الدبلوماسيَّة الموازية في إفريقيا:أداة لتعزيز التنمية ومُعالَجة التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة

مُقدمة:

أدَّى تطوُّر العلاقات الدوليَّة والطبيعة المُتغيرة للنظام الدّولي إلى ظهور فواعل جديدة من غير الدول، كالمنظمات الدوليَّة، والشركات العابرة للحدود، والجماعات المُسلحة. ونتيجةً لذلك تغيَّرت اتجاهات الدبلوماسيَّة ونمط وتوزيع السُّلطة؛ حيث تقلَّص دور الدولة، وتراجعت قدرتها على مُمارسة السيادة المُطلقة أو احتكار إدارة الشؤون الخارجيَّة.

ومن هنا تزايد الاهتمام في إطار الدراسات المُقارنة للدول الفيدراليَّة والأنظمة اللامركزيَّة، بضرورة إفساح المجال أمام الحكومات ما دون الوطنيَّة (الأقاليم، والمقاطعات، والمدن)؛ للانخراط في السياسات الخارجيَّة، والعمل ضمن إطار دولي أوسع، وإظهار التأثيرات غير المرئية لتلك الأقاليم دون المُستوى الوطني في تفاعلات السياسة الدوليَّة، وهي الظاهرة التي أصبح يُشار إليها باسم “الدبلوماسيَّة الموازية” أو “السياسة الخارجيَّة للحكومات دون الوطنيَّة”.

ومع مطلع الألفية الجديدة، تزايد دور الحكومات المحليَّة والوحدات السياسيَّة المكوّنة للدول الفيدراليَّة، سواءٌ في الديمقراطيات الليبراليَّة الغربيَّة أو البلدان النامية، وباتت أكثر انخراطًا في الأنشطة الدوليَّة، مدفوعةً في ذلك بمُحفّزاتٍ سياسيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة، لتتحوَّل إلى جهات فاعلة ولاعبًا رئيسًا على المسرح الدولي.

ومِن ثَمَّ يُمكن للدبلوماسيَّة الموازية، من خلال إزالة القيود وإقامة قنوات للاتصال والتنسيق بين الحكومات والمسؤولين الإقليميين؛ أنْ تقدّم خيارات متنوعة وفرصًا واعدة للبلدان الإفريقيَّة في إطار سعيها لتعزيز التنمية ومُعالجة التحديات الأمنيَّة والاقتصاديَّة التي تعترضها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

من هنا يسعى هذا المقال إلى التعريف بالدبلوماسيَّة الموازية وأهدافها وأبعادها، والوقوف على واقع هذه الظاهرة في القارة الإفريقيَّة؛ من خلال عرض مُقتضَب لبعض النماذج للدول الفيدراليَّة التي تسمح، دستوريًّا على الأقل، بانخراط أقاليمها دون الوطنيَّة في الشؤون الخارجيَّة، ومِن ثَمَّ يُحاول المقال استكشاف أهم التحديات الأمنيَّة والاقتصاديَّة التي تُواجه البلدان الإفريقيَّة، لا سيَّما دول جنوب الصحراء الكبرى، والتي بالإمكان توظيف الدبلوماسيَّة الموازية، كنهج موازٍ ومُكمِّل للسياسات الحكوميَّة، لمُعالجتها والتصدي لها على النحو الأمثل.

تحقيقًا لذلك، تم تقسيم المقال إلى المحاور الثلاثة التالية:

  • المحور الأول: في مفهوم الدبلوماسيَّة الموازية وأبعادها وأهدافها.
  • المحور الثاني: واقع الدبلوماسيَّة الموازية الإفريقيَّة.
  • المحور الثالث: توظيف الدبلوماسيَّة الموازية كأداة لتعزيز التنمية ومُعالجة التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة في إفريقيا.

أولًا: في مفهوم الدبلوماسيَّة الموازية وأبعادها وأهدافها

يُشير مفهوم الدبلوماسيَّة الموازية Para-diplomacy إلى انخراط ومُشاركة حكومات الأقاليم أو الجهات دون الوطنيَّة في العلاقات الخارجيَّة؛ من خلال إبرام عقد دائم أو اتصال مُؤقَّت مع كيانات عامة أو خاصة، بهدف تحقيق جوانب اجتماعيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة([1]). كما تعني الدبلوماسيَّة الموازية أيضًا إدارة الحكومات دون الوطنيَّة للأنشطة الخارجيَّة في المجالات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة في كلٍّ من النظامين الفيدرالي واللامركزي، وبينما يكون تدخُّل الحكومات دون الوطنيَّة، غالبًا، موازيًا لتدخُّل الحكومة المركزيَّة، إلا أنه يظل أكثر تحديدًا واستهدافًا من الناحية الوظيفيَّة([2]).

ويُجادل توماس جاكسون Thomas Jackson بأنَّ الدبلوماسيَّة الموازية مدفوعة بقوتين مُتنافستين تتمثلان في تعبئة الحكومات المحليَّة أو الفرعيَّة، ومحاولات وضع قيود على سعيها إلى المُشاركة الدوليَّة مِن قِبَل الدولة من خلال الوسائل القانونيَّة والسياسيَّة([3]).

مما تقدَّم، يتضح أنَّ ظاهرة الدبلوماسيَّة الموازية في إطار التطبيق العملي تقترن بمفهوم اللامركزيَّة الذي يُشير إلى نقل أو تفويض جزء من أنشطة وصلاحيات الحكومة المركزيَّة إلى الوحدات المحليَّة؛ حيث يُحفّز هذا النمط من الحكم على انخراط حكومات الأقاليم والمدن في شؤون السياسة الخارجيَّة بصورة أكبر مُقارنةً بالأنظمة المركزيَّة التي تفرض قيودًا دستوريَّة وقانونيَّة صارمة تَحُدّ من دور الحكومات دون الوطنيَّة وتُقيّد نشاطاتها خارج نطاقات المُستوى الإقليمي والمحلي.

يُلاحَظ كذلك أنَّ الدبلوماسيَّة الموازية تعمل خارج القنوات الدبلوماسيَّة التقليديَّة، ومِن ثَمَّ يُمكن اعتبارها نوعًا من الدبلوماسيَّة غير الرسميَّة، مما يُبْرِز دَوْرها في سدّ الفجوات بين الحكومات دون الوطنيَّة والحكومات الوطنيَّة، ويعكس طبيعتها كنهج دبلوماسي أكثر دقة وخصوصية في صنع السياسات الاقتصاديَّة والأمنيَّة.

وتتنوع أبعاد الدبلوماسيَّة الموازية ما بين أبعاد مؤسساتيَّة وسلوكيَّة وتفاعليَّة؛ حيث تتضمَّن الأبعاد المؤسساتيَّة الهيكل التنظيمي للدبلوماسيَّة الموازية والتمثيل الدبلوماسي للأقاليم دون الوطنيَّة والمصادر الماليَّة والبشريَّة المُخصَّصة للشؤون الخارجيَّة، وتُشير الأبعاد السلوكيَّة إلى الزيارات التي تقوم بها حكومات الأقاليم لدى عواصم وأقاليم الدول الأخرى وما تنطوي عليه من تلقي المُساعدات الأجنبيَّة أو مَنْحها، والمُشاركة في أنشطة المُنظمات والمؤتمرات الدوليَّة([4]).

فيما يتعلق البعد الثالث بالتفاعلات الخارجيَّة للأقاليم دون الوطنيَّة في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، إما من خلال التفاعل مع المُنظمات الدوليَّة أو مع الدول وحكومات الأقاليم والوحدات الأخرى، وقد يتحقق هذا التفاعل بصورةٍ مباشرة من خلال انخراط الإقليم بنفسه في السياسة الخارجيَّة، عبر إبرام الاتفاقيات والمُعاهدات الدوليَّة أو إرسال الوفود والبعثات إلى الخارج، أو بصورةٍ غير مباشرة من خلال السياسة الخارجيَّة للدولة التي ينتمي إليها الإقليم.

وثمة ثلاثة دوافع أو أهداف رئيسيَّة، على الأقل، تسعى الحكومات دون الوطنيَّة إلى تحقيقها عبر دبلوماسيتها الموازية؛ سياسيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة. يبرز في مقدمة الدوافع السياسيَّة سَعْي بعض الأقاليم إلى تهيئة الظروف والرأي العام الدولي لنيل الاعتراف بها كدولة وليس مُجرّد منطقة فيدراليَّة، ولكن دون إثارة مسألة الانفصال، وأيضًا محاولة اختراق السياسات العابرة للحدود الوطنيَّة بشكل مباشر أو بالتحالف مع جهات فاعلة ذات توجهات مُماثلة في دول أخرى عندما لا تتفق الأقاليم مع حكوماتها الوطنيَّة في موقفها السياسي([5]).

بينما تتضمّن الدوافع الاقتصاديَّة جذب الاستثمارات الأجنبيَّة واستقدام التكنولوجيا المُتقدمة لتحديث نفسها، وفتح مكاتب تجاريَّة في الدول الأجنبيَّة، فضلًا عن البحث عن أسواق خارجيَّة لتصدير السلع والبضائع المحليَّة، أمَّا الدوافع الثقافيَّة فتتمثل في تكريس التعاون في المجالات الثقافيَّة والتعليميَّة مع الدول والأقاليم الأخرى، إلى جانب تعزيز السياحة والتبادل الطلابي وتحقيق التوأمة بين المدن([6]).

ثانيًا: واقع الدبلوماسيَّة الموازية الإفريقيَّة

لم تَعُد المُشاركة أو الانخراط في الشؤون الدوليَّة للحكومات دون الوطنيَّة قاصرًا على الدول أو الديمقراطيات الغربيَّة، بل امتدت تلك الظاهرة إلى البلدان النامية في آسيا، وأمريكا اللاتينيَّة، وفي إفريقيا أيضًا رغم القيود الدستوريَّة والماليَّة، ولا شك أنَّ العلاقات الخارجيَّة للحكومات الإفريقيَّة دون الوطنيَّة تُعبِّر فقط عن الاحتياجات الاقتصاديَّة أو الاجتماعيَّة المُلِحَّة؛ لذا يُنظَر لها عمومًا على أنها لا تُشكِّل تعديًا على السيادة المُطلقة أو تهديدًا للسُّلطة السياسيَّة للحكومات الوطنيَّة.

وتتجلَّى التطبيقات العمليَّة المُعاصرة لظاهرة الدبلوماسيَّة الموازية في عددٍ من الدول الإفريقيَّة التي تتبع النظام الفيدرالي أو اللامركزيَّة كأساس للحكم، مثل جنوب إفريقيا والصومال وكينيا، فقد منح دستور جنوب إفريقيا لعام 1994م بعض الصلاحيات للمُقاطعات للعمل في مجال السياسة الخارجيَّة([7])، وبدوره أشار الدستور الوطني لجمهورية الصومال إلى أنَّ حكومة إقليم بونتلاند Puntland لها الحق في أن تدعو إلى حلّ النزاعات الحاليَّة والمُستقبليَّة على المُستوى الدولي من خلال الحوار والوسائل السلميَّة، وفيما يتعلق بالموارد الطبيعيَّة، فقد خوَّل الدستور لحكومة الإقليم سُلطة إبرام اتفاقيات مع كيانات وطنيَّة أو أجنبيَّة، تمنحها حقوق استغلال الموارد الطبيعيَّة([8]).

كما ساعد تطبيق نظام الحكم اللامركزي في كينيا على إيجاد فرص أمام حكومات المُقاطعات للعب دَوْر فعَّال في الشؤون الدوليَّة، مما أدَّى إلى صعود جهات فاعلة سياسيَّة غير مسبوقة في السياسة الخارجيَّة والعلاقات الدوليَّة لكينيا؛ إذ ينصّ الدستور الكيني لعام 2010م على توزيع السُّلطات والوظائف بين الحكومة الوطنيَّة وحكومات المُقاطعات، ويؤكد على أهمية احترام كلّ مُستوى من مُستويات الحكومة للنزاهة الوظيفيَّة والمؤسسيَّة للمُستويات الحكوميَّة الأخرى([9]).

ثالثًا: توظيف الدبلوماسيَّة الموازية كأداة لتعزيز التنمية ومُعالجة التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة في إفريقيا

نتيجة للقوة الاقتصاديَّة والسياسيَّة المُتنامية للحكومات دون الوطنيَّة في إفريقيا، وحاجتها إلى تحقيق مصالحها الاقتصاديَّة والثقافيَّة، فقد بات انخراط تلك الحكومات ومُشاركتها في العلاقات الدوليَّة يمثل ضرورةً مُلحةً، في وقتٍ تتطلَّع فيه الدول الإفريقيَّة إلى إيجاد وتطوير طرق جديدة ومُبتكَرة لتعزيز التنمية ومواجهة التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة القائمة أو المُستجدَّة.

ونعرض فيما يلي لأهم التحديات التي يُمكن للدبلوماسيَّة الموازية للحكومات الإفريقيَّة دون الوطنيَّة أن تُساعد في مُعالجتها والتصدي لها بالتوازي مع الآليات والإستراتيجيات الأخرى للحكومات الوطنيَّة:

1- الدبلوماسيَّة الموازية كأداة لتحقيق التنمية وتعزيز الهوية والثقافة

يُمكن للحكومات المحليَّة في إفريقيا، في إطار سعيها لتحقيق التنمية والحفاظ على هويتها وتاريخها وثقافتها في وجه الثقافات الإقليميَّة والعالميَّة، أن تُعوِّل على الدبلوماسيَّة الموازية كأداةٍ لتعزيز النشاط الثقافي والتاريخي.

فالدبلوماسيَّة الموازية يُمكن أن تُسهم في تحقيق التنمية من خلال تعزيز التعاون والابتكار ونقل المعرفة والمُساعدات الدوليَّة بين الحكومات المحليَّة وشركائها من المغتربين، كمثال على ذلك نُشير إلى جهود مقاطعة كيب الغربية Western Cape في جنوب إفريقيا في تفعيل الشراكة مع ولاية نيويورك New York الأمريكيَّة لتعزيز التجارة والاستثمار بين المنطقتين، ولهذه الشراكة نتائج مُثمرة تتمثل في خلق فرص عمل وتعزيز اقتصادات المنطقتين([10]).

من ناحية أخرى، تُسهم الدبلوماسيَّة في تعزيز الهوية والثقافة الوطنيَّة؛ من خلال تقوية الروابط بين الوطن الإفريقي ومواطنيه المُغتربين، فعلى سبيل المثال، استضافت مدينة ساو باولو Sao Paulo في البرازيل فعَّاليات ومُبادرات مُتنوّعة للاحتفال بالتراث والثقافة الإفريقيَّة لسكانها، ولا شك أنَّ تلك الفعاليات تُسهم في تعزيز الثقافة والهوية الإفريقيَّة، وتُساعد في بناء الجسور بين المغتربين الأفارقة والدولة المُضيفة([11]).

في السياق ذاته، تبرز مقاطعة كوازولو ناتال KwaZulu Natal في جنوب إفريقيا كمثال على توظيف الدبلوماسيَّة الموازية مِن قِبَل الحكومات المحليَّة في تعزيز الهوية والثقافة الوطنيَّة، فرغم كونها الأمة الزولو الوحيدة في العالم، تُحاول كوازولو ناتال استغلال ثقافتها ولغتها الفريدتين لكسب اعتراف دولي بها وتطوير علاقات إيجابية مع مناطق أخرى ذات ثِقَل ثقافي مماثل؛ حيث تُعدّ المُقاطعة أكثر ميلًا من المُقاطعات الأخرى لتدويل تركيبتها العرقيَّة؛ في إطار سعيها لكسب اعتراف دولي وداخلي على حدٍّ سواء.

وعلى نفس المنوال، تسعى الجالية الهنديَّة الضخمة في كوازولو ناتال إلى الاستفادة من الروابط الثقافيَّة والاقتصاديَّة القوية بين جنوب إفريقيا والهند([12]).

2- الدبلوماسيَّة الموازية كأداة لمكافحة الإرهاب

إنَّ تمكين الجهات والفواعل ما دون الوطنيَّة، مثل حكومات الأقاليم والمدن، من استكشاف خيارات دبلوماسيَّة موازية في التعامل مع المشكلات المحليَّة والمخاوف الأمنيَّة من شأنه أن يُمثِّل خطوةً مهمةً في مكافحة الإرهاب والعنف المُسلّح الذي تُعاني منه المُجتمعات الإفريقيَّة، لا سيَّما الدول الإفريقيَّة جنوب الصحراء الكبرى.

ونُشير في هذا السياق إلى مُقاطعة كابو ديلجادوCabo Delgado ، الواقعة شمال موزمبيق؛ حيث يُشكّل العنف وتفاقم الإرهاب المُسلح الناتج عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي وسوء الإدارة والنزوح الداخلي أزمةً إنسانيَّة تتجاوز مجرد السلام والأمن وتُمثّل انتهاكًا لحقوق الإنسان والاحتياجات الأساسيَّة، وفي حين أنَّ الجهود التقليديَّة لمكافحة الإرهاب تبدو غير كافية ولم تُحقّق النتائج المرجوَّة، فإنَّ الأمر يستدعي تفعيل خيارات دبلوماسيَّة موازية كنهج موازٍ، عبر حشد الموارد وتبادل المعرفة وتعزيز التعاون بين المُقاطعات والمُجتمعات المحليَّة الأخرى، بما يُحقّق آفاقًا واعدة لمُعالجة العوامل التي تُؤجّج الصراعات المرتبطة بالإرهاب وتعزيز السلام المُستدام في مقاطعة كابو ديلجادو([13]).

3- دور الدبلوماسيَّة الموازية في مُعالجة الهجرة غير النظاميَّة

تبرز مشكلة الهجرة غير النظاميَّة عبر الحدود كأحد أهمّ التحديات التي تواجه الحكومات في البلدان الإفريقيَّة، وبشكل خاص في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ورغم التدابير والإجراءات المُتَّخذة مِن قِبَل تلك الحكومات لاحتواء مشكلة الهجرة غير الشرعيَّة؛ إلا أنَّ العديد من هذه التدابير أثبتت أنها بلا جدوى أو تأثير حقيقي. لذا فإنه من الضروري أن تتحمَّل الحكومات دون الوطنيَّة مسؤولياتها لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعيَّة، والحد منها من خلال انخراطها في الإجراءات الدبلوماسيَّة الموازية.

كمثال على ذلك، يُمكن الإشارة إلى تجربة مقاطعة ليمبوبو Limpopo في جنوب إفريقيا؛ حيث تكشف تلك التجربة أنه على الرغم من أنَّ الجهود الحكوميَّة تبدو ضرورية في تنظيم تحركات المهاجرين غير النظاميَّة عبر الحدود، فإنَّ التأثير الشامل للسياسات الحكوميَّة الوطنيَّة يظل محدودًا، كما تكشف أيضًا كيف أنَّ تجهيز الكيانات المحليَّة وما دون الوطنيَّة وتزويدها بالأدوات اللازمة للقيام بأدوار تكميليَّة للكيانات الوطنيَّة والإقليميَّة يُمكن أن يُسهم في ضبط وتنظيم ظاهرة الهجرة غير النظاميَّة. فالجهود الدبلوماسيَّة الموازية التي تبذلها حكومة ليمبوبو قد عزَّزت الاقتصاد المحلي وساعدت على تطوير الصناعة المحليَّة بالاستفادة من العمالة المُهاجرة، وفي الوقت ذاته أفضت الجهود الدبلوماسيَّة الموازية لمُقاطعة ليمبوبو إلى الحد من الأنشطة غير القانونيَّة الناجمة عن التحركات الحدوديَّة المتواصلة التي تتسبَّب فيها عصابات التهريب والجماعات الإجراميَّة([14]).

4- دور الدبلوماسيَّة الموازية في تحقيق التكامل الإقليمي

في إطار سعي الدول الإفريقيَّة إلى تحقيق التكامل الإقليمي، أظهرت الحكومات دون الوطنيَّة قدرتها على تعزيز الجهود الإقليميَّة في هذا المسار من خلال دبلوماسيتها الموازية. على سبيل المثال، أكدت المُنظمات الدوليَّة والشركاء المعنيون في منطقة الجماعة الاقتصاديَّة لدول غرب إفريقيا على الدور المُهِمّ الذي تضطلع به الحكومات دون الوطنيَّة في تنفيذ سياسات التكامل الإقليمي في المنطقة([15]).

وتكشف المبادرات الإقليميَّة التي تطرحها الجهات الفاعلة دون الوطنيَّة بشكلٍ مُستقلّ أنَّ العديد من الحكومات دون الوطنيَّة في جميع أنحاء منطقة غرب إفريقيا تتَّجه بصورة متزايدة إلى تشكيل شراكات وعلاقات دبلوماسيَّة خارج القارة الإفريقيَّة، بغيةَ تعزيز الاستثمار الأجنبي المُباشر في محلياتها، وتأكيد دورها كفاعل في تحقيق التكامل الإقليمي، وتُعدّ مُشاركة حكام الولايات النيجيريَّة في المنتديات الدوليَّة للتنمية المُتعلقة بشؤون عالميَّة حيوية، مثل تغيُّر المُناخ والزراعة وغيرها، دليلاً واضحًا على تزايد استعداد الحكومات دون الوطنيَّة للمُشاركة في السياسات العالميَّة والإقليميَّة، لا سيَّما تلك التي تتجاوز حدودها الوطنيَّة([16]).

5- الدبلوماسيَّة الموازية كأداة لتعزيز أمن الحدود الإفريقيَّة

يكشف الواقع السياسي للبلدان الإفريقيَّة عن وجود فجوة كبيرة في الهيكل المؤسسي المسؤول عن أمن الحدود، مردّها أنَّ الحكومات المركزيَّة لم تُدمج المُقاطعات الحدوديَّة بشكل كامل في إطار الأمن الوطني، مما أدَّى إلى نقص واضح في التنسيق، وعدم كفاءة في الاستجابة للتهديدات الأمنيَّة، مما يُعزّز الحاجة إلى تفعيل الدبلوماسيَّة الموازية من أجل اضطلاع المُقاطعات الحدوديَّة بدورٍ أكثر فعالية في تعزيز أمن الحدود الوطنيَّة([17]).

وهناك عدة طرق يُمكن من خلالها إشراك الحكومات دون الوطنيَّة في أمن الحدود، أهمها تعزيز مُشاركة المُقاطعات في الأُطُر والترتيبات المُتعلقة بأمن الحدود، مثل مشاركة حكام المُقاطعات والأقاليم في رئاسة لجان الحدود المُشتركة، علاوةً على ذلك، ينبغي تعزيز التنسيق وتبادل المعلومات ين حكومات المُقاطعات والحكومات الوطنيَّة وتعزيز التعاون والمُشاركة بينهما من خلال إطار عمل بشأن إدارة الحدود الدوليَّة، وبالتالي فإنه ضمانًا لتحقيق إمكانات الدبلوماسيَّة الموازية في إحداث تحوُّل إيجابي في أمن الحدود الإفريقيَّة؛ ينبغي أن تتبنَّى الحكومات المركزيَّة والمُقاطعات الحدوديَّة التعاون والتنسيق المُتبادل([18]).

خاتمة:

على الرغم من انخراط العديد من الحكومات الإفريقيَّة دون الوطنيَّة في قضايا السياسة الخارجيَّة، -كما أشرنا إلى ذلك في القسم الثالث من المقال-، مدفوعةً في ذلك بمصالحها الاقتصاديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة؛ إلا أنه لا تزال الدبلوماسيَّة الموازية الإفريقيَّة أكثر غموضًا وأقل تأثيرًا من نظيرتها في بلدان أخرى، في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينيَّة؛ وذلك لأسبابٍ هيكليَّة أو ماليَّة، أو بسبب القيود السياسيَّة والدستوريَّة.

يأتي ذلك في وقتٍ تتفاقم فيه التحديات الاقتصاديَّة والسياسيَّة التي تواجه البلدان الإفريقيَّة وعجز الإستراتيجيات وأطر الدبلوماسيَّة التقليديَّة عن مُعالجتها بالصورة الملائمة، الأمر الذي يقتضي تضافر الجهود الوطنيَّة بكافة مستوياتها وتطوير بدائل وإستراتيجيات جديدة، بما في ذلك زيادة مشاركة حكومات الأقاليم وانخراطها بشكل أوسع في الجهود الدبلوماسيَّة الموازية، وهذا يتطلب أولًا تكثيف النقاشات الأكاديميَّة حول الدبلوماسيَّة الموازية بغرض إزالة الغموض الذي يكتنفها وإظهار خصوصيتها في البيئة الإفريقيَّة، ومِن ثَمَّ تطوير آليات وطرق مُبتكَرة يُمكن لحكومات الأقاليم دون الوطنيَّة أن تسترشد بها في الارتقاء بأدوارها في مجالات السياسات الخارجيَّة والقيام بأدوار فاعلة في مُعالجة القضايا والتحديات القائمة.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M