- على الرغم من ادعاء بنيامين نتنياهو أن الحرب مع إيران أدت إلى تدمير برنامج طهران النووي، فإن أغلب التقديرات الإسرائيلية ترى أن الضربات الأمريكية-الإسرائيلية أحدثت أضراراً عميقة في البرنامج النووي الإيراني لكنها لم تُؤدِّ إلى تدميره كلياً.
- توجد ثلاثة خيارات أمام إسرائيل للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني ما بعد الحرب: “الخيار اللبناني” عبر شن هجمات عسكرية مستمرة تستهدف أي محاولة إيرانية لإعادة بناء البرنامج النووي، أو “الخيار الليبي” عبر التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، أو “الخيار السوري” من طريق العمل على إسقاط النظام الإيراني لإنهاء التهديد النووي.
- من الواضح أن الرئيس الأمريكي ترمب يُفضِّل خيار المفاوضات، وقد يَمنح طهران الضمانات اللازمة للعودة إلى طاولة المفاوضات، وسيُبقي على التهديد الإسرائيلي كورقة ضغط على إيران، في حين ستتجه إسرائيل إلى “النموذج اللبناني” في حال فشلت الولايات المتحدة في فرض اتفاق نووي على إيران يحقق الشروط الإسرائيلية في الاتفاق.
أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكي دونالد ترمب نجاحهما في تدمير البرنامج النووي الإيراني في إثر العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل على إيران (طوال 12 يوماً من 13 إلى 24 يونيو 2025)، والتي رافقها قصف أمريكي لثلاثة مواقع نووية إيرانية (فوردو ونطنز وأصفهان). عَدَّت إسرائيل أن الحرب على إيران كانت ناجحة وحققت أهدافها، مُعلنةً أنها أزالت التهديد النووي الإيراني على إسرائيل. ومع انقشاع غبار الحرب، بدأ سجال في إسرائيل حول مدى صحة وموثوقية الادعاء الإسرائيلي-الأمريكي بتدمير البرنامج النووي الإيراني.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على التقييم الإسرائيلي لنتائج الحرب على إيران فيما يتعلق بإزالة التهديد النووي الإيراني، وسياسات إسرائيل تجاه هذا التهديد في المستقبل المنظور.
التقديرات الإسرائيلية لمصير المشروع النووي الإيراني
بدأت التقديرات الإسرائيلية تُشكِّك في حقيقة أن الحرب على إيران والضربات الإسرائيلية-الأمريكية أدت إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل، دون التقليل من الإنجازات الأخرى التي حققتها الحرب. وطرحت التقديرات الإسرائيلية مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بمصير البرنامج النووي بعد الحرب، أهمها: هل تم تدمير البرنامج النووي الإيراني كلياً بواسطة قصف المنشآت النووية؟ وهل الضربات الإسرائيلية-الأمريكية أعادت البرنامج النووي إلى الوراء سنوات أم أشهراً معدودة فقط؟ وما مصير كميات اليورانيوم المخصب التي كانت في منشأة فوردو؟ وهل المعرفة الإيرانية بعد الحرب (في إثر اغتيال العلماء النوويين) كافية لإعادة بناء البرنامج النووي العسكري؟
أعلن نتنياهو مراراً أن إسرائيل حققت الهدفين المركزيين للحرب، وهما إزالة التهديد النووي الإيراني، وتدمير أغلب القدرات الصاروخية الإيرانية، ولكنه أشار إلى أن إسرائيل ستُبقي على التزامها بمنع التهديد النووي الإيراني في المستقبل إما من طريق اتفاق أو بالقوة، ووعد أنه في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق مع إيران، فإن إسرائيل ستعمل بشكل مستمر على منع إيران من تطوير برنامجها النووي.
في حين يرى أفيغدور ليبرمان، عضو الكنيست ووزير الدفاع السابق، أن الحرب المقبلة مع إيران هي مسألة وقت، وقد تَحدُث في خلال السنوات الثلاث المقبلة، مؤكداً أن البرنامج النووي الإيراني لم يُدمَّر بالكامل، وهو قابلٌ للترميم، فضلاً عن أن نزعة الانتقام من إسرائيل ستبقى حاضرة لدى النظام الإيراني.
وفي السياق نفسه، أشار معهد دراسات الأمن القومي، في إحدى الأوراق الصادرة عنه، إلى أن المعركة ضد إيران لم تكتمل، إذ إن الهجوم الإسرائيلي-الأمريكي على البرنامج النووي أزال التهديد النووي بشكل مؤقت، ولم يُؤدِّ إلى محو التهديد الإيراني، ويؤكد أن إزالة التهديد الإيراني استراتيجياً تتطلب إسقاط النظام الإيراني أو سقوطه. وتشير ورقة المعهد إلى أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق نووي يُشدد الرقابة الدولية على البرنامج النووي الإيراني، ويمنع إيران من الوصول إلى دولة عتبة نووية، فإن على إسرائيل التحرك لوحدها لمنع إيران من تطوير برنامجها النووي من النقطة التي وصلت لها نتائج الحرب، سواء من طريق عمليات سرية استخباراتية أو عبر التدخل العسكري.
ويشير رونين برغمان، الخبير الأمني والعسكري الإسرائيلي، إلى أن الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية تتبنى تقديرات أقل صرامةً من ترمب ونتنياهو فيما يتعلق بتدمير البرنامج النووي الإيراني عموماً، ومنشأة فوردو تحديداً، وذلك إثر رصد عملية نقل مواد من المنشأة قبل تدميرها، ومن غير المعلوم لدى استخبارات البلدين ما إذا كانت تلك المواد تشمل كميات اليورانيوم المخصب التي تصل إلى نسبة 60%، بالإضافة إلى أنه غير معلوم بشكل مؤكد أنه تم تدمير كامل القدرة التشغيلية للمنشأة بفعل الضربة الأمريكية، أم لا. في حين يعتقد عاموس يدلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، أنَّه لا يُمكِن تدمير برنامج عمره ثلاثين عاماً بضربة واحدة بشكل كلي، ولكنه يستدرك أن إحداث أضرار في البرنامج النووي الإيراني قد يُؤدي إلى توقفه نهائياً، وهو ما حدث مع ضرب المشروع النووي العراقي الذي أُحبِط كلياً بسبب الضربة الإسرائيلية على مفاعل “تموز/أوزيراك” عام 1981.
ويشير تامير هايمن، رئيس معهد دراسات الأمن القومي ورئيس شُعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، إلى أن الحرب حققت إنجازاً كبيراً فيما يخص المشروع النووي الإيراني، ومن ذلك تدمير جميع محاور المعرفة في مجال التسلح النووي، وعلى رأسها اغتيال علماء نوويين إيرانيين وتدمير المصانع التي تنتج مركبات ومواد للبرنامج النووي، وإلحاق أضرار جديّة في المنشآت التي تخصّب اليورانيوم، وبخاصة في فوردو ونطنز، وتدمير منشأة معالجة اليورانيوم في أصفهان. ومع أن هايمن يذكر أن الضربات العسكرية أخّرت قدرة إيران على الوصول إلى عتبة التسلح النووي إلى شهور كثيرة، إلا أنه يؤكد أن إيران ستواجه تحديات للعودة إلى الوضع الذي كان ما قبل الحرب، فمن أجل تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 60% على أراضيها تحتاج طهران إلى بناء مفاعل نووي جديد. إلا أن تحليل هايمن لا يتطرق إلى إمكانية احتفاظ إيران بكمية من اليورانيوم المخصب إلى مستوى 60%، كما أشرنا سابقاً.
في خلاصة القول، فإن أغلب التحليلات الإسرائيلية حول تقييم الأضرار التي لحقت بالمشروع النووي الإيراني، يؤكد أن الضربات الأمريكية-الإسرائيلية أحدثت أضراراً عميقة في البرنامج النووي الإيراني على مستوى المعرفة، والقدرات البشرية، والمنشآت النووية، ولكنها لم تدمر المشروع نهائياً. وتبقى رغبة النظام الإيراني، والرصد والتعقب الإسرائيليين لإيران بعد الحرب هما العاملان المؤثّران مستقبلاً في نهضة هذا البرنامج من جديد.
خيارات إسرائيل تجاه البرنامج النووي بعد الحرب
تُمكن الإشارة إلى ثلاثة خيارات لدى إسرائيل للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني ما بعد الحرب، وهذه الخيارات الثلاثة تنطلق من شبه إجماع داخل إسرائيل أن إيران -إذا أرادت- قادرة على إعادة بناء مشروعها النووي.
الخيار الأول، “النموذج اللبناني”. ينطلق هذا الخيار من أن إسرائيل سوف تستهدف كل محاولة إيرانية لإعادة بناء برنامجها النووي من طريق شنّ هجمات تهدف إلى إحباط هذه الجهود. ويندرج هذا الخيار ضمن ما يُطلق عليه “الخيار اللبناني”، والذي بموجبه استمرت إسرائيل في منع حزب الله من إعادة بناء بنيته العسكرية عموماً، وفي جنوب نهر الليطاني خصوصاً، عبر شن هجمات متكررة على بنى تحتية جديدة أو استهداف قيادات عسكرية لحزب الله. ولا يقف هذا النموذج عند مستوى “حرب الظل” التي مارستها إسرائيل في السنوات الأخيرة ضد إيران فحسب، بل يتعداه إلى تنفيذ هجمات عسكرية محدودة -سرية وعلنية- ضد كل محاولة إيرانية لإعادة بناء البرنامج النووي. وتُراهِن إسرائيل على أن تنفيذ هجمات عينية على إيران لن يؤدّي إلى مواجهة كاملة بين البلدين، وربما تكتفي إيران برد فعل “رمزي” تأكيداً لسيادتها، وهو ردٌّ يُمكن لإسرائيل استيعابه في مقابل التدمير الذي يمكن أن تُحدثه لأيّ تقدم للمشروع النووي. وتعتمد إسرائيل في هذا الخيار على تأييد ودعم إدارة الرئيس ترمب الذي تعهد مراراً وتكراراً بعدم حصول إيران على سلاح نووي.
الخيار الثاني، “النموذج الليبي”. يعتمد هذا الخيار على أن إنهاء البرنامج النووي الإيراني سيكون عبر اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، تتنازل فيه إيران عن تخصيب اليورانيوم على أراضيها، وخلْق منظومة رقابة دولية صارمة على البرنامج النووي الإيراني. ويُطلق على هذا الخيار في إسرائيل “النموذج الليبي”، عطفاً على الاتفاق بين ليبيا والولايات المتحدة الذي أنهى البرنامج النووي الليبي في عهد الزعيم السابق معمر القذافي. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن هذا الخيار بات ضعيفاً بسبب موقف إيران الأيديولوجي من تطوير برنامجها النووي، والذي ازداد بعد الحرب عليها، والذي قد يدفعها إلى عدم التنازل عن حقها في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، لا بل قد يدفعها إلى اتخاذ القرار بامتلاك سلاح نووي بعد شعور النظام بالتهديد الوجودي في خلال الحرب. ويعتقد مؤيدو هذا الخيار أنَّه الأفضل لإسرائيل، إذ إنَّه الأقدر على منع إيران من تطوير قدرات عسكرية نووية في السنوات المقبلة، حتى لو شمل الاتفاق موافقة على تخصيب اليورانيوم بنسبة مدنية في إيران. ووفق هذا الخيار فإن فرض منظومة رقابة على المشروع النووي عبر آلية دولية أفضل من ترك إيران دون اتفاق، ما قد يدفعها إلى تطوير سلاح نووي بالسر بعد أن تعلمت من نقاط ضعفها في خلال الحرب الأخيرة. وفي هذا الصدد، أتى القرار الإيراني بتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية باعتباره ورقة تفاوض إيرانية لتحصيل شروط أفضل في المفاوضات المقبلة مع الجانب الأمريكي.
الخيار الثالث، “النموذج السوري”. ويشير هذا الخيار إلى أنه يتعين على إسرائيل العمل على إسقاط النظام الإيراني كاستراتيجية جديدة في التعامل مع التهديد الإيراني. فكما ساهمت إسرائيل بشكل حاسم في إسقاط النظام السوري من طريق إضعاف نظام الأسد بشكل متواصل، فإن على إسرائيل تبني هذا الهدف بواسطة استراتيجية طويلة الأمد تؤدي في النهاية إلى إطاحة النظام الإيراني، انطلاقاً من أنه لا يمكن إغلاق الملف النووي الإيراني نهائياً إلا بسقوط النظام. وينطلق هذا الخيار من حقيقة أن تدمير المنشآت لا يعني تدمير المعرفة النووية، فلدى إيران مئات العلماء في المجال النووي ومعرفة متراكمة على مدار ثلاثين عاماً، فضلاً عن أن الإرادة السياسية للنظام الإيراني بامتلاك قدرات نووية ذات طابع تسليحي تحولت إلى نوع من العقيدة لدى النظام وتعزّزت أكثر بعد الحرب، لأن إيران فهمت أنها لو كانت تملك سلاحاً نووياً (كما فعلت كوريا الشمالية) لما تجرأت عليها الولايات المتحدة وإسرائيل. إلا أن التقديرات الإسرائيلية تدرك عدم واقعية هذا الخيار، للاختلافات الكبيرة بين الحالتين السورية والإيرانية، فالنظام الإيراني متماسك وانتظار معارضة منظمة تتحرك لإسقاط النظام -كما كان الحال في سورية- هو “مجرد أمنية“.
الموقف الأمريكي
تُفضِّل الولايات المتحدة خيار المباحثات والتوصل إلى اتفاق مع إيران. وفي خلال زيارة بنيامين نتنياهو للبيت الأبيض في 8 يوليو، كرّر الرئيس ترمب أن الضربات الأمريكية دمرت البرنامج النووي الإيراني، وأضاف أنه بالرغم من تدمير البرنامج النووي فإنه لا يمانع التوصل إلى اتفاق مكتوب يمنع إيران من تطوير برنامجها النووي في المستقبل، وأضاف أن إيران توجهت إلى التباحث مع الولايات المتحدة، في حين أعلن المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن المباحثات بين الولايات المتحدة وإيران سوف تُستأنف قريباً.
وبينما تُفضَّل إدارة ترمب التوصل إلى اتفاق مع إيران في المرحلة المقبلة، فإن إسرائيل سترى في الاتفاق حلاً مرحلياً يمنحها الإمكانية لمراقبة أنشطة إيران، والاستعداد أمنياً وعسكرياً لأي توجه إيراني لتطوير برنامجها النووي. وهذا يعني أن المباحثات الإيرانية-الأمريكية سوف تفرض تجميد “الخيار اللبناني” بالنسبة لإسرائيل، وبخاصة إذا استجابت واشنطن لشرط طهران للعودة إلى المفاوضات وهو وقف أي ضربات على إيران خلال مسار التفاوض.
استنتاجات
مع أن أغلب التقديرات تتفق على أن إسرائيل حققت إنجازات كبيرة في الحرب على إيران، فإن الحديث عن تدمير البرنامج النووي الإيراني بدأ يتراجع، بما في ذلك التشكيك في أن الهجمات الأمريكية الإسرائيلية أرجعت المشروع النووي سنوات إلى الوراء، وعلى أفضل تقدير إلى شهور عديدة. وتميل الورقة إلى الاعتقاد بأن إسرائيل ستتبنى “النموذج اللبناني” في المرحلة المقبلة في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، لاسيّما إذا فشل “النموذج الليبي”، أي أن تفرض الولايات المتحدة اتفاقاً نووياً على إيران يضمن المصالح والشروط الإسرائيلية. وفي المقابل، فإن التعويل على استراتيجية إسقاط النظام الإيراني (وفق النموذج السوري) غير مؤكدة النتائج، فالحالة السورية مختلفة كثيراً عن الحالة الإيرانية، والظروف التي كانت في سورية وأدت إلى سقوط نظام الأسد، غير موجودة في الحالة الإيرانية، لذلك يزداد التشكيك في قدرة إسرائيل على إسقاط النظام الإيراني، لا بل إن بعض التقديرات تشير إلى أن النظام الإيراني سينجح في ترسيخ وجوده بعد الحرب.