د. محمد عباس ناجي
منذ بداية تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، التي توازت في بعض مراحلها مع انعقاد جولات التفاوض حول الاتفاق النووي بين إيران وقوى مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، سارعت كتابات عديدة إلى ترجيح أن إيران سوف تكون أحد الأطراف الرابحة من الأزمة التي وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر بعد قرار الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين بالاعتراف بجمهوريتى دونيتسك ولوغانسك، في 21 فبراير الجاري، والذي أثار ردود فعل متشددة من جانب الدول الغربية.
واستندت تلك الكتابات إلى مبررات عديدة، منها أن تصاعد الأزمة في هذا التوقيت يمكن أن يقلص من الضغوط التي تمارسها الدول الغربية على إيران في مفاوضات فيينا، ويعزز التنسيق الروسي- الإيراني، ويضع إسرائيل أمام اختبار صعب بين التماهي مع السياسة الغربية، والأمريكية تحديداً، من الأزمة وبين استمرار التنسيق الأمني مع روسيا في التعامل مع بعض الملفات، لاسيما الملف السوري.
فضلاً عن أن الأزمة نفسها من الممكن أن تقلص من أهمية الخلافات العالقة بين إيران وأوكرانيا حول التعويضات المستحقة على الأولى بسبب إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية في 8 يناير 2020 عقب الهجمات الصاروخية التي شنتها إيران على قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية رداً على الضربة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، قبل ذلك بخمسة أيام، وأسفرت عن مقتل قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني.
ربما تكون هذه الاعتبارات في مجملها لها وجاهتها الخاصة، ولا يمكن استبعاد أنها تؤثر بالفعل على السياسة الإيرانية من الأزمة، لكنها في الوقت نفسه قد لا تمثل الحقيقة كلها. إذ أن الإمعان في التداعيات التي يمكن أن تفرضها تلك الأزمة، وتشابكها مع متغيرات أخرى لا يمكن تجاهلها في هذا الصدد مثل “الحساسية” التاريخية الإيرانية من روسيا، والتشابه “النسبي” بين إيران وأوكرانيا فيما يتعلق بالتعدد العرقي، يوحي بأن هذه الأزمة بقدر ما يمكن أن توفر فرصاً لإيران، بقدر ما يمكن أن تفرض تحديات عليها في الوقت نفسه.
الخطر المزمن
يتمثل أهم المتغيرات التي تثير قلق إيران من تطورات الأزمة الأوكرانية في أن تلك الأزمة تلقي الضوء على ما يمكن تسميته بـ”الخطر المزمن” الذي تواجهه أوكرانيا بقدر ما تواجهه إيران، وهو تعدد العرقيات. فالدولتان متعددتان الإثنيات. ومن دون شك، فإن ذلك قد لا يمثل في حد ذاته مشكلة أو أزمة في حالات عديدة، خاصة إذا توافرت شروط من ضمنها نجاح الدولة في إجراء عملية إدماج اجتماعي تنصهر من خلالها التفاوفات الاجتماعية بين الإثنيات المختلفة وتستبعد آليات الإقصاء والتهميش والتمييز وتنتفي فيها العنصرية والنزعات الجهوية، إلى جانب عدم وجود تشابكات عرقية مع دول الجوار، على نحو يفرض أزمة دائمة في العلاقات فيما بينها تتعرض لاختبارات باستمرار.
هنا، وفي حالة إيران، فإن تلك الأزمة قد تكون أكبر وأكثر خطورة. إذ أن التوتر ما زال يمثل سمة رئيسية في العلاقات بين المكونات المجتمعية الإيرانية، بسبب الاتهامات التي توجه إلى الدولة بالعمل على “تفريس” المجال العام. بل إن بعض الاحتجاجات الرئيسية التي شهدتها إيران في الفترة الأخيرة كان مبعثها الحساسية الاجتماعية بين العرقيات المختلفة، بدليل أن الدولة تعرضت لاتهامات عديدة بأنها المسئولة عن تفاقم أزمة نقص المياه العذبة في بعض مناطق الأحواز التي تقطنها القومية العربية، بسبب سياستها القائمة على تحويل مجرى الأنهار، على غرار نهر “كارون”، إلى بعض المحافظات الأخرى بهدف “الإخلال بالتركيبة السكانية” كما يرى المحتجون، وهو ما بدا جلياً في الاحتجاجات التي اندلعت في مدن مثل الأحواز والخفاجية والمحمرة ومعشور “ماهشهر” في 16 يوليو 2021.
مدينتى الأحواز.. حياتنا كارون.. لا لنقل مياه كارون
الأخطر من ذلك، أن هناك تشابكات عرقية بين القوميات الإيرانية ودول الجوار. وتبدو الحالة الأبرز في هذا السياق في القومية الآذرية، وهى القومية الأكبر بعد الفارسية، من حيث عدد السكان ومن حيث التأثير على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. وقد كان لهذه التشابكات تأثير على بعض التفاعلات التي جرت على الساحة السياسية، وهو ما بدا جلياً في الموقف الذي تبناه بعض الآذاريين الإيرانيين من النزاع الذي تصاعدت حدته بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناجورني قره باغ، بداية من 27 سبتمبر 2020، حيث نظموا تظاهرات في مدن إيرانية عديدة مثل طهران وتبريز لدعم أذربيجان في هذا النزاع، رغم أن الموقف الإيراني، تاريخياً، كان أقرب إلى أرمينيا.
صحيفة همشهرى “المواطن” تنشر تقريراً وفيديو لتظاهرات في تبريز لدعم شعب قره باغ ووحدة أراضي أذربيجان
الجار الصعب
فضلاً عن ذلك، لا تبدو إيران مطمئنة بشكل تام إلى السياسة التي تنتهجها روسيا. ورغم أن الأخيرة كانت طرفاً داعماً للأولى في المرحلة الماضية، وتحولت إلى ظهير دولي داعم لها، وكان لها دور كبير في دعم موقف إيران في أزمة الاتفاق النووي، إلى جانب دورها البارز الذي ساهم في تحويل توازنات القوى في الصراع السوري لصالح نظام الرئيس بشار الأسد، فإن ذلك في مجمله لا ينفي أن إيران ما زالت لديها حساسية تاريخية تجاه روسيا.
وبدت هذه الحساسية جلية في ما أثارته بعض تصرفات السفير الروسي لدى طهران ليفان دزاجاريان من ردود فعل داخلية. وكان آخر تلك التصرفات في 10 فبراير الحالي، عندما نشر دزاجاريان صورة وهو يضع أكليلاً من الزهور على النصب التذكاري للسفير الروسي الأسبق ألكساندر غريبايدوف الذي قتل خلال عملية اقتحام السفارة الروسية في طهران في 11 فبراير 1829، احتجاجاً على قيام روسيا بفرض معاهدة ترکمنچای (تركمانشاى) على إيران في 10 فبراير 1828، بعد 15 عاماً من فرض معاهدة أخرى هى معاهدة گلستان (جلستان) التي وقعت في 24 أكتوبر 1813، واستقطعت بموجبهما مناطق واسعة من إيران تشمل بعض أجزاء كل من أذربيجان وأرمينيا.
واستحضرت ردود الفعل الإيرانية ما اعتبر بمثابة “انتهاكات” من جانب روسيا ضد إيران، على غرار ما قامت به مدفعية الجيش الروسي في 29 مارس 1912، بقصف قبة ضريح الإمام الشيعي الثامن علي الرضا في مدينة مشهد.
هذه الحساسية التي تبديها إيران تجاه روسيا يبدو أنه كان لها دور في طرح تساؤلات حول مدى إمكانية تكرار الأزمة الأوكرانية- التي زادت من احتمالات التدخل العسكري الروسي لمنع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو- في منطقة وسط آسيا والقوقاز، المتخمة بأزمات عرقية وسياسية وأمنية لا تبدو هينة. ومع التسليم بأن هناك فروقات عديدة بين الحالتين، فإن ذلك لا ينفي أن هناك في المقابل قواسم مشتركة لا يمكن إغفالها، منها أن لروسيا نفوذاً واضحاً في المنطقتين، فضلاً عن أنها ترفض تمدد الحضور الغربي، ولاسيما الأمريكي، فيهما.
وهنا، يمكن القول إن الاتجاهات الإيرانية التي بدأت في التحذير من عواقب التعويل بشكل كامل على روسيا، على نحو ما أشار إليه أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران صادق زيبا كلام، في 20 فبراير الجاري، عندما دعا إلى “عدم وضع كل البيض في سلة روسيا”، ربما لم تعد تستبعد أن تتبنى موسكو السياسة نفسها في التعامل مع بعض أزمات منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، ومنها أزمات تحظى باهتمام خاص من جانب إيران لاعتبارات أمنية وقومية عديدة.
بل إن هناك من يرى أن موسكو قد تبدأ في تغيير سياستها تجاه إيران في حالة ما إذا تحسنت علاقات الأخيرة مع الدول الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، مرة أخرى بعد الوصول إلى صفقة محتملة في فيينا. وكان لافتاً أن وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف قال، في التسجيل الذي تم تسريبه في 25 أبريل 2021، أنه “ليس من مصلحة روسيا أن تطبع إيران علاقاتها مع الغرب”، بما يعني أن التشكك في “نوايا” روسيا تجاه إيران ربما يصل إلى أعلى المستويات في دوائر السلطة داخل الأخيرة.
في النهاية، يمكن القول إن اتجاهات العلاقات مع روسيا تبقى هى المتغير الحاكم الذي يمكن من خلاله تفسير بعض جوانب السياسة الإيرانية تجاه تطورات الأزمة الأوكرانية. ورغم أن حكومة إبراهيم رئيسي بدأت، منذ توليه مقاليد منصبه في 5 أغسطس 2021، في التعويل على العلاقات مع روسيا والصين، في إطار ما يسمى بسياسة “التوجه شرقاً”، فإن ذلك لا ينفي أن هناك اتجاهات في إيران بدأت ترى أن ذلك يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على مصالح إيران وموقعها في التوازنات الاستراتيجية بالمنطقة.
.
رابط المصدر: