال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يخدم مصالح الصين الاقتصادية؛ ما لم يؤثر في أسعار الطاقة العالمية. وأكدت تقارير عدة أن الصين عَدَّت نفسها متضررة من مشروع الممرّ الهندي-العربي-الإسرائيلي-الأوروبي، الذي أعقب محاولات صينية للتقارب مع دول الخليج العربية، والتوسُّط في فض الخلاف بين طهران والرياض. وربما كانت تلك بداية “التسلُّل الصيني” إلى سياسات منطقة الخليج لمزاحمة واشنطن في منطقة نفوذها التقليدي. ومن جهة أخرى، يدعم الممرّ الاقتصادي الجديد، موقع الهند (المنافس الإقليمي لبيجين) في التوازن الاقتصادي العالمي. وربما رأى العقل السياسي الصيني، في هذا الممرّ خطوةً أمريكيّة في سياق استراتيجية واشنطن لمواجهة الصعود الصيني. وفيما كانت الصين تُفكِّر بضمّ ميناء حيفا الإسرائيلي إلى مشروع “الحزام والطريق” من خلال عقود تشغيل طويلة الأمد، جاء الممرّ الجديد ليجعلَ من الميناء محطةً رئيسةً في مشروع مُنافس. ومن هذا المنطلق، فإن التصعيد الجاري سيعمل على تأجيل مشروع الممرّ الجديد لأسباب تتعلق بالأمن والاستقرار، كما يعمل على عرقلة عجلة التقارب بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وقد يُعيق أيضاً محاولات “إعادة الاندماج” بين دول الخليج والولايات المتحدة.

 

وتُشير مبادرة “فضّ الخلاف بين الرياض وطهران” إلى رغبة الصين بالانخراط المدروس في المشهد الإقليمي، وقد ترى بيجين في أزمة غزة فرصة لمواصلة هذا “الاقتراب الدبلوماسي”، وهي تمتلك نفوذاً قويّاً على طهران يجعلها من أهم اللاعبين الدوليين القادرين على التأثير في مجريات الصراع. وربّما ترى بيجين أنّ بقاء التنظيمات الفلسطينية المسلحة في غزة مفيدٌ في عرقلة تنفيذ خطط الممرّ الاقتصادي الهندي-الأوروبي، بفعل قدرتها على التأثير في وضع إسرائيل التي تعد إحدى محطات هذا الممرّ الرئيسة. ومع ذلك، لا ينبغي توقُّع الكثير من “التغيير” عندما يتعلق الأمر بالصين؛ وتُظهر التجربة أن التحوُّط لا يزال العلامة البارزة في المواقف الصينية من مختلف النزاعات الدولية. ولا شك أن هذه النظرة المحافظة التي منعت بيجين على مر العقود الماضية من مزاولة هذا الدور، ستضع قيوداً على مقاربة الصين للصراع في غزة.

 

إيران بوصفها حلقة “وَصْل” و”فَصْل”!

تعدُّ إيران حلقة الوصل بين التأثيرين الروسي والصيني والحرب الجارية في غزة. وأظهرت طهران خلال الأيام الماضية رغبةً واضحةً بالانخراط المباشر في أيّ تصعيد، أو تهدئة محتملة للصراع، بوصفها طرفاً رئيساً، و”عرّاباً” لتنظيمات “المقاومة” في المنطقة ومرجعيّتها السياسية. وحاول القائد الإيراني الأعلى علي خامنئي النأي بإيران عن دائرة الصّراع المسلح، عبر التأكيد على عدم مشاركة إيران في هجوم السابع من أكتوبر، وهو ما عَدَّهُ المراقبون تجاوباً مع تهديدات الغرب وإسرائيل. إلّا أنّ التحرُّك الدبلوماسي الذي قاده وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في المنطقة عقب ذلك، أظهر درجة كبيرة من الإصرار على الانخراط في النزاع على المستوى السياسي، وأبقى الباب مفتوحاً على احتمالات الانخراط العسكري، عبر التلويح بإمكانية التدخل في الصراع إذا ما تواصلت الهجمات الإسرائيلية على غزّة. وحرص عبد اللهيان على الظهور بمظهر من يدخل إلى عُمق اللعبة، ومن يمتلك مقاليد القرار نيابة عن تنظيمات المقاومة. وأطلق تصريحات لافتة حول احتمال تحرير بعض الأسرى، وأظهر إشارات حول وقوف إيران خلف المشهد، لكيلا تضطر إلى الدفاع عن نفسها داخل حدودها.

 

وتمتلك إيران الأسباب الكافية للانخراط في الأزمة، ولأداء دور فاعل فيها، إذ وجدت نفسها خاسرة من تنفيذ الممر الهندي-الأوروبي، ومسار التطبيع العربي-الإسرائيلي. وكانت طهران قد رأت في التقارب مع الرياض خطوة لكسر عزلتها، لكنّها كانت تتوخّى أيضاً وقف مسار التطبيع السعودي-الإسرائيلي. وقد أدى تزايد الأحاديث بشأن قرب الإعلان عن التطبيع بين الرياض وإسرائيل، إلى إطلاق العنان لمخاوف طهران الاستراتيجية مما تعدّه محاولة تطويق إسرائيلية لها. وتنامت مخاوف طهران بعد الإعلان عن الممر الهندي-الأوروبي الذي رأت فيه آلية لإقامة ارتباط عضوي بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. كما أنها رأت في الممر خطوة باتجاه تغييبها من الممرات الاقتصادية الدولية. ولا شكّ والحال هذه، أن اشتعال الصراع في غزة كان يخدم المصالح الإيرانية، عبر كسر مسار التطبيع، أو تأجيله لفترة طويلة، وتأجيل فكرة الممر الاقتصادي.

 

وفي سياق المنافسة الإقليمية مع إسرائيل، فإن حرب غزة خدمت الموقف الإيراني أيضاً؛ إذ استطاعت طهران نقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي، وهو ما كان يطمح إليه العقل السياسي الإيراني، ولوّح به القادة العسكريون في الحرس الثوري مراتٍ عديدة. وممّا يؤكد أن إيران كانت ترغب في قلب الموازنة، ونقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي، هو موقف وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان، الذي قال “إننا إذا لم ندافع عن غزة اليوم، فعلينا أن ندافع عن مدننا”. وأضاف إنَّه “إذا لم يشهد العالم وقفاً فورياً للجرائم [الإسرائيلية]، فسوف تُفتَح جبهات أخرى” في المنطقة.

 

وتُسهِم تجربة خوض “حرب الوكالة” ضد إسرائيل في إنجاح الجهود الإيرانية لإعادة هيكلة محور المقاومة، وإحياء ورقة التنظيمات والميليشيات الإقليمية الموالية لها، بعد أن تراجعت هذه القدرات في أعوام ما بعد العقوبات. وظهرت طهران بمظهر المستفيد من الأوضاع من خلال جلوسها في موقع المتحكم بقواعد اللعبة، والممتلك لمقاليد “القرار الميداني”. ومن هذا المنطلق، تنظر طهران إلى الصراع في غزة باعتباره ورقة مهمّة، يجب استخدامها في مفاوضاتها مع الغرب للحصول على مزيد من الامتيازات، في مقابل التأثير على قرار التنظيمات المقاتلة. ويبدو أن الكتلة الغربية قد تجد نفسها مُرغمةً أيضاً على التفاهم مع طهران من أجل خفض التصعيد في غزة. وحاولت إيران على مدار الأيام الماضية رفع مستوى المناورة من جانبها على أنها تمتلك زمام المبادرة في غزة، وأظهرت التطورات تناغماً هذه المرة بين مواقف “الحرس الثوري”، ومواقف الجهاز الدبلوماسي الرسمي؛ ما يسمح باعتبار ما يصدر عن وزير الخارجية الإيرانية بمثابة مواقف الدولة العميقة حيال الملفات الإقليمية.

 

الخلاصة

قادت الولايات المتحدة حراكاً دبلوماسياً نشطاً خلال في أعقاب الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر الجاري، بهدف تشكيل جبهة حامية لإسرائيل في مواجهة تنظيمات المقاومة الفلسطينية. لكنّ هذه الجبهة التي حاولت واشنطن تشكيلها، ظلت تفتقر إلى القدر الكافي من التناغم والانسجام الذي يسمح باتخاذ موقف مشترك. ولا تزال الولايات المتحدة غير قادرة على إدماج المجموعة العربية في مقاربتها للصراع، على الرغم من وجود بعض القواسم والتصورات المشتركة.

 

وفي المقابل، شرعت إيران في تحرُّكٍ دبلوماسيٍّ موازٍ، يهدف إلى تكريس دورها الإقليمي، باعتبارها “عرّاب” تنظيمات المقاومة في فلسطين والمنطقة، والطرف الذي ينبغي التحدث إليه إذا ما أراد الغرب تجنُّب مزيد من التصعيد في غزة، أو الذهاب نحو تسوية النزاع القائم، أو تهدئته.

 

وفي مسارٍ ثالث، تدفعُ مجموعة من المصالح المشتركة وغير المشتركة (بما فيها الخلافات مع الكتلة الغربية)، كُلّاً من روسيا والصين إلى جانب دول أخرى، مثل تركيا، إلى اتخاذ مواقف تختلف جوهريّاً عن مواقف الكتلة الغربية. وتحاول هذه المجموعة استقطاب المزيد من الدول النامية على هذا الأساس. لكنّ ما يميّز هذه المجموعة أيضاً، مُضافاً إليها إيران، هو أنها مجموعة من “الخاسرين” من المشاريع الاقتصادية والسياسية التي أُعلِنَ عنها أخيراً في منطقة الشرق الأوسط، وهي مشاريع تُلوِّح بدمج الهند، والخليج، وإسرائيل، وأوروبا ضمن مجموعة اقتصادية-سياسية بزعامة الولايات المتحدة.

 

وتُشير مجمل التحرُّكات الدبلوماسية والمشاورات التي جرت خلال الأيام العشرة الماضية منذ اشتعال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلى ارتفاع وتيرة الاتصال بين زعماء هذه البلدان؛ ما يكشف عن رغبة متزايدة داخل هذه الكتلة لبلورة موقف منسجم، أو مستوى أكبر من التناغم والتنسيق. وفيما تفتقر الجبهة التي حاولت واشنطن تشكيلها إلى التناغم والانسجام في التصورات والأهداف، يظهر التناغم واضحاً بين قادة ما يمكن تسميته بـ “تحالف الخاسرين”، وهو ما قد يمنحهم القدرة على بلورة موقف مشترك ممّا يجري في غزة. وتسعى كل من تركيا وإيران باعتبارها الدول الإسلامية الموجودة ضمن هذا “التحالف” إلى طرح ملف غزة في منظمة المؤتمر الإسلامي لفتح أفق دبلوماسي جديد بشأن المسألة الفلسطينية.

 

ويدعم وجود الصين وروسيا في مجلس الأمن موقف “تحالف الخاسرين” هذا على الصعيد الدولي. ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في تقدير تأثير هذا “التحالف” على مشهد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لاسيما في ظل استمرار النزعة المحافظة الصينية، والتصورات المتباينة بين أعضاء المجموعة حول مختلف القضايا في المشهدين الإقليمي والدولي، وأيضاً في ظل الأثر المتباين لأسعار النفط الذي يخدم بعضها، ويضر البعض الآخر. لكنّ “عُصبة الخاسرين” ستكون بكل تأكيد طرفاً مؤثراً في حرب غزة، بحيث يتعذّر فهم منطق الأزمة من دونها.

 

وفي النتيجة، يبدو أن الحرب في غزة، أصبحت محطة أخرى من محطات اختبار الأحادية القطبية في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. لكنّها محطةٌ يتشارك فيها خصوم واشنطن مصالح ومخاوف اقتصادية، إلى جانب المصالح السياسية المرتبطة بمواجهة الهيمنة الأمريكية.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/kayf-azazat-hrb-ghaza-furas-tshkkul-tahaluf-alkhasirin-fi-almintaqa

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M