الخزانة الأميركية وتحفيز الباب الخلفي الذي يعيق الاحتياطي الفيدرالي

مثل هذا الاعتماد المفرط على الديون القصيرة الأجل يُـحـجَـز في عموم الأمر لأوقات الحرب أو الركود، عندما تكون الأسواق هشة وترتفع احتياجات التمويل بشدة. بيد أن العام الماضي شهد ازدهار أسواق الأسهم، وارتفاع التضخم فوق المستوى المستهدف، فضلا عن النمو القوي. من المفهوم أن يشرع المستثمرون في التساؤل…

بقلم: نورييل روبيني، ستيفن ميران

نيويورك- بذل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قصارى جهده للسيطرة على التضخم، الذي انخفض في يوليو/تموز إلى ما دون 3% لأول مرة منذ عام 2021. من المؤسف أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يجد نفسه مضطرا إلى التعامل مع أغراض متعارضة مع وزارة الخزانة الأميركية، التي كانت استراتيجيتها في إصدار الديون توفر بابا خلفيا يتمثل في تخفيضات أسعار الفائدة، الأمر الذي أبقى التضخم فوق نطاق المستوى المستهدف من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي.

من خلال اختصار ملف إصداراتها لخفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل، قدمت وزارة الخزانة حافزا اقتصاديا يعادل خفضا بمقدار نقطة واحدة في سعر فائدة بنك الاحتياطي الفيدرالي. علاوة على ذلك، يشير التوجيه الـمُـسـبَـق في أحدث إعلان ربع سنوي لإعادة تمويل الديون من قِـبَـل وزارة الخزانة إلى أن هذا التيسير الكمي من الباب الخلفي سيستمر في إحباط جهود بنك الاحتياطي الفيدرالي ذاته والمساس بوظائفه.

عادة، تستهدف وزارة الخزانة إبقاء 15% إلى 20% من الديون المستحقة في هيئة سندات قصيرة الأجل، والبقية في هيئة ديون متوسطة وطويلة الأجل، وتسمى قسائم. لكن هذه الحصة ارتفعت ولا تزال أعلى كثيرا من أي عتبة معقولة: جاء ما يصل إلى 70% من الديون الجديدة التي جُـمِـعَـت خلال العام الماضي من سندات قصيرة الأجل، فأدى هذا إلى ارتفاع الإجمالي إلى ما يزيد كثيرا عن 20%.

الواقع أن مثل هذا الاعتماد المفرط على الديون القصيرة الأجل يُـحـجَـز في عموم الأمر لأوقات الحرب أو الركود، عندما تكون الأسواق هشة وترتفع احتياجات التمويل بشدة. بيد أن العام الماضي شهد ازدهار أسواق الأسهم، وارتفاع التضخم فوق المستوى المستهدف، فضلا عن النمو القوي. من المفهوم أن يشرع المستثمرون في التساؤل حول ما إذا كانت استراتيجية الإصدار التي تتبناها الخزانة لا تزال “منتظمة ويمكن التنبؤ بها”، وقد انتبه مشرعون، مثل عضوي مجلس الشيوخ بِـل هاجرتي وجون كينيدي، إلى ذلك الأمر وبدأوا يواجهون وزيرة الخزانة جانيت ل. يلين بشأن هذه المسألة.

في ورقة بحثية حديثة صادرة عن شركة هدسون باي كابيتال (Hudson Bay Capital)، نَـصِـف السياسة الحالية بأنها حالة من “إصدارات الخزانة الناشطة” ونَـدرُس عواقبها الاقتصادية الأوسع. مثلها كمثل السياسة النقدية الناشطة، تنحرف الإصدارات الناشطة عن القواعد القياسية وتؤثر على الاقتصاد في عموم الأمر من خلال تأثيرها على أسعار الفائدة. لا تعمل إصدارات الخزانة الناشطة من خلال ذات القنوات التي تمر عبرها برامج التيسير الكمي من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي فحسب، بل إنها كانت مُـصَـمَّـمة جزئيا من قِـبَـل المسؤولين السابقين في الاحتياطي الفيدرالي الذين يديرون الآن وزارة الخزانة.

في حين تشبه سندات الخزانة اقتصاديا النقود الأساسية التي تخلقها البنوك المركزية، فإن القسائم تحمل مخاطر كبرى ترتبط بأسعار الفائدة، وعندما يكون لزاما على المستثمرين تحمل مزيد من هذه المخاطر، فإنهم يصبحون أقل قدرة على الاحتفاظ بأصول أخرى محفوفة بالمخاطر مثل الأسهم. وعلى هذا فعندما ينخفض المعروض من السندات، ترتفع أسعار السندات، وهذا يدفع أسواق الأصول الأخرى إلى الارتفاع من خلال ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد “قناة توازن المحفظة”.

في حين يخفي التيسير الكمي السندات في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي العمومية ويعطي المستثمرين المال في مكانها، تعمل إصدارات الخزانة الناشطة على تقليل إنشاء السندات عند المصدر، وهذا يمنح المستثمرين مزيدا من “السندات الشبيهة بالنقود” بدلا من ذلك. والنتائج مماثلة: حيث يعمل انخفاض العائدات وارتفاع أسعار الأصول على تحفيز الاقتصاد.

تشير حساباتنا إلى أن إصدارات الخزانة الناشطة نجحت حتى الآن في خفض إصدار القسائم بأكثر من 800 مليار دولار، مما أدى إلى تحقيق درجة من التحفيز مماثلة لتلك الناجمة عن خفض سعر فائدة الاحتياطي الفيدرالي بمقدار 100 نقطة أساس. بعبارة أخرى، عوضت وزارة الخزانة فعليا عن جميع زيادات أسعار الفائدة التي فرضها الاحتياطي الفيدرالي في عام 2023. ليس هذا فحسب، بل إن إصدارات الخزانة الناشطة استُـكـمِـلَـت بتوجيهات مُـسـبَـقة ــ وهي أداة أخرى مفضلة لدى الاحتياطي الفيدرالي ــ ويشير هذا إلى أنه سيستمر لبضعة أرباع أخرى، إلى الجانب الآخر من الانتخابات الأميركية هذا العام.

باقترانها بتقديرات أعلى لما يسمى أسعار الفائدة المحايدة، تعني سياسات الإصدار وأسعار الفائدة الحالية أن القيود المفروضة على الاقتصاد قليلة. ومع تسبب وزارة الخزانة في عرقلة المحاولات التي يبذلها الاحتياطي الفيدرالي لتهدئة التضخم والنمو، فليس من المستغرب أن يظل كلا المقياسين فوق المستوى المستهدف على نحو مستمر.

إذا لم تنقلب إصدارات الخزانة الناشطة في الاتجاه المعاكس بسرعة، فقد تتحول إلى أداة سياسية دائمة، لأن كلا الحزبين سيرغبان في استخدامها لتحفيز الاقتصاد قبيل الانتخابات. ونكون بهذا دخلنا إلى عالَـم من الدورات التجارية المسيسة، حيث تتزامن الحوافز السياسية مع الانتخابات. هذا الاحتمال مقلق لذات الأسباب التي تجعل تهديد استقلالية البنوك المركزية أمرا مثيرا للقلق.

لحل أزمة إصدارات الخزانة الناشطة يتعين على وزارة الخزانة سحب تريليون دولار من سنداتها الزائدة عن الحاجة. وهذا من شأنه أن يرفع العائدات الطويلة الأجل مؤقتا (لبضع سنوات) بنسبة 0.5%، لكن هذه العائدات ستنخفض إلى معدل دائم يبلغ 0.3%، مع إعادة تسعير الأصول الخطرة. وسوف يكون التأثير المهدئ الذي سيخلفه ذلك على الاقتصاد مماثلا للتأثير الناتج عن زيادة سعر فائدة الاحتياطي الفيدرالي بمقدار نقطتين.

لقد عملت استراتيجيات الإصدار الناشطة التي تتبناها وزارة الخزانة على تحفيز الاقتصاد في الفترة السابقة للانتخابات، وتسببت في عرقلة جهود الاحتياطي الفيدرالي ذاته لتهدئة التضخم. إن إصدارات الخزانة الناشطة تفتح الباب أمام دورات تجارية سياسية حيث ترتفع معدلات التضخم وأسعار الفائدة بشكل دائم لأن الاقتصاد يتلقى قدرا أعظم مما ينبغي من الحوافز بمرور الوقت. يتعين على وزارة الخزانة أن تعود إلى الإصدار المنتظم الذي يمكن التنبؤ به في أسرع وقت ممكن.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39917

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M